ذلك الألم الحارق الذي عانى منه فيكتور،أصبح محبباً إليه كثيراً، ولإنه في كل مرة، يذكره بأول لمسة من أليكسي، ذلك الفتى الجميل، الذي قد تضيع سيبيريا كلها في خضرة عينيه!

فعندما فتح عينيه، وتلاقت زرقاواه مع خضراوي أليكسي، شعر أن ألمه قد اختفى فجأة، وأن الثلوج أسفله قد استحالت مروجاً خضراء، خصوصاً بعد أن وجد أليكسي يضمد له الجرح بمساعدة فاسيلي، تحت شجرة عملاقة ذات فروع كثيفة، تحميهم من ندف الثلج المتساقط

فيكتور: فاسيلي، حمداً لله، أنت بخير، وكذلك الطالب، كيف نجوتما؟

فاسيلي *يبتسم *: كان هذا بفضل أليكسي

يحمر وجه أليكسي ذو البشرة البيضاء اليانعة، ويخفض بنظره نحو الأرض بخجل، بعد أن كان يحدق بالقيصر الصغير باهتمام

نظر فيكتور نحوه وقال: إذاً إسمك هو أليكسي!

أليكسي: نعم سيدي القيصر

سُحر فيكتور بالنغمة الرنانة لصوت أليكسي، وشعر أن هناك سحراً خاصاً في صوته، شيئاً يجمع مابين الأنوثة والذكورة، مابين الصفاء والعذوبة

شعر بالسعادة والحماسة الجارفة، فخلع قفازه سريعاً ومد يده نحو ألكيسي، والذي سارع بدوره بحركة طفولية لخلع قفاز يده هو الآخر ومصافحة الأمير، رغم أنه شعر أن ذلك أكبر من أن يستحقه

استطاع فيكتور اسشتعار الدفئ في يد الفتى حالما لامسها، وشعر بشيئ جميل لحظتها، شيئ جميل جداً لم يشعر به منذ،آخر مرة عانق فيها والدته قبل أن تتوفى، ذلك الدفئ الممزوج بالحلاوة الآسرة، التي تجعلق تغلق عيناك وتغرق فيها بنشوة

فيكتور: سررت بمعرفتك أليكسي

هز يده بترحيب حار، وابتسامة مشرقة على وجهه وزرقاواه تلمعان من السعادة

أما أليكسي فقد غطى خجله وتوتره على سعادته بمصافحة القيصر، فلم يستطع لفظ الكثير، وقد كان ما قاله غير مفهوم البتة

ممادفع القيصر للضحك عليه وعلى جمال تعابيره المضطربة، بينما يد أليكسي ترتجف في يده

فيكتور: قل لي كيف نجوتما من ذلك؟

فبدأ فاسيلي بالتحدث بالنيابة عن أليكسي والذي لم يكن ليستطيع قول الكثير

فاسيلي: لقد شعر أليكسي عندما كنا داخل العربة بأن أحداً ما ورائنا، لذلك أمر السائق بتخفيف سرعته قليلاً، وقفزنا منها بسرعة عندما أصبحنا بين الأشجار الكثيفة، وقد ساعدني أليكسي في ذلك، لأنني لم أكن لأجرأ على فعل ذلك لوحدي

وبالفعل، ظهرت عصابة مكونة من ثلاثة وبدأت تهاجم العربة، بينما كنت وأليكسي نراقب ما يحدث، وللأسف قُتل السائق والحارسان ولم نستطع المساعدة بشيئ، حتى ظهرت أنت من أعلى التلة وقاتلتهم

فيكتور: لا بأس، سأرسل من يحضر الجثث وسيتم دفنها بطريقة لائقة داخل أسوار قصرنا، أما الآن، فحمداً لله على سلامتكما

ثم ينظر فيكتور لضماد جرحه، فيقول فاسيلي: نعم سيدي، أليكسي أيضاً من ضمد الجرح

نظر فيكتور نحو أليكسي بنظرة إعجاب وشعر أنه اختيار موفق جداً من فاسيلي

بينما أليكسي أشاح بنظره عن الأمير من شدة خجله، والذي قام بشكره وإظهار عظيم امتنانه له

فيكتور: شكراً جزيلاً لك أليكسي، لقد أنقذت حياة خادمي المخلص وحميته من الموت، وأنقذت حياتي أيضاً بتضميدك جرحي، أنا مدين لك ما حييت

