الفصل.
«عليك أنْ تدرك أن حركة النجوم لن تتوقف عند حزنك، لن تبكي معك السماء، لن يتوقف الوحش الرابض أسفل سريرك عن بثِّ الرعب فيك، ولن تتساقط دموعك طالما تريدها أنت أنْ تتساقط، توقف عن تضخيم الأمور واذهب إلى النوم؛ فلن يهتم لك أحد إلا نفسك.»
أنهيتُ كتابة منشوري الجديد ونشرته، رأيت بعض التعليقات تقول: «كونك وحيدة بائسة لا يعني أن عليك أن ترمي لعناتك علينا.» «توقفي أنتِ عن قول هذه الترهات، هناك شخصٌ يهتم لأمرك بالفعل، ولكنه ربما خائفٌ من المواجهة حتى لا يتحطم قلبه».
وقد جذبتني بعض التعليقات الأخرى والتي قمت بالرد عليها، وهناك من أخبرني أنني محقة وأن هنالك أشخاصًا كُثر يحاربون وحدهم بؤس الحياة.
بعد قراءة الكثير قمت بإغلاقِ الحاسوب وأرخيتُ جسدي على السرير مفكرةً بما آلت إليه حياتي الجديدة، وبالنظر للسنتين الماضيتين فأنا حتمًا تغيرت.
لم أتغير كليًّا، فأنا إلى الآن لم أستطع تغيير بعض الأمور؛ كتأثري بالأغاني والأفلام على سبيلِ المِثال، أو التخلص من حبي الرمادي والأسود معًا، وبالطبع لم أستطع التوقف عن التفكير في عينيك.
بعد قليل من الوقت صدح صوت هاتفي، تأففت وأدركت أنّي نسيت إغلاقه.
«أجل؟» أجبت بجفاء كوني لستُ في مزاج مناسب للحديث، وهذا يجعلني أتساءل متى كنت في المزاج المناسب من الأصل؟
«عذرًا، لكن الناس تقول صباح الخير أو كيف حالك، وليس أجل!» أنا أكرهها، ليس بالفعل ولكنها مزعجة وترغب بجعلي أخرُج من مخبأي.
تحدثت «أستقولين ما تريدين أم أغلق الهاتف في وجهكِ؟» فأسرعت بقول أنها تريد لقائي بأسرع فرصةٍ مُمكنة، وكونها تعلم أنني لا أخرج أخبرتني بأنها قادمة.
_
كنتُ أرتب أشيائي بعدما رحلت صديقتي، هي لا تتوقف عن محاولة جعلي أخرج وأبتعد عن قوقعتي، وبقوقعتي أقصد منزلي.
وبينما أعمل اصطدمت يدي بشيءٍ قوي مما جعل صندوقًا يسقط من رفٍ عالٍ من الخزانة، التقطته محاولةً السيطرة على مشاعري وعدم فتحه؛ إلّا أني استسلمت في النهاية لرغباتها.
_
وقعت ورقةٌ صغيرةٌ في يدي ففتحتها سريعًا وبدأت قراءتها بصوتٍ منخفض «منذ أن بنينا بيت الشجرة معًا وأنا أقسمتُ أنك ستكونين لي أنا فقط، وهأنا فعلتها!» ابتسمتُ بخفة لتلك الذكرى عندما وجدتها مرةً في إحدى المخبوزات.
التقطت ورقةً أخرى لأكتشف أنها رسالة، رسالته.
«وجودكِ في حياتي هو كل شيء يُمكنكِ إعطاؤه لي، لِمَ عليكِ أن تكوني هكذا؟ لِمَ أنتِ مختلفة عنهم جدًّا؟ والأهم: لِمَ أنا أراكِ مُختلفةً هكذا؟ أصدقائي يُلقبونني بالأخرق لأنّي أراكِ مميزة ومختلفة، وهم لا يشاركونني الرأي، ما ذنبي إن كانوا لا يرون ما أراه أنا؟ لا شيء، صحيح؟ غير أنهم حمقى لا يعلمونكِ ولا يعلمون حقيقتكِ كما أفعل أنا، ليس عليكِ القلق بشأنهم ولا الحزن أبدًا، لا يجب أنْ تكوني ذابلة،. وأنا لن أجعلكِ تذبلين طالما أنني على قيد الحياة.
أُحبكِ.»
أنهيتها وأنا أبكي، ليته بقي ولَم يذهب تلك الليلة، ليته استمع لي؛ عندئذٍ لم يكُن ليحدث شيء غير أنه سيكون معي، سيكون حيًّا.
