2: لا ضاد بعد اليوم!
" ما الذي حدث هنا؟ " همست ضاد بصدمةٍ و هي ترى أهالي قريتها على حالٍ مغايرٍ تمامًا، حالهم المخيب للأمل يدعو للخزى حقًا! نزعت العديد من نساء القرية خمارهن و من لم ينزعنه صرن يظهرن نصف شعرهن منه و يدعين هكذا الإيمان و التقوى، بينما تنفذ لمسامعها الكلمات الأجنبية التي يتلفظونها بكل أريحيةٍ إبان سيرها، توقفت عند نفرٍ من الشابات اللاتي كن مقرباتٍ إليها في السابق؛ فهي قد انعزلت تقريبًا عنهن بعد زواجها، رحبت بهن بترددٍ فحدقن بها باستغرابٍ ثم تبادلن النظرات و رددن التحية.
" لمَ نزعتن أخمرتكن؟ "
" لأنها تخفي جمالنا " أجابت إحداهن و كأنه أكثر الأشياء وضوحًا بالكون، ما عادت تتحدث بحياءٍ و رقةٍ كما كانت تفعل سابقًا، أي داءٍ هذا الذي أصابهن؟
" لكن ذلك يخالف تعاليم ديننا " احتجت ضاد و لكن فتاةً أخرى قالت: " و لكن الحجاب لم يذكر يومًا بالقرآن "
ثم تركنها و ذهبن بعيدًا و كأنها مصابةٌ بمرضٍ خطير و هن يخشين أن تصبن بعدوى! أجبرت ضاد نفسها على مواصلة المسير نحو وجهتها لكنها لم تتمكن من تمالك نفسها عندما صادفت بضعًا من طلابها الصغار، هرعت نحوهم و أوقفت اثنين منهم و سألتهم عن تلك الألفاظ التي يتفوهون بها و التي استطاعت تمييزها بسبب مخالطتها للغات الأخرى بحكم عمل والدها، حاول الأطفال تبرير أنفسهم لها و لكنها لم تقتنع.
" و لكن اللغة العربية بها ألفاظٌ أجمل و أكثر إيفاءً للمعنى "
" و لكنها لغةٌ قديمة، ثم هذه الألفاظ هي ما يردده الناس هذه الأيام، إلى اللقاء "
هزت ضاد رأسها نافيةً بقوة، ما هذا الذي يحدث من حولها؟ أقنعت نفسها بترك الأمر لوقتٍ لاحق و عادت للسير متجهةً لعيادة الطبيب، بالكاد أقنعت والدتها بتركها تذهب بمفردها بحجة أن طفليها بحاجةٍ لمن يرعاهما.
.
.
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي
حافظ إبراهيم
.
.
و مرت الأيام و الأسابيع و ضاد تذوي يومًا تلو الآخر، ما عادت تأكل و بالكاد تقوى على الوقوف و في أغلب الأحيان تنسى كيف كانت تكتب أو تقرأ! لم يعلم الأطباء ما بها و لم يتوصلوا لدواء يشفيها و لم يعد أمام والديها سوى الدعاء لها، في بعض الأوقات النادرة عندما كانت تتحسن صحتها و لو بقدرٍ بسيطٍ كانت تنكب على دفترٍ ما تكتب به بلا توقفٍ لساعات دون أن يدري أحدهم ما تدونه به، و في أحد الأيام ذهبت فتاةٌ لمنزل آل لسان العرب و قد أعادت شعرها الأشقر الباهت المجعد للخلف لتبرز ملامحها و قد ازدادت جمالًا بمستحضرات التجميل الخفيفة التي تضعها و لا ننسى فستانها الحريري الفاخر الذي يظهرها من الطبقة الثرية و الأهم من كل ذلك خاتم زواجها اللامع الذي تتوسطه ماسة! لم تقتنع والدة ضاد بأن هذه صديقةٌ لابنتها حقًا لكن بعد ما حدث بالقرية من تغيرات لا تستبعد أن تتأثر صديقات ضاد أيضًا و لأنها تتعلق بأي أملٍ لخروج ضاد من عزلتها لعل ذلك يساهم في تحسن حالتها الصحية أصرت على ابنتها ضاد بأن توافق على لقائها.
