١/١
١/١


أيرلندا ٣/ ٣/ ١٩٢٢ م

أسمع أصوات خطواتهم خلفي!

يلاحقونني ويبتغون حبسي، وأنا كالفريسة أهرب منهم لعلي أبلغ منزلي وأحتمي بحبيبي.

استمريت بالركض في حقل القمح وأنا أصرخ بهلع فيبين انتفاخ أوداجي، أحبالي الصوتية تكاد أن تتقطع عندما أنادي باسمه: «بيكهيون! بيكهيون!».

إن منزلي يلوح لي من خلف السنابل المتراقصة إثر الرياح، متأكدة بأن حبيبي ينتظرني، هو ملاذي الأبدي.

بلغت منزلي الذي سيحميني من أولئك، فتحت البوابة الحديدية وأغلقتها ورائي بيدين مرتجفتين بينما أراقب أولئك وأنا أتصبب عرقًا، تنفسي بدأ يضيق وجسدي بان عليه الهوان.

توقفوا يراقبونني على بعد مسافة عشرين قدم، ومن ثم رحلوا.

أوليت اهتمامي للمنزل فأبصرت كم أن الحديقة ذابلة، لا أستطيع تذكر كم عدد المرات التي أنذرت جين بأن تهتم بها، ولكن لا بأس، فكل ما يهمني الآن هي عودتي إلى أحضان بيكهيون بعد أن سُلبت منها عنوةً.

اشتقت لمنزلي الدافئ، هو مبني من طوب بُني باهت، وسقفه من القرميد وبذات اللون ولكنه أغمق بكثير.

فتحت الباب ودخلت وأنا أتفحص الزوايا والأثاث والسقف أيضًا، خلعتُ معطفي وشرعت بمناداة خادمتي: «جين! جين!».

لا أحد يرد عليّ، تلك الخادمة المهملة إلى أين ذهبت وتركت المنزل وحبيبي هكذا!

رميت المعطف على الأريكة ثم أسرعت نحو غرفتنا، رغبتُ برؤيته بشدة، أتوق إليه وأنا متعطشة لإبصار مُحيّاه، أريد أن أشكو حالي إليه، أبعدوني عنه وأكرهوني على البقاء عندهم، ولكني هربت من قبضتهم، هربت إلى أحضان زوجي الحبيب.

«أين أنت بيكهيون؟» همست وأنا أدور بالغرفة، لربما يعمل في مكتبه كالعادة، لا أستطيع مقاطعته هكذا وهو يكتب إحدى رواياته، خصوصًا أنني تركته وذهبت، من المحتمل أن يكون غاضبًا.

ارتميت على سريرنا فسعلت بشدة بسبب الغبار، سحقًا لكِ جين! تلك الخادمة العاصية لم تغيّر الملاءات رغم معرفتها التامّة بأن بيكهيون يعجز عن ذلك! آمل أنه كان بخير طوال مدة غيابي.

«أتمنى أن أرى تلك الوضيعة حتى أمزقها إربًا، أنى لها الجرأة كي تفعل هذا بأسيادها!» هسهست وأنا ساخطة، ولكن...لا أدري كيف غفوت بسرعة، ولا أعلم كم استغرقت بالنوم، أيضًا كيف يمكن لهذه اللمسات التي تداعب خدي أن تكون بهذه النعومة والرقة.

غدا يزيح خصلات شعري الشقراء عن وجهي، فتحت عينيّ فابتسمت وبرحت مضجعي وأنا أبصر مُحيّاه العابس، كان جالسًا قربي على السرير.

وسيمٌ أنت يا رجل، بحلكة الليالي في عينيك وخصلات شعرك، بعرض منكبيك وحلاوة ثغرك، تغزلت فيه بقرارة نفسي قبل أن أرتمي بأحضانه، إن الأمان يتجسّد به.

«اشتقت لك» همست بذلك بين طيات رداء نومه ذو اللون السُكّري، فأحسست بذقنه يتموضع على رأسي، وقد نبس بصوته العميق والدافئ المعتاد: «لم تركتني هكذا يا بيرل؟ كنت وحيدًا من دونك، عانيت من الوحشة كثيرًا».