_
قبل ثلاثة أعوام.
كان يسير سريعًا محاولًا مجاراة أصدقائه في سباقهم، زاد الضغط على دوّاسة الوقود مما جعل سرعة سيارته تزيد وتسبق صديقه الذي سخطَ عليه بينما هو يضحك.
لطالما كان علي شغوفًا بسباقات السيارات، خاصةً حينما تكون في الشارع والطرق المفتوحة.
فقد تحكمه في السيارة فجأةً وسط انشغاله بالضحك على صديقه؛ مما جعلها تنحرف عن الطريق وتنقلب مرةً وراء الأخرى حتى استقرت في النهاية وهي مقلوبةٌ رأسًا على عقب، توقف صديقاه الاثنان سريعًا على جانب الطريق المهجور وذهبا لإخراج جسده، نجحا في الأمر، وذهبا به سريعًا إلى المشفى، وهناك علما بوفاته بسبب نزيف في المخ إثر اصطدام رأسه أكثر من مرةٍ بالأرض بطريقةٍ عنيفة.
نهاية الرجوع إلى الماضي.
_
لم أستطع فعل شيءٍ سوى البكاء، صوت نحيبي هو فقط ما كان يُسمع، لطالما كنت الفتاة الـ... لا أعلم، لكنّي لم أكن أُشبه باقي الفتياتِ في عمري، ولم أكن أتصرف كالفتيانِ أيضًا، لقد كنت غريبة وسط تجمعاتهم، لم يكُن لي رفقةٌ سِواه، أو بشكل أوضح
(اكتفيتُ بِه عن الناسِ جميعًا).
_
بعد مرور عدة أيام:
جلست بصمتٍ أشاهد المقدم أمامي، أحدق فيه أحاول أن أستوعب ما قمت بهِ. فبعدما انتشرت الكثير من الشائعات عني وعن هويتي أجبرتني لورا صديقتي على الذهاب إلى مقابلةٍ تليفزيونية للحد من الأمر وجعله يتوقف.
«إذًا السيدة المجهولة قررت أخيرًا أن تفصح عن هويتها لنا.» قالها لِي بينما يبتسم، يبتسم بطريقةٍ مخيفة -بالنسبة لي بالطبع-.
«المشاهدون والمعجبون -وأنا أيضًا بالطبع- يريدون أن يعلموا من أنتِ، لذا هناك العديد مِن الأسئلة والتي سأبدأها بالأهم: ما هو اسمك؟ حيث أنكِ لم تستخدمي سوى حرفيّ السين والمـيم» أنهى سؤاله مما جعلني أشدّ طرف فستاني أسفل الطاولة في محاولةً للتخفيف من شدة توتري والحفاظ على ثباتي أمامهم.
«أجل، من حقكم بالطبع أن تتساءلوا؛ فلَم يعلم أحد هيئتي غير الآن، أنا ‹سيلين مالِك›» أنهيتُ إجابتي ورسمت ابتسامةً بسيطة -مزيفة بالطبع- وسمعت تصفيق الجمهور في الاستديو، ما الذي يحدث؟ أنا فقط أخبرتهم باسمي، وأعتقد أنّي سأندم فيما بعد على كشفي لهم.
«سيلين، يا له من اسمٍ مثاليّ، حسنًا سيلين، إن سمحتِ لي بالطبع أن أناديكِ سيلين دون ألقاب.» أخبرني فنظرت له دون رسم شيءٍ على وجهي، قلت له: «لا بأس.»
وبعد عددٍ من الأسئلة التافهة التي تريد مني فقط أن أكشف عن نفسي أكثر، ومحاولتي في الحفاظ على إجابة بعضهم لنفسي، تبادر إلى ذهني سؤال: لِمَ أتيت إلى هنا؟ عليّ أن أقتل صديقتي التي أجبرتني على الخروج من عزلتي البعيدة عن هؤلاء المتطفلين، وهذا يجعلني أتذكر:
(أنا لَم أكُن جيدة مع الناس إلّا هو).
«حسنًا سيلين، هناك سؤال يدور في عقلي دائمًا وأحتاج إلى إجابة له، لِمَ اخترتِ اسم (مختلفة) ليكون اسم كتابكِ الثاني؟ الذى نجَحَ كما فعلَ صديقه الأول العام الماضي (رسائل ذابلة)»
سألني بنبرةٍ تميل إلى الجديةِ قليلًا جعلت الكلمات تنزلق مني.
