One shot
One shot
صدحَ مذياعُ القرآن فى الخلفية بينما تعلوا أصوات الشهقات، معلنة ما ينتظره الجالسون ولا يرجونه.

اقشعر بدنُ مصطفى ذو العشرة أعوامٍ باضطراب، نهض من مضجعه واتجه إلى غرفة والدتِه، يقدم خطوةً ويؤخر الأخرى؛  سالكًا طريقا اعتاده كل ليلة فى موعد نومه.

وجدَ الحزن يتزين وجوه الجميع، وجدَ والدته ساكنةٌ بلا حراكٍ.

جلس بجانبها وضمها بقوةٍ، فاجئته تلك البرودة التى سرَت فى جسدها، حتى يدها لم تُمد لتعانقه.

ظلَّ يهز رأسه فى إنكارٍ بينما تتزاحم العبرات فى مقلتيه.

"لا لا أنتم تمازحوننى، هي بخير، أمى ما بالكِ لا تبادليننى العناق؟ أأنت نائمة؟ أمى أرجوكِ لا تتركينى، إذا استيقظت لن أهمل دروسى مرة أخرى، ولن أحزنكِ مرة أخرى..هيا أرجوكِ!"

التفتَ لأخيه الأكبر مستطردًا "محمدٌ أرجوك! أخبرها أن تستيقظ، هي تحبك أكثر لأنك الأكبر والأعقل، لن تستجيب لي لأننى كنتُ مشاغبًا طيلة الوقت!.."

تجمَّعت العبرات فى مقلتي أخير دون أن يحرك ساكنًا، يطالع المشهد فى صمتٍ ليس أكثر.

كفكفت خالته الصغرى دموعها فى محاولة يائسة للتماسك مردفةً "اهدأ يا عزيزى، أرجوك، هي فى مكان أفض..."

لم تكد تُكمل كلماتها حتى عاؤضها مصطفى مبعدًا يديها عنه قائلة "لا! توقفوا عن قول هذا الهراء، أمى لم تتركنى وأنا فى أمسِّ الحاجةِ لها، بالتأكيد لا، اتركونى وشأنى، سأبقى بجانبها حتى تستفيق!"

ظل يبعد يد خالته عنه فى خوف، متمسكًا بفراش والدته فى خوفٍ، يأمل لو كان كل هذا حلمٌ، لو كانت حقا نائمة.

لكنها كانت كالفراشة، إذا خرجت من يرقتها يقصر عمرها، فترحل تاركةً ذكراها محلقة فى أذهاننا.

قالت خالته وهي تكفكف دموعها مجددًا، "لو كانت جيهان على قيد الحياة لوبختك على هذه الكلمات."

ظل يهز رأسه بإيجابٍ وهو يقول "أجل! فلتفق وتوبخنى، أرجوكِ أمى، لا تفعلِ هذا بي، أعلم أن الحياة كانت قاسية عليكِ، لكنك كنت قوية، كنت تحاربينها فى شجاعة، أرجوك.."

نبس بالأخيرةِ فى خفوتٍ، دفنَ رأسه بين أحضانها مجهشًا فى البكاء.
لم تكن الحياة تستحق تلك الزهرة اليافعة، لم تكن بيئة مناسبة لتحيا بهناءٍ.

************************************

تناثرت ذرات الغبار فى أرجاءِ الغرفة، معلنة بداية الحرب التى شنتها جيهان لتنظيف الغرفة.

صدح صوتُ المذياع عاليا، لتتمتم بكلمات الأغنيةِ أثناء عملها..

"النيل والليل،
والشوق والميل..
بعتولى وجيت أسأل عنك.

اشتقت إليك..
وحشتنى عنيك...
مش عارف أهرب فين منك."

اتقطت جيهان معطف زوجها الموضوع بإهمال، أبعدت عنه ذرات الغبار وبدأت بإخراج الأوراق منه لتنظيف المعطف.

أخرجت بعض الأوراق، تتخللها بعض الورقات المالية، وضعتهم على رفٍ فى المكتبة ثم همت بارسال نظراتها على باقى الأوراق، فاتورة كهرباء، وريقة طلبات الأسبوع الماضى، ثم ورقة زواج..

عقدت حاجبيها فى تعجبٍ من تلك الورقة بجانبها، لتجلس على حافةِ الفراش محدقة فى تلك الورقة فى ذهول.