«آسفة، هم أخذوني منك، كنت سأقضي أيامي معك ككل مرة، ولكن هم من سلبوني منك، هم لا يريدون اجتماعنا سويةً» غمغمت وأنا أبكي وأشكيه، فشعرت به يمسح على شعري فيما يهمس بهدوء: «لا بأس، لن أدعهم يأخذونكِ مني».

قبّل رأسي وهو يهوّن علي، أنا محظوظة لامتلاك زوج مثالي كمثل بيكهيون.

ابتعدت عن أحضانه وابتسمت بخفة فيما أن عيني تعجان بالدموع، فقلت وأنا أمسحهما بخشونة: «ما رأيك بنزهة في الحديقة؟».

«موافق» ابتسم لي بفتور فتحمست للغاية، قفزت من السرير وصرت أدور في الغرفة وأنا أطرق سبابتي بشفتيّ بحثًا عن شيء مهم.

«أين كرسيك المتحرك؟» نظرت إليه وأنا أسأله، فقابلني بيكهيون بالتنهد ثم طأطأ رأسه وهمس: «جين وضعته في القبو كيلا أتمكن من جلبه والجلوس عليه».

«تلك الساقطة! لقد تجاوزت حدّها بالفعل، سأحرص على تأديبها في المرة القادمة» تزمتت نبرتي واضطربت من شدة سخطي، حتى فقدت رباطة جأشي وكسرت المزهرية وأنا أتنفس بوتائر مشتتة.

«اهدئي بيرل، ما دمت أنت هنا فكل شيء سيكون على ما يرام» ابتسم لي وفتح لي أحضانه، فاقتربت منه وضممته لصدري.

«سأذهب لجلب الكرسي» أعلمته فاومأ وابتسم، أحبك يا نور حياتي.

اتجهت نحو القبو وأنا أحمل شمعة أنير بها المكان، هناك في أسفل المنزل حيث نحتفظ بالحاجيات القديمة والتي لا نستعملها، فتحت باب القبو فأصدر صريره بالمكان الهادئ، ولكنني سرعان ما صرخت وشوّهتُ السكينة حينما مرّ جرذٌ بين قدمي.

«أنا سأكون بخير، سأجلب الكرسي فحسب وأخرج» هوّنت على نفسي، فابتلعت ريقي وتقدمت بضع خطوات للأمام وأنا أتفحص هذه الغرفة.

رأيت الكرسي مرصوفًا بالزاوية فقصدته وفتحته، وبينما كنت مشغولة بطرد الأغبرة عنه، سمعت صوتًا مريبًا، بالكاد رفعت مبصريّ عن الكرسي كي أبصر مصدر الصوت.

حول أنبوب المياه الملتصق بسقف القبو، وجدتُ أفعى سوداء ملتفة، ترمقني بعينيها البراقتين، إنها تترصدني.

ارتجفت يدي كما فعلت شفتاي، بالكاد تأبطتُ الكرسي وأنا أتراجع للوراء بينما أحدق بها، أخشى أن تهاجمني.

سقطتْ أرضًا وبدت وكأنها ستتجه إلي! فصرخت وركضت نحو الخارج، وعندما برحت القبو وأغلقت باب المنفذ ورائي، استندت عليه وأنا ألهث وقلبي يخفق خشيةً، أنا خائفة للغاية.

عدت للغرفة وشاهدت بيكهيون ينتظرني، قطب حاجبيه عندما رآني أرتجف خوفًا، فنظر إلي بتوجس وسأل: «ما خطبك بيرل؟».

«رأيت جرذًا وأفزعني، كدت أحترق بالشمعة» قلت ثم ساعدته بالجلوس على الكرسي.

«كوني أكثر حذرًا» أنبأني فهويت برأسي عند عنقه ثم قبّلت خده وهمست: «أحبك».

«ولكن ليس بقدري» همس مبتغيًا إغاظتي، فعانقته لعلي أدرك الأمان برفقته، وعندما استشعرته يحتل فؤادي ابتعدت عنه   ثم حركت الكرسي وهتفت: «هيا بنا».