دلفت الفتاة لحجرة ضاد بترددٍ فوجدتها تلاعب طفليها بينما يستقر على وسادتها دفترٌ قديم، ألقت التحية بتوترٍ و بالتحية لا أعني تحية الإسلام بل كلمةً أجنبيةً أخرى جعلت ابتسامة ضاد تتلاشى و قد التفتت إليها و ردت باقتضاب: " و عليكم السلام "
" هل.. يمكنني الجلوس؟ " سألت الفتاة مترددةً و رغبةٌ ملحةٌ بالهرب من أمام ضاد تتملكها، ثم لو علمت والدتها بما تفعل فقد تلعنها هي الأخرى! أومأت لها ضاد فجلست الفتاة و أخذت شهيقًا لتهدأ ثم قالت بثبات:
" أنا أدعى سُميا.. و منذ يومين فقط صرت زوجةً لأمير العادلي "
وقع الخبر على ضاد كالصاعقة، هذه الفتاة بها تقريبًا كل ما كان أمير ينتقده في المرأة، و يتركها من أجلها؟ تجمعت الدموع بعينيها و التفتت لطفليها الرضيعين و قبل أن تقوم بطرد سميا قاطعتها قائلة:
" أنا سأرحل أعدكِ و لكن ليس قبل أن تسمعيني "
" لا أريد سماع أي شيء! "
" و لكن عليكِ ذلك، أنا أعرف بشأن مرضك و كل ما يحدث معكِ أيضًا " استحوذت تلك الجملة على كل تركيز ضاد لذلك وافقت على مضض على الاستماع لسميا التي بدأت تفسر لها:
" منذ أكثر من شهرٍ أتت إلى منزلكِ سيدةٌ عجوز، مددتي لها يد العون بكل طيبة قلبٍ فلم تقابل إحسانكِ بإحسان، تلك السيدة كانت والدتي، و قد.. ألقت بلعنةٍ عليكِ، والدتي مشعوذة القرية المنبوذة و قد كنا حتى بضعة أيامٍ فقط نسكن في المنزل البعيد على أطراف القرية، أمير العادلي.. لقد التقيته منذ أن وصل للقرية تقريبًا و بسرعةٍ جدًا وقعت بحبه و لكن هو.. لم يبادلني نفس الشعور، مهما فعلت لذا طلبت نصيحة والدتي، و لكن قبل أن ننفذ خطتنا وقع هو بشباككِ أنتِ يا ضاد، لا يمكنني أن أصف كم أريد الاعتذار منكِ الآن، و لا تدرين كم من مرةٍ تدربت على الاعتذار منكِ في هذه اللحظة، و لكنني لا أستطيع؛ ففي النهاية أنتِ سرقتيه مني! لكنني لم أعنِ يومًا أن تصل الأمور لهذه المرحلة، لطالما حقدت أمي على أهل هذه القرية و أحيانًا يمتد حقدها ليطال العرب جميعًا، لقد بدأت لعنتها بكِ أنتِ ليس من أجلي كما تزعم، فهي رأت في ضيقي منكِ فرصتها للانتقام من الكل فحسب، بل اختارتكِ لأنك الأكثر بلاغةً و فصاحةً بيننا، نفور أمير منكِ كانت لعنةً أعطتها لي والدتي و أنا بنفسي وضعتها عليه، و التغير الحادث في القرية و تشبههم بالغرب هو جزءٌ من لعنتكِ أيضًا، لعنتكِ ستبدأ بسحب مرادفات اللغة منكِ إلى أن تفقدي قدرتكِ على التواصل كليًا ثم.. ستموتين يا ضاد! أنتِ فقط تستغرقين وقتًا أطول من البقية لأنكِ أفصحنا كما قلت سابقًا.. بعدها ستنتقل اللعنة لأهل بيتك ثم القرية و كل من يتحدث العربية من بعدها! حتى أطفالكِ قد ورثوا اللعنة منكِ.. هي ليست واثقةً إن كانت اللعنة ستكون بنفس القوة مع ذلك، لكنهم على الأقل سيعانون من الكثير بسبب لغتهم و هويتهم العربية، نحن سنسافر غدًا مع أمير لأنه يريد أن يعرفني بأهله في المغرب قبل أن ننتقل للعيش ببلاد الأندلس، أتفهم أنكِ تتمنين لو أختفي إلى الأبد الآن، و أعدكِ أنكِ لن تريني ثانيةً "
