مجدٌ لا يفنى
مجدٌ لا يفنى
إن كنت تقرأ هذا الآن؛ فقد مرت بالتأكيد عقود على وفاتي. كتبت هذه المذكرات لأن الحقيقة لن تموت أبدًا مهما حاولوا والحق سيعود لأهله مهما طال الزمان.

لعلك الآن في حيرة من أمرك. دعني إذن أقص عليك نبأ أشخاص لعلك لا تعرفهم، أو تعرفهم ولكن بات اسمهم يمر عليك مرور الكرام دون أن تتوقف عنده. لن أستخدم أسماءً الآن وسأعطي لكل شيء رمزًا احتياطًا في حالة وقوع هذه المذكرات في الأيدي الخطأ، وأتمنى ألا تفعل.

عاشت عائلتي عائلة «ف» في قصر كبير فاتن منذ عقود طوال أنشأه جدي الأكبر «ف» وعاش به مع أولاده ثم أحفاده. وأخذ المنزل يتوارثه الأجيال دون أدني مشاكل –بالرغم من ظهور شجارات للسطح من وقت لآخر ولكن هذه المشاكل تنتهي بسرعة بدئها–.

ولدت في الجيل العاشر الذي يقطن هذا القصر كالابن الثاني بين أربعة أبناء. كنا عائلة كبيرة متحابة وعشت طفولة سعيدة. حتى أفسد كل شيء عندما بدأ عمل العائلة يخسر، فوجدنا أنفسنا تدريجيًا نقع تحت طائلة الديون وتدريجيًا كدنا نخسر المنزل. كنت أنظر إلى الغرف فأجد أثاثًا ناقصًا فأسأل جدتي فتخبرني: «لقد أصبح قديمًا؛ فتبرعنا به» وكنت أصدقها.

ولعلي لم أخبرك بأن قصرنا كان مرغوبًا به في الحي. كان القصر يستقبل الزوار جميعًا وينبهرون بشكله وأثاثه ومعماره العريق.

وكانت هناك عائلة أخرى أكبر من عائلتنا وأغنى أتت إلى الحي المجاور بعدنا بعقود وبدأت تجذب الانتباه إليها بثرائها. لم أعلم حينها أن هذه العائلة –ولنسمها عائلة «أ»– قد اقترضت أفراد عائلتنا منها أموالًا وأنها لوت أذرعنا. ولعجزنا عن سداد الديون بعد كثير من المحاولات اقترحت علينا اقتراحًا.

كان لدى كبير العائلة نسيب فقير ومشرد له زوجة وخمسة أطفال، هذا النسيب كان مكروهًا ومطرودًا من العائلة. فطلبت «أ» أن نعيله مقابل أن تكون مصاريف الإقامة هي الديون. كان عرضًا مغريًا فوافقت عائلتنا وبالفعل استقبلنا الرجل وأسرته وأعطيناهم غرفتين يقسمونها بينهم.

كان أول بضعة أسابيع من إقامتهم معنا جيدة، تعرفت على صبي منهم وأصبحنا أصدقاء وكنا نلعب كثيرًا معًا ونتسامر. 

ولكن مع الأيام بدأت أمور غريبة تحدث، وأولها أن طلب الرجل –ولنسمه «س»– أن يأخذ غرفة أخرى لأن أطفاله الخمسة يعانون في النوم معًا وغير مرتاحين. فوافق أبي بالطبع ومنحهم الغرفة الثالثة.

ثم طلب غرفة رابعة لأنه وزوجته قد تشاجرا ويحتاج لمكان للنوم فيه فحصل عليها. ثم تزوج أحد أبنائه فطلب له ولزوجته غرفة، ثم غرفة أخرى للجنين، وكل هذا وأبي لا يعترض لأنه كلما زادت كمية الخدمات التي يستهلكها «س» وأهله كلما خف المال من الديون. حتي انتهي الأمر به وقد أخذ نصف الغرف في القصر!

حتى هذه اللحظة لم يكن هناك بيننا أي مشكلات. كنت أنا وصديقي مازلنا مقربين وقد أصبحنا شابين الآن ورغم امتعاض بعض أفراد أسرتي من استيلائهم على نصف غرف القصر لأسباب مختلفة، إلا أن علاقتنا معًا كانت مازالت جيدة.

حتى جاء يوم وسمعت أختي الصغرى بالصدفة «س» يحدث أحفاده ويخبرهم أن هذا القصر لطالما كان لهم وأننا –عائلة «ف»– فقراء عطفوا عليهم وتركوهم يقاسمونهم في نصف القصر. حينها جن جنون عائلتي وقرروا طردهم. لكن منعنا أنه مازال هناك ديون لم تسدد رغم مرور عشرون عامًا على استقبالهم!

بل والأدهى أننا اكتشفنا أن عائلة «أ» قد وعدتهم أن القصر سيكون ملكًا لهم!