«لم أخرج مذ مدة، أتوق للحظة قشعريرة جسدي حينما تضربه رياح أيرلندا» نبس وهو متحمس للخروج، تلك الخرقاء جين أهملته ولم تهتم به بفترة غيابي.

فتحت الباب ودفعت الكرسي على مهل، لفحتنا الرياح الباردة، إن السماء على وشك أن تمطر كما وأن صوت الهزيز يصدر وكأنه يود أن يطلق جماحه، ولكن لا بأس سنبقى هنا لبعض الوقت؛ فبيكهيون يفضل هذا النوع من الأجواء.

تلمّس الورد الذابل وعبس بغير رضا، لا تحزن يا عزيزي؛ فمن أجلك سأغرس حبي لك على شاكلة بساتين لا متناهية من الورد، فتبتهج عندها ونحتفي بربيع حبنا الرابع معًا.

«ألم تنته من كتابة القصة؟» طرحت عليه سؤالي، فهزّ رأسه نافيًا وأفصح: «لم أفعل، فمن بعد ذهابكِ عني لم أستطع إكمالها، الأفعى السوداء ظلت متوقفة».

ركعت على الأرض وأسندت ذقني على يديّ اللتين وضعتهما على ساقيه، ثم نبست وأنا أحدق به من الأسفل: «لقد قرأت ما كتبته خلسةً».

وكالعادة نظر لي بسخط، هو لا يحب أن أقرأ كتاباته، يريدني أن أقرأها كاملة أمامه كي يرى ردة فعلي فيُسر.

«ألم أخبرك بألا تقرأي مسوداتي سرًا؟» تبرّم وهو منزعج مني ثم أشاح ببصره بعيدًا عني، إن حاجباه المعقودين وعبوس شفتيه الطفيف يثيران بنفسي الحب الأكبر تجاهه، لقد تعمدت النفاق على نفسي من أجل رؤيتها، فروحه ما أهوى وملامحه ما أعشق.

«أنت تعلم بأنني أحب احتواء هذا العبوس بثغري» همست بذلك ثم ارتفعت كي أبلغ وجهه الذي مال للاضطراب.

«توقفي، أنا من سأحتويك، ولكن في داخل المنزل؛ فللسماء احترامها لا سيما عندما ترعد» قال وهو يحاول التهرب مني كالعادة، إن نبرته بانت عليها الرجفة، لا تتحجج بالسماء يا عزيزي.

حلّ الليل فأشعلت الشموع ووضعتها على الطاولة، لقد أعددت بعض الطعام من أجلنا، صحيح أني ربة بيت جيدة وصالحة، ولكنني لا أجيد الطبخ.

كانت غرفة الطعام ذات هالة برتقالية بسبب الشموع، أحب لمعان عينيه الذي تسببه الشموع.

«هل الطعام جيد؟» سألته وأنا أراقبه وهو يمضغ اللقمة بتعابير متقرفة، بيكهيون لا يجيد المجاملة حتى.

«إنه محترق» قال فانقبضت تعابيره بانزعاج، معه حق فهذا هو طعمه فعلًا.

«هل أعد لك واحدًا آخر؟» عرضت عليه إلا أنه أمسك بيدي وهمس بابتسامة: «دعينا ننام فحسب».

وجوده بجانبي يشعرني بالراحة والطمأنينة، بيكهيون هو الرجل الذي أُعجبت بطريقة تفكيره عندما قرأت بعضًا من مؤلفاته، وبعد ذلك قصدت لندن كي أحضَرُ معرضه وأقابله، فشاء القدر أن يجمعنا معًا، أُغرمنا ببعضنا بعد عدة لقاءات وتزوجنا رغم معارضة والدي، فهو لم يرض بأن يكون زوج ابنته الكبيرة رجلٌ يعجز عن السير، أبي عارض زواجي مرارًا وتكرارًا وحاول أن يطلّقنا من بعضنا إجباريًا، ولكن حبنا أقوى من مجرد ورقة بالية.

استيقظت من النوم على صوت هزيز الرعد القوي، فشعرت بالجفاف بفمي، ولذلك جلست وسكبت لي بعض الماء من الإبريق الموجود بجانبي على الخزنة.

