5
تلك الرائحة الخلابة التي تنعش الرئتين تنتشر في ثنايا كُلِ شيىءٍ داخل المطبخ .. ، عندما تشتم هذه الرائحة لن تدرك سوى انها رائحة اللحم الذي اتخذ مشواة الفحم المعدنية فراشًا له بينما اتخذ مختلف أنواع الخضر و التوابل التي تناثرت فوقه غطاءً يتدثر به ، كالشرنقة التي تحيط اليرقة لتخرج للعالم بعد وقتٍ وجيز في ابهى صورة تخرج شرائح اللحم إلى الزبائن بينما يتخللها الذ طعم مع رائحة قوية تفرض سيطرتها على كل أنف و لو كان أنفًا مزكومًا ..
صوت الزيت الذي يفرقع داخل أذني بينما تلقى به اصابع البطاطا بمهارة فائقة يتناثر داخل أذني ليجعل عقلي يأمر معدتي بإطلاق تأوهات باللغة التي تتقنها مخبرةً إيايَ أن أُدخل اي قطعة طعام في ثغري .
بينما ينتقل بعضٌ من الطهاة هنا و هناك و صوت تقطيع الخضر يصدر من ناحية البعض و المطبخ يعج بكثير من الأصوات و مفعم بالحيوية والنشاط .. أقف أنا تحت الضوء الأصفر أمام الفرن الذي به اربع شعلات الى جانب الدولاب المنخفض الذي يعلوه لوح رخامي كبير مهيئ لتقطيع الخضروات ..
ها أنا ذا قد عُدتُ من جديد الى مطعم « هم يا جمل » و قد حدثت الكثير من التغيرات في أثناء الشهرين الذَيْنِ غبتهما .. ، لقد بدأت العمل هنا من جديد منذ نحو أسبوع حيث ان [ مجرمًا هاربًا ] مثلي قد انتهت صلاحيته للعمل في اي مكان حكومي ، لذلك لم يعد لي مكانٌ في تلك المدرسة ..
المطعم أصبح مفعمًا بالحيوية و قد زاد عدد عملاؤه و قد تم زيادة بعض الخدمات و ارتفعت جودة الطعام بشكل ملحوظ و رائع ؛ لذلك فقد ازدهر المطعم في غضون شهر و نصف و هذا لم يبدو لي شيئاً مفاجئًا مطلقًا عندما علمتُ ان السيد عماد عبد الرحيم قد أصبح مالك المطعم ، فقد توفي صاحب المكان و بمعجزة ما .. وريثته و التي تتمثل في والدته أرادت بيع المطعم و بهذه الطريقة قد اشترى السيد عماد المطعم و حصل على الملكية ، و قد عينني طاهٍ متدرب ، فقد أخبرني انه عند رؤيته لقدراتي في المرة الأولى أعجب بها كثيرًا و قد علم ان عملي ليس تنظيف الأرضية و غسل الأطباق .. ، أما عن وظيفة عامل النظافة فقد قاموا عندما غادرت بالبحث عن الرجل العجوز صاحب الوظيفة السابق ، لكنهم قد تلقوا خبرًا مؤسفًا فقد أخبِروا ان الرجل قد مات ..
السيد عماد عبد الرحيم لم يكتفِ بتعزية عائلة الرجل و حسب و إنما هو مستمر في ارسال مساعدات مالية لهم كل شهر و قام أيضاً بتوفير وظيفة لابنه الشاب اللذي لم يكمل تعليمه في أحد المتاجر ؛ حيث ان وظيفة عامل النظافة لن تناسبه .. ، اما عن نظافة المطعم فقد تم وضع قانون جديد خصيصاً لحل هذا الأمر في لائحة المطعم و هو خاص بالعاملين .. و ينص هذا القانون على :
اولًا : أن الطهاة يجب عليهم التناوب كل يوم في تنظيف المطعم بعد الانتهاء
ثانياً : يجب على كل طاهٍ تنظيف كل مخلفات الطعام التي تنتج عن عمله ..
هكذا أصبح مطعم « هم يا جمل » من أشهر المطاعم في القاهرة في هذا الوقت ..
بينما كنتُ أقطِعُ الخُضَر تحضيرًا لشوربة الدجاج التي ستصبح جاهزة بعد قليل ؛ حيث انه كان عليَّ أن أبدأ بأكثر الأطعمة سهولة ، رغم علمي بأن في مقدوري فعل أكثر من ذلك ..