عند هذه النقطة لم نعد نهتم لأمر الديون وآثرنا أن نخرج هؤلاء المحتالين من منزلنا. كنت أنا وصديقي غير راضيين عما يحدث. ولكن كانت هذه البداية، إذ أخذ «س» يجلس مع الناس ويخبرهم في التجمعات كم هو شخص كريم لأنه استقبل عائلتنا المسكينة واعتنى بها في محنتها ثم كم أصبحنا ضيوف ثقال عليهم. وكانت عائلة «أ» تدعمهم في أقوالهم وتجاريهم في كذبهم وتخبر الجميع بالشيء حتى صدقها البعض.

وكان هناك بعض الأسر حولنا بالحي التي مازالت تذكر ما حدث لم يصدقوا هذه الأكاذيب، بل حاولوا إخراجهم بالقوة من منزلنا مرة، ولكن لا فائدة فقد كانوا أيضًا ضحايا الديون ولم يكن لهم حل: إما الاستسلام أو الموت جوعًا.

وأخيرًا وبعدما اطمئن «س» أن الجميع بات إما يصدقه أو أضعف من مواجهته بدأ بطشه هو وأسرته. فأخذوا يضيقون علينا ويمنعون عنا الطعام ويؤذوننا بوسائل متعددة كرمي قمامتهم لدينا أو بجعل حيواناتهم تتبول على فراشنا، كلها أمور تبدو طفولية وسخيفة ولكها تجعلنا نستشيط غضبًا.

ولم نلق بأمر الديون عرض الحائط نهائيًا إلا بعدما حدث ما لا يمكن غفرانه.

كان لأختى الكبرى حينها طفل في الخامسة، مجرد طفل بريء. كان قد سمع حديثًا غاضبًا بيننا حول عائلة «س» –والتي باتت عائلة كبيرة الآن– وإلى أي درجة هم ظلمة ويجب إخراجهم من هنا. حتى إذا بهذا الطفل قد نقل مشاعر أهله السلبية دون فهم لما يحدث على مراهق كان الشقيق الخامس في الأسرة فقام برمي ملعقة على رأسه.

وأمام الجميع أخرج هذا الابن مسدسًا وقتل الطفل!

كانت أفعالهم هنا قد فاقت كل الحدود، وصلوا لحد القتل! وقتل طفل غير واعٍ لما يفعل!

منذ ذلك الحين والشجارات أصبحت من نوع آخر بيننا. بتنا نتقاتل حرفيًا داخل المنزل وخارجه باستخدام العنف. مات منا ومات منهم، وكانت خسائرنا أكبر من خسائرهم، لأن عائلة «أ» كانت تدعمهم بالمال والسلاح. بل وأيضًا بعض الناس الذين يستمعون لأقوالهم ويصدقون أننا من بدأنا هذا العراك.

استمر الأمر لسنتين، كان يصل فيها دعم لكلا الطرفين من الخارج وخاصة هم.

ضيقوا علينا وأصبحت عائلتنا بأكملها تقطن في غرفتين في القصر كله. ونحن كثيرون.

بالطبع علاقتي بصديقي تأثرت ولربما لم يعد هناك أي صداقة. بالرغم من أنه أحيانًا يساعدنا ولست أفهمه عندما يقوم بذلك. فهو يبدو عدوانيًا ثم يأتي وقت القتل فلا يقتل بل يخترع أكاذيب لعائلته حول السبب الذي دفعه لتركي أذهب. ولعل هذا جعلني أتعاطف معه قليلًا.

وقبل أن تقول ماذا يمكن أن يفعلوا أسوأ من هذا، سأخبركم أنه لم يأت الأسوأ بعد. 

أختي الصغرى فتاة جميلة، ذات حضور وشخصية قويين، محبوبة ومرغوبة بشدة من الناس.

ومن سوء حظها وحظنا وقع أحد أفراد عائلة «س» في حبها. وانتهي الأمر به يغتصبها! أمامنا!

كنا معقودي الأذرع حرفيًا بسبب العصابة التي دخلت مخصوصًا ليفعل هذا! لم يعد الأمر مطاقًا ولهذا قتلته بيداي هاتين بعد هذا الحادث بمدة. قهرني على أختي. وهذا كان انتقامي.

أرجوا أنك لم تحكم علي بالسوء، لأن الرجل إذا انتُهك عرضه قد يفعل أشياء لا يعقلها.

ولهذا أنا هنا الآن، أكتب مذكراتي قبل إعدامي بساعة أمام الحارة كلها.

سينشرون الأكاذيب بلا توقف وسيظلمونا حتى يتخلصوا من آخر فرد فينا. وستظل عائلة «أ» تدعمهم.

ولكن ذكرانا ستظل حية. لأن الله هو العدل الذي لا يضيّع حق أحد. ودمائنا لن تذهب سدًى.

وسيعلم الجميع الحقيقة ولو بعد حين.

حق غزة لن يضيع!

ومجد فلسطين لن يفنى!

© بُثَيْنَة. ,
книга «مجدٌ لا يفنى».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (1)
najlaa
مجدٌ لا يفنى
قصة جميلة اجببتها 👏👏👏👏🌹
Відповісти
2021-04-23 14:40:39
Подобається