وقفت أصابعها عند اسم زوجها، سكنت الأصوات عدى صوت دقات قلبها المرتفع، ظلت تهز رأسها يمنةً ويسارًا، حتى تسللت بضعة عبرات ألى مقلتيها، أغمضت عيناها بقوةٍ كأنها تمنع تلك العبرات من الهبوط، تستحلفها بالتجمد.

وضعت يدها على ثغرها لتُهدأ صوت شهقاتها، بينما تعلوا وتنزل تباعا.
سمعت صوت حفيف أقدام وراءها، التفتت فوجدته ينظر إليها فى سكون، كم كانت تمقت تلك اللحظة، لم تتخيل يوما أن تقف قبالته هكذا وهي تلملم شظايا قلبها.

تحدثت بصعوبة من ألم قلبها الذى يزداد لحظة بعد لحظة لتردف بضعفٍ وخفوت "ما هذه؟"

ألقى زوجها نظرة على تلك الورقة التى كانت تمسكها، جالَ ببصره على هيئة جيهان ، والطفل القابع بجانب الباب ينظر لوالدته فى هدوءٍ ليردف ببرودٍ وغلظة "من سمح لكِ بالتفتيش فى أشيائى؟"

هزت جيهان رأسها بإنكارٍ لتقول بسخرية وخفوتٍ "هذا ليس موضوعنا، ما هذه؟!"

توترَ أحمد بعض الشيئ، ثم ما لبث أن قال بسرعة " كما ترين!"

عقدت جيهان حاجبيها، جزَّت على أسنانها لتقول  وهي ترفع من صوتها "لماذا؟ ما ذنبى أنا؟ ما ذنب هؤلاء الأطفال؟ لم تفعل هذا بنا؟"

اتسعت عينا أحمد بغضبٍ ليرفع اصبعه أمامها رافعًا من صوتهِ قائلًا "حذار أن ترفعِ صوتكِ هذا علي مرة أخرى! ما بالك تجيدين اتخاذ وضعية المجنى عليها؟! أنا لم أفعل شيئا خاطئا، هذا حقى!"

أنهى كلماته تلك واستردَّ أنفاسه ليستطرد "ثمَّ انظرِ لنفسك هكذا، قفِ أمام المرآة وانظرى إلى مظهرك الرث، وخصلات شعرك المتمردة، انظرِ إلى يديكِ كيف أصبحت، انظرِ إلى تلك الخطوط التى بدَت على وجهكِ، أنت لم تعودِ صالحة لأي شيئ!"

هم لينصرف لولا أن أمسكت يده لتوقفه قائلة فى غضب "خصلات شعرى المتطايرة تلك بسبب انهماكِى فى تنظيف غرفتك، يداي المجعدة تلك بسبب تنظيف الأوانى التى تأكل بها، الخطوط البادية على وجهى بسبب معاملتكَ السيئة لي، بسبب انهماكى فى تربية أولادى، لكن أنا المخطئة! أخطأت عندما أحببتك يوما! أخطأت عندما استسلمت لتركِك تربية الأبناء وتنظيف المنزل والإهتمام به على عاتقى، أنا المخطئة أننى اعتمدتُ على كونِك زوجا وفيًا، أنا المخطئة حقا!"

هوَى بيده على وجنتها بقوةٍ ورحل، جلست على الأرض فى هدوء حتى وجدت طفلها يدلفُ إليها، كوَّر يديه قدرَ وجهها وقبلها على وجنتها واحتضنها بيديه الصغيرتين قائلا  "لا تبكِ يا أمى، رجاءً لا تبكِ، كل شيئ سيكون على ما يرام."

***************************************
اتكأ محمدٌ ذو الستة عشر عامًا على مكتبه، أمسك عدة ورقات، أحضر قلمًا حتى يشرعَ فى الكتابة.

" أمى الحبيبة...
اشتقت إليكِ كثيرًا، مرَّ أسبوعٌ على فراقكِ لي، تأبى الكلماتُ الخروج على أوراقى، لا تستطيع المشاعر أن تُتَرجم إلى الكلمات.

لا أنساكِ يا أمى، لا تغادرين بالى هنية.
هذا ما تعلمتهُ منكِ يا أمى، أن أحب بلا قيود ولا شروط؛ أن أحب وإن كان المُحبُّ بعيدًا.

أشعر بوجودكِ هنا، بجانبى، تشاركيننى كل كلمةٍ، وتشاركيننى كل شعور.

لا زلت أذكر تلك الليلة عندما كنت فى السابعة من عمرى، عندما استيقظتُ فلم أجدكِ يا أمى! ظللتُ ليلتها أبكى كثيرًا، كنتُ خائفًا من عدم وجودكِ يا أمى..