«ولِمَ لا أفعل؟ كل كتابٍ من الاثنين احتوى على ما يعبر عنه بمعنى آخر، كتابي الأول (رسائل ذابلة) عبّر عن الخوف الذي يتمّلكنا -نحن البشر- ويستنزف كل تفكيرنا بهِ حتى أصبحنا نخاف من كل شيء حولنا، إحساس الخوف داخلنا أصبح يتكاثر حتى أصبح مرضًا جعلنا نشعر بالخوف من الحياة نفسها، منذ أن كنا أطفالًا خائفين من الوَحش أسفل سريرنا حتى أصبحنا راشدين نهاب الوقوع في الحب، بل وننكرهُ إن حدث! نخاف أن نفقِد فنُفقَد، أصبحنا ذابلين كالرسائلِ القديمةِ في الصناديقِ أعلى الخزانة، نكتب ما نشعر بهِ ونخفيهِ عن الأعين والأيادي كي لا يراه أحد ويسخر منا، فقتلَنا الخوف قبل أن يقتلنا الموت.» أنهيتُ كلامي وتأثر الجميع بما قلته وصفقوا بحرارة، اختتم المقدم الحلقة شاكرًا إيّاي عليها وعلى ما قلته فيها.
_
جلست أسفل سريري ممسكةً بالمصباح اليدوي، وفي الخلف هناك تصدح أغنيتي المفضلة -للوقت الحالي-، حدّقت في صورِه، في صورِنا معًا، الخاتم الذي أهداني إيّـاه في زواجنا ما زال يُزين إصبعي، سقط نظري على رسالةٍ مختلفةِ اللون مما جعلني أفتحها، وتنقّلت عيناي بين سطورِها المنمقة بينما تتلألآن.
«عزيزتي سين،
أود إخباركِ بأنكِ لطالما كنتِ الفتاة التي أحبها قلبي، بالتأكيد تعلمين هذا، حسنًا لا يهم...
أما زلتِ تذكرين عندما تشاجرنا الخريف الماضي ورفضتِ الحديث معي؟ وعندما دخلتِ لتشتري بعض الكتب وجدتني خلفكِ أحاول التعرُف عليكِ كأننا لا نعرف بعضنا بعضًا؟
لقد تركتِني وقتئذ أقف بمفردي وذهبتِ، لكن بالطبع لم تستطيعي الابتعاد عني وأصبحتِ تتوسلينني كيّ أحدثكِ... حسنًا أمزح، أنا من ألح عليكِ كي تتحدثي معي.
عليكِ أن تعلمي أنكِ أكثر الفتياتِ تميزًا واختلافًا، بل أنتِ كل فتياتِ العالم بالنسبةِ لي، لَم أرَ مثلكِ، تحملتِ الكثير لكن لَم تجعلِي شيئًا يؤثر فيكِ ولا في ابتسامتكِ.
مِن المفترض أن غدًا عيد مولدكِ وأنا ما زلتُ لا أعلم ماذا سأهديكِ، أعتقد أن وجبة عائلية من مطعمكِ المفضل ستفي بالغرض، أمزح، سأشتري لكِ ثلاث وجبات عائلية.
هذه الرسالة ستكون الأخيرة مني حاليًا، ولهذا أريد منكِ أن تكوني قوية كعادتكِ، لا تجعلي شيئًا يُذبِل عينيكِ البندقيتين اللتين أسرتاني في صغري كقطعِ الشوكولا الداكنة وفي كبري كحبيباتِ البن في كوبِ قهوتي.
تماسكي لأجلي صغيرتي، واجعلي الورود تُزين وجهكِ دومًا، وابقي سيلين القوية التي اعتدتُ عليها.
أُحبكِ،
علي»
أنهيتُ الرسالة وأنا أشهق من كثرة بكائي الذي أصبح يلازمني منذ أن وجدت هذا الصندوق وقررتُ قراءة رسائله كلها، وقد قرأتُ بالفعلِ خمسًا وستين رسالة للآن، مرت ثلاثة أشهر منذ لقائي التلفزيوني، وأقبل بعده إعلاميون كثر طالبين مقابلتي لكنّي رفضتهم جميعًا.
استيقظتُ اليوم التالي -أسفل سريري بالطبع- والحزن نفسه داخلي، والخوف الرابض في رأسي، وشعوري نفسه أني أفتقده.
