نبتة
كل ما كان بوسعي حينها هو استراق النظرات خلف زجاج المحل في كل مساء حين أكون ذاهبة للنادي، تلك النظرات كانت بالنسبة لي كمغامرة، لأني كنت مدركة كل الإدراك أن النهاية لن تكون سعيدة إن استمررت على ذلك الوضع، رغبة شديدة في الاعتراف كانت تجتاحني، لكني، رغم علمي أن ذلك ليس خاطئا مبدئيا، كان يراودني الشك في ماهية أحاسيسي تجاهه.
لأنني مهما تمسكت بمبادئي، فمعايير المجتمع تغلبني في كل ما يتعلق بالجنس الآخر.
لم أكن أعرفه بقدر ما كنت أتخيله، لكنه كان حسن المظهر، أنيقا، وهادئا كتوما. كان أسود الشعر طويله، أبيض السحنة، ذا عينين لوزيتين سوداوتين، و أنف مستقيم، لطالما اتخذ مجلسا بقرب محل شغله وقت الفراغ، و كان وقت فراغه، كافيا ليجعلني أملأه بذهابي و إيابي إلى المتجر المجاور له.
في أوج مراهقتي وقبل أن أبدأ الكتابة، لم ألاحظه يوماو لم أنتبه لوجوده، لكنني بعد أن بدأت، أصبحت ألاحظ كل ما قد يكون جميلا، و كان جماله صافيا تماما، صافيا كالصلصال في أيدي صانعه.
* * *
اليوم الأول
رفعت طرفي حزامي الأبيض متلاعبة بهما بينما أسأل صديقتي التي بجانبي :
"هل الاعتراف بالحب يعتبر إهانة للكرامة في حال كان الحب غير متبادلا ؟"
كنت على علم بأن سؤالي هذا نسبي، ولا يمكن إعطاء جواب واحد له، لكنني كنت بحاجة ماسة لمن يجيبني بلا.
"بالطبع لا، إذا كان الإعتراف في الوقت المناسب، و للشخص المناسب."
كنا حينها قد اقتربنا من المنزل، و كان الحلاق يشتغل كعادته في محله، لطالما شعرت بالخزي من كوني أحب حلاقا، كان الأمر أقرب بكثير إلى صور استهزائية رسمتها في ذهني سابقا عن صديقات هائمات في حب حلاقين.
لطالما شعرت بالاستياء من الروح الرومنسية التي يمتلكها فتيان بلدنا، لأن الحب في أذهانهم كان مقترنا بالتملك و الشهوة، بينما كان بذهني متعلقا بابتسامة و عناق، كان الحب بسيطا، معاكسا تماما للحب الذي أكنه للحلاق.
لأن بعدنا و اختلافنا كان يجعل العناق في خيالي باردا، و الابتسامة شاحبة. و لأنني لم أستطع حتى إيهام نفسي أنه الشخص المناسب.
كان لدي إحساس دفين بأن جواب صديقتي لم يكن كاملا، مع أنه بدى منطقيا، لكنني لم أتمكن من معرفة بقية الجواب.
توقفت قليلا متأملة إياه، كان يضع الرغوة على لحية الزبون المستلقي على الكرسي، يعيد قارورة الشامبو إلى مكانها بعد أن يقلبها في يده كما لو أنه يراقصها، ثم يحلق اللحية بخفة و اتقان متناهيين، بدى شغوفا بعمله، وكنت شغوفة بتأمله، ولازلت غير قادرة على نسيان ذاك المشهد الذي بدى، رغم بساطته، جديرا بتخصيص مساحة له في كتاب، أو تخليده في لوحة فنية منقوشة بالفحم.
كانت مرام على علم بانجذابي نحو الحلاق، فلطالما شاركتني طريقي إلى الثانوية، بل و درست معي في نفس الصف لثلاث سنوات، وكنت، في بادئ الأمر، أعبر مدى انبهاري بجماله بشكل عفوي و مباشر، وكانت تشاركني إعجابي تماما كما لو أنه مجرد صورة في متحف. لكنها توقفت عن ذلك فجأة دون أن تفصح عن السبب.