انسحبت سميا من الغرفة فارةً من نظرات ضاد التي توشك أن تحيي فيها ما يسمى بـ" الضمير " و قد قررت ترك كل هذا خلفها و التركيز على حياتها مع أمير كما نصحتها والدتها، بالنسبة لضاد فتعجز كلماتي المتواضعة و مفرداتها غير المسلوبة عن وصف حالها الآن و كم الأسى الذي تعانيه، أهي جادة؟ ستدمر حضارةً بأكملها فقط لأجل غيرتها على رجلٍ واحد! ثم أتحسب حقًا أن " لعنة " قادرةٌ على إفناء لغة كاللغة العربية؟ هذا هراء! لن تنكر ضاد الخوف على أبنائها و قريتها و كل متحدثي العربية، و لكنها دفعت بخوفها بعيدًا عن ذهنها و انشغلت بالدعاء لهم، ثم أجبرت نفسها على التحامل و ترك كل ذلك خلفها و سجلت كل كلمةٍ قالتها سميا في دفترها، هذا الكتاب سيكون لأبنائها و أحفادها من بعدهم و هكذا، تشبث فؤادها بكل ما تبقى لها من قوة في كلمات سميا التي تبعث فيها أملًا أن سحر والدتها ليس قويًا كفايةً و أنه لن يمتد لجميع من تحبهم.
في الأيام التالية عادت ضاد لحالتها الأولى و أسوأ حتى، في نفس الوقت الذي أشيعت فيه الإشاعة- بفعل الساحرة- بأن جميع متحدثي العربية السليمة هالكون لا محالة! و ما هي سوى أيام معدودة حتى استسلم الجميع و قد هاجر بعضهم لبلاد الغرب و آخرون امتنعوا عن تعليم أبنائهم لغتهم الأم، و كلٌ منهم يحارب اللغة العربية بما يراه مناسبًا.. يقتلون لغتهم بأيديهم، هويتهم التي كانت سبب عزتهم بين الناس، حتى أن أحدهم لم يفكر بمواجهة الساحرة بدلًا من ذلك! و في أحد الأيام استعادت ضاد كامل نشاطها و قوتها.. أمضته في الصلاة و الدعاء لطفليها، و توديعهما بالإضافة لأهلها أيضًا، ثم خرجت لتستنشق بعض الهواء النقي و لتسترجع ذكرياتها في القرية قبل أن تعود لمنزلها خائرة القوى و قد عاد لها المرض و بحلول الصباح كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة!
.
.
أنا لا أكتب حتى أشتهر.. لا و لا أكتب كي أرقى القمر
أنا لا أكتب إلا لغة.. في فؤادي سكنت منذ الصغر
لغة الضاد و ما أجملها.. سأغنيها إلى أن أندثر
سوف أسري في رباها عاشقًا.. أنحت الصخر و حرفي يزدهر
لا أبالي بالذي يجرحني.. بل أرى في خدشه فكرا نضر
أنا جندي و سيفي قلمي.. و حروف الضاد فيها تستقر
سيخوض الحرب حبر قلمي.. لا يهاب الموت لا يخشى الخطر
قلبي المفتون فيكم أمتي.. ثمل في ودكم حد الخدر
أنا كالطير أغني ألمي.. و قصيدي عازف لحن الوتر
صباح الحكيم
.
.
