لَمحة بسيطة
اللّقاء الأوّل
اللّقاء الأوّل


في مُنتصف ديسمبر..
بينما البرد القارس مُهيمنٌ على الأجواء..

أصواتُ الأشجار في الخارج وارتطامُ أغصانها ببعضٍ يكاد لا  يهدأ..
الثلج يتساقط بكثرة لدرجة أنّه غطى مستوى النّافذة..
وصوت الرّياح لم يسكتْ منذ ساعات..

            
                °~°~°~°~°~°~°~°~°~°~°~°~°

     وفي هذهِ الأثناءَ يجلسُ ذاك الفتى أمام مدفأة غُرفته، وبيدِه كوب قهوتهِ وحاملٌ كتابًا بالأُخرى، يقلب صفحاتِ الكتاب بمللٍ ويرتشفُ قهوته بضجرٍ، وكأنّه مُرغمًا بفعل هذا..
     أخرجَ ساعتهُ من جيبه الدّاخليِّ الخاصِّ بسُترتهِ الرّسمية الدّافئة، ونظر للسّاعة وكان موعدُ نومهِ قد حَلَّ، وفعلًا أغلق كتابهَ بعدما كان قد أنهاهُ وأطفأ مدفأة الحطب خاصّته وتوجّه لباب خزانتهِ يأخذ ملابسًا لينام بها..
أنهى كلّ هذا وصعدَ نحو سريرهِ الخشبيّ الكبير، وبما أنّه لا شيء يشغلُ باله فقد نام بسرعة..
.........

     وكالعادة، استيقظَ على صوتِ ديك جارِه، وبدأ روتينهُ اليوميَّ المُملَّ، وهو الاغتسال صباحًا، تناولُ الإفطار، وارتداءَ ملابسَ العمل الرّسميّةَ ، وعلى الرّغم من أنّه يعمل في منزله إلّا أنّه يحبّ التّنظيم، فهو كاتبٌ ذو شُهرةٍ جيّدة، ولا يحتاج الخروجَ للعمل فهو يكتبُ في منزلِه، أيضًا فبالرّغم من شهرتِهِ المتواضعة بين سُكّان القرية والقُرى المجاورة فهو لم يكوّن صداقاتٍ كثيرة، ولا يحبُ لقاء النّاس كثيرًا، فهو فقط يخرج لشراء حاجاتهِ وبيعِ قصّتهِ لأحدٍ 


      وأخيرًا ها هو على وشكِ بد العمل، جلس (تشانغكيون) على كُرسيّ مكتبهِ، وأخذَ بيدهِ ريشتهُ ووضع طرفها بعُلبة الحبرِ، وقبل أنْ يتلامسَ سطح الورقةِ بطرفِ الرّيشة سمع صوتَ دقِ باب منزله، استغرب قليلًا بما أنّه لا يملك معارفَ وأصدقاء، ولكن توجّه للباب وفتحه..

      وكان القابع أمامَهَ ذا قامة طويلة، ونحيفُ البُنيَة، شعرُه بنيٌّ غامقُ، يرتدي مِعطفًا أسودَ يصلُ لركبته، وتحته بلوزة رماديّةَ اللّون، وبنطالًا أسودَ عليه خطوطٌ بلونٍ فاتح، فتبيّن من ملابسه لتشانغكيون أنّه نبيلٌ وليسَ من هذهِ القريةِ..

    انحنى لهَ بزاويةٍ صغيرة من باب الاحترام، فحقًا إنّ تشانغكيون يملك هيبةَ وهالةً تجبرُك على احترامه، ومدّ له يده قائلًا:

" أُدعى هيلين، تشرّفت بمقابلتكَ "
" أنا تشانغكيون، ليم تشانغكيون، تفضّل للدّاخل "
~ ما بهِ هذا، ماذا يريدُ منّي، آه أظنّ أنّي لن أكتب شيئًا اليوم ~

...
" حسنًا، أهُناك شيءٌ يُمكنني مُساعدتُكَ به؟ "
" أعتذر، ظننتُك تعرفني فلم أقُل شيئًا.
أنا أعملُ في مجال الكتابة أيضًا!
ومن فترةٍ كُنت أبحثُ عن كاتبٍ آخر، وقد دلّني الكثيرُ عليكَ، مُثنيِنَ على أعمالكِ ومادحينكَ بكثرة، فلم أتردد في القدوم "