ترجمت خلايا مخي تردد لصوت السيد عماد بينما يحييني :
" عامل ايه يا اسلام ؟! إيه الاخبار ؟! "
رددت اليه ابتسامته بأخرى مثلها بينما اقول الحمد لله و اشكره
لقد لاحظتُ بعد مرافقتي للسيد عماد لوقتٍ ليس بقصير عدة أشياء ..
هذا الرجل يتمتع بصبر و ثبات الجبال الى جانب حكمته الممتدة و علمه الديني الواسع حيث انه على مسافة واحد ميللي ميتر من مكانة ورثة الأنبياء ..
كما ان قلبه يرق لكل مخلوق على وجه البسيطة ..
سترى رجلًا صاحب لحية طولها متوسط يمشي يوميًا في أحياء القاهرة الفقيرة و يوزع الوجبات على الفقراء ، الى جانب مشاركته بمبالغ ضخمة في المستشفيات العامة و الجمعيات الخيرية ، يحاول دائماً الوصول الى الاسر الفقيره العفيفة ليتمكن من مساعدتها ، لكنه ألمَعِيّ لديه بصيرة و فراسة فلا يعطي إلا من يستحق ..
رجل رائع بكل المقاييس و قد تمنيتُ لو يصبح رفيقًا لي يومًا ، لكن لم اتجرأ .. ، فرغم شدة احترامي له إلّا انه في وقتٍ قصير استطاع ان يكسوني برهبته و هيبته ..
لكن ما فاجأني انه هو من كان يفتح اسارير الحديث معي ، كل يوم كانت تزيد مقدار الدقائق التي يتحدث فيها معي .. حتى اصبحنا بالفعل صديقان ، لن اقول مقربان كثيرًا ، لكن على الاقل مقربان ..
لكن لما يفعل هذا ؟!
هل اخبره السيد مصطفى عن قصتي ؟
لذلك يحاول مصادقتي ؟
كنوع من التخفيف عني او شيئ كهذا ..
كما ان علاقته بالسيد مصطفى كامل غريبة ..
لم تكن تبدو كعلاقة صديقين اكثر من كونها كعلاقة زميلين في العمل لا أكثر ..
لكن المشكلة تكمن في انه لا يوجد عمل يجمعهما معًا !
كثيرًا ما اراهما يتحدثان بانفراد او يتهامسان عن شيئٍ ما لم اكن محظوظًا بمعرفته ..
كيف عرف السيد مصطفى عن خبر ملاحقة الشرطة لي ؟!
هل هي البلورة السحرية ؟!
كل هذه اسئلة لم اجد لها اي تفسير سوى ان هذين الرجلين يخفيان شيئًا ما .. هناك سرٌ ما و هما يحومان حوله منذ زمن طويل ..
كنت اعلم ان هناك شيئًا ما لكني فقط استمررت بتجاهل الأمر بحجة انهما لن يكونا اشخاصًا سيئين ..
لكن التجاهل لم يتوقف إلّا بعد حدوثُ هذا ..
بينما كان الطهاة و العاملون يغمرون بعض المناطق المحددة في جسدهم بالمياه بهدف الاستعداد لصلاة العشاء معًا في صفوف مرصوصة خلف بعضها في نظام و يتقدمنا السيد عماد بعد إغلاق المطعم في الساعة الحادية عشرة مساءً .. ، كنت اجلس فوق سَجَّادةِ الصلاة الخاصة بي بعد ان انهيتُ الوضوء و انا الآن في صالة الطعام التي اتخذناها كمسجد صغير لنا ليضمنا جميعًا معًا لهدف واحد ألا و هو طاعة الله و قد افرغناها من طاولات الطعام لنجعلها جاهزة لهذا الهدف كما نفعل كل يوم ..
كنتُ اقرأ بعض الأدعية و الأذكار من الكُتَيِّب الذي حصلتُ عليه من المرأة العجوز التي ساعدتها عندما كنت أبحث عن أختي كما افعل دائمًا في اوقات فراغي فانا احب اشغال نفسي بما هو مفيد كقراءة الكتب و المقالات العلمية او الدينية و احيانًا اتسلى بقراءة الروايات الجيدة كما اني لا انسى مراجعة ما درسته في الكلية ..
