1/1/1947
توشحتُ بالسواد، أخذت القنديل بيدي ، و خرجتُ من الكوخ ، إلى الشاطئ الذي يواجِهُهُ.
أستلقيتُ على الرمل ، أراقبُ من بعيد، بعينان تحملان الأملَ الشديد، و حزناً ، يفيضُ و يتحولُ إلى دموع، تسيلُ على خدي ،..
تلاطمُ الأمواج الثقيلة، تشبهُ خطواتهُ المتزنةَ و الثقيلة أثناء سيرهِ ،
إِنْحِسارها إلى الخلفِ ، تتخللُ الصخورَ و الشقوق بين الرَملِ ، بِإنْحسارِ أنفاسهِ إلى الداخل ، ..هذهِ هي السنةُ الثانية منذُ رحيلهِ ، و معَ العلمِ أن الحربَ إنتهت ، و لكنَ آثارهاْ لا تزالُ قائمةً ، في النفوسِ ، ..أخشى أن يكون قد رحل كما فعلَ مَنْ قبْلُهُ !.
أنتصبَ السيد كرتر العجوز ، عندما سمعَ صوتَ طرقٍ على الباب ، راقبتهُ أنا وزوجتهُ ، يمشي بعجل، و يتمتمُ باسم إبنهِ ، تنهدتْ زوجتهُ بحزنٍ عميق، و نظرت لي ، هززتُ رأسي ، و قفتُ، وذهبتُ إليهِ ، مسحتُ على كتفهِ ، لاحظتُ حملقتهُ لما بينَ يديهِ ، رسالةٌ بمظروفٍ مهترء ، و لكنَ عنوانَ المرسلِ ، و المرسلَ إليه سليمٌ، ..
بلعتُ ريقي ، و هززتُ السيدْ كرتر قائلةً بهمس غيرِ متزن :" سيد كرتر ، فل تدخل ، فأنت بِملابسِ النوم !".
هزَ رأسهُ بشرود ، و دخلَ ، مطَأطأ الرأس ، يحملق بالرسالة .
صاح السيد كرتر من غرفة المعيشة بصوتٍ مبتهج :" إبني حيّ ، إبني حيّ ماري !، لا يزالُ على قيدِ الحياة !".
صرخت السيدة ماري بفرحةٍ شديدة ، و قفزت من الأريكة ، لتلتقطَ الرسالة ، و تقرأها ، بعينان متسعتان ، إتكأتُ على بابِ الغرفة ، أشهدُ فرحتهما ببنهما، إبتسامةٌ سعيدة، و يدٌ ، تربتٌ على موضعِ قلبي الصغير، عينان إختلجتهما الفرحة و الطمأنينة ، و ثَقْلٌ أنزاح عن كاهلي ، رفعت السيدة ماري نظرها ، بعدما أنتهت من القرأة ، نظرت لي ، روحها الدافئة ، قد عادت، بعدما تركتها ، في الميناء ، معَ رحيلِ أبنها ، ..
تقدمت ، بخطواتٍ متئنية ، مسحت بيدها على كتفي ، و دموعها خطان يسيلان على خديها،
قالت لي وهي تمد الرسالة
:"خطيبكِ عادَ عزيزتي روشان ، أَقرئي !".
زفرتُ الهواء بثقل ، و أخذت الرسالة، من يدها ، بيدٍ ترتعش ، غير مصدقةٍ أن هذهِ الرسالة تحملُ بينَ طياتها خط "والتر" !، نسجَ كلماتٍ تحكي حالهُ ، في الغربة ، بعدَ فراقٍ دامَ سنتان ،
كتبَ بخطٍ سريع و كلماتٍ منمقة ...
"السلامُ على أحبتي ، أبي ، أمي ، روشان خطيبتي ، أعلمكم الأن، و بعدَ سنتين من الأنقطاع، الذي خلف -على الأرجحِ- شرخاً كبيراً في أنفسكم الشريفة !، ..إني بخير ، بل في أتمِ الصحة، ..
كي لا أقلقكم ، و تزيدَ التسؤلات ، سأكون في المنزلِ في غضون ستت أشهر يا أحبتي ، .. الحرب علمتني الكثير ، و أهم شيء ، هو العائلة! .. ، أحترقُ شوقاً لكم ، و لرأيتِ و جوهكم ! ، ..
أشتاقُ إليكَ أبي ، و لنصائحكَ المنهمرة كقطرات المطر ، أشتاقُ إليكِ أمي ، و إلى تلكَ الأبتسامة الجميلة ، لا تدعي الزمن أو الفراق ، يطغيان عليها ،.. أشتاقُ إلى حبيبتي روشان ، و إلى صوتها الهادء ، و صبرها الذي يخرقُ المركبَ و يغرقهُ في الماء ، ..
أصحابي في المجموعة يدبرونَ أمرَ المركبِ الذي سنبحرُ بهِ للعودة ، سأكون على شواطئ جزيرتي ، لا تنسوا الترحيبَ بي أحبتي .
