٢
وقفت أمام تريس فاقد الوعي بعد أن ضربته آن على رأسه بمطفئة حريق التي رمتها بسرعة على الأرض لتركل سكين كانت بالقرب من يده بعيدًا.
كانت ترتجف وتضع يدها على قلبها ثم اجهشت بالبكاء.
"رأيتِهما؟" سألَت بصوت متحشرج فأومأتُ بالإيجاب.
"لا يوجد وقت للحزن، أسرعي وساعديني على وضعه في غرفته وربطه." عاودت الحديث بسرعة وأنا أحمله من ذراع فأسرعت تحمله من الآخر وجررناه نحو غرفته وباستخدام بطانية السرير قمنا بربطه بالمضطجع وأغلقنا باب غرفته بالمفتاح.
اتجهنا لغرفة الجلوس ورفعت الهاتف متصلةً بهنري فورًا وطلبت منه الحضور بسرعة مع سيارة إسعاف.
وصل هنري وبمساعدة رجال الإسعاف حملنا ريك وكولين نحو المشفى وأخبرته بكل شيء حدث
"لا يجب لأحد أن يعلم بهذا الشأن أبدًا! تعلمين أن الناس تظن أنه مرض معدٍ وإن عرف أحد سوف.. " قال هنري وعلى وجهه الفزع.
"لا أنوي أن أفعل" أجبت.
نظرت إلى قفل باب المنزل بشرود بينما هنري يتحدث مع آن، حينها خطرت لي فكرة لنغطي على ما حدث.
قمت بكسر أقفال مدخل المنزل وعملت على أن يبدو واضحًا حدوث إقتحام.
ادعيت أمام رجال الاسعاف ورجال الشرطة في اليوم التالي أن هناك ضاحك اقتحم المنزل وقتل زوجي وابني الأكبر وهرب.
وهذا ما قلته أيضا للجميع عندما حضروا العزاء لاحقًا.
***
جلست فوق مكتبي ورائحة قهوتي الموضوعة على المكتب تشعرني بالحنين للمنزل، أخذت أدلك بأناملي جبيني محاولة تخفيف صداع رأسي الذي يساعد على منعي من التركيز.
لقد مر أسبوعان بالفعل على ما حدث ولكن كان عليّ العودة للعمل؛ فهو الشيء الوحيد الذي سيمنعني من الوقوع في فخ الإكتئاب. أنا الآن عازمة على إيجاد سبب المرض أكثر من أي وقت مضى!
دخل هنري عليّ المكتب بعد أن طرق، وولج بهدوء ليقدم لي ملف يحوي أوراق طلبتها منه.
عندما وضعت عويناتي لاقرأ الملف استهجنت ملامح الشفقة التي كان يرمقني بها رغم أنه حاول أن يكون ذلك بالخفاء، ولكن حالتي النفسية لا تسمح لي بالقيام بأي ردة فعل.
"هذه هي ثالث حالة تتوفى منذ الأمس، بالطبع دونًا عن ذكر الضحايا الذين يلقون مصرعهم بسبب الحالات." أكّد على المعلومات الموجودة بالملف.
"هل أكّدت الموعد على أسرة الحالة؟" بدا صوتي منهكًا وظهر على هنري أنه لاحظ ذلك.
"أنتِ بخير؟" تسائل وفي عينيه نظرة قلق غير مصطنعة، جعلت استهجاني السابق منه يتلاشى.
إن هنري كابن لي، بالرغم من أنه لم يمر سوى خمسة أشهر على عمله معي كمساعد إلا أنه أصبح مقربًا لي كثيرًا. بالإضافة إلى أنه مقارنة بمساعدي الذي سبقه فهنري ألطف بكثير، مع أنني لا أستطيع التغاضي عن نظراته التي يوجهها لابنتي آن.
"فقط بعض الصداع، سآخذ له مسكن ألم. لا تشغل بالك." اكتفى بالصمت رغم أنه مازال يبدو قلقًا، مسد على شعره الأسود الغارق في مثبت الشعر بتوتر كما هي عادته، بالتفكير في موضوعه مع آن فأنا لا أرى أي علامات رفض صدرت منها، هي كابنتي فأنا أعترف بأنها فتاة معقدة بسبب مدى تدقيها في التفاصيل وهوس النظام الذي لديها.