و حين استأنفت سيري سألتني مرام بخجل "هل تفكرين في الاعتراف للحلاق ؟"
"لا لن أفعل بالتأكيد."
أجبتها محاولة ما أمكن الاستهزاء بالفكرة، لكنها كانت على علم تام بأن للحلاق شأن بهذا السؤال المفاجئ.
كنت و مراما على اقتناع تام بأننا لم نخلق في المكان المناسب بسبب أننا رومنسيتان بشكل نادر في محيطنا، كانت رغباتنا في فترة مراهقتنا محصورة في شخص صادق، عناق، و قبلة صغيرة على الخد، مع أننا كنا على علم أننا سنستمر في الحلم بهذه الأخيرة إلى حين زواجنا، الذي بشكل ما، بدى بعيدا و شبه مستحيل.
كنت أرى الصدق في كل أفعال مرام، حتى الاعتيادية منها، و كنت على استعداد تام لتبادل الهوية مع حبيبها القاطن بكوريا الجنوبية لو أمكن، حتى تتمكن من لقائه، لكن مرام كانت على علم تام بأنها لن تحظى به يوما، وكانت تكتفي بدفع ضرائب الحب غير المتبادل بصمت، ودون شكوى، على عكسي أنا، التي كانت لا تترك يوما يمضي إلا وذكَرَتْ فيه الحلاق.
* * *
ارتديت بذلتي الرياضية البيضاء المصفرة، ثم شرعت في ربط شعري على شكل ذيل حصان، لتفاجئني أمي باقتراحها :
"ما رأيك أن أضفر لك شعرك ؟"
ابتسمت بحماس مبدية موافقتي، ثم جلبت المشط راكضة نحوها حتى تشرع في تضفير خصلات شعري السوداء التي لازالت تحتفظ بالقليل من لون الحناء النبيذي.
راودني شعور باليقين، يقين أن هذا هو اليوم هو المناسب لإزالة ذاك الثقل عن كاهلي. بشعر مضفر، وبذلة التايكوندو الكورية الطراز، وحذاء رياضي من نوع التشاكس تايلور، كل شيء بدى مثاليا وورديا إلى حد جعله أشبه بالحلم، توجهت إلى المتجر المجاور لمحل الحلاقة لأشتري قطعتين من الحلوى الإسبانية الرطبة، كنت أخطط لإعطائه قطعة حتى يأكلها في طريقنا إلى مقهى النهر الوردي، الذي كان مقفلا بسبب إجراءات الحد من الوباء، وكنت سأخبره هناك بكل ما أشعر به تجاهه.
لكن الأمور سارت على خلاف ذلك تماما، لأن الحلاق لم يكن في المحل يومها، وقد عوضه زميله.
وقفت أمام المحل بخيبة بينما أحدق بزميل الحلاق المنهمك في تصفيف شعر أحد الزبائن المراهقين، ثم غادرت المكان متوجهة نحو النادي بينما أقضم الحلوى الاسبانية محاولة كبح دموعي الخائبة.
كنت تماما كتلك الطفلة الصغيرة التي لم تجد حلواها المفضلة عند البقالة.
ترددت كثيرا في استشارة أمي، مع أنني كنت أعلم أن جوابي بحوزتها.
إذ أنني سألت كل من هو قريب مني عداها، وكان السبب الوحيد لذالك هو خوفي من أن تسألني عن الشاب الذي أحببته.
لا لأنني أخجل.
بل لأنه حلاق ..
و كان أقرب من سألته بعد مرام، صديقتي ريماس، و قد كانت صديقة يمنية الأصل، تعرفت عليها عن طريق موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، كانت بدورها ملمة بالكتابة، لم نكن كاتبات حقيقيات، كنا نعتبر الكتابة فضاءً للتعبير على النفس بطريقة فنية، لكن ما كنا نكتب، كان أبعد بكثير عن مسمى الفن.
