One Shot
One Shot
كفكفت "أنچيليا" تلكَ الدموع الحارقة التي تمردت عليها  وسحبت ماء أنفها في محاولة باهتة أن تستجمع قواها، بينما تحاول أن تساند ذاتها لتقف ممسكة بمقبض غرفة "فيليب"، الهدوء يعم المكان مسببًا وحشة مؤلمة..

ينساب إلى مسامعها صوت تلك الهمهمات والشهقات من الغرفة السفلية.

فبعد وفاة "فيليب" ودفنه تهافت الأقارب والمعارف على منزل "أنچيليا" ليخففوا عنها.

أتواسوا أم على فقدان طفلها؟

نعم هو طفلها حتى وإن أصبح في السبعين من عمره سيظل طفلها المدلل، قطعة من روحها.

كان طفلها الوحيد، السبب الأول والأقوى لبقائها على قيد الحياة حتى الآن، سبب شعورها بالفخر حينما تستيقظ كل يوم وتلتقط أنفاسها الأولى ثم تتذكر أن لديها "فيليب" فيغزو الأمان قلبها.

لكن أمانها رحل!

رحل بعد أن ترك لها من الذكريات ما يطيب لها ليخلد ذكراه في كل إنش بمنزلها، وضحكاته على طاولة الإفطار في الشرفة، وابتسامته التي تبعث في روحها سكينة، وعناقه وآه يا إلهي من عناقه الذي كان يمتص كل ما هو مؤلم.

دخلت غرفته فاجتاح صدرها شعورًا بالفراغ ينهش قلبها، تريد أن تلقي بنفسها بين ضلوعه فهو الوحيد الذي يمكنه أن يحتوي ألمها ولكن أين هو الآن؟

تحجرت الدموع في مقلتيها وارتعشت أطرافها منذرة بانهيار قناع الصلابة الذي يتآكل حتى التهشم كل ما حاولت أن تتماسك.

.....

_ "فيليب الكسول أتزال نائما حتى الآن؟"

قالتها "أنچيليا" متصنعة الغضب وهيَ تضع يدها على خصرها بينما تمسك ملعقة طعام باليد الأخرى.

_ "أمي! بحقك ليس كل يوم! "

قالها "فيليب" متأفأفًا بينما همَّ بوضع الوسادة على رأسه، إلا أن "أنچيليا" أمسكت بإحدى قدميه لتشدها بأقصى قوة لديها لينزلق "فيليب" من على السرير لتنفجر "أنجيليا" مقهقهةً حتى أنها جلست على الأرض من فرط الضحك.

_ "أنت ثقيل للغاية ،تحتاج لحمية شديدة حتى تنحف قليلًا"

قضب "فيليب" حاجبيه فى انزعاج بينما همَّ بالوقوف وهوَ يمد يدهُ ليبعثر شعره قائلًا بانزعاج:

"أمى توقفى عن أفعالك هذه ،أصبحتُ فى الثانية والعشرين من عمري، لم أعد طفلًا وأنتٍ لم تعودى شابة
ارتفع حاجبا "أنچيليا" في اندهاش لتردف بصدمة مصطنعة:

"تحدث عن نفسك عزيزي، فأنا لا أزال في ريعان شبابى، تقدم الكثيرون لخطبتي، لكنني رفضتُ من أجلكَ أيها الأخرق"
ثم نفضت ذلكَ الغبار الوهمي من على كتفيها محركة شعرها بغرور.

ابتسم "فيليب" بسخرية بينما ظلت "أنچيليا" تقلده بانزعاج:

_ "لقد أصبحت كبيرة، لقد أصبحت شابًا يا أمي.. بل أنتَ طفل عاق"


.....


عادت "أنچيليا" من بحر الذكريات لتبتسم بألم بينما تنظر إلى كل ركن في غرفته..

قد ترك لها فى كل مكان ذكرى، في كل ركن لمسته الخاصة، عفويته، مواقفه السخيفة والمضحكة أيضًا..
هي تفتقد كل ما يتعلق به!