لَم يتغير شيء ولَم يقلّ تفكيري بما يحدث معي، أخبرني الكثير أنها مبالغةٌ مني، وأن رد فعلي هذا أصبح سخيفًا، وانعزالي عنهم لن يعيده مرةً أُخرى، أعتقد أنهم لَم يفهموا بعد، كيف أن الشخص الوحيد الذي عرفته طوال حياتي والذي ساندني في كل شيء ووقف بجانبي وعلّمني الصبر والقوة تلاشى! لَم يعُد معي بعد الآن، لا أستطيع أن أُريح رأسي على كتفه عندما يثقُل صدري.
التقطت هاتفي وضغطتُ بعض الأزرار فسمعتُ ردها من الجهة الأخرى بعد برهةٍ من الوقت.
«سيلين تتصل بي؟ حقًا؟ لَم أتفاجأ بكونكِ تتصلين بي في الخامسةِ فجرًا ولكن... هل أنتِ سيلين؟» حسنًا لَم أتوقع هذا، ولكن معها حق؛ فآخر مرة اتصلتُ بها كانت منذ شهور كما أعتقد.
«لورا، أعتقد أنني سأسافر… أشعر بأنني أحتاج إلى هذا؛ لطالما كان تغيير الأماكن يساعدني قليلًا، وأنا سئمتُ الوضع، سئمتُ حزني وشعوري بالخوف دائمًا... أنا لن أتوقف عن التفكير بهِ ولن ينساه قلبي أبدًا وسيظل محفورًا فيه حتى أموت أنا أيضًا، أو تحدث معجزةٌ ما ويعود إليّ. لا تخبري أحدًا رجاءً واجعليه سرًا بيننا.»
أعلمتها بِـما يدور في عقلي وأتمنى أنني لن أندم على قراري أبدًا.
مرّت عدة أيام بعد مكالمتي مع لورا، رتبت فيها كل شيء، لم أقص شعري الأسود كما تفعل الفتيات عند تغيير حياتهن، تركته طويلًا كعادته، بالإضافةِ لأنني أردت الحفاظ على وعدي لعلي بعدم قصّه.
«هل ستعودين مرة أُخرى؟» سألتني لورا بنبرةٍ باكية ونحن نقف في المطار ننتظر إقلاع طائرتي.
«أجل، أنا لن أترككِ، هي فترةٌ طويلةٌ نوعًا ما... حسنًا، فترةٌ طويلةٌ جدًا، لكنها ستمُر وسأعود لكِ مرة أُخرى، أنتِ كل ما تبقى لي بعد رحيله.» أخبرتها محاولةً السيطرة على صوتي حتى لا أبكي، أخذتها في عناقٍ طويل قوي تعبيرًا لها عن حبي وامتناني الكبير لِمَا تفعله دومًا معي.
لورا هي تلك الصديقة التي لا تتخلى ولا تترك، تتفهم دائمًا ولا تسيء الظن أبدًا، تستمع بلا تذمر، هي لم تتركني عندما كنتُ أدفعها عني، لم تتذمر يومًا من تغيري وعصبيتي وحزني، لَم تسخر من حبي لعلي وتأثري بموته، هي مخبأي السري وممتصة سلبياتي، هي ذلك الشخص الذي تحدثه في منتصف الليل فيأتي ويحتضنك ويحميك من الوحوش المخيفة، كانت شريكتي في كل شيء بعده، هي كل ما هو جميل في هذه الحياة.
أنا مُمتنة لها كونها لم تتغير معي وتقبلتني بجميع تغيراتي منذ كنا صديقتين في الابتدائية إلى هذه اللحظة.
صعدتُ الطائرة وفتحتُ إحدى التطبيقات الاجتماعية وجعلت أناملي تخط بعض الحروف، ثم أشرتُ لها بعلامةِ اسمنا الّذي اخترعناه منذ خمسة عشر عامًا.
«وجودكِ في حياتي أغناني عن الكثير، لَم تستسلمي يومًا حتى أخرجتِني من صدفة السلحفاةِ التي اختبأت تحتها، كنتِ هُنا عندما لم يكُن هناك أحد... مهما بحثتُ عن كلماتٍ وخطتْ أناملي الحروف لن أجد يومًا ما يستطيع التعبير عن امتناني الكبير لكِ.
أُحبكِ صديقتي.
(سنكون سيلورا دومًا)».
لم تمر ثوانٍ حتى وجدتُ التعليقات تتهافت، منهم من يقوم بذكر صديقه في التعليق، ومنهم من يضع قلوبًا فقط.