هنري لا يختلف عنها كثيرًا في هذا –بالرغم من أنه لم يصل لمرحلتها بعد– فهو أيضًا يحب النظام. تذكرت كيف يتصرف وهي بالقرب فشقت بسمة طريقها نحو ثغري ولم يكن لدي رغبة في الابتسام. هذا الأحمق الشاب.. يذكرني بزوجي عندما كنا يافعين قبل أن نصبح معًا.
وها هي الابتسامة تذهب من حيث أتت.
دلكت جبهتي ثم ارتشفت من باقي القهوة ووضعتها جانبًا لأنهض لأخرج من المكتب.
"تعال نتناول الغداء ثم نذهب، أراهن أنك جائع." ارتسمت الدهشة على وجهه من تحولي المفاجئ، ابتسمت وأنا أرتدي معطفي متوجهة نحو مطعم قريب من مكتبي. وهناك تعكر مزاجي الذي عملت على جعله هادئًا.
كان جريج نيومان زميلي في المهنة متوجهًا نحونا ويبدو أنه أراد رؤيتنا.
"سيدة إليوت! أأسف لخسارتك! عندما سمعت بما حدث كنت في حالة صدمة ولم أعرف كيف أواسيكِ." حاول اصطناع وجه متأثر ولكنه ظهر مستمتعًا. شعره الرمادي غطاه بقبعة طرازها من القرن العشرين و معطفه الجلدي الطويل يغطي نصفه العلوي أوشحة كثيرة يرتديها رغم أن الجو ليس بهذه البرودة، تجاعيد وجهه العجوز تبدو أكثر من آخر مرة رأيته فيها.
نظرت إليه بجفاء محاولة إخماد رغبتي القوية في صفعة منذ آخر مرة رأيته فيها، هل ظن أن موت ريك حقًا سيكون سببًا لرفع الراية البيضاء؟
"لا أحتاج لمواساتك." قلت وأنا أتخطاه ومساعدي يتبعني.
"عرضي مازال متاحًا كما تعلمين." صاح لكي أسمعه عندما ابتعدت، لكنني تجاهلته.
"دعنا نذهب الآن، لم أعد أشعر بالجوع." أخبرته ناظرة لساعة يدي، وتوجهنا لسيارتي.
***
وصلنا لمنزل الحالة، كان منزلًا متواضعًا بأثاث ألوانه باهتة. كان مستقبلنا هو زوج السيدة ويدعى سيد لندن مع ابنتاه وتبادلنا أطراف الحديث حول حياة المريضة.
"كانت أمي.. شخص رائع. لكن كانت تمر بفترة صعبة من الإكتئاب." قالت ابنة السيدة الكبرى.
"هل يمكنك أن تريني دواء الاكتئاب الذي كانت تأخذه" سألت الفتاة فذهبت وأحضرته لي، الأمر ليس وكأنني لا أعلم أنني غالبًا لن أصل لشيء.
"سمعت أن.. بعض أدوية الإكتئاب، ألا يمكن.. أن تؤثر في أشياء أخرى؟" تسائلت الابنة الصغرى بتردد.
"بعض الأدوية بشكل عام يكون لها أعراض جانبية، ونحن نرجوا أن نصل لهذا الدواء إن كان هو السبب. ولكن بالطبع كمعالجة نفسية فبحثي يكون حول علاقة الأمراض النفسية بحمى الضحك. ولكن حسب ما تقولونه؛ فالسيدة لندن كانت تتعافى من الاكتئاب بالفعل قبل أن تدخل في مرحلة الضحك المرضي ثم توفت." قلت بلهجة رسمية وأنا أعطي علبة الدواء لهنري.
"ولكن أوليس هناك مرضى يمكن أن تمر بحالات الضحك هذه عدة مرات دون أن تموت؟" عاودَت السؤال مجددًا.
–"هذا يعتمد على مدى صحة المريض الجسدية، فالعجائز والأطفال تحت العاشرة أغلبهم يموتون من أول مرة. هذا بالإضافة لمرضى القلب والسكري والسرطان والزكام والحمى. في حالة السيدة لندن فهي كانت من كبار السن ومرضى السكري."
بعد المزيد الاستفسارات حول السيدة لندن قررت أن نستأذن ولكن السيد لندن أصرّ أن نبقى لتناول العشاء معهم، أردت الرفض ولكن صوت معدة هنري منعني من ذلك. لا مشكلة في بعض الطعام فعلى أي حال الأحمق نيومان أفقدني شهيتي للطعام حينها.
بعد تناول العشاء اسطحبنا السيد لندن للمدخل وهناك أسرعت ابنته الكبرى وفي يدها هاتف لتعطيه لوالدها، حيث كان هناك مكالمة ما لم تستغرق وقتًا طويلًا.
