مقدمة
حلم وسراب
حلم وسراب
كان يا مكان، وقد كان ما لم يكُن بالحسبان، في ذاك المُحيط الظمآن، تقِفُ اميرةَ الجان امام مِرآتها تنفِضُ شعرها المُعتّق بعبير الاقحوان، قبل ان ترتدي التاج وتُمسِكُ بالصولجان، وعلى عرشها البهيّ المُحاط بالرِجال من كلّ مكان، جلست بصمتٍ يشوبهُ الإذعان، وتفكيرها ينصبُّ في امور دولتها ذات الرِفعة بين جميع البُلدان.

إلاّ انّ صمتها لم يدُم فقط قطعتهُ إحدى الخادِمات هاتِفة بذُعرٍ وخوفٍ عظيمان:
- ويحنا يا اميرة الاميرات! جيش ابن الملك سمعان قد دمّر حصون مليكة ارض الزعفران، ويقول الجاسوس بأن طريقهم القادم الينا ليجعلوا ارضنا خراب، ماذا سنفعلُ يا اميرة، فتلك الحربُ ستكون بين النار والجليد، الفوز أو الصمود، هل لنا مفرٌّ من ذاك الوعيد؟ أم اننّا سنذوي كقِطعِ النخل دون مُعينٍ أو مُريد؟

هتفت الاميرةُ بثورةٍ عارِمة:
- ما بكِ يا جارية الشؤم، يا جالِبة الهمّ، يجبُ ان اتخلّص منكِ اليوم. يا فُرسان، اجلبوا لي الحُسام، لأُنهي نذيرة الحرب والآثام.

وضعت السيفُ على عُنق الخادمة المسكينة وقطعت رأسها بهمّة، ليتناثر الدمُ على تِلك الوحمة، ذات اللون الورديّ على خدّها النديّ، وكأنها شاهِدٌ على سلوكِها الإجراميّ، فنظرت للرأس المُلقى على قدمها بإبتسامةٍ وحشيّة، وهتفت واوداجها تستعِرُ برغبةٍ شيطانيّة:
- خذوا الجُثّة وضعوا الرأس في غُرفتي السرّية.
وسارعت بمسح الدم عن وجنتها هامِسة بوعيد
- سنرى من سيفوز يا حامِل شُعلة الجليد.

اخذ الفارِس ذو العتاد، يرتدي دروعهُ بثبات، وعيناهُ تنبِضُ بالوعيد، بالقضاء على كُلّ مُتمرّدٍ عنيد، وقد وصل جيشهُ لمملكة البحر الأزرق حيثُ الملِكة اسمهان، ذات الصيت الذائع، والجمال اللاذِع، دمويّةَ الروح، عقيمة القلب غريبة الوضوح، نمى بقلب الفارس المِغوار، رغبةً عظيمة لزيارة تلك الدار، لينشُر الخير كما اقتضى كتابُ الاخيار، ويقتلِعُ جذور الشرّ بسيفه البتّار.

واثناء سيره في قاع البحر بأمانٍ وسلام، حيثُ تراقصت الاسماكُ على انغام فرس النهر الفنّان، واستوى الحوتُ نائمًا بتُخمة، بعد تناوله لوجبةٍ دسِمة من إحدى فتيات التونة الجميلات

وجد الفارِسُ عماد إخطبوطًا غريبًا يجلِسُ بمُنتصفِ الطريق بثبات، غير آبِهٍ بجيوش الفارس المشهور، وما ان وقف امامه بطوله المهيب، رفع الأخطبوط رأسهُ ذو اللون الغريب، الازرق الكئيب، وبما انّ عِماد يفهمُ لُغة مُعظم الكائنات استطاع القول بلُغة الاخطبوط برزانة وحياد:

- هلاّ أبعدّت اذرُعك الكثيرة وجسدك الرخو عن الطريق لنمُرّ بسلام؟
إبتسم الأخطبوط وقال:
- مرحبًا بأمير البِحار، مالك شعلة الحقّ الجبّار، لي لديكَ طلبٌ صغير، أُريدُ البُشرى ما ان ترى حقيقة النذير.
قطب الفارِسُ بين حاجبيه بتفكير ليُضيف الاخطبوط بمكرٍ وتحليل:

- أعلمُ بحُلُم الاميرة الفاتِنة، ذات الوحمة الورديّة، ولكن ما لا تعرفهُ انّها ليست سوى الأميرة أسمهان، ذات الخلخال الرنّان والجواهِر الحِسان، ولكنّ قلبها ينضحُ بالآلام، كطفلة تواجِهُ الظلام، تتخبّطُ في الشرّ دون ان تدري بالآثام، ان كُنت تُريدها ملكةً لقلبك الهُمام ليس عليك سوى ان تُحارِب جيوش الشرّ والظلام، التي تسكُنُ قلب الأميرة الحسناء.