"فكرت أن أعايد الشاب الذي يلهمني."
كتبت لها.
كان العيد قد اقترب بالفعل، وكانت المعايدات تلقى على الذاهب و الآتي، و مع أنني كنت خجولة، فقد ظننت أن المعايدة ستعطيني فرصة أكبر لمحادثته لاحقا.
لكن ريماس عارضت الفكرة، عارضتها بشدة قائلة أنه قرار خاطئ، لأنه لن يهتم لي، و أنه من الخاطئ اتباع أعراض مراهقتي.
قالت أن علي التحكم لمشاعري، لا جعلها تتحكم بقراراتي.
وفي نهاية الأمر اقترحت علي أن أسأل أمي، باعتبارها أكثر خبرة.
ليلتها، و للصدفة البحتة قررت أمي أن نسهر معا في غرفة نومي أنا و أخواتي، فانتهزت الفرصة لأسألها بعد أن ساقنا الكلام إلى الأشخاص ذوي الطبع الرومنسي، مثلي.
عدلت جلستي بينما ألف الغطاء حول جسدي ثم سألت :
"هناك سؤال لطالما راودني منذ بدايات مراهقتي، هل تعتقدين يا أمي، أن الاعتراف بالحب يمس كرامتنا ؟"
كنت أسأل و أنا على علم بأنني سأبدأ بالهجوم على أجوبتها بشكل تلقائي حتى و إن حاولت كبح نفسي، لأنني كنت أسأل لأحدد قراري، لا لأعرف رأيها.
ابتسمت أمي ابتسامة خفيفة، ثم أجابت :
"هذا سؤال له عدة إجابات، أولها و أهمها تتوقف على المجتمع، إذ لا يمكننا التصرف وسط جماعة دون اعتبار مصالحها وردات فعلها، و المرأة في علاقتها مع الجنس الآخر تعتبر العنصر الضعيف، بالنسبة للمجتمع. لذا فاعترافها يعتبر إهانة لها و ينتقص من قيمتها تحت أعين المجتمع."
كان لذاك الكلام وقع قاسٍ علي، لطالما تصرفت على غرار ما يجوز فعله لا على ما تعارف الناس على جوازه، أحسست بالغيرة على بني جنسي، و تقافزت عبارات الاستنكار إلى ذهني، كيف يمكن للمجتمع تحديد قيمة أحد ما عن طريق جنسه ؟ أي معايير يعتمدها ؟
"و هل هذا صحيح ؟ هل هذا صحيح حتى نعتبره معيارا نقيس به صحة أعمالنا ؟"
قلت، مستنكرة بينما تجمعت الدموع في محاجر عيني.
لتجيبني أمي بهدوء يناقض تماما ثورتي و غضبي :
"لا، هو ليس صحيحا، لكنه عامل مؤثر، بما أن الاعتراف يحتاج لشخصين، فإن على الشخص المعترف أن يحتسب ردة فعل محبوبه."
للحظة أحسست أن هناك أملا دفينا يمكنه أن ينقد الموقف، لم أكن أنتظر من بعد اعترافي نوعا من التملك، لم أكن أريده أن يحبني أو أن يهتم بي بعد هذا الاعتراف، لأنني كنت أريد أن أخبره فقط، بأن شخصا ما، شخصا رومنسيا جدا، غارقا في الأوهام، كان يحبه.
لأن الحب كان، في نظري مزيجا من الاهتمام، الصدق، و الجمال، و لأنه إحساس سامٍ لطالما رأيت أن كل انسان يستحقه، لأنه قد يجعله شخصا أفضل، أو على الأقل، سيجعل يومه سعيدا.
و حين أخبرتها بهذا ردت :
"هذه معتقداتك، إنها بريئة و نقية من كل تشويه، إنها ما تربيتِ عليه، لكن كوني على يقين أن قلة من الناس بقيت على إيمانها بهذا المفهوم.
ليس كل الناس مثلك يا ابنتي."