"واو.. هذا الهاتف هو نوع جديد! الجميع يدخرون لتجربته بسبب إمكاناته! إنه باهظ الثمن، أنا أدخر له منذ أشهر ومازال أمامي نصف المبلغ." قال هنري ونظر لي في نهاية حديثه.
"هنري.. لا تنظر لي هكذا، ليس ذنبي أنك مهووس وتحب جمع الهواتف، ثم ماذا حدث للآي فون الذي انهيت عليه راتبك واقترضت من أهلك لشرائه؟" قلت ساخرةً من هوس هنري المجنون، الفكرة أنه بعد كل هذا بالكاد يستخدم هذه الهواتف!
"هذا الهاتف.. لقد اشترته لي زوجتي بعد أن كسرت هاتفي السابق مع هاتف جديد لها ليكون لدينا نفس نوع الهاتف. بالطبع هما مستعملان فمن أين نأتي بمبلغ كبير كهذا. إنه يعني الكثير لي، بالرغم من أنني لست شخصًا ماهرًا في استخدام الهواتف على عكس ما كانت زوجتي عليه." ختم حديثه بلهجة مازحة رغم أنه كان من السهولة أن أوجس بها النبرة الحزينة وسط مزاحه.
أوصلت هنري إلى محطة الشاحنات حيث وعدني أنه سيرسل الدواء لفحص مكوناته، ثم توجهت إلى المنزل.
منذ أن ذهبت إلى العمل وأنا أستمر بالاتصال بآن لأطمئن عليها وعلى تريس. ولكنها ترفض أن تطلعني على التفاصيل الكاملة، وقد استشعرت الخوف في صوتها وهي تتحدث إليّ.
دلفت المنزل فوجدت آن واقفة في المطبخ تعد العشاء
"هل أكل تريس شيئًا؟" سألتها بهدوء.
"ليس بعد، كيف كان يومك؟" سألتني. كان من السهل استشعار أنها تخفي شيئًا.
"ماذا حدث آن؟" نظرت إليها في عينيها كما أفعل عادة عندما أعلم أن بها شيء ما وأؤكد لها أنني أفعل، هذه النظرة دائمًا تعمل عندما أحاول استدراجهم للاعتراف بأي شيء.
"ل..لقد، فعلها اليوم.. مجددًا." ظهر الرعب على وجهها وهي تتذكر ما حدث اليوم.
"وكيف هو؟!" شعرت بالخوف والقلق يسري داخلي متخيلةً لأسوء الاحتمالات.
"قبل الغداء بقليل سمعت صوته وقد دخل في الحالة مجددًا، وعندما تفقدته لأعطيه طعامًا كان في حالة مزرية." أعادت آن بعض من خصلاتها خلف أذنها و أعطتني نظرة كانت مزيجًا بين الخوف والقلق العميقين.
قررت أن آخذ العشاء بنفسي إليه، وعندما فتحت باب الغرفة المغلق بالمفتاح وجدته جالسًا بجانب السرير الذي على اليمين حيث اتصل به جسده باستخدام حبال بدلًا من بطانية السرير.
كانت الغرفة في حالة سيئة تمامًا؛ خزانة الملابس مكسورة وجميع الملابس أرضًا، ريش الوسائد يخرج منها والسريرين يبدوان وكأن مفترسًا قد حاول التهامها.
أما تريس فكان يسند رأسه على السرير خلفه ناظرًا للسقف ولاحظت أن جسده به جروح وخدوش، هل آذى نفسه؟!
نظر لي وعينيه رطبة بالدموع وعلى وجهه إعياء شديد كأنه سيتقيأ، لم أستطع منع مشاعري من دفعي لاحتضانه بقوة. ابني المسكين، أنا حقًا آسفة.
"أنتِ أيضًا خائفة مني أليس كذلك؟" قالها بصوت متحشرج وفي عينيه نظرة منكسرة.
حاولت الرد لكنه قاطعني "بالطبع ستكونين، ما هذا السؤال الأحمق. ففي النهاية أنا الضاحك الشرير الذي قتل أباه وأخاه. ما الذي قد يمنعني من أن أفعل المثل معكِ أنتِ أو آن؟" ضحك ضحكة خالية من المرح.