تقدمت  لتمسك بصورة له معها بينما تلتف يده حول رقبتها بتلقائية، مدت يدها للصورة بارتعاشة طفيفة بينما تسندت بالأخرى لترتمي على سريره في انهيار..

فاضت من عينيها دمعة لتحاول جمع الحروف المبعثرة على شفتيها وتنطق في وهن:

_"فيليب، فلذة كبدي، طفلي الوحيد، لماذا فعلت هذا؟ ألم أكن قريبة منكَ بالدرجة التي تكفى بالنسبة إليكَ حتى تفصح لي عما بداخلكَ؟ ألم تخبرني دائمًا أنكَ تراني الأم والأخت والصديقة؟ ألم نكن نستند على بعضنا البعض لنواجه الصعاب؟ لماذا يا فيليب؟ لماذا تركتنى وحدي؟
وسط آلاف الذكريات التي وُشِمَت على شغاف قلبي لتبقينى على أمل لقياك؟ "

شهقة خرجت من أعماق قلبها لتفصح عما بداخلها من تأوهات تنازع حتى لا تنطلق.

كانت تتلفت في كل مكان في الغرفة وكأنها تبحث عن شيئ ما لا تعرف ماهيته..
غريزة الأمومة داخلها تخبرها أن هناك بقايا له هنا.. في مكان ما!

  حتى لمحت مبتغاها..
رسالة نُقِشَت عليها بعناية بعض الزخارف الرقيقة!
حاولت فتحه بهدوء إثر رعشة يديها التي تمنعها من مواصلة ما تريد..


"كل رغبة بكاء
أغمدتها داخلي
قبلًا إستهلكت قدرًا
ما من الرقة..
وها أنا الآن أبكي
قسوة تطفح على أيامي،
وذاكرة تخلو
تمامًا من اللطف!.

وأصبحتُ أمقُتُ كوني
لم أعد أهتزُ لرحيلٍ أو بقاء..
فلذلك دلالةٌ واحدةٌ بغيضة..
وهي أني ما عُدتُ أشعر !..

لا شيء يدعوَ للقلق.
إنها المعاناة
تمتص آخر
الشغف..

والعيش يصير
عذابًا بلا معني..

إنه الخوف يسويني
على حافة حياة
خاوية قبل أن
يلتهمني موت
مجهول في النهاية

أنا أجبن
من أن أخوضه الآن
بمحض إرادتي ..

ثم عوت الذئاب
واجتاح الضباب !
دقت طبول
لطقوس تطول.
ضبطت إيقاعات الفناء
ولاشيء ليحول!
جنازة واحده!
القاتل فيها هو المقتول.
نعقت الغربان في إستهجان..
هو الميت .
هو التابوت
هو الاكفان!
مسكين إذ جنت نفسك على نفسك
يا إنسان !"


ساد الصمت على روح "أنچيليا"، بل أصبحت جسدًا بلا روح بلا بكاء أو نحيب، بلا شعور بالحزن لأن ما تشعر به قد تخطى الحزن والألم.. الأمر أشبه بخنجر يمزق أحشائها ليحولها إلى أشلاء متهالكة!

أكانت بعيدة عنه لهذا الحد؟ أم أنه كان يتعمد إبعادها عنه؟

وهي التى ظنت أنها تعطيه مساحته الشخصية، خشيت عليه من الحياة فتركها لها.
وجدت أسطوانة دائرية بجانب ذاك الظرف كُتِبَ عليها بخط أسود عريض (لأمي)

قضبت "أنچيليا" حاجبيها لتمسح دموعها المنسابة على وجنتيها وحاولت أن تصوب تفكيرها نحو تلكَ الأسطوانة وتوجهت نحو شاشة عرض في الغرفة..
وأدخلتها في المُشَغِل حتى تكشف ما خَفِيَ..

.....