ارتويتُ منه وكنت سأعود للنوم، ولكن شيئًا مريبًا أثار انتباهي، هنالك شيء أسود طويل ونحيف يتحرك على الأرض، إنه لا متناهي الطول ويستمر بالدخول للغرفة من خلال النافذة، فزعتُ بشدة فبرحت السرير وأخذت أرقبه وأنا أرتجف، إنها حراشف، إنها أفعى!

هذه الأفعى لا أعرف أين رأسها، إني أبصر هيكلها المتمايل، ولكن حينما التففت بهلع حول السرير رأيتها تتسلل بروية لجهة بيكهيون، هي تحت الغطاء!

صرخت باسمه بجهورية وأبعدت الغطاء عنه فوجدتها تلتف حوله، فحّت بوجهي وكشّرت عن أنيابها، رمقتني بعينينها البراقتين وتمايلت بهيكلها الحرشفي.

نهض بيكهيون فزعًا وأبصر ما أبصرته، تشجعت فلحفتها بالغطاء وأطحت بها تحت النافذة، أخذت أضربها بالمزهرية التي تكسرت على إثر الضرب، لم أرتح حتى تسرب دمها من الغطاء وتناثر على وجهي.

تأكدت من دس بعض الخُرق ببعض الفتحات الضيقة بإيطار النافذة، وعندما نظرت لبيكهيون وجدته ينظر إلى الغطاء المتلطخ بدم الأفعى.

صعدت على السرير واحتضنته ثم ارتمينا عليه ونحن نحدق ببعضنا البعض، وبهدوء هو قال: «لا تتركيني بيرل».

«لن أفعل، أفضل الموت على ذلك» همست وأنا أنظر إليه بعينين دامعتين، كنت قد دسست نفسي بصدره كي أستشعر بعض الدفئ.

في اليوم التالي استيقظت على تمام الساعة الحادية عشر صباحًا، نظرت لبيكهيون الذي كان يراقبني وأنا نائمة فابتسمت واحتضنته.

«أنت كسولة» قرص أرنبة أنفي فضحكت على إثر معاملته لي.

برحت السرير وساعدت بيكهيون على الجلوس بكرسيه المتحرك، سيكون صباحًا جميلًا برفقته.

بعد تناول طعام الإفطار، وددت الخروج برفقته لاستنشاق بعض الهواء النظيف، ولكن عندما فتحت الباب أبصرت كمًا هائلًا من الأفاعي في الخارج، كانت مختلفة الأحجام وموحّدة اللون، إنها تزخر ببقعة وتنعدم بأخرى.

سرعان ما أغلقت الباب وأنا أتنفس بهلع، لن أعرّض بيكهيون للخطر مرة أخرى!

«إنها تريدني» تمتم بذلك وهو يحدق بالأرض، فرفع مبصريه لي وحدق بي قائلًا بنبرة فاترة: «لا تسمحي لها بأخذي، لا تتركيني لها».

«لن أدعك لتلك اللعنة السوداء، سأحميك ولن أتوانى في ذلك!» ضممت يديه بيدي وأنا راكعة عند قدميه، فرنّ الجرس وعلى إثره نهضت من على الأرض وتقدمت صوب الباب بتردد، نظرت من خلال العدسة الصغيرة الموجودة به فأبصرت رجلًا غريبًا.

فتحت الباب قليلًا وأبرزت بعضًا من وجهي من الفتحة الضئيلة، فقلت بخوف: «من أنت؟».

«أنا...»

إنني أبصرها ورائه!

«احذر من الأفعى!» صرخت ثم فتحت الباب واجتررته للداخل، أحكمت الإغلاق بينما هو سها قليلًا ثم وضع يده على صدره بعد أن استوعب: «يا إلهي، أخاف الأفاعي، كدت أن أكون جثة هامدة».

«قل لي من أنت؟» وقفت وراء بيكهيون وأنا أسأل هذا الغريب، فطبطب على صدره وكأنه يهوّن على نفسه.

«أولًا، شكرًا لكِ على إنقاذكِ لي، وثانيًا أدعى تشين وأنا جئت هنا...» كان متحمسًا بحديثه ولكن نبرته خفتت حينما وصل عن سبب مجيئه إلى منزلنا أنا وبيكهيون.