"عندما دخلت عليّ آن اليوم بعد دخولي في حالة الضحك.. نظرة الرعب التي رأيتها في عينيها وهي تنظر لي... أنا أكرهني.. بشدة." تلاشى صوته وعاد لبكائه بصمت. وأنا لا أستطيع فعل شيء سوى المراقبة والتحطم، مع كل دمعة كان يذرف شعرت أن قلبي يقطر دمًا.
"هل.. تكرهيني؟" سألني بضعف فعانقته مجددًا.
"بالطبع لا أيها الأحمق! لا يمكنني كرهك!" بدأت انتحب بقوة. من الصعب أن أراه على هذه الحالة المزرية بني الذي كانت البسمة لا تفارقه.. من المؤلم رؤيته وقد أصبح هكذا.
–"أمي.. عليّ أن أعترف بشيء لكِ."
"ماذا؟" تراجعت عنه بهدوء ونظرت لعيناه المتألمتين فأشاحهما ناظرًا لقيده.
"تلك الليلة.. لم تكن أول مرة يحدث فيها ما حدث." رفع عيناه لتنظر إلى خاصتاي بينما أتراجع بهدوء للخلف.
"أنا آسف لم أستوعب حينها ما حل بي وظنن-" قاطع حديثه دخول آن.
"أمي، هناك رجل يرغب في رؤيتك في الأسفل." كانت تتجنب النظر نحو تريس الذي كان ينظر إليها في أسى. أخبرتها أني سأتبعها حالًا وفككت قيد تريس بهدوء ولاحظت أن القيد قد ترك أثرًا بجلد ذراعيه فأشحت عيني عن تلك الآثار.
"تناول شيئًا." ربتت على رأسه بحنان بعدما قربت له الطبق الذي يحتوي على عشائه.
نزلت الدرج متجهة نحو غرفة الإستقبال، فسمعت صوتًا جعل الدماء تغلي في عروقي. رأيته جالسًا يضع ساقًا فوق أخرى ويضع قبعته طراز القرن الماضي فوق الطاولة أمامه وابتسامته السمجة المعتادة تغطي شفتيه ورأيت وجه آن عليه الحنق.
وقف عندما رآني وجذب يدي ليلثمها "سيدة إليوت، سعيد برؤيتكِ مجددًا."
جذبت يدي منه وعلى وجهي السخط من هذا الواقف أمامي "ماذا تريد؟" سألته بتجهّم.
"سيدتي، أين حسن الضيافة؟ لما لا تذهبي يا آنستي إلى المطبخ وتعدي فنجانا قهوة لأستطيع أن أتحدث مع أمك بمزاج جيد" نظر إليّ ثم إلى آن بنظراته المستفزة هذه، فنهضت لتتركنا وحدنا.
"ماذا تريد يا جريج؟ ألم أخبرك بما لدي صباح اليوم؟" أعدت السؤال أضغط على أسناني بغيظ.
"سيدتي، أنتِ مازلت شابة لم تفقد جاذبيتها بعد ولم تتأخري عن الزواج. تزوجي بي وسأفتح لك أكبر عيادة علاج نفسي في جميع أنحاء الدولة!"
–"في أحلامك، حاولت هذه الخدعة مسبقًا معي ولم تفلح."
–"أعلم ولكن لم يكن هناك مشكلة إن حاولت مجددًا. آهٍ يا عزيزتي كم هذا رقيق منكِ أن تبكي على زوجك البائس وأنتِ امرأة جذّابة. الجميع يموت كما تعلمين وحزنك على هذا اللص لن يبقى للأبد."
"توقف عن استخدام هذه اللهجة المستفزة، ثم هذا اللص الذي تتحدث عنه أشرف منك! أم أذكرك لم انفصلت عنك أيها الزير؟" لدي رغبة في لكم هذا الرجل.
"كم أنت جميلة وأنت غاضبة يا ماري. على كلٍ هذا ليس ما أتيت لأجله، أتيت لأخبرك أنني توصلت لسبب هذه الحمى." انحسر غضبي ببطء واستبدل بالفضول.
"ماذا؟ كيف؟ أنت كاذب." حاولت استنباط إن كان يكذب أم لا، لكنه درس علم النفس مثلي تمامًا وبالطبع يعرف كيف يتحكم في لغة جسده.
"كلا يا عزيزتي، لست كذلك." قهقه باستفزاز، عقد أصابعه معًا ليسند رأسه عليهم وتقدم قليلًا في جلسته "تزوجيني وسأخبركِ بما توصلت إليه."
أردت أن أرد عليه ولكن قبل أن أفعل سمعت صوت زجاج يتحطم من الدور العلوي.