سقطت عيناي على تعليقها الذي جعل ابتسامتي تتسع، ألَم أُقُل أنها صديقتي وأنني لن أجد مثلها أبدًا؟
النهاية.
_
مرحبًا!
كيف حال الجميع؟
انتظر آرائكم، بكل حب💖
إتش.
أنهيتُ كتابة منشوري الجديد ونشرته، رأيت بعض التعليقات تقول: «كونك وحيدة بائسة لا يعني أن عليك أن ترمي لعناتك علينا.» «توقفي أنتِ عن قول هذه الترهات، هناك شخصٌ يهتم لأمرك بالفعل، ولكنه ربما خائفٌ من المواجهة حتى لا يتحطم قلبه».
وقد جذبتني بعض التعليقات الأخرى والتي قمت بالرد عليها، وهناك من أخبرني أنني محقة وأن هنالك أشخاصًا كُثر يحاربون وحدهم بؤس الحياة.
بعد قراءة الكثير قمت بإغلاقِ الحاسوب وأرخيتُ جسدي على السرير مفكرةً بما آلت إليه حياتي الجديدة، وبالنظر للسنتين الماضيتين فأنا حتمًا تغيرت.
لم أتغير كليًّا، فأنا إلى الآن لم أستطع تغيير بعض الأمور؛ كتأثري بالأغاني والأفلام على سبيلِ المِثال، أو التخلص من حبي الرمادي والأسود معًا، وبالطبع لم أستطع التوقف عن التفكير في عينيك.
بعد قليل من الوقت صدح صوت هاتفي، تأففت وأدركت أنّي نسيت إغلاقه.
«أجل؟» أجبت بجفاء كوني لستُ في مزاج مناسب للحديث، وهذا يجعلني أتساءل متى كنت في المزاج المناسب من الأصل؟
«عذرًا، لكن الناس تقول صباح الخير أو كيف حالك، وليس أجل!» أنا أكرهها، ليس بالفعل ولكنها مزعجة وترغب بجعلي أخرُج من مخبأي.
تحدثت «أستقولين ما تريدين أم أغلق الهاتف في وجهكِ؟» فأسرعت بقول أنها تريد لقائي بأسرع فرصةٍ مُمكنة، وكونها تعلم أنني لا أخرج أخبرتني بأنها قادمة.
_
كنتُ أرتب أشيائي بعدما رحلت صديقتي، هي لا تتوقف عن محاولة جعلي أخرج وأبتعد عن قوقعتي، وبقوقعتي أقصد منزلي.
وبينما أعمل اصطدمت يدي بشيءٍ قوي مما جعل صندوقًا يسقط من رفٍ عالٍ من الخزانة، التقطته محاولةً السيطرة على مشاعري وعدم فتحه؛ إلّا أني استسلمت في النهاية لرغباتها.
_
وقعت ورقةٌ صغيرةٌ في يدي ففتحتها سريعًا وبدأت قراءتها بصوتٍ منخفض «منذ أن بنينا بيت الشجرة معًا وأنا أقسمتُ أنك ستكونين لي أنا فقط، وهأنا فعلتها!» ابتسمتُ بخفة لتلك الذكرى عندما وجدتها مرةً في إحدى المخبوزات.
التقطت ورقةً أخرى لأكتشف أنها رسالة، رسالته.
«وجودكِ في حياتي هو كل شيء يُمكنكِ إعطاؤه لي، لِمَ عليكِ أن تكوني هكذا؟ لِمَ أنتِ مختلفة عنهم جدًّا؟ والأهم: لِمَ أنا أراكِ مُختلفةً هكذا؟ أصدقائي يُلقبونني بالأخرق لأنّي أراكِ مميزة ومختلفة، وهم لا يشاركونني الرأي، ما ذنبي إن كانوا لا يرون ما أراه أنا؟ لا شيء، صحيح؟ غير أنهم حمقى لا يعلمونكِ ولا يعلمون حقيقتكِ كما أفعل أنا، ليس عليكِ القلق بشأنهم ولا الحزن أبدًا، لا يجب أنْ تكوني ذابلة،. وأنا لن أجعلكِ تذبلين طالما أنني على قيد الحياة.
أُحبكِ.»
أنهيتها وأنا أبكي، ليته بقي ولَم يذهب تلك الليلة، ليته استمع لي؛ عندئذٍ لم يكُن ليحدث شيء غير أنه سيكون معي، سيكون حيًّا.
_
قبل ثلاثة أعوام.