بشكل غير متوقع انهمرت دموعي التي بدت و كأنها انتظرت هذه اللحظة لتنفلت، وكانت أمي تراقبني ولا يبدو على محياها أي استغراب بشأن بكائي.
أصررت على موقفي قائلة :
"حتى ولو لم توجد مصلحة وراء هذا الاعتراف ؟"
قلت بينما أجفف دموعي بكم منامتي لتجيبني أمي :
"وما فائدة اعتراف ليس من ورائه غرض تكميل حب ناقص و دعمه ؟"
توقفت قليلا تنتظر جوابي، بينما أنظر إليها بتمعن، كنت أنتظرها أن تسأنف كلامها، لأنني أدركت أن كلامها سيكون تتمة لأجوبة مرام و ريماس.
"الحب نبتة تحتاج للرعاية والدعم، إن أهملت ستحول شوكا يخز قلب صاحبه"
تكررت هذه الكلمات في ذهني، و في كل لحظة كنت أدرك مدى صحتها،
الحب نبتة في دواخلنا نرعاها معا و ندعمها بصدقنا و إخلاصنا، لكنها لن تلبث أن تتحول شوكا إذا لم أرعاها بالشكل الصحيح.
كل ما تبادر لذهني حينها هو الوقت الذي أقضيه في السطح، أتأمله بهدوك من فوق، دون دراية أحد، مروري من أمام محله و القاء النظرات عليه بينما يعمل، اشترائي للحلوى الاسبانية.
هل بالصدفة، كنت أعتقد أنني أروي تلك النبتة التي بداخلي ؟
هل كانت تلك هي الطريقة الصائبة لرعايتها ؟
وضعت يدي على صدري مبتسمة بحسرة. كنت حينها أتحسس شوك نبتتي التي أهملتها.
"ماذا لو كان الحب غير متبادلا ؟"
قلت بيأس، فتغيرت ملامح أمي من ملامح ثابثة إلى أخرى قلقة و مرتبكة وقالت :
"الحب غير المتبادل ليس حبا سليما، ليس علينا الانسياق وراءه."
"لكنه موجود."
قلت، وقد بدوت وكأنني أدافع على شخص مذنب في قاعة محكمة.
"إنه موجود، لكنه غير سليم، الحب شيء جميل، أحاسيس سامية، لكنه إن كان من طرف واحد فإنه يدمر صاحبه، لما قد نسعى إلى حب قد يدمرنا بينما بإمكاننا تجنبه و الحد منه ؟"
أومأت بالإيجاب، لتردف :
"كما أن الحب لا يكون إلا بعد العِشرة، هذه قاعدة ضعيها كالقرط في إذنك. "
"حقا ؟"
سألت، مستغربة.
"أجل، ليس هناك زواج عن حب، إنها مجرد أكاذيب، الحب لا يكون إلا بعد النضج، و ما تعيشونه كمراهقين ما هو إلا انجذاب، و الانجذاب ليس بقوة الحب، فالأول غريزة بشرية، و الثاني أحاسيس صادقة."
كان ذاك، الجزء المفقود من الجواب، و النصف الثاني للمشهد.
أحسست حينها بنوع من الحرية، الاطمئنان و الراحة، لأن نبتتي لازالت سليمة، ولأنني لن أحتاج لأعترف للحلاق.
حضنت أمي بقوة ثم صعدت إلى فراشي بينما أخواتي يتذمرن لأنني حظيت باهتمام أمي أكثر منهم.
إلى الآن، لازلت أرى الحلاق من وراء الزجاج، و أبتسم.
لأنه من الظريف أن تكون بطل قصة ما، و نقطة تحول لشخص ما، دون علم منك.
-تمت-
شكر، خالص لمرام، ريماس، أمي، وربما ..
الحلاق أيضا.
هذه القصة القصيرة هي محاولة مني لتخليد ذكريات رضيعة، بمعنى أن كل ما كتب حقيقي تماما، إلا الأسماء :')
مع توقيع : المجتمع.
لأنني مهما تمسكت بمبادئي، فمعايير المجتمع تغلبني في كل ما يتعلق بالجنس الآخر.