نظر إلي بيكهيون فنظرت إليه، يريدني أن أخرجه فهو لا يدخل الغرباء إلى المنزل ما عدا العائلة والأصدقاء.

«أهو زوجكِ؟» سألني هذا الرجل المدعو بتشين وهو ينظر لبيكهيون فقبضت على كتف رجلي وقلت: «أجل، إنه زوجي».

«مرحبًا، كيف حالك؟ ما اسمك؟» قال هذا الرجل فرمقه رجلي بسخط لتدخله فيما لا يعنيه، ومن ثم ردّ عليه: «اخرج من بيتي».

وبابتسامة صيّرت عينيه هلاليتين أفصح هذا الرجل: «أوه، بيكهيون اسم جميل».

كيف يعرف بيكهيون! إنني أخشى أن يكون من أولئك، يجب علي إخراجه من هنا.

«غادر!» أجهرت بذلك عندما فتحت الباب، فدفعته للخارج، إنني أسمعه يصرخ بقوة وهو يضرب على الباب طالبًا مني إيوائه: «أرجوك أدخليني! إن الأفاعي تكاد تهاجمني! لا! لا تقتربي مني! ألا في قلبكِ رحمة أيتها الامرأة!».

ضغطت بيديّ على أذنيّ بقوة وانزويت في الزاوية، سأتجاهله ولن أخاطر بسلامتي وسلامة بيكهيون.

«أخشى أن يأخذكِ مني» قال ذلك بهدوء، فحبوت على الأرض إليه ثم ارتميت على فخذيه وغمغمت وأنا أتهدج بدمعي: «أنا خائفة للغاية بيكهيون».

اندثرت ضجة ذلك الرجل الغريب، فمسح زوجي على شعري ثم أفصح: «أنت ستتركيني، ستذهبين معه، لن تنجدينني حتى».

«لن أفعل!» رفعت رأسي ونفيت وأنا أتهدج قائلة: «لن أفعل».

«كاذبة، ستفعلين» أفشى بتزمت.

«لن أتركك بيكهيون، أقسم لك» شددت على طرف ثوبي وأنا أقنعه بأنني سأبقى إلى جانبه.

«كاذبة، كاذبة، كاذبة! أنت كاذبة!» صرخ بيكهيون بي بهذه الكلمة التي أمقتها، فدفعت بالكرسي أرضًا بقوة حينما فقدت سيطرتي على نفسي، وقد بدأت أغرز أظافري بوجهي وأصرخ بسبب الذي قاله، هو ينعتني بالكاذبة، هو لا يصدقني، هو يلومني، هو ينكر صدقي حينما أخبره بأنهم هم من أكرهوني على تركه.

هو الآن منبطحٌ على الأرض بعجز، فحبوت إليه مجددًا ثم حاولت مساعدته على النهوض، وبينما كنت أحضنه وأضمه لصدري استمر بتكرار هذه الكلمة بفتور: «ستتركيني».

قمت بدس رأسه بصدري بقوة وغمغمت: «لن أفعل».

وعلى حين غرة سمعت صوتًا قويًا وشهدت الباب يرتج، سرعان ما هبط أرضًا نتيجة كسره من قبل رجلين، كلّا! إنهم أولئك!

كل واحد أمسك بعضد مني فسحبوني من أحضان بيكهيون، كنت أصرخ رافضة الذهاب معهم، ولكنهم يأبون سماع صرخاتي.

كنت أترجاهم وأتوسلهم كي يتركوننا معًا، ولكنهم سلبوني من زوجي وسحبوني معهم.

كان بيكهيون منبطحًا على صدره، خده متعفرٌ بأغبرة الأرض، لم ينفك عن رمقي بعينينه الدامعتين بعتاب، وقد غدا يهمس تلك الكلمات: «ها قد تركتني بيرل، ها قد تركتني».

وهنت عندما سمعت صدق ما قاله، فعلًا تركته.

خرجوا بي من المنزل من خلال الباب المكسور، فشهدت الأفاعي السوداء تتجه إلى داخل المنزل، كلّا! بيكهيون!

أرجوكِ لا تفعلي ذلك، لا تفعلي! لا تفعلي!