وبدأ العرض به جالسًا على ذلكَ المقعد الخاص به..
ابتسم لثوانٍ ثم اعتدل في جلسته وعقد ذراعيه أمام صدره وتنهد بعمق ثم استطرد بهدوء:
" لا أعلم متى ستشاهدين ذلكَ يا عزيزتي لكن أظن أنكِ ستشاهدينه وأنا في مكان آخر.. "

صمت قليلًا وقد تجمعت الدموع في عينيه وضم شفتيه محاولًا أن يتماسك..
ثم تنهد مغمضًا عينيه في قوة وكأن كلماته تتصارع حتى تتغلب عليه وتنطلق عبر شفتيه!

مسح على وجهه أكثر من مرة في توتر ثم قال: "لا أعلم من أين أبدأ حقًا يا أمي.. لكني آسف!"


عقد حاجبيه محاولًا أن يمنع دموعه من أن تتمرد واستطرد: "آسف على كل جرم لم أرتكبه وعلى كل ذنب لم أقترفه، فلتقدمي اعتذاري للعالم أجمع يا عزيزتي.. "

صمت لوهلةٍ ثم ابتسم بوهن مكملًا: "أعتذر له على كوني إنسانًا يشعر؛ فأنا لم أتلائم مع طبيعته الحيوانية"

رفع رأسه قليلًا ونظر للكاميرا بشكلٍ مباشرٍ ففاضت من عينيه دمعة حارة وهو يقول: " لقد خُلِقتُ في عالم لم يحبني يومًا يا أمي.. طفلكِ المدلل كان يعاني في كل لحظة كان يحياها في تلكَ الغابة.. لم أعتد أن أظهر ضعفي لأحدٍ حتى أنتِ.. "

انسابت بعض الدموع على وجنتيه ثم قال بصوتٍ متهدج: "لكن صغيركِ لم يعد يتحمل!"


مرت لحظات ودموعه تنساب على وجنتيه..

وكأنه تذكر شيىء ما فقد مسح دموعه بهدوء شديد وأخيرًا قال: "لم أفكر يومًا بأن أخبركِ بما أقاسيه؛ لأنني أدرك جيدًا كم تعشقينني، وستتألمين من أجلي أضعاف ما أشعر؛ فلم أرد أن أكون سببًا في أن تجد التعاسة لقلبكِ بابًا؛ لذلكَ كنتُ فيليب المرح ذاك الذي يتردد صدى ضحكاته في كل مكان"



تنهد مستئنفًا: "ولكن إذا أردتِ أن تعرفي كل ما حدث فلتبحثي عن دفتري الأسود.. هل تتذكرينه؟"


ثم أضاف بعد أن انسابت دموعه مرة أخرى رغمًا عنه..

"فلتعلمي أنكِ حبيبتي الوحيدة والشيء الجميل الذي جعلني أتحمل حياتي حتى النهاية.. وداعًا أمي"


....

انتهى العرض وانتهت معه دموع "أنچيليا" فما تشعر به أعظم وأقسى من مجرد بضع قطرات مياة حارقة بالنسبة لها!


هي الآن تشعر وكأنها مغتربة في أرض غير وطنها..
تائهة.. حائرة!
الأرض تدور من حولها بسرعة، مقطفات عديدة تعبر عبر ذاكرتها، تشعر بأن قلبها سيقف إثر سرعة خفقانه القاتل!

ألقت بنفسها على سريره وحاولت الغوص فيه قدر المستطاع..
مدت يدها فالتقطت وسادته وضمتها إليها بقوة..
ثم غرزت وجهها بها محاولةً استنشاق رائحته العالقة بها!

فامتصت الوسادة دموعها التي تخرج بلا شعور منها..
دموعها التي حفظت طريقها في هذان الخطان الدقيقان من عينيها..


ما الذي حدث لمدللها!
لمجرد تفكيرها في أن هناكَ ما كان يعذبه وهي متواجدة معه في منزلٍ واحدٍ، بل كانا روحًا واحدةً كما ظنت هي!