و تمضي قرون و مازال الجهلاء يحاولون إطفاء نور العرب و طمس هويتهم و اتهام لغتهم بالضعف و التخلف، فها هم التتار يلقون بكتب لا تقدر بثمن في المياه بكل همجية فقط لأن عقليتهم البسيطة عجزت عن استيعاب قدر العلم و المعرفة و لم تتح لهم بصيرتهم العمياء سوى رؤية أراضٍ لاستعمارها و ممالك لتدميرها و مياهًا تقف حائلًا بينهم و بينها، و ها هي الحملة الفرنسية تجاهد لمحو الهوية العربية من الجزائر بعدما تعدت عليهم بالقتل و التعذيب و التجويع و التشريد لعجزهم عن هزيمتهم عسكريًا بعدلٍ و إنصاف فمنعت تدريس العربية و تاريخ العرب و القرآن حتى آمن بعض الجزائريين أن عزتهم في تعلم اللغة الفرنسية كما فرض عليهم سابقًا، و حتى عندما تحررت الجزائر مازالت ترى في عدم إتقان الفرنسية تخلفًا جاعلةً من لغتها العربية تمتزج بالفرنسية بشكلٍ يضر برونق العربية و يصعب تواصلهم مع بقية العرب، و لا نغفل عن ذكر أعدائنا الذين لطالما حاولوا إنهاء الوجود العربي للاستيلاء على بلاد العرب و خيراتها مثل الإنجليز و الأمريكيين و الفرنسيين و أهمهم إسرائيل التي لا تكل و لا تمل من الصدام مع العرب تحسب نفسها دولةً عريقةً ذات هوية و لغة يحق لها الاستيلاء على أي أرض تشاء، بل و تمادت في كبرها و وحشيتها باستيلائها على غزة بقيامها بعدة مذابح و مازال عملها جاريًا على تطهير الوجود العربي الإسلامي كليًا من فلسطين التي تحفل أيامها بتطاير الرصاص و سيل الدماء و انهمار الدموع و سقوط الشهداء و الدعاء للنجاة من قصف الأعداء، و العرب متنازعون متفرقون لا ينظر كلٌ منهم إلا لمصلحته و لا سيما الحكام و معاونيهم فحتى و إن كان الحاكم صالحًا يسيء لصورته أعوانه الطالحون و تهاونه في تخليص البلاد من أطماعهم، منذ أن رسمت الحدود و تعددت اللهجات ما عاد العرب كما كانوا وحدةً واحدةً لا يجرؤ أيٌّ كان على التفكير فقط بمسهم بسوء، لا يسعني تصديق أن ما نراه اليوم هو الوطن نفسه الذي لطالما أذهل العالم بمختلف الأزمان و على مر العصور، الذي وقف يدًا بيدٍ ضد المعتدين.. و أقرب مثالٍ على ذلك تعاون مصر و سوريا ضد إسرائيل بحرب عام ألفٍ و تسعمائة و ثلاثٍ و سبعين بمعاوناتٍ من العراق و الجزائر و ليبيا و الأردن و المغرب و السودان و كويت و تونس ، و حين تدخلت السعودية و دول الخليج بوقف ضخ البترول العربي لإسرائيل و الولايات المتحدة لمساندتها إياها و الذي كان أحد عوامل انتصار العرب، أين ذهبت كل تلك البطولات؟ أكان الزمن أقوى منا ليمحو منا كل الحب و المودة و البطولة التي تميزنا بها نحن العرب؟ أبعض الكلمات الأجنبية أفقدتنا الاحترام لذاتنا؟ أنستنا ديننا و هويتنا بعدما كان الغرب قديمًا يحرص على تعلم الكلمات العربية ليتباهى بقدر علمه بها أمام أقرانه؟ فانظروا إلينا الآن لا لغة، لا دين، لا احتشام، لا مبالاة- إلا من رحم ربي- و أجيبوني متى سنعود لسابق عهدنا؟ و كم يلزمنا لندرك واقعنا؟ و إلى كم عامٍ سنحتاج لنقرر تغييره للأفضل؟ و إلى كم قرنٍ سنحتاج لنتمكن من تغييره فعليًا؟ لغتنا هي هويتنا، لغتنا هي نحن، ما لم نصنها ينتهِ وجودنا!