"ما هذا؟" قال رافعًا لأحد حاجبيه وقد بدا عليه التوجس.
كانت ترتجف وتضع يدها على قلبها ثم اجهشت بالبكاء.
"رأيتِهما؟" سألَت بصوت متحشرج فأومأتُ بالإيجاب.
"لا يوجد وقت للحزن، أسرعي وساعديني على وضعه في غرفته وربطه." عاودت الحديث بسرعة وأنا أحمله من ذراع فأسرعت تحمله من الآخر وجررناه نحو غرفته وباستخدام بطانية السرير قمنا بربطه بالمضطجع وأغلقنا باب غرفته بالمفتاح.
اتجهنا لغرفة الجلوس ورفعت الهاتف متصلةً بهنري فورًا وطلبت منه الحضور بسرعة مع سيارة إسعاف.
وصل هنري وبمساعدة رجال الإسعاف حملنا ريك وكولين نحو المشفى وأخبرته بكل شيء حدث
"لا يجب لأحد أن يعلم بهذا الشأن أبدًا! تعلمين أن الناس تظن أنه مرض معدٍ وإن عرف أحد سوف.. " قال هنري وعلى وجهه الفزع.
"لا أنوي أن أفعل" أجبت.
نظرت إلى قفل باب المنزل بشرود بينما هنري يتحدث مع آن، حينها خطرت لي فكرة لنغطي على ما حدث.
قمت بكسر أقفال مدخل المنزل وعملت على أن يبدو واضحًا حدوث إقتحام.
ادعيت أمام رجال الاسعاف ورجال الشرطة في اليوم التالي أن هناك ضاحك اقتحم المنزل وقتل زوجي وابني الأكبر وهرب.
وهذا ما قلته أيضا للجميع عندما حضروا العزاء لاحقًا.
***
جلست فوق مكتبي ورائحة قهوتي الموضوعة على المكتب تشعرني بالحنين للمنزل، أخذت أدلك بأناملي جبيني محاولة تخفيف صداع رأسي الذي يساعد على منعي من التركيز.
لقد مر أسبوعان بالفعل على ما حدث ولكن كان عليّ العودة للعمل؛ فهو الشيء الوحيد الذي سيمنعني من الوقوع في فخ الإكتئاب. أنا الآن عازمة على إيجاد سبب المرض أكثر من أي وقت مضى!
دخل هنري عليّ المكتب بعد أن طرق، وولج بهدوء ليقدم لي ملف يحوي أوراق طلبتها منه.
عندما وضعت عويناتي لاقرأ الملف استهجنت ملامح الشفقة التي كان يرمقني بها رغم أنه حاول أن يكون ذلك بالخفاء، ولكن حالتي النفسية لا تسمح لي بالقيام بأي ردة فعل.
"هذه هي ثالث حالة تتوفى منذ الأمس، بالطبع دونًا عن ذكر الضحايا الذين يلقون مصرعهم بسبب الحالات." أكّد على المعلومات الموجودة بالملف.
"هل أكّدت الموعد على أسرة الحالة؟" بدا صوتي منهكًا وظهر على هنري أنه لاحظ ذلك.
"أنتِ بخير؟" تسائل وفي عينيه نظرة قلق غير مصطنعة، جعلت استهجاني السابق منه يتلاشى.
إن هنري كابن لي، بالرغم من أنه لم يمر سوى خمسة أشهر على عمله معي كمساعد إلا أنه أصبح مقربًا لي كثيرًا. بالإضافة إلى أنه مقارنة بمساعدي الذي سبقه فهنري ألطف بكثير، مع أنني لا أستطيع التغاضي عن نظراته التي يوجهها لابنتي آن.
"فقط بعض الصداع، سآخذ له مسكن ألم. لا تشغل بالك." اكتفى بالصمت رغم أنه مازال يبدو قلقًا، مسد على شعره الأسود الغارق في مثبت الشعر بتوتر كما هي عادته، بالتفكير في موضوعه مع آن فأنا لا أرى أي علامات رفض صدرت منها، هي كابنتي فأنا أعترف بأنها فتاة معقدة بسبب مدى تدقيها في التفاصيل وهوس النظام الذي لديها.
هنري لا يختلف عنها كثيرًا في هذا –بالرغم من أنه لم يصل لمرحلتها بعد– فهو أيضًا يحب النظام. تذكرت كيف يتصرف وهي بالقرب فشقت بسمة طريقها نحو ثغري ولم يكن لدي رغبة في الابتسام. هذا الأحمق الشاب.. يذكرني بزوجي عندما كنا يافعين قبل أن نصبح معًا.