أليكسي: أرجوك لا تقل ذلك يا سيدي، أنا في خدمتك لآخر يوم في حياتي

فيكتور : هيا بنا، لنرحل عن هنا قبل أن يحل الليل وتفترسنا ذئاب الغابة أو الدببة البرية

صعد الثلاثة على ظهر أنوشكا، وقد تعمد فيكتور وضع أليكسي في المقدمة، كي يستطيع أن يحيط ذراعيه حوله، أثناء إمساكه برسن الفرس، بينما فاسيلي يجلس خلف فيكتور والذي يجلس بينهما

كان القيصر بين اللحظة والأخرى، يحاول الاقتراب أكثر من حبيبه المستقبلي، لعله يعرف عنه المزيد، وفي كل مرة يلاصق فيكتور جسده بظهر أليكسي، يجد أن قلبه يضرب بسرعة كهدير أرجل الخيول، عدا أن له رائحة غريبة ومميزة، تشبه رائحة الخشب الممزوج بالمسك، ولم يستطع فيكتور تمييز أحدهما بوضوح، عدا أنه كان فضولياً جداً لرؤية شعر أليكسي المختبئ تحت قبعة صوفية رثة، كمعطفه البالي

بعد مسيرة طويلة في الثلج، غفا أليكسي بين ذراعي القيصر، والذي شعر أنه حلق فوق الغيمات، عند رؤيته هذا الملاك الصغير يتكأ عليه بوداعة هكذا، وصوت أنفاسه الهادئة تبع على الاسترخاء والنشوة في قلب فيكتور المتعطش للحب

بهمس خافت قال فيكتور لفاسيلي: إنه مثالي، شكله وتصرفاته مثالية جداً، إنه القطعة المفقودة في عائلتنا الملكية

فاسيلي: سيدهشك كيف اخترته يا سيدي

فيكتور: هذا ما كنت سأسلك عنه مباشرة

فاسيلي: بعد أن يأست تماماً في إيجاد من يجيدون القراءة والكتابة، أو ممن يكونون قد قرأو لو كتاباً واحداً في حياتهم، أو حتى في أولئك الذين قد،يكونوا أصدقاء جيدين لك، عدت للعربة وأنا مكسور، وعندما فتحت الباب،وجدت هذا الملاك يجلس بهدوء داخلها

لا أدري كيف لم ينتبه عليه الحراس،لكنه يبدو ذكياً جداً وماكر أيضاً، وعندما أردت سؤاله عن سبب دخوله عربتي، قال لي ولمعة الشغف والتشوق بادية في عينيه
"أريد مقابلة القيصر الصغير، فيكتور، أريد أن أقابل من ابتلع مئات الكتب في جوفه، أن تقرأ كتاباً شيئ، وأن تتلقنه من فم قارئه شيئ آخر"

لقدظهر لي جلياً كم هو مهتم بك أكثر من أمر المكتبة والكتب، بينما بقية القرويين كانوا يدفعون نحوي أبنائهم وبناتهم طمعاً بحياة الرخاء في القصر وما ستعود عليهم من نعيم وراحة

فيكتور: هكذا إذاً، هذا الماكر الصغير، إنه حقاً مميز، دعنا نسرع في الوصول، أريد أن أراه وهو يرتدي ملابس جميلة

وقبل أن تصل الشمس لغروبها، كانت الأبواب العظيمة للقصر الفسيح قد فُتحت، لتستقبل تلك الفرس البيضاء التي تحمل على ظهرها قيصرهم العزيز، وخادمه المخلص، والوافد الجديد الذي سيكون حكاية الجميع

لكن كالعادة، زوج من العيون الحاقدة كانت تراقب بصمت، وحقد دفين يغلي في داخلها

وهرعت بأرجلها الطويلة الناعمة لتدخل القصر بينما الجميع يصطفون على جانبي المدخل، يهللون ويحتفلون بعودة أميرهم

تسللت من بين الحشود، ودخلت مكتبة القيصر واختبأت داخل تلك الخزانة الصغيرة الوحيدة في المكان

بسبب الاستقبال الصاخب على الباب، استيقظ أليكسي فزعاً في حضن فيكتور

فيكتور: ههههه هل أفزعك الاحتفال؟

أليكسي: هل كنت..... هل أنا؟........ أقصد أنني....لقد كنت نائماً

فيكتور: هههههه أجل، لقد نمت أثناء الرحلة، يبدو أنك كنت متعباً للغاية أليكسي

شعر أليكسي بالحرج الشديد، إضافة لشعوره بالخطأ، وبدأ يعتذر من القيصر

أليكسي: أنا آسف، أنا أعتذر بشدة، أنا لا.....  