طالما كنتُ أتجنب تلكَ الذكرى، وأظل أنعت نفسى بالأحمق لكونى كنتُ أبكى.

لكنَّنى الآن أريد أن أعود طفلًا، كلما بكيتُ وجدتكِ تحتضنيننى وتهدهدينِ حتى لا أخاف.

لم أكن أبك ليلتها بسبب سذاجتى، بس بسبب خوفى عليكِ...
خوفى من فقدكِ...
ماذا عساي أقول وأنت كنت القمر الخاص بي؟ كنت وردتِى المتفتحة..

لن أبكِ ليلة رحيلكِ يا أمى، كنت أعلم أنكِ تبغضين بكائى، فآثرتُ الصمود أمام الجميع.

علِّى لم أبح لكِ بتلك الكلمات من قبل، لكنكِ كنتِ بطلتى المفضلة، كنت حبيبتى القوية.

كنت كل شيءٍ يا أمى، وبعدُكِ لم يعد للأشياء معنى.

كنتُ تضفين على حياتى كل الألوان اللامعة، والآن لم أجد من يلونها كما كنت تفعلين.

أعتذر إليك بكل كلمات الإعتذار....
أعتذر عن كلِّ ليلةٍ أحزنتكِ بها..

عن كلِّ كلمةٍ أحزنتكِ دون انتباهٍ منى.
أحبك حتى أرحل عن هذه الحياة وألقاكِ أنا الآخر.

ابنكِ المحب دائما/ محمد.

*************************
رنَّ جرس الباب أكثر من مرةٍ، نهضت جيهان وجففت يديها متجهة إلى الباب.

فتحت الباب فوجدت زوجها أمامها، تتأبطت امرأة ذراعه، واقفة فى دلالٍ، رمشت جيهان عدة مرات إلى أن استوعبت ما يحدث، عقدت حاجبيها وتسائلت بثباتٍ.
"ماذا تريد؟"

ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه أحمد ليردف "أهكذا تستقبلين زوجك؟!"

"زوج..  ماذا ؟، زوجي الذي تركني وترك أولاده لمدة الله يعلم مداها ؟ أم من خان عهد كان بيننا أردنا به الحفاظ على هذا البيت... بيت أنت تركته خلفك وذهبت" صدح صوتها ساخراً في البداية ثم معاتبًا.

"لقد بررت أفعالي فيما سبق، كما إن ذلك حق أعطاه لي الله في كتابه الكريم، ام تريدين الكفر به يا جيهان، ومن ثَم ألن تدعونا للدخول ؟ أوليست تلك آداب بيتنا الحبيب"
برود كان يطغي على صوته بينما من تقف بجانبه تحاول تهدأته من اللاشيء الذي كان يعصبه.

هل يمزحون ؟ بحق الله هل يمزحون ؟

"اتركنا من هذا وذاك يا والد أطفالي العزيز؛ لأني لن أدخل أمثالكما إلى منزلي ولن أتناقش معك في أمور الدين التي تفسرها على حسب اهوائك أنت"
حسمت جيهان الأمر بنبرتها الحازمة بينما تشير لطفليها اللذان خرجا من غرفة نومهما أن يعودا مجددًا.

شخص مثل هذا لا يستحق أن يرى ملاكان مثلهما.

"بالطبع سنتركنا من هـ.."
حاول إطالة الحديث الذي ليس لمثله نفع لكن قاطعته جيهان بنبرة قوية وعالية: "ماذا تُراك تريد مني بعد كل هذا الوقت الذي مضى بمفردنا ؟"

"لا أريد من وجهكِ شيء يا والدة أطفالي سوى أن أرمي بهذه الورقة في وجهك، ربما كما جعلكِ عقد الزواج تموتين غيظاً تجعل هذه الورقة خلايا عقلك تحرق لكثرة...."

للمرة الثانية قاطعته جيهان لكن هذه المرة بغلق الباب في وجهه ووجه من معه.