فغر عماد فمه بدهشةٍ واستِسلام، كيف للأخطبوط غريب الأطوار، ان يعلم حلمه الذي لم يقصصه على جان، واكتفى بذرع الأرض بِغيةَ البحث عن المنال، عن الاميرة التي ستتربّع على عرشه وتأسره بقيود الهُيام.

هتف بدهشة:
- أصدقني القول يا حكيم، كيف عرفت بالحلم المصون؟ هل لديك خُدّأمًا من الجنّ الأبهق الخطير، أم انّكَ أحد مُرّاد السعير؟
أجاب الاخطبوط بهدوء:

- لستُ سوى مبعوثًا لك من ملك الجِنان الاعظم الكبير، لأنّك الوحيد القادِر على درء تلك الشرور، وإذابة الحِقد من قلب ذات الوجه المأسور، قبل ان تضيع في خِضّم ثورة الحقد والشرور، وعندما تنال المراد، سيكون لي البُشرى والمال والعتاد، لأغزوا ممالك الشرّ بمُساعدتك، ونُلقى عليها تعويذة الخير والسلام. ما رأيكَ أيُها الفارِسُ المِقدام؟

أجاب عماد بإبتسامةٍ وإنقياد:
- ستكون وزيري يا اخطبوط الخير، وسنُلقي بمردة الشرّ بشمس الأرض الحارِقة، ونستأثِرُ بعُمق الامواج العاتية.

ذهب عمادُ بروحٍ ثائرة، إلى حصون اميرته الغالية، التي جابهتهُ بجيوشٍ كاسِرة، ولكنّها لم تؤثِر بقلبه ذو الخفقة العالية، ما ان رأى ملامِحها الفاتِنة، وجهها ذو الاسمِرار الطفيف والملامِح الحادّة كأطراف السيوف، وتلك الوحمة الشهيّة، كحبّة توتٍ بريّة، أُلقيت على وجهها لتُكمِل لوحةً تشكيليّة، وعيناها البُنّية لم تكُن سوى قطعة حجرٍ كريمٍ بلمعتهما الشمسيّة، اما يداها اللتان تحمِلان السِلاح بقوّةٍ وثبات خُضّبتا بحنّاء كبديّة، وتحلّتا بجواهر ذهبيّة، كأسورة العِشق التي احكمتها على قلبه دون رويّة.

وعندما ظنّت انّهُ سيبدأُ بالقِتال، القى سيفه وإقترب منها قائلًا:
- يا لهُ من جمال! كيف لإمرأةً واحدة ان تختصِر نساء الكون كأنها لمحهُ خيال؟ لقد أسرتِني قبل ان اراكِ يا ذات الوحمة الورديّة، والاعيُن الشقيّة، والشعر ذو السوداويّة، هلاّ قبلتي الزواج منّي يا اميرة، سأجعلكِ ملِكةً مصونة، واُغرِقكِ بالحُبّ والسكينة، ستكونين امرأة صالِحة، بعيدًا عن الشرّ وظنونه، ما رأيكِ يا اميرة.

إبتسمت الأميرة اسمهان وقد فكّرت بطريقةٍ للإحتيال فقالت آمرة بغرور:
- سأقبلُ بِك يا عِماد، ولكن شرطي ان تتحلّى بالقوّة للخروج من باطن الأرض للفضاء، يقولون انّ لديهم هُناكَ نجومًا كالتي في السماء، بيضاء كقلوب الاخيار، مُضيئة كأشرِعة البِحار، اُريدُ عُقدًا منها وحينها سأكون ملك يمينك يا فارسي المِغوار.

هتف عِماد دون تفكير:
- لكِ ذلك يا سيّدة الحرير، جهزّي نفسكِ واسُكبي على جسدكِ القوارير، لعطر الخُزامى فأنا سأكون لكِ عمّا قريب.