فيكتور: يكفي يا أليكسي، كف عن الاعتذار، أنت لم ترتكب خطأً، ثم إنك من الآن فصاعداً ستكون طالبي المجد،لذلك علينا أن نتعامل بأريحية أكثر وأقل تكليف

حالما دخل الثلاثة القصر، وضع فيكتور أليكسي في عهدة الخدم، كي يقوموا برعايته وخدمته على الوجه اللازم بينما توجه فيكتور إلى غرفته فوراً، ولحق به طبيب معالج للاطمئنان على جرحه، فالجميع كان باستطاعتهم رؤية المنديل البسيط المهترئ الملفوف حول جرحه الدامي

بينما كان الطبيب يعالجه بهدوء في غرفته، دخل كبير الحراس بطريقة همجية لغرفة الأمير وفي رأسه الكثير من التساؤلات

الحارس: سيدي القيصر، كيف تسمح لشخص من العامة أن يدخل القصر قبل أن يعلم القيصر الكبير بذلك؟

فيكتور: غريغوري!

أنا السيد هنا وأنا هو الآمر الناهي، أنت لا تقول هذا لخوفك على خصوصية للقصر وسكانه، بل لأنك تشعر بالحقد الشديد عندما أتمكن من التغلب عليك

ها..... قل لي، كيف كان شعور السقوط من على ظهر الحصان؟

وختم قوله بابتسامة نصر ساخرةعلى محياه

قطب غريغوري حاجبيه وكاد يحترق من الغيظ

غريغوري: لكن يا سيدي الصغير، كان بإمكانك الانتظار حتى يأتيك رد من والدك

فيكتور: فلنعتبر أن والدي قد وافق على طلبي، ثم إن أبي أخبرني أكثر من مرة على رغبته باستثمار مكتبتنا الضخمة وإتاحتها أمام الشعب، أنا أعرف ما أفعل يا غريغوري، ولتعلم أنني أكثر منك حرصاً على المملكة، لا تنسى أنها ستصبح مملكتي يوماً ما

غريغوري: عن إذنك يا سيدي، آسف على إزعاجك

ثم أخذ،يتراجع للوراء حتى خرج من الغرفة وفي عقله كلام آخر

"مملكتك؟ سنرى بشأن ذلك"

فاسيلي: لا تعطيه بالاً يا سيدي، فإن غريغوري دائم العصبية

فيكتور: بلى يا فاسيلي علي أن أعطيه بالاً، لكن ليس الآن،
فهذا الرجل، يسعى لإطاحة رأسي يوماً ما

فاسيلي: إذاً أنت على علم بمكره؟

فيكتور: بالتأكيد يا فاسيلي، لكن أبي يثق به ثقة عمياء وهذا ما لم استطع إقناع والدي به حتى الآن

دعنا منه الآن، فلتدع أولغا تحضر لي الشاي، ولتضعه في المكتبة، سأذهب لهناك بعد قليل

فاسيلي: ألست متعباً يا سيدي؟

فيكتور: لا على العكس تماماً يا صديقي، أنا بأوج قوتي ونشاطي، في الواقع لن أستطيع النوم، قبل أن أرى أليكسي في ثيابه الجديدة، أريد أيضاً أن أريه المكتبة

سريعاً جهزت أولغا الشاي بالتوت البري للقيصر وأدخلته للمكتبة

دخل فيكتور بعد ذلك، مرتدياً بنطالاً أسود من القماش وقميصاً أبيض مفتوح حتى الصدر، تاركاً خصلاته الذهبية ترتاح على كتفيه، رفع الستائر عن النافذة العملاقة، جلس إلى كرسي البيانو، وأخذ يعزف بشغف وسعادة

أخذ يعزف للحب الجديد، للطائر الصغير الذي دخل هذا القفص معه وحوله إلى واحة من الجنة

ونجوم المساء تتراقص مع حركة أصابعه الخفيفة، بينما الألحان تتردد عبر الرواق الطويل، وتجعل قلب كل من يسمعها يهيم بشغف وسعادة

حتى أن كل مافي القصر قد توقف، وأخذ يستمع لهذه المقطوعة الساحرة، والتي كان يعزفها قلبه أكثر مما تعزفها أصابعه

ثم قُرع الباب، ودلف أليكسي، وتوقف العزف، ووقف العازف مشدوهاً أمام ما تراه عينيه

ضرب قلبه بخفة، وتجمعت الدموع في زاويتي عينيه!

" أجمل مما تخيلت "

يتبع