لم أكن أعرفه بقدر ما كنت أتخيله، لكنه كان حسن المظهر، أنيقا، وهادئا كتوما. كان أسود الشعر طويله، أبيض السحنة، ذا عينين لوزيتين سوداوتين، و أنف مستقيم، لطالما اتخذ مجلسا بقرب محل شغله وقت الفراغ، و كان وقت فراغه، كافيا ليجعلني أملأه بذهابي و إيابي إلى المتجر المجاور له.
في أوج مراهقتي وقبل أن أبدأ الكتابة، لم ألاحظه يوماو لم أنتبه لوجوده، لكنني بعد أن بدأت، أصبحت ألاحظ كل ما قد يكون جميلا، و كان جماله صافيا تماما، صافيا كالصلصال في أيدي صانعه.
* * *
اليوم الأول
رفعت طرفي حزامي الأبيض متلاعبة بهما بينما أسأل صديقتي التي بجانبي :
"هل الاعتراف بالحب يعتبر إهانة للكرامة في حال كان الحب غير متبادلا ؟"
كنت على علم بأن سؤالي هذا نسبي، ولا يمكن إعطاء جواب واحد له، لكنني كنت بحاجة ماسة لمن يجيبني بلا.
"بالطبع لا، إذا كان الإعتراف في الوقت المناسب، و للشخص المناسب."
كنا حينها قد اقتربنا من المنزل، و كان الحلاق يشتغل كعادته في محله، لطالما شعرت بالخزي من كوني أحب حلاقا، كان الأمر أقرب بكثير إلى صور استهزائية رسمتها في ذهني سابقا عن صديقات هائمات في حب حلاقين.
لطالما شعرت بالاستياء من الروح الرومنسية التي يمتلكها فتيان بلدنا، لأن الحب في أذهانهم كان مقترنا بالتملك و الشهوة، بينما كان بذهني متعلقا بابتسامة و عناق، كان الحب بسيطا، معاكسا تماما للحب الذي أكنه للحلاق.
لأن بعدنا و اختلافنا كان يجعل العناق في خيالي باردا، و الابتسامة شاحبة. و لأنني لم أستطع حتى إيهام نفسي أنه الشخص المناسب.
كان لدي إحساس دفين بأن جواب صديقتي لم يكن كاملا، مع أنه بدى منطقيا، لكنني لم أتمكن من معرفة بقية الجواب.
توقفت قليلا متأملة إياه، كان يضع الرغوة على لحية الزبون المستلقي على الكرسي، يعيد قارورة الشامبو إلى مكانها بعد أن يقلبها في يده كما لو أنه يراقصها، ثم يحلق اللحية بخفة و اتقان متناهيين، بدى شغوفا بعمله، وكنت شغوفة بتأمله، ولازلت غير قادرة على نسيان ذاك المشهد الذي بدى، رغم بساطته، جديرا بتخصيص مساحة له في كتاب، أو تخليده في لوحة فنية منقوشة بالفحم.
كانت مرام على علم بانجذابي نحو الحلاق، فلطالما شاركتني طريقي إلى الثانوية، بل و درست معي في نفس الصف لثلاث سنوات، وكنت، في بادئ الأمر، أعبر مدى انبهاري بجماله بشكل عفوي و مباشر، وكانت تشاركني إعجابي تماما كما لو أنه مجرد صورة في متحف. لكنها توقفت عن ذلك فجأة دون أن تفصح عن السبب.
و حين استأنفت سيري سألتني مرام بخجل "هل تفكرين في الاعتراف للحلاق ؟"
"لا لن أفعل بالتأكيد."
أجبتها محاولة ما أمكن الاستهزاء بالفكرة، لكنها كانت على علم تام بأن للحلاق شأن بهذا السؤال المفاجئ.