إنني أبصرها من بعيد وهي تلتحف بيكهيون الذي يعجز عن الهرب، لقد غمّدت جسده باسودادها، تنقض عليه بسمومها، وتأخذه مني.

وهنت حينما رأيت ذلك، فشعرت بالرجلين يتوقفان بي فتركاني وحينها هبطت على الأرض، أبصرت المكان الذي أنا فيه.

إنها...أرض ممتلئة بالأفاعي السوداء الضخمة، ثعابين مرعبة ومهوّلة!

نهضت كي ألوذ بالفرار، ولكنهم قبضوا عليّ ومنعوني ثم صاروا يتقدمون بي نحو تلك الأفاعي التي تفح وتتقدم وتتراجع بمجرد اقترابي منها، رموني لها فبتُ أصارع، إنها تخنقني وتلتف حولي.

كنت أحاول الهروب منها ولكنها تمنعني.

تقدّم نحوي رجل ما، أعرف وجهه حق المعرفة فأمسك بقبضتي وهزّني بقوة وهو يصرخ بوجهي: «استيقظي بيرل! استيقظي يا ابنتي!».

«أنقذني يا أبي، ستقتلني هذه الأفاعي!» توسلته وأنا أتشبث بسترته.

«هذه مياه وليست أفاعي! إنه البحر!» صرخ بوجهي فنفيت وأنا أتوسله: «أخرجني منها، إن بيكهيون سيموت إن لم أنقذه منها».

«بيكهيون ميت مذ عام بالفعل» قال ذلك فصرخت بوجهه وأنا ألف قبضتيّ حول عنقه، كيف يجرؤ على جعل حبيبي ميتًا!

«ما الذي تفعلونه!» جاءنا صوت، هذا الصوت مألوف لي.

إنه نفس الرجل الذي زارنا في المنزل قبل ساعة تقريبًا، يدعى تشين.

أفلت والدي ونظرت إلى الآخر ثم توعدته بالويل: «أنت الذي جلبتهم! أنت من تسبب ببعدي عن بيكهيون!».

«سيد آنديرسون، نحن لم نتفق على هذا الفعل، لا يصح أن تجعل المريضة تخاف هكذا، أنت تعرضها للخطر» تكلم هذا الرجل، عن أي مريضة يتحدث؟

«عليها مواجهة مخاوفها، إذا توقفت عن خشية المياه ستخرج من عالمها الوهمي برفقة زوجها الراحل بيكهيون» تحدث والدي، عالم وهمي؟ زوج راحل؟ زوجي ليس ميتًا أيها الدجال!

نظرتُ إليها بينما أحدّث والدها، كانت بوسط المياه تفرفر كالطير المذبوح، شعرها الذهبي متشابك لأبعد صورة، ملابسها التي تبللت بالمياه متسخة كما أبصرتها قبل ساعة من الآن، عيناها الزرقاوتان الذابلتان تحيط بهما هالات سوداء، بشرتها شاحبة وتبدو كالميتة.

ولكوني «تشين كيم» طبيب نفسي قادم من كوريا، تم إخباري بأن أعالج امرأة صُدمت برحيل زوجها عن هذه الحياة، وعندما وصلت لمنزل عائلتها قالوا بأنها هربت ولا بد من أنها في منزل زوجها.

ما تم إخباري به، هو أنهما كانا على متن سفينة متجه لألمانيا، ولكن شاء القدر أن يحدث عطب مجهول فيها، ولربما جُهل عمدًا من قبل السلطات فصُرّح بالمجهول.

ولسوء الحظ، مرّت عاصفة رعدية جعلت من الركاب يتناثرون من السفينة، كانت هنالك عدة قوارب نجاة، ولكنها امتلأت بالركاب.

ركبت بيرل آنديرسون بإحداها وكانت ستنتشل زوجها العاجز من البحر أيضًا، ولكن الأمواج جرفته بعيدًا كما حدث مع القارب، كانت تتوسل الركاب بأن يذهبوا لبيكهيون كي ينقذوه؛ فهو لن يستطيع السباحة، ولكنهم رفضوا وأخذوها معهم في حين أبقوا بيكهيون غريقًا لمياه البحر، إنهم «أولئك» الذين تدعوهم بذلك.