لمعت عيناها وكأنها تذكرت شيىء ما..
نعم!
الدفتر الأسود!


هبت واقفةً ونظرت في جميع أركان الغرفة كالمختلة!
ثم اتجهت نحو مكتبته وأخذت تفتح أدراجها كأنها تسابق الضوء..!
لكنها لم تجد شيئًا!
فاتجهت نحو خزانته كادت أن تلتقط إحدى ستراته وتعانقها لكنها تذكرت أنها تبحث عن شيئ أهم الآن!!

قلبت الخزانة رأسًا على عقب لكن بلا فائدة!

وقفت في منتصف الغرفة وهي تشعر بصداع يغزو رأسها بالكامل، أطرافها ترتعش بقوة، نبضات قلبها باتت مؤلمة، قواها تتراخى تدريجيًا!
تشعر بالاختناق يتمكن من روحها!

وضعت يدها على رقبتها ومسحت عليها أكثر من مرة لكن يدها جذبت قلادتها رغمًا عنها فهوت من رقبتها..

انخفضت لتتناول القلادة مرة أخرى فمدللها هو من أحضرها لها لذلكَ هي ستضعها في قلبها وليس على صدرها..
لكنها لمحت شيئًا ما تحت السرير!

اتجهت نحوه ببطء واخفضت بحيث تتاح لها فرصة رؤية ما يوجد تحته فإذا به ذلكَ الدفتر!

لقد وجدته!!
ذلكَ الدفتر الأسود الذي أهدته إياه حينما أتم عامه السادس..
دفتر ضخم إلى حد ما مزخرف من جميع أركانه باللون الذهبي، لفت نظره حينما كانا معًا في مكتبة ما لإحضار أدواته المدرسية..

تمسكت به بقوة ثم جلست على السرير..

فتحت صفحة عشوائية من البدايات وتنهدت بعمق حتى تستعد قبل أن تقرأ ما كتبه..
خطه الردئ ينم عن صغر سنه في ذلكَ الوقت..

" أنا حزين للغاية لأن الله لا يحبني فهو لم يعطِ لي أبًا مثل سائر زملائي، لو كان لدي أب سأخبره بما يفعلوه معي في المدرسة حتى يضربهم جميعًا؛ فها قد أتممتُ عامي السابع وليس لدي أي أصدقاء! فهم يتجنبونني لأنهم يخشون الاقتراب مني بسبب بشرتي الداكنة.. وأيضًا ينبذونني من أجل مظهر شعري المجعد! يخبرونني دائمًا أنني قبيح..
وهذا يؤلمني كثيرًا بل ويجعلني أبكي يوميًا قبل النوم أي  بعد الحكاية التي تقصها علي أمي ليلًا.
ربما يخافون من فكرة أن يصبحوا مثلي ذوي بشرة داكنة وشعر مجعد إذا لمسوني! هل الأمر عدوى؟ ربما هم على حق! لكنني حقًا أمقُتُ كوني وحيدًا! ليس لدي سوى أمي.. هي كالملائكة!..
أريد أن أخبرها أنني أحبها كثيرًا حتى وإن رفضتُ شرب اللبن صباحًا"



أغلقت الدفتر بقوة ودموعها تنهمر وشهقاتها يتردد صداها في أركان الغرفة..
وضعت يدها فمها لتحاول كتم شهقاتها حتى تتماسك وتقرأ أسراره الأخرى التي أخفاها هنا..


فتحته مرة أخرى على إحدى الصفحات في منتصفه..