كنت و مراما على اقتناع تام بأننا لم نخلق في المكان المناسب بسبب أننا رومنسيتان بشكل نادر في محيطنا، كانت رغباتنا في فترة مراهقتنا محصورة في شخص صادق، عناق، و قبلة صغيرة على الخد، مع أننا كنا على علم أننا سنستمر في الحلم بهذه الأخيرة إلى حين زواجنا، الذي بشكل ما، بدى بعيدا و شبه مستحيل.
كنت أرى الصدق في كل أفعال مرام، حتى الاعتيادية منها، و كنت على استعداد تام لتبادل الهوية مع حبيبها القاطن بكوريا الجنوبية لو أمكن، حتى تتمكن من لقائه، لكن مرام كانت على علم تام بأنها لن تحظى به يوما، وكانت تكتفي بدفع ضرائب الحب غير المتبادل بصمت، ودون شكوى، على عكسي أنا، التي كانت لا تترك يوما يمضي إلا وذكَرَتْ فيه الحلاق.
* * *
ارتديت بذلتي الرياضية البيضاء المصفرة، ثم شرعت في ربط شعري على شكل ذيل حصان، لتفاجئني أمي باقتراحها :
"ما رأيك أن أضفر لك شعرك ؟"
ابتسمت بحماس مبدية موافقتي، ثم جلبت المشط راكضة نحوها حتى تشرع في تضفير خصلات شعري السوداء التي لازالت تحتفظ بالقليل من لون الحناء النبيذي.
راودني شعور باليقين، يقين أن هذا هو اليوم هو المناسب لإزالة ذاك الثقل عن كاهلي. بشعر مضفر، وبذلة التايكوندو الكورية الطراز، وحذاء رياضي من نوع التشاكس تايلور، كل شيء بدى مثاليا وورديا إلى حد جعله أشبه بالحلم، توجهت إلى المتجر المجاور لمحل الحلاقة لأشتري قطعتين من الحلوى الإسبانية الرطبة، كنت أخطط لإعطائه قطعة حتى يأكلها في طريقنا إلى مقهى النهر الوردي، الذي كان مقفلا بسبب إجراءات الحد من الوباء، وكنت سأخبره هناك بكل ما أشعر به تجاهه.
لكن الأمور سارت على خلاف ذلك تماما، لأن الحلاق لم يكن في المحل يومها، وقد عوضه زميله.
وقفت أمام المحل بخيبة بينما أحدق بزميل الحلاق المنهمك في تصفيف شعر أحد الزبائن المراهقين، ثم غادرت المكان متوجهة نحو النادي بينما أقضم الحلوى الاسبانية محاولة كبح دموعي الخائبة.
كنت تماما كتلك الطفلة الصغيرة التي لم تجد حلواها المفضلة عند البقالة.
ترددت كثيرا في استشارة أمي، مع أنني كنت أعلم أن جوابي بحوزتها.
إذ أنني سألت كل من هو قريب مني عداها، وكان السبب الوحيد لذالك هو خوفي من أن تسألني عن الشاب الذي أحببته.
لا لأنني أخجل.
بل لأنه حلاق ..
و كان أقرب من سألته بعد مرام، صديقتي ريماس، و قد كانت صديقة يمنية الأصل، تعرفت عليها عن طريق موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، كانت بدورها ملمة بالكتابة، لم نكن كاتبات حقيقيات، كنا نعتبر الكتابة فضاءً للتعبير على النفس بطريقة فنية، لكن ما كنا نكتب، كان أبعد بكثير عن مسمى الفن.
"فكرت أن أعايد الشاب الذي يلهمني."
كتبت لها.
كان العيد قد اقترب بالفعل، وكانت المعايدات تلقى على الذاهب و الآتي، و مع أنني كنت خجولة، فقد ظننت أن المعايدة ستعطيني فرصة أكبر لمحادثته لاحقا.
لكن ريماس عارضت الفكرة، عارضتها بشدة قائلة أنه قرار خاطئ، لأنه لن يهتم لي، و أنه من الخاطئ اتباع أعراض مراهقتي.
قالت أن علي التحكم لمشاعري، لا جعلها تتحكم بقراراتي.