وها هي الابتسامة تذهب من حيث أتت.
دلكت جبهتي ثم ارتشفت من باقي القهوة ووضعتها جانبًا لأنهض لأخرج من المكتب.
"تعال نتناول الغداء ثم نذهب، أراهن أنك جائع." ارتسمت الدهشة على وجهه من تحولي المفاجئ، ابتسمت وأنا أرتدي معطفي متوجهة نحو مطعم قريب من مكتبي. وهناك تعكر مزاجي الذي عملت على جعله هادئًا.
كان جريج نيومان زميلي في المهنة متوجهًا نحونا ويبدو أنه أراد رؤيتنا.
"سيدة إليوت! أأسف لخسارتك! عندما سمعت بما حدث كنت في حالة صدمة ولم أعرف كيف أواسيكِ." حاول اصطناع وجه متأثر ولكنه ظهر مستمتعًا. شعره الرمادي غطاه بقبعة طرازها من القرن العشرين و معطفه الجلدي الطويل يغطي نصفه العلوي أوشحة كثيرة يرتديها رغم أن الجو ليس بهذه البرودة، تجاعيد وجهه العجوز تبدو أكثر من آخر مرة رأيته فيها.
نظرت إليه بجفاء محاولة إخماد رغبتي القوية في صفعة منذ آخر مرة رأيته فيها، هل ظن أن موت ريك حقًا سيكون سببًا لرفع الراية البيضاء؟
"لا أحتاج لمواساتك." قلت وأنا أتخطاه ومساعدي يتبعني.
"عرضي مازال متاحًا كما تعلمين." صاح لكي أسمعه عندما ابتعدت، لكنني تجاهلته.
"دعنا نذهب الآن، لم أعد أشعر بالجوع." أخبرته ناظرة لساعة يدي، وتوجهنا لسيارتي.
***
وصلنا لمنزل الحالة، كان منزلًا متواضعًا بأثاث ألوانه باهتة. كان مستقبلنا هو زوج السيدة ويدعى سيد لندن مع ابنتاه وتبادلنا أطراف الحديث حول حياة المريضة.
"كانت أمي.. شخص رائع. لكن كانت تمر بفترة صعبة من الإكتئاب." قالت ابنة السيدة الكبرى.
"هل يمكنك أن تريني دواء الاكتئاب الذي كانت تأخذه" سألت الفتاة فذهبت وأحضرته لي، الأمر ليس وكأنني لا أعلم أنني غالبًا لن أصل لشيء.
"سمعت أن.. بعض أدوية الإكتئاب، ألا يمكن.. أن تؤثر في أشياء أخرى؟" تسائلت الابنة الصغرى بتردد.
"بعض الأدوية بشكل عام يكون لها أعراض جانبية، ونحن نرجوا أن نصل لهذا الدواء إن كان هو السبب. ولكن بالطبع كمعالجة نفسية فبحثي يكون حول علاقة الأمراض النفسية بحمى الضحك. ولكن حسب ما تقولونه؛ فالسيدة لندن كانت تتعافى من الاكتئاب بالفعل قبل أن تدخل في مرحلة الضحك المرضي ثم توفت." قلت بلهجة رسمية وأنا أعطي علبة الدواء لهنري.
"ولكن أوليس هناك مرضى يمكن أن تمر بحالات الضحك هذه عدة مرات دون أن تموت؟" عاودَت السؤال مجددًا.
–"هذا يعتمد على مدى صحة المريض الجسدية، فالعجائز والأطفال تحت العاشرة أغلبهم يموتون من أول مرة. هذا بالإضافة لمرضى القلب والسكري والسرطان والزكام والحمى. في حالة السيدة لندن فهي كانت من كبار السن ومرضى السكري."
بعد المزيد الاستفسارات حول السيدة لندن قررت أن نستأذن ولكن السيد لندن أصرّ أن نبقى لتناول العشاء معهم، أردت الرفض ولكن صوت معدة هنري منعني من ذلك. لا مشكلة في بعض الطعام فعلى أي حال الأحمق نيومان أفقدني شهيتي للطعام حينها.
بعد تناول العشاء اسطحبنا السيد لندن للمدخل وهناك أسرعت ابنته الكبرى وفي يدها هاتف لتعطيه لوالدها، حيث كان هناك مكالمة ما لم تستغرق وقتًا طويلًا.