في هذه الأثناء وجدتُ السيد عماد يتقدم نحوي بخطًى رزينة و هادئة مبتسمًا و قد كساني ظله الضخم ليجعل المنطقة التي اجلس بها اقل نصيبًا من الضوء من باقي المكان فأبعد بعضًا من الضوء عن عينَيّ ، حييتُه مبتسمًا و دعوتُه للجلوس بجواري ، فامتثل لطلبي و جلس ، قام بتمشيط جسدي بعينيه كما يفعل دائمًا حيث انه يحرص على الّا يفوته اي تفصيلة جديدة حول من يعرفهم ..
لكن هذه المرة قد لفت انتباهه هذا الكتيب صغير الحجم الذي يستند فوق فخذي ..
تغيرت قسمات وجهه الهادئ لجزء من الثانية و كأن شيئًا ما قد جثم على قلبه لكنه سرعان ما تدارك الأمر و أعاد قسمات وجهه المعتادة بنسبة تسعة و تسعون بالمائة فقط ، و لكنه سرعان ما سألني بطريقة تبديه كسؤال فضولي عابر لا أكثر :
" إسلام ! .. ممكن تقولي لو سمحت انت جبت الكتاب ده منين ؟ "
ضيقتُ عينَيّ بتساؤل و بعض من الريبة ثم سألته :
" ليه يا شيف هو الكتاب ماله هو في حاجة ؟ "
قلتُ هادفًا ايقاع لسانه في فخ الحديث
" مـ .. متهتمش ! انا بس شوفته قديم اوي و استغربته ! عادي يعني !"
" هاه ! "
و بهذه الطريقة و كما توقعت هو لم يقع في الفخ ..
سواء وقع لسانك في الفخ او لا يا سيدي فبسؤالك الآن عن هذا الكتيب الغريب فأنا قد تأكدت على الفورِ ان هناك شيئ ما .. شيئ غريب يربطك بالسيد مصطفى و هذا الكتاب .. هل هذا الكتيب يخصك ؟ اذًا الأشياء الغريبة التي وجدتها به لها تفسير الورقة المقطوعة .. الكلمة المكتوبة في نهايته « ايهما » .. ما المعنى ؟! .. ايُ الرقمين عليك ان تختار .. هل هو اختبارٌ لشيئٍ ما ؟! .. هل السيد مصطفى له علاقة بالأمر ؟! هل لديه مثل هذا الكتيب ايضًا ؟! الأرقام .. ان اخترت احد تلك الأرقام .. ما الذي سيحدث ؟! .. ما الذي تدل عليه الارقام .. إن كان السيد مصطفى معه مثل هذا الكتيب فالاحتمال الاكبر ان يكون رقم الصفحتين المقطوعتين مختلف .. ارقام متسلسلة .. افراد عصابة !!
إن كان هذا صحيحًا فمعرفة السيد مصطفى بأمر ملاحقة الشرطة لي لم يعد غريبًا ..
ربما يكون هذا صحيحًا !
لكن ماذا عني ؟!
لما يهتمانِ بي الى هذا الحد ؟!
هل يكون كل هذا خدعة ؟!
هل عصابتهم تخطط للاقتراب مني و من ثم إيذائي ؟؟
إن هذا وارد ..
اعني عليّ أن اكتشف المزيد و من ثم عليّ ان آخذُ حِذري ..
خرجتُ في الصباح التالي من غرفتي الجديدة التي استأجرتها بالمطرية و اتجهتُ الى المطعم الذي لا يحتاج الى وسيلة مواصلات للولوج اليه و كنت غارقًا طوال الطريق في بحرِ أفكاري احاول الخروج باستنتاجات جديدة كل دقيقة ..
لكن حبل افكاري انقطع في اللحظة التي رأيتُ فيها رجلًا مسنًا ضخم البنية لكن الحياة قد قامت بالضغط على ظهره و جعلته ينحني ، كان يعبر الطريق ببطء بينما السيارات تتجه إليه في طيش و سرعة غريبين و كأنّ ملاك الموت يدفعها من الخلف بسرعة خارقة فقد امره الله سحب روح هذا المسن فقد اطال البقاء و توجب عليه الرحيل ..
لكني اندفعتُ اليه و دفعته بخفة نحو الرصيف دافعًا جسدي أيضاً محاولًا تقليل الاصابات آملًا ان يستجيب القدر لمحاولتي و يجيب الله لدعائي ..
اعتدلتُ جالسًا فوق الرصيف و من ثم ساعدت الرجل المسن على الجلوس و قمتُ بنفض التراب عن ملابسه و من ثم ملابسي ..