"لا أعلم هل أُعاقب على خطأ لم أقترفه؟ لِمَ يحدث معي ذلكَ؟ أنت تراني يا الله.. أليس كذلك؟
هل ترى كيف يسخرون من الأثر الجانبي الذي تركه الحدث على تقاسيم وجهي؟
مجرد جروح في وجهي جعلهم يظننون أنني وحش!
أريد أن أخبرهم أنني إنسان مثلهم تمامًا..
أريد أن أكون مراهقًا كسائر المراهقين.. أستمتع بوقتي مع أصدقائي، نذهب للتنزه أو أي شيئ كما يفعلون.. ولكن يالسخرية فليس لدي أصدقاء.. لم أؤذيهم يومًا لكن يبدو أن مظهري هو الذي يؤذيهم! "


عانقت وسادته وقلبها ينزف ويتأوه قبل عينيها اللتان فاضتا بسيول من دموع القهر الذي يغزو كيانها..


كان يعاني! كان يخفي في قلبه ألمًا أعظم من أن يتحمله..



عادت "أنچيليا" تغلق الدفتر فهي لا تقوى على الاستمرار في هذا العذاب، تريد أن تقتلع قلبها من بين ضلوعها حتى تتغلب على ذلكَ التوجع الذي يساهم في أن يقضي عليها!

هي تدرك أن كل ما عاناه قد خطاه قلمه على صفحات ذلكَ الدفتر لكن هي أضعف من أن تستوعب أن لطيفها كان يتلوى ألمًا كل يوم بينما كان يبتسم لها تلكَ الابتسامة التي كانت تحيا لأجلها..


كان "فيليب" يداوي جروحها وفي المقابل كان يتقلب كل يوم في مآسي لم تعلم عنها شيئًا!

هذه المرة فتحت الدفتر في صفحة تسبق منتصفه بعدد لا بأس به من الصفحات..

"هل كان ينقصني ذلكَ الحادث! هل كنتُ أحتاج ذلكَ الحادث حتى يوشم تلكَ التشوهات على وجهي لكي أواجه مصاعب أقسى؟!
يا الله متى سيمكنني النظر في المرآة دون أن أمقتُ اليوم الذي ولدتُ فيه؟
كلهم يكرهونني من أجل شيئ ليس لدي أي يد به!
أيمكن للإنسان أن يحيا بلا رفقاء؟
ألا أستحقُ الحب من أجل مظهري.. ربما في عالمنا هذا قانون!
لكن أمي تخبرني كل يوم أنني جميل..
وبالطبع تقول هذا مراعاة لمشاعري فقط، يا إلهي!
هي الوحيدة التي تدرك أنني إنسان لديه مشاعر، بل وتحاول ألا تجرحني بأي كلمة مهما كانت بسيطة! ربما منحتني إياها يا الله حتى أتحمل ما أقاسيه..
أحبها كما لم أحب أحدًا"



ضمت الدفتر في قوة وأغمضت عيناها شاعرةً بالانهيار يتمكن منها، لكن على الأقل هذا شيئ تعلمه..
فبطلها الصغير كان قويًا واستطاع أن يواجه العالم بعد ما حدث له.
حادث سيارة لعين قد جعل قطع زجاجية تتناثر حتى غرزت بعمق في مناطق متفرقة من وجهه؛ مما أدى إلى شق جرح من جبهته مرورًا بجانب أنفه وصولًا إلى شفتيه، جرح آخر من أنفه مرورًا بوجنته وصولًا إلى أسفل فكه، وجروح غائرة متناثرة على وجنته، أنفه وجبهته..
حتى عندما خضع لأكثر من عملية تجميل لم يحدث سوى تغيرات طفيفة وعليه ظلت آثار تلكَ الجروح على وجهه الذي كان يمقته قبل ذلكَ التشوه حتى!



......