وفي نهاية الأمر اقترحت علي أن أسأل أمي، باعتبارها أكثر خبرة.
ليلتها، و للصدفة البحتة قررت أمي أن نسهر معا في غرفة نومي أنا و أخواتي، فانتهزت الفرصة لأسألها بعد أن ساقنا الكلام إلى الأشخاص ذوي الطبع الرومنسي، مثلي.
عدلت جلستي بينما ألف الغطاء حول جسدي ثم سألت :
"هناك سؤال لطالما راودني منذ بدايات مراهقتي، هل تعتقدين يا أمي، أن الاعتراف بالحب يمس كرامتنا ؟"
كنت أسأل و أنا على علم بأنني سأبدأ بالهجوم على أجوبتها بشكل تلقائي حتى و إن حاولت كبح نفسي، لأنني كنت أسأل لأحدد قراري، لا لأعرف رأيها.
ابتسمت أمي ابتسامة خفيفة، ثم أجابت :
"هذا سؤال له عدة إجابات، أولها و أهمها تتوقف على المجتمع، إذ لا يمكننا التصرف وسط جماعة دون اعتبار مصالحها وردات فعلها، و المرأة في علاقتها مع الجنس الآخر تعتبر العنصر الضعيف، بالنسبة للمجتمع. لذا فاعترافها يعتبر إهانة لها و ينتقص من قيمتها تحت أعين المجتمع."
كان لذاك الكلام وقع قاسٍ علي، لطالما تصرفت على غرار ما يجوز فعله لا على ما تعارف الناس على جوازه، أحسست بالغيرة على بني جنسي، و تقافزت عبارات الاستنكار إلى ذهني، كيف يمكن للمجتمع تحديد قيمة أحد ما عن طريق جنسه ؟ أي معايير يعتمدها ؟
"و هل هذا صحيح ؟ هل هذا صحيح حتى نعتبره معيارا نقيس به صحة أعمالنا ؟"
قلت، مستنكرة بينما تجمعت الدموع في محاجر عيني.
لتجيبني أمي بهدوء يناقض تماما ثورتي و غضبي :
"لا، هو ليس صحيحا، لكنه عامل مؤثر، بما أن الاعتراف يحتاج لشخصين، فإن على الشخص المعترف أن يحتسب ردة فعل محبوبه."
للحظة أحسست أن هناك أملا دفينا يمكنه أن ينقد الموقف، لم أكن أنتظر من بعد اعترافي نوعا من التملك، لم أكن أريده أن يحبني أو أن يهتم بي بعد هذا الاعتراف، لأنني كنت أريد أن أخبره فقط، بأن شخصا ما، شخصا رومنسيا جدا، غارقا في الأوهام، كان يحبه.
لأن الحب كان، في نظري مزيجا من الاهتمام، الصدق، و الجمال، و لأنه إحساس سامٍ لطالما رأيت أن كل انسان يستحقه، لأنه قد يجعله شخصا أفضل، أو على الأقل، سيجعل يومه سعيدا.
و حين أخبرتها بهذا ردت :
"هذه معتقداتك، إنها بريئة و نقية من كل تشويه، إنها ما تربيتِ عليه، لكن كوني على يقين أن قلة من الناس بقيت على إيمانها بهذا المفهوم.
ليس كل الناس مثلك يا ابنتي."
بشكل غير متوقع انهمرت دموعي التي بدت و كأنها انتظرت هذه اللحظة لتنفلت، وكانت أمي تراقبني ولا يبدو على محياها أي استغراب بشأن بكائي.
أصررت على موقفي قائلة :
"حتى ولو لم توجد مصلحة وراء هذا الاعتراف ؟"
قلت بينما أجفف دموعي بكم منامتي لتجيبني أمي :
"وما فائدة اعتراف ليس من ورائه غرض تكميل حب ناقص و دعمه ؟"
توقفت قليلا تنتظر جوابي، بينما أنظر إليها بتمعن، كنت أنتظرها أن تسأنف كلامها، لأنني أدركت أن كلامها سيكون تتمة لأجوبة مرام و ريماس.