كان يسير سريعًا محاولًا مجاراة أصدقائه في سباقهم، زاد الضغط على دوّاسة الوقود مما جعل سرعة سيارته تزيد وتسبق صديقه الذي سخطَ عليه بينما هو يضحك.
لطالما كان علي شغوفًا بسباقات السيارات، خاصةً حينما تكون في الشارع والطرق المفتوحة.
فقد تحكمه في السيارة فجأةً وسط انشغاله بالضحك على صديقه؛ مما جعلها تنحرف عن الطريق وتنقلب مرةً وراء الأخرى حتى استقرت في النهاية وهي مقلوبةٌ رأسًا على عقب، توقف صديقاه الاثنان سريعًا على جانب الطريق المهجور وذهبا لإخراج جسده، نجحا في الأمر، وذهبا به سريعًا إلى المشفى، وهناك علما بوفاته بسبب نزيف في المخ إثر اصطدام رأسه أكثر من مرةٍ بالأرض بطريقةٍ عنيفة.
نهاية الرجوع إلى الماضي.
_
لم أستطع فعل شيءٍ سوى البكاء، صوت نحيبي هو فقط ما كان يُسمع، لطالما كنت الفتاة الـ... لا أعلم، لكنّي لم أكن أُشبه باقي الفتياتِ في عمري، ولم أكن أتصرف كالفتيانِ أيضًا، لقد كنت غريبة وسط تجمعاتهم، لم يكُن لي رفقةٌ سِواه، أو بشكل أوضح
(اكتفيتُ بِه عن الناسِ جميعًا).
_
بعد مرور عدة أيام:
جلست بصمتٍ أشاهد المقدم أمامي، أحدق فيه أحاول أن أستوعب ما قمت بهِ. فبعدما انتشرت الكثير من الشائعات عني وعن هويتي أجبرتني لورا صديقتي على الذهاب إلى مقابلةٍ تليفزيونية للحد من الأمر وجعله يتوقف.
«إذًا السيدة المجهولة قررت أخيرًا أن تفصح عن هويتها لنا.» قالها لِي بينما يبتسم، يبتسم بطريقةٍ مخيفة -بالنسبة لي بالطبع-.
«المشاهدون والمعجبون -وأنا أيضًا بالطبع- يريدون أن يعلموا من أنتِ، لذا هناك العديد مِن الأسئلة والتي سأبدأها بالأهم: ما هو اسمك؟ حيث أنكِ لم تستخدمي سوى حرفيّ السين والمـيم» أنهى سؤاله مما جعلني أشدّ طرف فستاني أسفل الطاولة في محاولةً للتخفيف من شدة توتري والحفاظ على ثباتي أمامهم.
«أجل، من حقكم بالطبع أن تتساءلوا؛ فلَم يعلم أحد هيئتي غير الآن، أنا ‹سيلين مالِك›» أنهيتُ إجابتي ورسمت ابتسامةً بسيطة -مزيفة بالطبع- وسمعت تصفيق الجمهور في الاستديو، ما الذي يحدث؟ أنا فقط أخبرتهم باسمي، وأعتقد أنّي سأندم فيما بعد على كشفي لهم.
«سيلين، يا له من اسمٍ مثاليّ، حسنًا سيلين، إن سمحتِ لي بالطبع أن أناديكِ سيلين دون ألقاب.» أخبرني فنظرت له دون رسم شيءٍ على وجهي، قلت له: «لا بأس.»
وبعد عددٍ من الأسئلة التافهة التي تريد مني فقط أن أكشف عن نفسي أكثر، ومحاولتي في الحفاظ على إجابة بعضهم لنفسي، تبادر إلى ذهني سؤال: لِمَ أتيت إلى هنا؟ عليّ أن أقتل صديقتي التي أجبرتني على الخروج من عزلتي البعيدة عن هؤلاء المتطفلين، وهذا يجعلني أتذكر:
(أنا لَم أكُن جيدة مع الناس إلّا هو).
«حسنًا سيلين، هناك سؤال يدور في عقلي دائمًا وأحتاج إلى إجابة له، لِمَ اخترتِ اسم (مختلفة) ليكون اسم كتابكِ الثاني؟ الذى نجَحَ كما فعلَ صديقه الأول العام الماضي (رسائل ذابلة)»
سألني بنبرةٍ تميل إلى الجديةِ قليلًا جعلت الكلمات تنزلق مني.