تحدث "فيليب" في ملل يدير عيناه:

_ "لقد تخطيت الأمر، حقًا لا أعلم لِمَ لا تصدقيني"

جعدت ملامح وجهها في قلق تضع يدها على إحدى الندبات على وجهه تتحسسها قائلة:

_"هل فعلت حقًا ؟ الحادثة لم يمر عليها الكثير من الوقت، كنت أفكر في الذهاب إلى طبيب نفسي، لا أريد إخفاء شيئًا عليكَ فتلكَ الفترة كانت عسيرة على كما كانت عليكَ أو ربما أكثر لأنني لا أريد رؤيتكَ تعاني يا صغيري"


تنهد "فيليب" بقوة قائلاً:

_ "أنا بخير يا أمي، ربما ينفع معكِ الطبيب النفسي لا أعلم فقط كوني بخير، لكنني لا أحتاجه حقًا"


ابتسمت "أنچيليا" بلطف:

_"من الأصل أنا بخير بل إنني أفضل منكَ"


رفع "فيليب" حاجبه في تعجب ثم تمالك تعابير وجهه قائلاً:

_"بالطبع ستكونين بخير لأنكِ تستمدين قوتكِ مني، وتدركين أنني مليئ بها"


_ " أنت مغروري الصغير "

_ " أنا محبوبكِ الكبير"

.....



ومحبوبكِ الكبير ها قد غادر بلا عودة!


كانت تعلم كم كان صعبًا عليه أن ينظر في المرآة ويرى وجه مختلف عما تعايش معه منذ زمن.. لكنه كان يظهر صلابته المزيفة!


لم يعش حياته بصورة طبيعية لكنه استطاع الاستمرار!


قلبت الصفحة تنوي قراءة الصفحة التي تليها مباشرةً، تتشبث في أي شيء من شأنه أن يعيد لها فلذة كبدها!

"كان هذا صعبًا، لم أستطع التحمل، لا أريد التحمل، منذ كنت في عمر السابعة وقبلها أتحمل، لقد سئمت، أشعر بالتعب، قلبي مرهق، لكن حبيبتي سعيدة، أمي وصديقتي ووحيدة حياتي سعيدة، سأستمد طاقتي منها لأن هذا ما يحدث بالفعل، ومن دفتري العزيز الذي يمتص آلامي، ربما الأوراق وقلمي أفضل من بشر كثيريين حولي"



أغمضت عيناها رافعةً وجهها إلى الأعلى تهمس بأنفاس مهتزة،شفتاها ترتجفان، وقلبها يحترق:


_"آهٍ يا ولدي آه، كم كنتَ تعاني، ما أدراك إني كنتُ سأحزن لحالك، ما أدراك إني لن أذهب إلى هناك وألقنهم درسًا لن يغادر ذاكرتهم؟، إذا أخبرتني لكان الدفاع عنكَ أول شيء سأفعله ثم يمكنني الحزن كما شئت"

أطلقت العنان لعيناها في ذرف ما تشاءان من دموع، ما عادت تستطيع التعامل مع رئتيها، فهما تصرخان من فرط حاجتهما للأكسچين.


تعدت منتصف الدفتر بقليل من الصفحات توقفت عند صفحة طرفها مقطوع، يتبعها أخرى نصفها غير موجود، ثم أخرى يوجد بها رسمة، بالأحرى كان ذلك خطوط مبعثرة، لكنها توضح شكل مميز في النهاية.


خطوط مبعثرة توضح وجه مبعثر يصرخ، في فضاء لم يسمعه فيه أحد.

عادت مرة أخرى إلى الصفحة ذات الطرف المقطوع.

"أريد الموت، وأريد لشياطيني الهوجاء أن تصمت قليلًا، لدقائق فقط.. أستطيع بها جمع أفكاري المبعثرة تلك.
ما يخيفني حقًا أن جميع تلك الأفكار السوداوية تقودني إلى نهاية واحدة؛ الموت، وأجد إني أفكر في طريقة ما للموت بدون ألم.."



قلبت الصفحة تقرأ النصف المتبقي من الصفحة المهترئة، يبدو كما لو أن "فيليب" لصقها هنا وأنها ليست من الدفتر!