احضر صاحب محلٍ كان بالجوار كرسيًا ثم قمنا بحمل الرجل المسن و اجلسناه فوق الكرسي و احضر له صاحب المحل بعض الماء ..
لم يصب ايٌ منا بإصابات خطِرة ، و قد بدا على الرجل القوة و الثبات و القدرة على التحمل رغم سنه الكبير ..
" حضرتك كنت رايح فين اقدر اوصلك ! "
ابتسم الرجل ثم نظر الي لمدة وجيزة ثم تحدث :
" انا رايح مطعم هم يا جمل ! اكيد تتقدر توصلني يا اسلام ! صح ؟! "
تفاجئت من هذا ! كيف يعرف اسمي ؟! اعني هل قابلته من قبل ؟
" هو ؟! هو انا اعرف حضرتك ؟! "
ابتسم و ظل يدندن اغنية ما في انسجام بينما يهز رأسه و قام بتجاهل سؤالي و كأن صوتي أصبح غير مسموع .. هذا الرجل بلا شك مصابٌ بالخرف ..
أشار نحو العصى الملقاة فوق ارضية الشارع و التي كان يمشي معتكزًا عليها قبل ان ادفعه نحو الرصيف ، ثم تحدث في نبرة هادئة و سعيدة بلا سبب واضح :
" العصى ! "
انحنيت الى الارض و احضرتها ثم ساعدته على الوقوف عن طريق الاعتكاز على ذراعَيٌ و عندم بدأنا بالخطو على طول الطريق نطقتُ مذكرًا اياه ان يجيبني :
" حضرتك ! هو .. يعني انا قابلت حضرتك قبل كده ؟ "
" اه صح ! انت سألتني السؤال ده ! "
تحدث و صاحب حديثه نفس الابتسامة الغريبة مرة اخرى .. لقد شعرت بمزيج من الريبة و الخوف و الشفقة تجاه هذا الرجل
ابتسامته و هدوءه الغريبان يشعرانني بالريبة و الخوف بينما اشعر بالشفقة على الرجل المسن الخرف من خرفه ..
مشينا معًا لعدة دقائق بينما هو اتخذني عصًى ثانوية يعتكز عليها بدون ان ينبس الاصلع صاحب الشعيرات البيضاء في ذقنه بجانبي بحرف
قلتُ مذكرًا اياه مرة أخرى
او كنت سأقول فقد فكت عقدة لسانه اخيرًا
" اه صح ! انت سألتني هو انا اعرفك و لا لا ! انا هجاوبك ! ممكن و ممكن لا ! "
تبًا ! هذا الرجل الغريب الغامض !
ما الذي يعنيه هذا ؟!
ممكن و ممكن لا ؟!!
انا الآن متأكد انه خرِف و انه نطق اسمي بالصدفة لا أكثر
" حضرتك يعني ايه اللي بتقوله ؟! حضرتك مين ؟! "
لا اعلم لماذا سألت هذا السؤال لكن شعرت انه يخفي سرًا ما مظهره لا يوشي بالخرف لكنه يتصرف بطريقة غريبة
" انا .. اسامة الديباوي ! "
انقلبت ملامح وجهه في لمح البصر و ارسل نظراته نحو عينَيّ مباشرة ثم ابتسم ابتسامة ثقة مائلة لليسار قليلًا هذه المرة و من ثم سألني سؤالًا قد أوضح كل شيئ ..
" هو انت ابن عفاف صح ؟ "
هو يعرف امي بالتأكيد لهذا عرف اني ابنها فانا ابدو كنسخة مطابقة لها تمامًا لكن الفرق اني ذكر
" هو حضرتك تعرف امي ؟! "
لكنه قد رد سؤالي بسؤال آخر
" انت كنت في السجن لمدة ستاشر سنة صح ؟ "
مع كل سؤال كان يسأله كانت ابتسامته تميل اكثر فأكثر و تصبح اعرض و تزداد ثقة
لكن ما هذا الآن ؟!
من اخبره بهذا ؟!
" انت هربت من الشرطة ازاي في يوم ٢٣ / نوفمبر من السنة دي ؟ "
يتبع
•••
هالو !
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته 😁🙂
عماد و مصطفى ؟
الراجل العجوز ؟
حد اتوصل لحاجة او اتوقع حاجة ؟
رأيكم في الرواية بما اني خلصت خمس فصول ؟
نزلت قبل الخميس حبوني بقا 😗🙂
استنوني التلات او الاربع !
الفصول فيها شوية ملل ؟
انتقاد يعليني ؟
Коментарі