"الحب نبتة تحتاج للرعاية والدعم، إن أهملت ستحول شوكا يخز قلب صاحبه"
تكررت هذه الكلمات في ذهني، و في كل لحظة كنت أدرك مدى صحتها،
الحب نبتة في دواخلنا نرعاها معا و ندعمها بصدقنا و إخلاصنا، لكنها لن تلبث أن تتحول شوكا إذا لم أرعاها بالشكل الصحيح.
كل ما تبادر لذهني حينها هو الوقت الذي أقضيه في السطح، أتأمله بهدوك من فوق، دون دراية أحد، مروري من أمام محله و القاء النظرات عليه بينما يعمل، اشترائي للحلوى الاسبانية.
هل بالصدفة، كنت أعتقد أنني أروي تلك النبتة التي بداخلي ؟
هل كانت تلك هي الطريقة الصائبة لرعايتها ؟
وضعت يدي على صدري مبتسمة بحسرة. كنت حينها أتحسس شوك نبتتي التي أهملتها.
"ماذا لو كان الحب غير متبادلا ؟"
قلت بيأس، فتغيرت ملامح أمي من ملامح ثابثة إلى أخرى قلقة و مرتبكة وقالت :
"الحب غير المتبادل ليس حبا سليما، ليس علينا الانسياق وراءه."
"لكنه موجود."
قلت، وقد بدوت وكأنني أدافع على شخص مذنب في قاعة محكمة.
"إنه موجود، لكنه غير سليم، الحب شيء جميل، أحاسيس سامية، لكنه إن كان من طرف واحد فإنه يدمر صاحبه، لما قد نسعى إلى حب قد يدمرنا بينما بإمكاننا تجنبه و الحد منه ؟"
أومأت بالإيجاب، لتردف :
"كما أن الحب لا يكون إلا بعد العِشرة، هذه قاعدة ضعيها كالقرط في إذنك. "
"حقا ؟"
سألت، مستغربة.
"أجل، ليس هناك زواج عن حب، إنها مجرد أكاذيب، الحب لا يكون إلا بعد النضج، و ما تعيشونه كمراهقين ما هو إلا انجذاب، و الانجذاب ليس بقوة الحب، فالأول غريزة بشرية، و الثاني أحاسيس صادقة."
كان ذاك، الجزء المفقود من الجواب، و النصف الثاني للمشهد.
أحسست حينها بنوع من الحرية، الاطمئنان و الراحة، لأن نبتتي لازالت سليمة، ولأنني لن أحتاج لأعترف للحلاق.
حضنت أمي بقوة ثم صعدت إلى فراشي بينما أخواتي يتذمرن لأنني حظيت باهتمام أمي أكثر منهم.
إلى الآن، لازلت أرى الحلاق من وراء الزجاج، و أبتسم.
لأنه من الظريف أن تكون بطل قصة ما، و نقطة تحول لشخص ما، دون علم منك.
-تمت-
شكر، خالص لمرام، ريماس، أمي، وربما ..
الحلاق أيضا.
هذه القصة القصيرة هي محاولة مني لتخليد ذكريات رضيعة، بمعنى أن كل ما كتب حقيقي تماما، إلا الأسماء :')
مع توقيع : المجتمع.
Коментарі
Упорядкувати
- За популярністю
- Спочатку нові
- По порядку
Показати всі коментарі
(4)
نبتة
واااه جميل حقاً وانجذبت لطريقة كتابتك والاحداث البسيطه ولكن معبره .. هذا هو السهل الممتنع، احسنت وجميل ان تملك تلك اللحظات اللطيفه 💕
Відповісти
2020-10-02 17:59:39
2
نبتة
وه! حلوة اوي فعلًا TT حتى الفكرة والحكمة والسرد والغلاف وواقعية الأحداث كلهم ممتازين
Відповісти
2020-10-03 12:10:24
1
نبتة
احببتُ امك.. الله يحفظها♥♥
Відповісти
2021-05-27 22:59:34
Подобається