"لا لا لا! لن أفعل ذلك، لن أخذلها وأفعل ذلك، سخريتهم مني ستكون أفضل من كوني معهم في شيئ كهذا!
يسخرون مني بينما أنا في وعيي أفضل من مشاركتهم جريمة نكراء والغياب عن الوعي بطريقة دنيئة ستقودني يومًا إلى الهاوية!
هل أترك نفسي للتيار يقودني كما يريد؟"


عقدت حاجبيها تمسح دموعها التي لم تشعر متى انسابت مرة أخرى؛ حتى تتضح لها الرؤية وتستطيع إكمال ما بدأته وقراءة باقي الدفتر.

كان المتبقي في الدفتر كثير من الأوراق، اختارت أن تأتي بالصفحات الأخيرة.

"اعرف انني ربما ابدوا لكم غريبا
وانا اسير خلال عالمكم،
فمنذ متى وأنتم تألفون
سير الموتى الأحياء بينكم؟.

تعرفون؟،
أنا أيضًا مثلكم!،
أشعر بالغرابة،
منذ البداية أشعر بالغرابة وعدم الأرتياح،
وقريبًا جدًا، هنا، وفي هذا العالم،
عالمكم، أدركت السبب،
السبب وراء كونى هكذا، أعاني،
وراء كوني قريب جدا من الظلام،
ودائمًا من التعاسة،

عرفت أني لم أنتمي إلى هنا،
منذ البداية لم أفعل،
والمؤسف أني كنت أظنني أفعلها يومًا ما،
حين أكبر ربما!، أو ربما حين أعرف الحقيقة!،
وقريبًا جدًا، هنا، وفي هذا العالم، عالمكم،
أدركت الحقيقة، حقيقة ذلك الحاجز الذي يكبر معي ويتسع،

ليحول بيني وبين أن أنسجم، مع الحياة،
أو أن يجربني العيش، حقيقة أني أعيش نصف حياة ونصف موت،
بنصف مشاعر ونصف قلب،



أني غريب يترنح على الحافة من كل إنتماء،

أني تائه، كنت تائهًا، أتوه في هذه اللحظة،
وسأتوه هكذا أبدًا بلا إهتداء.."




حاولت أن تستوعب حروفه الذي خطاها وكأنه يخاطب العالم!
بل وأحضرت الصفحة الأخيرة من الدفتر..
ربما تتضح لها تلكَ التفاصيل المبهمة والتي لم تستطع فهمها حتى الآن!
تنهدت بقوة وكأنها مقبلة على إلقاء نفسها من أعلى حافة جبل!
"ما عدت أستطيع الاستمرار، أعتذرت مسبقًا عما سأفعله يا أمي، عندما أخبرتكِ عن أسفي بينما كنتِ تعدين طعام العشاء ونظرتِ لي بتعجب ثم -كالعادة- غيرتُ شأن الحديث كله إلى شيء فكاهي وضحكتِ، وأعتذر الآن عما أفعله ، أعلم إنه يؤلم، لكنه سيزول يا أمي صدقيني، الوقت سيزيله، كما أزال تشوه وجهي واستبدله بعدة ندبات تعطي لي مظهر الوحش، وسأعتذر عما فعلته في القريب العاجل.

لكنني أحتاج ذلك، أحتاج الرحيل عن هنا، ربما إلى الأبد لا أعلم، أعلم أن ذلك سيكون صعبًا، على الرغم من ذلك لن يكون أصعب مما أتعرض له يوميًا عند خروجي من ملاذي الآمن في حضنك، هذا لا يعني أن حضنك فقد مفعوله ولم يعد يمدني بطاقة الإستمرار!


لكني سئمتُ من كل ذلك، أعلم إنكِ تتفهمين، بعدما علمتِ ما مررت به يا أمي.

رغم ذلك سأكون هنا متى ما احتاج قلبكِ لي، ستجدينني في غرفتي أتجول هنا وهناك، أجلس أمام الحاسوب فتأتي أنتِ لتخريب أيًا كان ما أفعله ثم تنظرين إلى الخلف فتجدينني نائم على سريري أنظر لكِ ووجهي ممتلى بأبتسامة سعيدة لكنها ليست مصطنعة لأن كل شيئٍ معكِ حقيقي!
ثم إلى النافذة تنظرين وآتي أنا من خلفكِ وتفزعين ثم احتضنك كالطفل.
طفل يتشبث في طوق نجاته الوحيد.
كنتِ أنتِ يا أمي البلسم الذي يطيب لي جروح روحي، وكم أنا ممتن لأنني سأرحل قبل رحيلكِ أنتِ!