عندما زرتها في المنزل، تفاجئت من توهماتها بخصوص الأفاعي، كانت الأرض تتضمن بعض البرك الناتجة من أمطار البارحة لا غير.

التقيت بيكهيون الوهمي، كان كرسيًا مغبّرًا فارغًا، أما بيرل فكانت تنظر إليه بين الحين والآخر، إنها لا تحدّث بيكهيون، وإنما تحدّث نفسها، إنه الحديث الذي بداخلها والذي تود أن ينطقه بيكهيون بشدّة.

إنني الآن في منزل عائلتها جالس بجانبها على السرير بعد أن منحتها بعض المهدئات، ستستيقظ عمّا قريب. ابتداءً من اليوم سأعقد معها جلسات العلاج، فلا بد لها من الشفاء. بعد انتظار دام نصف ساعة، استيقظت وهي تأن بوهن.

«مرحبًا بيرل» حييتها بابتسامة، فنظرت لي وهمست: «أنت...».

«أنا؟ أوه أجل، أنا الذي بعثني بيكهيون لكِ» قلت ذلك بثقة، فبحلقت عينيها وهمست: «دعني أذهب له أرجوك، سيموت، ستأكله الأفاعي».

«هو بخير، لقد أنقذته وقتلت كل تلك الأفاعي، أيضًا أعطيته دواءً لكي يريحه» أفشيت لها بوابل هائل من الكذبات.

بدا الانشراح عليها إذ هتفت: «حقا! ًدعني أذهب له إذًا».

أمسكت بيدها أمنعها من الذهاب لتوهماتها، فنظرت لي باستغراب ولهذا أجبت على نظراتها المتسائلة: «إن بيكهيون قد أخبرني بألا أرجعك إليه حتى تنفذي شرطه».

«هل قال ذلك؟» تسائلت فأومأت.

«ما هو شرطه؟» استفسرت بيرل، فدعكت فروة رأسي ببلاهة، ولكني ابتسمت واقتربت منها هامسًا: «إذهاب خشيتك المفرطة من الأفاعي».

«أنا يمكنني قتلها، والطفل الصغير يمكنه كذلك، لا أحد يخاف منها» كنت أبثُ الثقة بنبرتي، تبًا.. أنا أقصد المياه لا الأفاعي الحقيقية.

لحسن الحظ خضعت لجلساتي، هذا فقط لأن بيكهيون أوصى لك، كم أن هذه الامرأة تحب رجُلها حبًا جمًا!

اكتشفت من خلال جلساتي العلاجية معها بأن بيكهيون قد كتب قصة بعنوان «الأفعى السوداء» يتحدّث فيها عن فتى يخشى المياه، يراه كالأفاعي السوداء، يصفها بأنها سوداء متمايلة وذات أعين براقة، إنه الوصف ذاته الذي قالته بيرل عنها، أخبرتني بأن في ليلة غرق السفينة، رأت أن البحر يسطع عليه نور القمر وأضواء السفينة المتبقية فيتلامع، أما الأمواج فتتمايل كأفعى الكوبرا على أنغام التلاطم وهزيز الرعد، كانت تجرف زوجها العاجز آنذاك، وبعد أيام وُجد ميتًا على سواحل بلجيكا.

باليوم الذي أمضته برفقة وهمها أخبرتني بأن هنالك أفعى تلتف حول أنبوب على سقف القبو، كانت مياهًا متسربة من الأنبوب كما هي أفعى النافذة التي التفت حول بيكهيون، كانت مياه المطر المتسربة، أما دمها الذي تناثر على وجهها فلم يكن إلا مياهًا متناثرة نتيجة الضرب.

ظلت تحدثني عن خادمتها جين وعن سوء ما فعلته ببيكهيون، جين استقالت مذ حوالي سنتين كما أخبرتني والدة بيرل وأختها، ولكن بيرل ظلت تلقي كامل اللوم على الخادمة جين؛ لأنه يتوجب عليها أن تنكر أمر المنزل المهجور وأيضًا موت زوجها، فالكرسي المتحرك ذهب بعرض البحر أما الذي في القبو فهو كرسي احتياطي، وعندما شكى بيكهيون لها عن جين كان ذلك ما أخبرها إياه دماغها وما خلقه؛ فهو من صَنع الوهم.