" اوه أعتذر، بصراحةٍ أنا مُنطويٌّ إلى حدٍ ما فلم أعرفك "

" لا بأس..
في الحقيقة أنا هنا كي أعرضَ عليكَ أنْ نتعاون في إصدار رواية! "

" ليَ الشّرف، ولكن لم يسبقْ لي أن أكتب روايةً، فكلّ أعمالي عبارةٌ عن قصص قصيرة لا أكثر، وحتّى أنّي أستعمل الحبر والرّيشة لا الطّابعة، لا أعتقد أنّي بمستوى كاتبٍ مرموق لدرجةِ أن أُصدرَ روايةً "

" لا تقُل هكذا عن مُؤلَّفاتِك، قرأت قليلًا منها وقد جذبني أُسلوبُ سردكَ للقصصِ والعِبرُ منها، ولا تقلق حيالَ الطّابعة، لديّ في المنزل واحدة، وإذا كُنت لا تريدُ لأيّ سبب فقُل رُبّما أستطيع مُساعدتكَ، أمّا إذا كنتَ لا تريد التّعاون أصلًا فلا بأس "

" اممم، أنا فقط مُتردّد، لم يسبق ليَ العمل مع أحد "

" كما تشاء، أعتقد أنّ لا عمل ليَ هُنا، فرصة سعيدة بلقائِكَ "

وقف طويل القامة من على أريكته قاصدًا باب الخروج، وعلامات اليأس وضَح على وجههِ، فلم يتوقّع أنّه سيُرفض!
أمسكت يدٌ به وسحبته للخلف قليلًا وقال:

" لا لم أقصد هذا، بالطّبع لا أحد يُضيع فرصة التّعاون مع أحد آخر!
أنا فقط مُتوتّر قليلًا ولكن هذا لا يعني أنّي لا أريد التّعاون "

وبقيَ مُنصدمًا ممّا فعل، فهو شخص انطوائيٌّ بدرجة كبيرة، ولم يتوقّع من نفسِه فعلَ هذا، فهو لم يسبقْ لهُ أنِ اندمج مع أحد، ولكنّه اقتلعَ كلّ هذه الأفكار وزرع فكرة أنّه اندمج معه بسببِ حماسته لتأليف رواية..

" اوه شُكرًا جزيلًا لكَ، دعنا نبدأ الكتابة اليوم أو غدًا، واسمح لي أن أستضيفكَ في منزلي لنكتب "

قال طويل القامة وكادَت شفَتَيْهُ أنْ تتمزّق من شدّة ابتسامهِ، وأمّا القابعُ أمامَهُ فقدِ ارتسمت على وجههِ ابتسامةٌ عفويّة بسبب ظرافةِ الآخر

" حسنًا، نستطيع البدء غدًا، ولكنّ أوّلًا دعنا نتعرّف ونتكلّم قليلًا "
قال هذا بينما كان يسحب طويلَ القامةِ من يدهِ ليرجع لمكانه..
وزادَ على كلامهِ " سأُحضّر القهوة وآتي "

.......

انغمسَ كلاهُما بشربِ القهوة ونسيا سبب جلوسِهما معًا، فقهوةُ كيون لا تُضاهى وإن شربت قليلًا منها ستُدمنُها طول حياتك!

" أعتذر نسيت الأمرَ، واستغرتُ بشرب القهوة، حسنًا سيّد (هيلين)، كم عُمركَ؟ "

"اوه لا داعٍ للرّسميّة، يمكنكَ منادتِيَ باسمي فقط، وعمري 26 سنة، وأنت؟، أعتقد أنّك في عُمري "

"في الحقيقة لا أنا أصغركَ بعامين، عمري 24 سنة"

وأضاف قائلًا : " إذن هيلين، هلّ لي أن أعرف عن كُتّابِكَ المُفضلين؟ "

ووو....