هذه أنانية أعلم، لكنني لطالما كنتُ أناني!

كنتِ أنتِ يا أمي طوق نجاتي الذي لم يغرق او يغرقني أبدًا، لكني من اخترت الغرق بمحض إرادتي لأن غرقي لا مفر منه..

كان انسياب المخدر إلى جسدي أشبه بهروب مؤقت، لكنني قررتُ الهرب إلى الأبد..
مجرد جرعة زائدة سأُحقَنْ بها ستنهي كل شيئٍ!
مكاني ليس هنا يا أمي!
أحبكِ كثيرًا"



رفعت بصرها من الدفتر على صوت باب الغرفة يُفتح ببطئ ويطل هو من خلفه بوجه مبتسم كما العادة!


_ "يا إلهي يا فراشتي.. هذا الدفتر مجددًا؟!"



أغلقت الدفتر نهائيًا تضعه بجانبها وقبضت على يديها قائلة بينما لم تتوقف عيناها عن ذرف الدموع:
_ "مجددًا ومجددًا، حتى ينتهي هذا الأبد الذي أنت راحل إليه يا طفلي"


_ "لكن هذا لن يجدي نفعاً، لن يغير شيئًا مما حدث"


زفرت وهي تبتسم ابتسامة مُتألمة:

_"نعم لن يُجدي، لكنه سيريحني قليلاً، كالمُسكن المؤقت يحد من انتشار الألم بداخلي، أتشبث في أي أمل يعيدكَ إلىَّ"

تهدج صوتها في نهاية الحديث لتصبح شفتيها الجافتين تتحركان بدون صوت مسموع!

صوتها قد اكتسب بحة مرضية من كثرة الصراخ عليه وإليه، لكنها رغم ذلك أكملت ما تريد قوله:

_"هل كان ذلك خطئي ؟، تركك بمفردك تعاني كل هذا؟ هل كان يتوجب عليَّ التدخل أكثر من ذلك؟ ربما فقدك كان بسببي، لم أستطع حمايتك كما يجب"


_"لقد فعلتِ ما توجب عليكِ فعله وأكثر، رغم ذلك توجب علي الرحيل، لقد قمتِ بحمايتي، لقد كنتُ منغلقًا على ذاتي أكثر مما ينبغي، كان خطأي في المقام الأول يا أمي"


أغمضت عيناها تصدر تأوهًا ينم عن ألمها الكبير، تنتحب أكثر وأكثر وليته يفيد الصياح!
فتحت عيناها ببطء لترى الغرفة فارغة..
أدركت أنها غرقت في أوهامها مرة أخرى لتنهمر دموعها فهي السبيل الوحيد لتفرج به عن ما يكمن في صدرها حتى تقابل صغيرها يومًا ما!




                         يا شمعة قلبي المنكسر
                           لفقدكَ روحي تنقسم
                           وأجر جناحي بذعرِ

* * *

الخواطر من كتابة المبدع HassanS737

وأصدقائي
Sanimse_
Agera_Tum
© چِينَا ,
книга «مَعْزُوفةُ الضَيَاعِ// One Shot».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (9)
Ghadeer_29
One Shot
ضيفولها كمان شابتر بس 😭😭😭😭
Відповісти
2020-12-09 11:00:02
1
Ghadeer_29
One Shot
الرواية خرافية كمية مشاعر تبكي 😭😭😭
Відповісти
2020-12-09 11:00:37
Подобається
Ghadeer_29
One Shot
ببكي عااااااااااااااااا 😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭
Відповісти
2020-12-09 11:01:13
1