معَ حبي والتر كرتر".
مسحتُ بأناملي ، ظهرَ الرسالة ، التي لم تعد تفارقني منذُ ذلكَ اليوم ، أشتمُ عبيرها كلَ ليلة ، رائحتها تجعلني أذوبُ في بحرٍ لا قاعَ لهُ ، لم تكن حالتي أسوء من والديهِ ، اللذان يصبحانِ على الشاطئ و لا يغادران حتى غروب الشمس ،
لم يتراء لنا ، بعيداً حيثُ الأفق ، شراعُ مركبٍ أبيض ، ينبئُ بوصولِ "والتر" ، و لا حتى السفن ، التي تأتي و ترسوا في الميناء ، لأخذ إستراحةٍ قصيرة في جزيرتنا قد تحملُ معها عزيزنا "والتر ".
تنهدتُ بتعبٍ و ألقيتُ رأسي على الرمال ، أنظرُ إلى النجومِ المعلقةِ في السماء ، المشعةِ ، بِبَريقٍ ، يبعثُ الأملَ بمجردِ النظرِ لهُ ، ..
تحدثتُ إليهاْ ، أُفرغُ ما بِصدري من آهاتٍ حزينةٍ ،
-"أيتها النجومُ الأزلية ، أنتِ شاهدةٌ على ما يحلُ علينا ، .. أخبريني ، هل والتر ، في الطريق ؟".
صمتٌ مطبق أحتلَ المكان، أغلقتُ عيني ، أستمعُ إلى أصوات الأمواج و هي تتكسر على الشاطئِ ، فتحتها و أكملتُ
:"لقد أنقضت ستتُ أشهرٍ ،و لم يعد !، هل يا ترا ..ماتَ ؟!".
أنهمرت الدموعُ يغزارةٍ ، مسحتها و نظرتُ إلى النجوم برجاء ،.. قفزَ صوتٌ دافئ مطمأن إلى قلبي ، قائلاً:" أنتِ جمرةُ يناير !".
رددتهُ:"أنا جمرةُ يناير ".
همستُ بشرود :"والتر !".
ثم سمعتُ أحداً ، ينادي باسمي ، لكنهُ بعيد ، بعيدٌ للغاية ، يناديني من الأعماق ،
"روشان !"
في اليوم الموالي ، أستيقضتُ ، على رمال الشاطئ ، و السيدة ماري تهزني بقلق و تنادي باسمي ، أبتسمتُ لها و أعتدلتُ ، قالت و هي تزيلُ الرمل عن شعري البرتقالي
:" أفزعتني روشان !، عندما رأيتكِ مستلقيةً على الشاطئ ".
أجبتها :"غلبني النوم ، هذه المرة سيدة ماري ".
إلتوت شفتيها بمتعاض ، و قالت :"أكنتي تنتظرينهُ؟".
هززتُ رأسي ، أطالعُ البحر الأزرق الممتد ، جلست بقربي ، و قالت :" لقد ذهب كرتر ، إلى الميناء ،..سمعَ أن سفينةً قد جاءت من نفس المنطقة !".
أستشعرتُ الحزنَ في نبرتها ، أمسكتُ بيدها المقبوضة ، و شددتها بيدي ،
و قلت :"سيعودُ سيدة ماري ، سيعود !".
-"آملُ ذلكَ !".
أنتظرنا السيد كرتر نصفَ ساعة ، و لم يعد ، ..
حثتني السيدة ماري ، على تبديل ملابسي ، و الذهاب إلى منزلها لأتناولَ الأفطار ، لم أعارضها ، و قمتُ بما طلبت ، و ذهبتُ معها ،
سرنا بمحاذات الشارعِ ، قربَ الشاطئ ، مرت علينا سيدةٌ عجوز ، من أهالي الجزيرة ، سلمت علينا ، ثم ولجت إلى ما تريدُ قولهُ ،
قالت بصوتٍ حاد :" أما من أخبارٍ عن والتر ؟".
نفت السيدة ماري برأسها ، و شدة من يدي ، تكبحُ دموعها ، تنهدت العجوز ، ثم أكملت :"تلكَ السفينة الآتية من نفس المنطقة ".
ردتْ عليها السيدة ماري :" أجل ، ذهب كرتر لسؤالِ عنهُ !".
هزت العجوز رأسها ، و ترددت بالكلام ، و لكنها أكملت ، من نظرةِ عيني السيدة ماري ،
:"سمعتُ خلستً ، من أحدِ الركاب الذين نزلوا قربَ محلِ السمكِ ، أنهم وجدوا قبل ستت أشهر مركباً غارقاً في القاع !".
و حركت كيسَ السمكِ تأرجحهُ ، و هي تراقب السيدة ماري ، الهلعة ، ذرفت دموعاً ، و هي تكتمُ شهقتها ،
قلتُ لها و أنا أمسحُ على يدها :" هوني عليكِ سيدة ماري ، الكثيرُ من المراكب تأتي من نفس الطريق ... ".