.
.
لا تقل عن لغتي أم اللغات.. إنها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أم لم تلد.. لذويها العرب غير المكرمات
إن ربي قد خلق الضاد و قد.. خصها بالحسنات الخالدات
إن يوما تجرح الضاد به.. هو و الله لكم يوم الممات
أيها العرب إن ضاقت بكم.. مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد و إن.. دحرجوكم معها في الفلوات
وديع عقل
1
2
3
4
5
6
7
8
" لمَ نزعتن أخمرتكن؟ "
" لأنها تخفي جمالنا " أجابت إحداهن و كأنه أكثر الأشياء وضوحًا بالكون، ما عادت تتحدث بحياءٍ و رقةٍ كما كانت تفعل سابقًا، أي داءٍ هذا الذي أصابهن؟
" لكن ذلك يخالف تعاليم ديننا " احتجت ضاد و لكن فتاةً أخرى قالت: " و لكن الحجاب لم يذكر يومًا بالقرآن "
ثم تركنها و ذهبن بعيدًا و كأنها مصابةٌ بمرضٍ خطير و هن يخشين أن تصبن بعدوى! أجبرت ضاد نفسها على مواصلة المسير نحو وجهتها لكنها لم تتمكن من تمالك نفسها عندما صادفت بضعًا من طلابها الصغار، هرعت نحوهم و أوقفت اثنين منهم و سألتهم عن تلك الألفاظ التي يتفوهون بها و التي استطاعت تمييزها بسبب مخالطتها للغات الأخرى بحكم عمل والدها، حاول الأطفال تبرير أنفسهم لها و لكنها لم تقتنع.
" و لكن اللغة العربية بها ألفاظٌ أجمل و أكثر إيفاءً للمعنى "
" و لكنها لغةٌ قديمة، ثم هذه الألفاظ هي ما يردده الناس هذه الأيام، إلى اللقاء "
هزت ضاد رأسها نافيةً بقوة، ما هذا الذي يحدث من حولها؟ أقنعت نفسها بترك الأمر لوقتٍ لاحق و عادت للسير متجهةً لعيادة الطبيب، بالكاد أقنعت والدتها بتركها تذهب بمفردها بحجة أن طفليها بحاجةٍ لمن يرعاهما.
.
.
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي
حافظ إبراهيم
.
.
و مرت الأيام و الأسابيع و ضاد تذوي يومًا تلو الآخر، ما عادت تأكل و بالكاد تقوى على الوقوف و في أغلب الأحيان تنسى كيف كانت تكتب أو تقرأ! لم يعلم الأطباء ما بها و لم يتوصلوا لدواء يشفيها و لم يعد أمام والديها سوى الدعاء لها، في بعض الأوقات النادرة عندما كانت تتحسن صحتها و لو بقدرٍ بسيطٍ كانت تنكب على دفترٍ ما تكتب به بلا توقفٍ لساعات دون أن يدري أحدهم ما تدونه به، و في أحد الأيام ذهبت فتاةٌ لمنزل آل لسان العرب و قد أعادت شعرها الأشقر الباهت المجعد للخلف لتبرز ملامحها و قد ازدادت جمالًا بمستحضرات التجميل الخفيفة التي تضعها و لا ننسى فستانها الحريري الفاخر الذي يظهرها من الطبقة الثرية و الأهم من كل ذلك خاتم زواجها اللامع الذي تتوسطه ماسة! لم تقتنع والدة ضاد بأن هذه صديقةٌ لابنتها حقًا لكن بعد ما حدث بالقرية من تغيرات لا تستبعد أن تتأثر صديقات ضاد أيضًا و لأنها تتعلق بأي أملٍ لخروج ضاد من عزلتها لعل ذلك يساهم في تحسن حالتها الصحية أصرت على ابنتها ضاد بأن توافق على لقائها.