وهكذا تناولا أطرافَ الحديث بأمورٍ تخصُّ الكتابة إلى أن سأل وون الآخر سؤالًا غريبًا، فقد سأله:

" أتؤمن بالسّحر؟ "
صُدم الآخر من غرابة السّؤال وقال
" قرأت كُتبًا تمحورتْ حول هذا الموضوع، ولكن صراحة لا أحبّ التّكلم عنه، ولكني أؤمن بهِ بالطّبع "

" أظن أنّك تعتقدني غريبًا بسبب سؤالي، فأنا فقط أحبّ أن أرى أكبر عدد من ممكن من النّاس وآخر رأيهم حول هذا الموضوع "

" لا لا بأس "

" والآن اسمح لي، أريد الرّجوع للمنزلِ "

وفي هذهِ الأثناء أخذ الجوّ يزداد قساوةً واشتدّ البرد، ف ردّ عليه
" بالطّبع لن تذهب!

انظر للجوّ لا أعتقد أنّك ستصمدُ ربع الطّريق، ستبقى معي ونذهب غدًا سويًّا لمنزلكَ، وعلى أيّة حال فانظر للوقت، السّاعة 9 مساءً، يبدو أنّنا انشغلنا بالحديث ولم ننتبه للوقت في أثناء حديثنا "

ارتسمت علامات الفرح في قلب هيلين، ولكنّه لم يُشعرِ الآخر بذلك

" آه أظنّ أنّ ما من خيارٍ لي " ولكن الحماسُ بصوتهِ خانه وجعل الآخر يعرفُ أنّه أحبّ فكرة النّوم عنده..

" تستطيع النّوم في معي غرفتي، يوجد سريرين "

" لمَ تمتلكَ سريرين بينما أنتَ وحيد؟ "

فور ما دخلت تلكَ الكلمات أُذنَ تشانغ اختلطت في رأسِه تلك المشاهد، مشاهدُ الدّمِ والأعضاء المُمزّقة لرأسهِ..
ودونَ وعيٍ امتلأت عينيهِ بالدّموع، واللّعنة، حتّى وهو يبكي لا زال مِثاليًّا، مشهد تلألُؤِ عينيهِ أشبهُ برؤية سماء اللّيل مُتزيّنةً بالنّجوم، ولكنّ لم يلبَث يبكي إلى أنِ وجد نفسه بينَ ذراعين دافئتين وسمعَ صاحب الصّوت الرّقيق الدّافئ يقول :

" بصراحة لا أعرف ماذا حدث معكَ، ولا أريد أنْ أعرف، ولكن من الواضح أنّه شيء سيّئ، يمكنك البكاء والصّراخ، وأعرف أنّك لا تثق بي فأنتَ لا تعرفني أصلًا، ولكن إذا كُنت أستطيع مُساعدتكَ بشيءٍ فقُل، وأكُرر رفضي بمعرفة ما حصل معكَ، فإنّي أعرفُ أنّ التّكلّم عن الآلام صعب، صعب جدًا "
أنهى كلماته تلك وهو الآخر لم يستطع كبح عينيه من إسقاط ذاك الحِمْل الّذي احتويتَاه لفترة طويلة ..

" يا إلـٰهي، أسنبقى نبكي هكذا كالآرامل؟
تعال معي إلى غُرفتي لأُعطيكَ ملابسَ تنام فيها "
قال بصوتٍ ساخرٍ محاولًا إبعاد الحزن عنهُما..


" سالحقُكَ ولكن أوّلًا دعني أذهَب للمرحاض "
أنهى كلماته واتّجه نحو المرحاض ولكن أمسكتْ بيدهِ تلك اليدُ مُجدّدًا وقال : " أتعرف مكانه؟ "
وفي هذه اللّحظة شعر بالتّوتّر، فقد ظنّ أنّه فقد فُرصته الأخيرة، ولكن تبقّى مُتمسّكًا بذلك الخيط، خيطُ الأمل الوحيد له، وقال : " لا، كُنت أنوي البحث عنه "
" لا عليك، تعال معي سأدُلّكَ عليه "
وهنا ارتاح هلين وذهبَ كلّ توتّرهِ وقلقِه..