قاطعتني بهلعٍ :" ماذا لو كان هو !، ماذا لو غرق ، و مات !".
أرتجفت أواصلي ، و حاولتُ التماسك أمامهما ، تنحنحتُ للعجوز ، و أقتدتُ السيدة ماري إلى المنزل ، تمتمت أثناء سيرها
:"لهذا لم يأت كرتر ، و يخبرنا ، لهذا تأخر !، لقد تحقق ما أخشاه ! ، آه روشان ..آه!".
نهرتها بصوتٍ مهزوز :"والتر سيعود ، والتر حيّ ، لا تتشأمي سيدة ماري ..هو سيعود !".
فتحتُ باب المنزلِ ، بعد صمت أجتاحنا ، و نحنُ نسير إليه ، أرتمت السيدة ماري ، على الأريكة ، و قالت بوهن :" جدي إحدى الصبية و بعثيه لكرتر ".
عدتُ إلى الباب ، و لم أنطق بكلمة ، أطللتُ منهُ ، دقاتُ قلبي في تسارع ، خائفةً و هلعة ، تسائلةُ ، ذلكَ الصوت ، الذي ناداني بالأمس ، أهو تحذيرٌ لما سوف يحصلُ من أحداثٍ لليوم ؟!، أم صوتُ ..من الأعماق !،
أجل!، شعرتُ بدفئٍ مألوف، ..كيدانٍ تحيطانني بحبٍ لا مشروط ،..أكان صوتُ والتر ، يناديني!..
أكان في مأزقٍ و يستنجدُ بي ،..هل كان يغرقُ !،
لا مستحيل .
لوحتُ بيدي ، عندما حط ، دبورٌ عليها و لسعني ، أخذتُ أمسحُ عليها ، و عيناي تدمعان ، تذكرتُ ما كانت تقولهُ لي أمي :"عندما أُفكرُ بسلبية ، فإن دبوراّ يحط على يدي ، و يلسعني !" .
إبتسمت و أنا لا أزالُ أمسحُ عليها ، مرَ أمامي ،
"بني " فتى الجيران ، ناديتُ عليهِ ، فلتفتَ ،
أقتربَ و قال :"مرحباً روشان ".
-"أهلاً عزيزي ، هل أنت مشغول ؟".
-"كلا ، لماذا ؟".
-"هل تسدي لي خدمةً ، و تبحثُ عن السيد كرتر ؟".
-"بالطبع !".
-"إذهب إلى الميناء ، الأن !".
رفعَ قبعتهُ القماشية ، و غمز لي ، و أنطلقَ يعدو إلى الميناء.
لم يمضي الكثيرُ من الوقتِ ، حتى عاد ، السيد كرتر إلى المنزل ، بوجهٍ شاحب ، جلس على الأريكة بجانبِ السيدة ماري ، دونَ أي كلمة ، أحترمنا صمتهُ ، حتى دنا برأسهِ على كتفِ السيدة ماري ، و أمسك بيدها ، بين يديهِ ، أتسعت عينيها ، و أرتجفت شفتاها ، ..
تكورتُ على نفسي ، و ضممتُ يدي إلى صدري ، إنتظرنا قول السيد كرتر ، الذي سيفجر القنبلة علينا ، ..
أسبل عينيهِ ، و قال بصوتٍ أشبهَ بالهمسِ:"والتر...".
قالت السيدة ماري بقلق :" أجل تكلم ، ماذا بهِ؟!، ماذا حدث كرتر ، تكلم !!".
إنزعج من صراخها ، و أكمل على مضض :"غرقَ مركبهم قبل ستت أشهر !".
شهقنا ، أنا و السيدة ماري ، و أنطلقت أعيننا ، تذرف الدموع ، كالشلالات !، بينما جاهد السيد كرتر ذرف الدموع ، و لكنهُ لم يستطع ، لنبقى في صمتٍ ثقيل ، ..و حملٍ أثقلَ ، حط على صدورنا ، حملٌ آخرَ ما كنا نتوقعُ أن يعود أضعافَ الحملِ الأولِ !.
سألت السيدة ماري ، تجاهدُ أن يكون صوتها هادءاً :" هل هذا صحيح ، ه..هل و جدوا جُثمانهُ؟!".
هز رأسهُ بالنفي ، و قالَ :" لقد غرقوا ، كان المركبُ غير صالحٍ ،.. و مع ذلكَ غامروا و ركبو فيهِ ، لم يتعدوا الخليج ، حتى غرق ، و لم يتمكنوا من السباحة إلى الشاطئ ... ".
و صمت ، يربتُ على كتفِ زوجتهِ ، و جهَ نظرهُ لي ، و قالَ :" أعتذرُ ، يا بنتي ، لقد قُتِلَتْ فرحتكِ قبلَ أن تستوي !".
هززتُ رأسي بحزن ، فما باليد حيلةٍ ، فقد رحل من أُحبُ .
Коментарі