غادر عماد بجيوشه وعقله يضُجّ بالتفكير، كيف سيخرُجُ من عُمق البحر للفضاء الكبير؟ حتمًا سيموت من فرض الضوء وشمس الزمهرير، إبتسمت اسمهان بظفر مُدرِكة انها لن ترى عِماد بعد الآن، فإما سيموت بالشمس ومكر الإنسان، أو سيخجلُ ان يواجهها بعد خوفه من الرِهان.

وصل عماد إلى الاخطبوط الحكيم وروى له ما دار من حديث، حينها إبتسم الاخطبوط قائلًا ببساطة:
- لا تقلق يا عِماد، فقّوة الحُبّ اقوى عتاد.ستخرجُ وتجلِبُ مطلب الاميرة لتنعم براحة الظفر والهناء.
تحلّى عماد بالشجاعة بعد تحفيز الحكيم وحلّق في شكل طائرٍ صغيرٍ ليخرُج للفضاء، وما ان ابتعد المسكين حتى إبتسم الاخطبوط بخُبث قائلًا بأسفٍ عظيم:

- إلى اللاعودة يا امير، ولأحظى بملكتي ذات الوجه الجميل. وسُرعان ما تحوّل لأميرٍ وسيم، ذهب بخُبثه ليستولي على قلب الاميرة ذات القلب السقيم.

وهُناك في الفضاء حطّ عماد على الشط وقد انهكتهُ شمس السماء قبل ان يشعُر بجسده الصغير يُحمل على كفّ الصهباء، ذات النمش كنجوم السماء. اخذت تُربّت على ريشه هامِسة بصوتها اللطيف:
- يا لك من طائرٍ ظريف، هل انتَ بردانٌ يا صغير، سأُدفئك واعتني بِك إلى ان تطير.

اخذتهُ الشابّة الحنونة إلى منزِلها، ووضعتهُ على فِراشها، واخذت تُبدّلُ ثيابها غير مُدرِكة لنظراته الحارِقة، وعلى كتفها الايمن تجلّت وحمةً بلون الزهر كتلك التي طالما داعبت حُلُمهُ في المنام فهتف بدهشة:
- كيف هذا؟

كيف لهُ ان يغفل عن موضِع الوحمة على كتف اميرة المنام؟ وكيف سيعود لأرضه وقواهُ لا تخوّلهُ التحوّل الا في عُمق البِحار! لقد خدعهُ الأخطبوط والاميرة اسمهان ليقتُلاهُ ويعمّ الفساد.

إلتفتت إليه الصهباء العارية ليُغمِض عينيه بلوعةٍ وهُيام وقد إنتفض جسده ورفرف قلبه باستسلام امام ملِكة احلامه التي ظنّها من قبلُ اوهام، وزفر براحة ما ان اعادت إرتداء ثيابها ولم تنتبه لهتافه ذو الدهشة والحيرة العِظام، وما ان رمقتهُ مرّةً اُخرى ببسمةٍ حُلوة حتى همس بداخله بسرور، غير آبِهٍ بعظمة المصائب والشرور:
- وكأنّني عشِقتُ إحدى الحور.

ظلّ صديقها لفترةٍ من الزمان، احبّها فيها بولهٍ وعشقٍ وإفتِتان، وعرف انها وحيدة في هذا الانام، فقد توفي والدها ووالدتها قبل أعوام، وظلّت بعدهُما تُجابِهُ الحياة بقلبٍ رقيق، وحُزنٍ عميق.

فإزاد عالمها تورُدا ما ان أصبح صديقها الوحيد، تُبقيه على صدرها تُداعبهُ وتسرُدُ لهُ روتينها المُقيت، ويبقى هو ثمِلًا من رائحة الورد بشعرها الناريّ الفريد.إلى ان قرّر ان يكشِف السِرّ الحزين، تحدّث إليها عن خُبث اسمهان والاخطبوط اللذان القيا به في نور الفضاء ليموت، فأشفقت عليه بدمعها المُتأثِر الغزير، ولكنّها آثرت البُعد القليل، فلم تعُد تُقبّل ريشهُ أو تحتضِنهُ كالوليد، إنزعج عماد بشدّة واصبح شاردٌ طوال الوقت بحُزنٍ مرير، ليتهُ لم يُخبِرها بعد ان تعوّد على طبعها الحنون.