"واو.. هذا الهاتف هو نوع جديد! الجميع يدخرون لتجربته بسبب إمكاناته! إنه باهظ الثمن، أنا أدخر له منذ أشهر ومازال أمامي نصف المبلغ." قال هنري ونظر لي في نهاية حديثه.
"هنري.. لا تنظر لي هكذا، ليس ذنبي أنك مهووس وتحب جمع الهواتف، ثم ماذا حدث للآي فون الذي انهيت عليه راتبك واقترضت من أهلك لشرائه؟" قلت ساخرةً من هوس هنري المجنون، الفكرة أنه بعد كل هذا بالكاد يستخدم هذه الهواتف!
"هذا الهاتف.. لقد اشترته لي زوجتي بعد أن كسرت هاتفي السابق مع هاتف جديد لها ليكون لدينا نفس نوع الهاتف. بالطبع هما مستعملان فمن أين نأتي بمبلغ كبير كهذا. إنه يعني الكثير لي، بالرغم من أنني لست شخصًا ماهرًا في استخدام الهواتف على عكس ما كانت زوجتي عليه." ختم حديثه بلهجة مازحة رغم أنه كان من السهولة أن أوجس بها النبرة الحزينة وسط مزاحه.
أوصلت هنري إلى محطة الشاحنات حيث وعدني أنه سيرسل الدواء لفحص مكوناته، ثم توجهت إلى المنزل.
منذ أن ذهبت إلى العمل وأنا أستمر بالاتصال بآن لأطمئن عليها وعلى تريس. ولكنها ترفض أن تطلعني على التفاصيل الكاملة، وقد استشعرت الخوف في صوتها وهي تتحدث إليّ.
دلفت المنزل فوجدت آن واقفة في المطبخ تعد العشاء
"هل أكل تريس شيئًا؟" سألتها بهدوء.
"ليس بعد، كيف كان يومك؟" سألتني. كان من السهل استشعار أنها تخفي شيئًا.
"ماذا حدث آن؟" نظرت إليها في عينيها كما أفعل عادة عندما أعلم أن بها شيء ما وأؤكد لها أنني أفعل، هذه النظرة دائمًا تعمل عندما أحاول استدراجهم للاعتراف بأي شيء.
"ل..لقد، فعلها اليوم.. مجددًا." ظهر الرعب على وجهها وهي تتذكر ما حدث اليوم.
"وكيف هو؟!" شعرت بالخوف والقلق يسري داخلي متخيلةً لأسوء الاحتمالات.
"قبل الغداء بقليل سمعت صوته وقد دخل في الحالة مجددًا، وعندما تفقدته لأعطيه طعامًا كان في حالة مزرية." أعادت آن بعض من خصلاتها خلف أذنها و أعطتني نظرة كانت مزيجًا بين الخوف والقلق العميقين.
قررت أن آخذ العشاء بنفسي إليه، وعندما فتحت باب الغرفة المغلق بالمفتاح وجدته جالسًا بجانب السرير الذي على اليمين حيث اتصل به جسده باستخدام حبال بدلًا من بطانية السرير.
كانت الغرفة في حالة سيئة تمامًا؛ خزانة الملابس مكسورة وجميع الملابس أرضًا، ريش الوسائد يخرج منها والسريرين يبدوان وكأن مفترسًا قد حاول التهامها.
أما تريس فكان يسند رأسه على السرير خلفه ناظرًا للسقف ولاحظت أن جسده به جروح وخدوش، هل آذى نفسه؟!
نظر لي وعينيه رطبة بالدموع وعلى وجهه إعياء شديد كأنه سيتقيأ، لم أستطع منع مشاعري من دفعي لاحتضانه بقوة. ابني المسكين، أنا حقًا آسفة.
"أنتِ أيضًا خائفة مني أليس كذلك؟" قالها بصوت متحشرج وفي عينيه نظرة منكسرة.
حاولت الرد لكنه قاطعني "بالطبع ستكونين، ما هذا السؤال الأحمق. ففي النهاية أنا الضاحك الشرير الذي قتل أباه وأخاه. ما الذي قد يمنعني من أن أفعل المثل معكِ أنتِ أو آن؟" ضحك ضحكة خالية من المرح.
"عندما دخلت عليّ آن اليوم بعد دخولي في حالة الضحك.. نظرة الرعب التي رأيتها في عينيها وهي تنظر لي... أنا أكرهني.. بشدة." تلاشى صوته وعاد لبكائه بصمت. وأنا لا أستطيع فعل شيء سوى المراقبة والتحطم، مع كل دمعة كان يذرف شعرت أن قلبي يقطر دمًا.