«ولِمَ لا أفعل؟ كل كتابٍ من الاثنين احتوى على ما يعبر عنه بمعنى آخر، كتابي الأول (رسائل ذابلة) عبّر عن الخوف الذي يتمّلكنا -نحن البشر- ويستنزف كل تفكيرنا بهِ حتى أصبحنا نخاف من كل شيء حولنا، إحساس الخوف داخلنا أصبح يتكاثر حتى أصبح مرضًا جعلنا نشعر بالخوف من الحياة نفسها، منذ أن كنا أطفالًا خائفين من الوَحش أسفل سريرنا حتى أصبحنا راشدين نهاب الوقوع في الحب، بل وننكرهُ إن حدث! نخاف أن نفقِد فنُفقَد، أصبحنا ذابلين كالرسائلِ القديمةِ في الصناديقِ أعلى الخزانة، نكتب ما نشعر بهِ ونخفيهِ عن الأعين والأيادي كي لا يراه أحد ويسخر منا، فقتلَنا الخوف قبل أن يقتلنا الموت.» أنهيتُ كلامي وتأثر الجميع بما قلته وصفقوا بحرارة، اختتم المقدم الحلقة شاكرًا إيّاي عليها وعلى ما قلته فيها.
_
جلست أسفل سريري ممسكةً بالمصباح اليدوي، وفي الخلف هناك تصدح أغنيتي المفضلة -للوقت الحالي-، حدّقت في صورِه، في صورِنا معًا، الخاتم الذي أهداني إيّـاه في زواجنا ما زال يُزين إصبعي، سقط نظري على رسالةٍ مختلفةِ اللون مما جعلني أفتحها، وتنقّلت عيناي بين سطورِها المنمقة بينما تتلألآن.
«عزيزتي سين،
أود إخباركِ بأنكِ لطالما كنتِ الفتاة التي أحبها قلبي، بالتأكيد تعلمين هذا، حسنًا لا يهم...
أما زلتِ تذكرين عندما تشاجرنا الخريف الماضي ورفضتِ الحديث معي؟ وعندما دخلتِ لتشتري بعض الكتب وجدتني خلفكِ أحاول التعرُف عليكِ كأننا لا نعرف بعضنا بعضًا؟
لقد تركتِني وقتئذ أقف بمفردي وذهبتِ، لكن بالطبع لم تستطيعي الابتعاد عني وأصبحتِ تتوسلينني كيّ أحدثكِ... حسنًا أمزح، أنا من ألح عليكِ كي تتحدثي معي.
عليكِ أن تعلمي أنكِ أكثر الفتياتِ تميزًا واختلافًا، بل أنتِ كل فتياتِ العالم بالنسبةِ لي، لَم أرَ مثلكِ، تحملتِ الكثير لكن لَم تجعلِي شيئًا يؤثر فيكِ ولا في ابتسامتكِ.
مِن المفترض أن غدًا عيد مولدكِ وأنا ما زلتُ لا أعلم ماذا سأهديكِ، أعتقد أن وجبة عائلية من مطعمكِ المفضل ستفي بالغرض، أمزح، سأشتري لكِ ثلاث وجبات عائلية.
هذه الرسالة ستكون الأخيرة مني حاليًا، ولهذا أريد منكِ أن تكوني قوية كعادتكِ، لا تجعلي شيئًا يُذبِل عينيكِ البندقيتين اللتين أسرتاني في صغري كقطعِ الشوكولا الداكنة وفي كبري كحبيباتِ البن في كوبِ قهوتي.
تماسكي لأجلي صغيرتي، واجعلي الورود تُزين وجهكِ دومًا، وابقي سيلين القوية التي اعتدتُ عليها.
أُحبكِ،
علي»
أنهيتُ الرسالة وأنا أشهق من كثرة بكائي الذي أصبح يلازمني منذ أن وجدت هذا الصندوق وقررتُ قراءة رسائله كلها، وقد قرأتُ بالفعلِ خمسًا وستين رسالة للآن، مرت ثلاثة أشهر منذ لقائي التلفزيوني، وأقبل بعده إعلاميون كثر طالبين مقابلتي لكنّي رفضتهم جميعًا.
استيقظتُ اليوم التالي -أسفل سريري بالطبع- والحزن نفسه داخلي، والخوف الرابض في رأسي، وشعوري نفسه أني أفتقده.
لَم يتغير شيء ولَم يقلّ تفكيري بما يحدث معي، أخبرني الكثير أنها مبالغةٌ مني، وأن رد فعلي هذا أصبح سخيفًا، وانعزالي عنهم لن يعيده مرةً أُخرى، أعتقد أنهم لَم يفهموا بعد، كيف أن الشخص الوحيد الذي عرفته طوال حياتي والذي ساندني في كل شيء ووقف بجانبي وعلّمني الصبر والقوة تلاشى! لَم يعُد معي بعد الآن، لا أستطيع أن أُريح رأسي على كتفه عندما يثقُل صدري.