كانت تشرح لي كيف أن بيكهيون حقيقي جدًا بلمساته، بهمساته، بحبه، بعطفه، بلحظات انفعاله بالغضب، كانت تختبر كل ذلك وتستعيد ذكرياتها معه، خلال صبحية ذلك اليوم التي أمضتها مع الوهم، أخبرتني كيف أن بيكهيون نعتها بالكاذبة ورفض تصديقها، إن ذلك هو جزؤها الآخر الذي يحثها على الشعور بالندم جراء تركها له يغرق هكذا، كانت تصارع نفسها.

إنها تتخيل وترى أشياءً غير موجودة مثل زوجها والذين طاردوها عندما جاءت لمنزله، تشعر بها وتلمسها كما هي لمساته ودفئه الذي تتعجب منه أمامي، وتسمعها كمثل فحيح الأفاعي.

بمرور عدة أشهر أدركت بيرل أن الأفاعي كانت عبارة عن مياه لا غير، ولكنها ما زالت مصدومة بموت زوجها، هي لا تبرح غرفتها قط، كانت متكدرة وتتذكر لحظة موته.

اليوم عدت من منزلهما المهجور، جئت بمسودة قصة «الأفعى السوداء» التي أخفاها بيكهيون عن بيرل؛ كيلا تقرأها ككل مرة.

«إنها المسودة» قلت عندما جلست على الأريكة بجانبها، فطأطأت رأسها ونبست: «كان سينشرها بعد عودتنا من ألمانيا».

«سيكون سعيدًا إن نشرتها، هي مكتملة بالمناسبة» حينما أفصحت كلماتي بابتسامة، سهت ثم تمتمت: «أهي مكتملة؟».

«أجل، أنتِ قرأت الجزء الذي راودك ككابوس على أرض الواقع فقط ولم تعلمي كيف انتهت» أومأت متفهمة ما قلته.

«أتعلمين كيف انتهت قصة الأفعى السوداء؟» سألتها مبتغيًا معرفة إجابتها.

«لا أظنها بائسة كنهاية بيكهيون» نبست بذلك، فابتسمتُ ووضعت المسودة بين يديها.

«اقرئيها» تركتها وحدها وخرجت من الغرفة، بيكهيون سيكون شفائها الوحيد.

«بدأ الفتى بقطرة مياه، لمس قطرة فقطرة فقطرتين، وجد أن الخوف يتلاشى بخطوة فخطوة وليس بوثبة عالية تضاعف الخوف، فالخوف كما الوحش الكاسر، لا يمكنك إطاحته بضربة واحدة، بل يمكنك إضعافه بضربات متوالية تضعفه وتوهنه فيموت على إثرها».

  • النهاية
  • قصة غريبة آي نو😂
  • بخصوص إني ما أعرف فئة القصة |:
  • من أي فئة تعتقدون؟
  •   احم نبلش...
  •   بيكهيون هنا؟
  •   شلونكم وانتو عايشين بخيالات بيرل😂
  •   الأحداث؟
  •   تدخل حبيبي تشين...اوبسس، هو مو حبيبنا بعد🌚
  •   النهاية؟
  •   رأيكم بالقصة كلها؟
  •   بالنسبة لقصة بيكهيون اللي كتبها رغم أنها بيض، بس اخذوا كلشي خطوة بخطوة، مثلما التضخم الزاحف يتضخم خطوة بخطوة حدما يصير تضخم جامح يلعن اسلاف الاقتصاد ويقتله😂 لا تسألوني شدخل، اليوم امتحنت اقتصاد 🌚
  • حبيت أكتب قصة قصيرة وأنوع
  •    هاي القصة مرت بتطورات واقصاءات هواييي، يمكن مريت ب٦ قصص مختلفة حدما ركزت على هذي، أول شي كانت إثارة وغموض تالي رعب تالي غيرت لإثارة وووو حدما كسحت كل الأفكار وخليت هاي.
© ييشينغية ,
книга «الأفعى السوداء».
Коментарі