~ أمضيا اللّيل وهما يسألان أسئلة أخرى، ولكن كانت أسئلةً شخصيّة، فقد عرُف كيون أنّ الآخر أهله ميْتون وأنّه عاش فترةً طويلةً من حياتِهِ وحيدًا، وعرف الآخر أنّ كيون أهله تبرّؤوا منه لسبب ما، ولكنّ كيون لم يهتم كثيرًا فإنّه لا يحبّ الرّوابط العائليّة على أيّة حال، وعرفا أنّ هناك شيئًا مشتركًا بينهما، وهو أنّهما فقدا أعزّ صديقٍ عليهما، واستمرّا هكذا إلى أن طغى على جوفنِهمُ النّعاس ~

    - " لاااااا وووون لا تفلت يدي ليسَ مرّة أُخرى لااااا!"

        " يا إلـٰهي ما كان هذا؟، مع مَن تتحدّث ؟ "
     صرخَ ضيفُهُ برعبٍ بعدما سمع


ركض نحو تشانغ وحاول أن يرى ما باله، اقترب منه وسمعه يقول كلامًا غيرَ مفهوم والدّموع تكاد لا تتوقف!
هنا هيلين قرّر ألّا يقول شيئًا، وجعلَ أفعالهُ من تتولّى زمام الأمور..

وبينما يحاول تهدئته..  فالأصغر كان منصدمًا..

وكأنّ هاتينِ الذّراعين اللّتين تحتضنانِ جسده البارد وروحَهُ المُنطفئة مألفوتينِ علي..

شعر بدفءٍ وحُبٍ بهذا الحضن..

وتلك اليدُ الّتي تُربِّت على رأسه وأصابعُها الرّقيقة الّتي تسمح الدّموع عن وجهه..

لم تكن هذا اللّمسات غريبةً عليهِ، ما بال هذه المشاعر الغبيّة؟ ألِأنّها بعد منتصف اللّيل؟ فهو لم يرَهُ مِسبقًا..


" لا أعرف ماذا حدث، وأعتقد أنّ كابوسكَ كان شنيعًا لدرجةٍ جعلتكَ تستيقظُ باكيًا، وإن كان هناك أيُّ شيء أستطيع فعله لا تتردّد في قوله "

قال هذا بينما كان متوجّهًا نحو سريرهِ، فهو شعَر بإنّ الآخر هدأ
" لا تتركني أنتَ أيضًا، عُد لم أكتفي من عناقكَ، أم أ.. أنتت..  مث.. مثلهم ؟

أكمل كلامهِ بتلعثُمٍ بسببِ تلكَ اللآلئ اللّامعة الّتي اكتفت من كونِها حبيسةٍ لهاتين العينين البُنيّتين ..

" ششش، لا تقُل هكذا، لا تبكِ بسببِهم، أقسُم لكَ أنّهم لا يستحقّون دمعةً واحدة من هاتين اللؤلؤتين، رجاءً دعني ألمح الابتسامة على وجهك "

قال ذاك بينما كان قد جلس بجوار الأصغر، وعانقَه مجدّدًا إنّه ينتظر هذهِ اللّحظة من سنوات!


" لقد خذلوني جميعًا، كُلّما تمسكني يدٌ لتخرجَني من الظّلام، فهذهِ اليدُ تتركُني مرّة، وأرجعُ مرةً أخرى إلى قاعِ الظّلام، ولكن فعندما ألتقيتُ منقذيَ فأنا من خذلتُه..

لقد تعبتْ روحي من كلّ هذا، لا يأتي يوم بلا أنْ أرى ذلك الحُلُم، كلّ ليلة يتكرّر، مشهد الدماء الّتي غطتني والمكانَ، ومشهدُ يدهِ الّتي قُطعت، ورقيتُ مُمسكًا بها لا ينقبِعُ من مُخيّلتي، وجسده الّذي سقط في الهاوية وصوته الذي يستنجدني، لم تفارقني هذهِ الأشياء..

أعتذر، يبدو أنّي تكلّمت كثيرًا، وأنا أصلًا لا  أعرفك "

" أقسم لكَ بعدد نجوم السّماء، وبعددِ حبّاتِ رمل الأرض أنّي لن أدَعك تسقُط مرّة أُخرى، أعدُكَ أنّي سأكون دومًا بجانبِك، سأكون تلكَ الرّوحَ الّتي لن تترُكك، سأكون كظِلِّكَ بل وأقرَب! 💫⁦☄️⁩
سأُرافقُكَ طول حياتي ولن يُفرّقنا سوى الموت


© Ft_17 IB,
книга «لقد عاد ..».
Коментарі