التقطت هاتفي وضغطتُ بعض الأزرار فسمعتُ ردها من الجهة الأخرى بعد برهةٍ من الوقت.
«سيلين تتصل بي؟ حقًا؟ لَم أتفاجأ بكونكِ تتصلين بي في الخامسةِ فجرًا ولكن... هل أنتِ سيلين؟» حسنًا لَم أتوقع هذا، ولكن معها حق؛ فآخر مرة اتصلتُ بها كانت منذ شهور كما أعتقد.
«لورا، أعتقد أنني سأسافر… أشعر بأنني أحتاج إلى هذا؛ لطالما كان تغيير الأماكن يساعدني قليلًا، وأنا سئمتُ الوضع، سئمتُ حزني وشعوري بالخوف دائمًا... أنا لن أتوقف عن التفكير بهِ ولن ينساه قلبي أبدًا وسيظل محفورًا فيه حتى أموت أنا أيضًا، أو تحدث معجزةٌ ما ويعود إليّ. لا تخبري أحدًا رجاءً واجعليه سرًا بيننا.»
أعلمتها بِـما يدور في عقلي وأتمنى أنني لن أندم على قراري أبدًا.
مرّت عدة أيام بعد مكالمتي مع لورا، رتبت فيها كل شيء، لم أقص شعري الأسود كما تفعل الفتيات عند تغيير حياتهن، تركته طويلًا كعادته، بالإضافةِ لأنني أردت الحفاظ على وعدي لعلي بعدم قصّه.
«هل ستعودين مرة أُخرى؟» سألتني لورا بنبرةٍ باكية ونحن نقف في المطار ننتظر إقلاع طائرتي.
«أجل، أنا لن أترككِ، هي فترةٌ طويلةٌ نوعًا ما... حسنًا، فترةٌ طويلةٌ جدًا، لكنها ستمُر وسأعود لكِ مرة أُخرى، أنتِ كل ما تبقى لي بعد رحيله.» أخبرتها محاولةً السيطرة على صوتي حتى لا أبكي، أخذتها في عناقٍ طويل قوي تعبيرًا لها عن حبي وامتناني الكبير لِمَا تفعله دومًا معي.
لورا هي تلك الصديقة التي لا تتخلى ولا تترك، تتفهم دائمًا ولا تسيء الظن أبدًا، تستمع بلا تذمر، هي لم تتركني عندما كنتُ أدفعها عني، لم تتذمر يومًا من تغيري وعصبيتي وحزني، لَم تسخر من حبي لعلي وتأثري بموته، هي مخبأي السري وممتصة سلبياتي، هي ذلك الشخص الذي تحدثه في منتصف الليل فيأتي ويحتضنك ويحميك من الوحوش المخيفة، كانت شريكتي في كل شيء بعده، هي كل ما هو جميل في هذه الحياة.
أنا مُمتنة لها كونها لم تتغير معي وتقبلتني بجميع تغيراتي منذ كنا صديقتين في الابتدائية إلى هذه اللحظة.
صعدتُ الطائرة وفتحتُ إحدى التطبيقات الاجتماعية وجعلت أناملي تخط بعض الحروف، ثم أشرتُ لها بعلامةِ اسمنا الّذي اخترعناه منذ خمسة عشر عامًا.
«وجودكِ في حياتي أغناني عن الكثير، لَم تستسلمي يومًا حتى أخرجتِني من صدفة السلحفاةِ التي اختبأت تحتها، كنتِ هُنا عندما لم يكُن هناك أحد... مهما بحثتُ عن كلماتٍ وخطتْ أناملي الحروف لن أجد يومًا ما يستطيع التعبير عن امتناني الكبير لكِ.
أُحبكِ صديقتي.
(سنكون سيلورا دومًا)».
لم تمر ثوانٍ حتى وجدتُ التعليقات تتهافت، منهم من يقوم بذكر صديقه في التعليق، ومنهم من يضع قلوبًا فقط.
سقطت عيناي على تعليقها الذي جعل ابتسامتي تتسع، ألَم أُقُل أنها صديقتي وأنني لن أجد مثلها أبدًا؟
النهاية.
_
مرحبًا!
كيف حال الجميع؟
انتظر آرائكم، بكل حب💖
إتش.
Коментарі