"هل.. تكرهيني؟" سألني بضعف فعانقته مجددًا.
"بالطبع لا أيها الأحمق! لا يمكنني كرهك!" بدأت انتحب بقوة. من الصعب أن أراه على هذه الحالة المزرية بني الذي كانت البسمة لا تفارقه.. من المؤلم رؤيته وقد أصبح هكذا.
–"أمي.. عليّ أن أعترف بشيء لكِ."
"ماذا؟" تراجعت عنه بهدوء ونظرت لعيناه المتألمتين فأشاحهما ناظرًا لقيده.
"تلك الليلة.. لم تكن أول مرة يحدث فيها ما حدث." رفع عيناه لتنظر إلى خاصتاي بينما أتراجع بهدوء للخلف.
"أنا آسف لم أستوعب حينها ما حل بي وظنن-" قاطع حديثه دخول آن.
"أمي، هناك رجل يرغب في رؤيتك في الأسفل." كانت تتجنب النظر نحو تريس الذي كان ينظر إليها في أسى. أخبرتها أني سأتبعها حالًا وفككت قيد تريس بهدوء ولاحظت أن القيد قد ترك أثرًا بجلد ذراعيه فأشحت عيني عن تلك الآثار.
"تناول شيئًا." ربتت على رأسه بحنان بعدما قربت له الطبق الذي يحتوي على عشائه.
نزلت الدرج متجهة نحو غرفة الإستقبال، فسمعت صوتًا جعل الدماء تغلي في عروقي. رأيته جالسًا يضع ساقًا فوق أخرى ويضع قبعته طراز القرن الماضي فوق الطاولة أمامه وابتسامته السمجة المعتادة تغطي شفتيه ورأيت وجه آن عليه الحنق.
وقف عندما رآني وجذب يدي ليلثمها "سيدة إليوت، سعيد برؤيتكِ مجددًا."
جذبت يدي منه وعلى وجهي السخط من هذا الواقف أمامي "ماذا تريد؟" سألته بتجهّم.
"سيدتي، أين حسن الضيافة؟ لما لا تذهبي يا آنستي إلى المطبخ وتعدي فنجانا قهوة لأستطيع أن أتحدث مع أمك بمزاج جيد" نظر إليّ ثم إلى آن بنظراته المستفزة هذه، فنهضت لتتركنا وحدنا.
"ماذا تريد يا جريج؟ ألم أخبرك بما لدي صباح اليوم؟" أعدت السؤال أضغط على أسناني بغيظ.
"سيدتي، أنتِ مازلت شابة لم تفقد جاذبيتها بعد ولم تتأخري عن الزواج. تزوجي بي وسأفتح لك أكبر عيادة علاج نفسي في جميع أنحاء الدولة!"
–"في أحلامك، حاولت هذه الخدعة مسبقًا معي ولم تفلح."
–"أعلم ولكن لم يكن هناك مشكلة إن حاولت مجددًا. آهٍ يا عزيزتي كم هذا رقيق منكِ أن تبكي على زوجك البائس وأنتِ امرأة جذّابة. الجميع يموت كما تعلمين وحزنك على هذا اللص لن يبقى للأبد."
"توقف عن استخدام هذه اللهجة المستفزة، ثم هذا اللص الذي تتحدث عنه أشرف منك! أم أذكرك لم انفصلت عنك أيها الزير؟" لدي رغبة في لكم هذا الرجل.
"كم أنت جميلة وأنت غاضبة يا ماري. على كلٍ هذا ليس ما أتيت لأجله، أتيت لأخبرك أنني توصلت لسبب هذه الحمى." انحسر غضبي ببطء واستبدل بالفضول.
"ماذا؟ كيف؟ أنت كاذب." حاولت استنباط إن كان يكذب أم لا، لكنه درس علم النفس مثلي تمامًا وبالطبع يعرف كيف يتحكم في لغة جسده.
"كلا يا عزيزتي، لست كذلك." قهقه باستفزاز، عقد أصابعه معًا ليسند رأسه عليهم وتقدم قليلًا في جلسته "تزوجيني وسأخبركِ بما توصلت إليه."
أردت أن أرد عليه ولكن قبل أن أفعل سمعت صوت زجاج يتحطم من الدور العلوي.
"ما هذا؟" قال رافعًا لأحد حاجبيه وقد بدا عليه التوجس.
Коментарі