وفي أحد ليالي الشِتاء القارس، وفي ظُلمة الليل البهيم حطّ طائر ٌصغير على شُرفة غُرفة الصهباء ففزع عماد وذلك الطائر يقترِبُ منه إلاّ انّهُ إطمأنّ ما ان همس الآخرُ بخفوت:

- لقد جِئتُكَ مِن امير الجان الاكبر الحكيم، يقول لك كُن بخير يا قائد الخير ولا تقلق فعِقاب اسمهان والأخطبوط عمّا قريب، وسأُحوِلك لهيئةَ إنسان لتحظى بأميرتك ذات الوجه المحبوب، ولكن أوّلًا تأكدّ انّك لن تعود من قبيلة الجان، فما رأيُك يا عماد؟

نظر عِماد لأميرة احلامه النائمة بعُمق وهمس بثِقة:
- اُريدُ ان احظى بها إلى الأبد، وسأتنازلُ عن شُعلة الجليد لفارِسٍ آخر ينشُر الحقّ بين سُكّان البحر العميق.
قال الطائر الرسول:
- وداعًا قائدنا المصون.

وبلمح البصر تحوّل الطائرُ عِماد إلى شابّ وسيم الهيئة، جذّاب العينان مليح القسمات، وما ان رأى ملامِحهُ في المِرأة، نظر لعيناهُ السوداء، وربّت على شعره ذو الخُصلات البُنّية السمراء، وذقنه ولحيته الخفيفة لا تزيدهُ سوى بهاء.

إبتسم متوجِهًا إلى محبوبته ذات الجمال العجيب، وانحنى مُقبّلًا يداها التي احتوته ذات يومٍ بدفئها الحبيب، نهضت من نومِها بفزعٍ وهالها رؤية هذا الغريب، فأخمد خوفها بهمسٍ قريب:
- إهدأي يا اميرة الأميرات انّهُ انا عِماد، صديقكِ الحبيب وزوجكِ عمّا قريب.

تزوّج عماد محبوبته الصهباء وعاشا في سلام، إلى ان تجوّلا يومًا على شاطئ البحر الأزرق، وحينها وجدا محّارةً بيضاء، فتحها عماد ليجد لؤلؤةً سوداء، همست فجأة بصوتٍ حقود:
- هانذا يا مالك شُعلة الجليد، قد حطّت علىّ لعنةُ ملك الجان، ونبذني كأن لم يكُن ما كان.

إبتسم عِماد وهو يحتضِنُ زوجته بحُب، وقال للؤلؤة اسمهان
- هذا جزاءُ الخُبث والنُكران، لقد كُنتُ سأعقِدُ لكِ النجوم كالسوار، وأُهديكِ القمر قلادةً للحُبّ والحنان، ولكنّكِ غدرت بي فحظيتُ بشمسٍ من نار، اُنثى رقيقة كأوراق الازهار، اعانتني على مُصيبتي إلى ان صدر القرار، وهانذا إنسانُ وزوجٌ وابٌ لأجمل الأطفال.
ركضت صغيرتهٌ ذات الخمس أعوام، وتلقّفت اللؤلؤة السوداء هاتِفة بإنبِهار:

- ما اجملها، يجبُ ان آخُذها لأحتفِظ بها مع سمكتي وبقيّة المحّار
همس عِماد بثبات:
- سنأخُذُ فقط الجُزء الصالِح ونترُك السواد.
إقتلع اسمهان من محّارتها والقى بها بعيدًا عن البحر قائلًا وعلى شفتيه يرتسِمُ الإبتِسام:
- فلترقُدي بالشرّ والجحيم والآثام، يا اميرة الكُره والإنتقام. وتناولوا لحم الاخطبوط المكّار على الغداء قبل ان يعودوا لمنزلهم الدافئ ذو الحُب والهناء.

وخلاصة القول يا كرام، ثمّة احلامُ ليست كما نُفسّرها واُخرى تجذِبُنا لواقعها دون ان نملك قُدرةً للاستسلام، قد نحلم بالنجوم وتهدينا الايام القمر دون عناء.

      💙تمت بحمد الله💙
© xxfayaxx,
книга «ذات الوحمة الوردية».
Коментарі