كم شعرت بالإنتصار  لفعلتها تلك، لكن قطَعه دمعتان تسابقتا على وجنتيها
اتجهت جيهان لغرفة أطفالها، بدأت تجهز ملابسهم فى حقيبةٍ كبيرة أطفأ محمد التلفاز وهوَ يتسائل
"أسنذهب فى عطلةٍ يا أمى؟"

طبعت والدته قبلةً على جبينه وضمته بقوةٍ لتردف "نعم يا عزيزى، ستكون عطلة لا أسر فيها مجددًا."
***************************
اجتمع جميع أفراد الأسرةِ فى غرفة المعيشة، بعدما طلبت جيهان حضورهم، تحمحمت جيهان فاركةً يديها فى محاولةٍ يائسة لإخفاء التوتر ثم ما لبثت أن أردفت
"تعلمون أننى كنتُ أجرى الفحوصات الطبية لبضعة أيام.."

صمتت جيهان هنية لتنظم أنفاسها وتثبتَ ذاتها لتستطرد "أثبتت الفحوصات الطبية أننى مصابة بالسرطان."

خرجت شهقة عالية من ثغر ابنها الأصغر، بينما تحجرت الدموع فى عيني محمد، لتكمل جيهان بثباتٍ  "أعلم أنه خبر ثقيلٌ على كاهلكم، وعلى كاهلى أنا الأخرى، لكن أرجوكم لا تزيدوا على الحملِ حملا أرجوكم، أريد أن أحيا ما تبقى لي بسلامٍ."

عانقها مصطفى وهو يتحدث من بين دموعه "لا تقولِ هذا يا أمى، أنا بحاجةٍ إليكِ، أنت لن تتركينِ أليس كذلك؟"

ربتت جيهان على كتِفه دون جوابٍ.
***************************
أعاد محمدٌ قراءة تلك الصفحات التى خطَّها بيده أثناء مرض والدته
《امى الحبيبة...
أتألم لأجلِكِ كثيرا..
كل ليلة أسمع صوت أناتِك وأنا عاجزٌ، يداي مكبلتان لا أستطيع مساعدتكِ.

أعلم أنَّك سترحلين عنَّا قريبًا، أحمدُ الله كل ليلةٍ كلما استيقظتُ ووجدتُكِ على بقائك معنا.

أحبك كثيرًا يا أمى، تتضاعف الآلام داخلى كلنا رأيتُكِ تتألمين.

رأيتكِ اليوم وأنت تبكين من الألم، تمزق داخلى رويدًا رويدًا.
آمل أن تكونى بخير يا وردتى.》
**********************************
خرجَ محمدٌ من غرفتِه صباحا مبتسما على غيرِ العادةِ، تعجَّبت خالته من حالته وبادرته قائلة "خيرًا يا عزيزى، عساي أراك سعيدًا اليوم؟ "

تناولَ محمد قطعة خبزٍ فى يدهِ ليكمل، وكيف لا أسعد يا خالتى وقد زارتنى أمى أمس؟"

عقدت ريهام حاجبيها فى توجسٍ ليستطرد محمد قائلا "لا تقلقِ هكذا يا خالتى، لم أجن بعد، لقد زارتنى فى الحلم، أتعلمين؟ كانت ترتدى ذلك الزي المحبب لها، كانت تسقى ورودًا ذات ألوان مبهجة للغاية، عندما رأتنى ظلَّت تلوِّح لي بيدها وترسل لى قبلاتها ."





كانَ صمتي عن الكلمات الجميلة ما هوَ إلا خجلًا منكِ، ولو عاد الزمان بي لوهلةٍ لقصصتهم عليكِ جميعًا، دفعة واحدة.

الذكريات تبقى...والناس يرحلون.

شوقي إليكِ يترائى حد السماء، يتلوى بين دفَّتي الشوق والحنين.

لَم نستطع تخليد بطولتكِ وأنتِ على قيد الحياة بيننا، لكنِّي نتمنى أنَّ تخليدها هكذا يبقيكِ حية بين اضلعنا.

رحمك الله وغفر لك وأسكنكِ الفردوس الأعلى.

**************
النهاية.

مساعدة وتدقيق Agera_tum  ♡




   

© Jana Walied,
книга «جيهان».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (6)
Ghadeer_29
One shot
انا مش عارفه ايش مشكلتك مع الموت يعني قرأتلك 3 ون شوت وكلهم البطلة ماتت فيهم 😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭😭
Відповісти
2021-01-09 21:11:54
1
Ghadeer_29
One shot
تلرواية خلوة كثر والسرد وطريقة الكتابة ما في كلمات توصفهم وأخر اشي كتبتي قمر بجد ويعني الصراحه مش عارفه كيف اوصف او اوصل مشاعري لانه جد عظمة وبلاش نقاش
Відповісти
2021-01-09 21:13:42
1
Ghadeer_29
One shot
حلوه *
Відповісти
2021-01-09 21:13:59
1