دلفت الفتاة لحجرة ضاد بترددٍ فوجدتها تلاعب طفليها بينما يستقر على وسادتها دفترٌ قديم، ألقت التحية بتوترٍ و بالتحية لا أعني تحية الإسلام بل كلمةً أجنبيةً أخرى جعلت ابتسامة ضاد تتلاشى و قد التفتت إليها و ردت باقتضاب: " و عليكم السلام "
" هل.. يمكنني الجلوس؟ " سألت الفتاة مترددةً و رغبةٌ ملحةٌ بالهرب من أمام ضاد تتملكها، ثم لو علمت والدتها بما تفعل فقد تلعنها هي الأخرى! أومأت لها ضاد فجلست الفتاة و أخذت شهيقًا لتهدأ ثم قالت بثبات:
" أنا أدعى سُميا.. و منذ يومين فقط صرت زوجةً لأمير العادلي "
وقع الخبر على ضاد كالصاعقة، هذه الفتاة بها تقريبًا كل ما كان أمير ينتقده في المرأة، و يتركها من أجلها؟ تجمعت الدموع بعينيها و التفتت لطفليها الرضيعين و قبل أن تقوم بطرد سميا قاطعتها قائلة:
" أنا سأرحل أعدكِ و لكن ليس قبل أن تسمعيني "
" لا أريد سماع أي شيء! "
" و لكن عليكِ ذلك، أنا أعرف بشأن مرضك و كل ما يحدث معكِ أيضًا " استحوذت تلك الجملة على كل تركيز ضاد لذلك وافقت على مضض على الاستماع لسميا التي بدأت تفسر لها:
" منذ أكثر من شهرٍ أتت إلى منزلكِ سيدةٌ عجوز، مددتي لها يد العون بكل طيبة قلبٍ فلم تقابل إحسانكِ بإحسان، تلك السيدة كانت والدتي، و قد.. ألقت بلعنةٍ عليكِ، والدتي مشعوذة القرية المنبوذة و قد كنا حتى بضعة أيامٍ فقط نسكن في المنزل البعيد على أطراف القرية، أمير العادلي.. لقد التقيته منذ أن وصل للقرية تقريبًا و بسرعةٍ جدًا وقعت بحبه و لكن هو.. لم يبادلني نفس الشعور، مهما فعلت لذا طلبت نصيحة والدتي، و لكن قبل أن ننفذ خطتنا وقع هو بشباككِ أنتِ يا ضاد، لا يمكنني أن أصف كم أريد الاعتذار منكِ الآن، و لا تدرين كم من مرةٍ تدربت على الاعتذار منكِ في هذه اللحظة، و لكنني لا أستطيع؛ ففي النهاية أنتِ سرقتيه مني! لكنني لم أعنِ يومًا أن تصل الأمور لهذه المرحلة، لطالما حقدت أمي على أهل هذه القرية و أحيانًا يمتد حقدها ليطال العرب جميعًا، لقد بدأت لعنتها بكِ أنتِ ليس من أجلي كما تزعم، فهي رأت في ضيقي منكِ فرصتها للانتقام من الكل فحسب، بل اختارتكِ لأنك الأكثر بلاغةً و فصاحةً بيننا، نفور أمير منكِ كانت لعنةً أعطتها لي والدتي و أنا بنفسي وضعتها عليه، و التغير الحادث في القرية و تشبههم بالغرب هو جزءٌ من لعنتكِ أيضًا، لعنتكِ ستبدأ بسحب مرادفات اللغة منكِ إلى أن تفقدي قدرتكِ على التواصل كليًا ثم.. ستموتين يا ضاد! أنتِ فقط تستغرقين وقتًا أطول من البقية لأنكِ أفصحنا كما قلت سابقًا.. بعدها ستنتقل اللعنة لأهل بيتك ثم القرية و كل من يتحدث العربية من بعدها! حتى أطفالكِ قد ورثوا اللعنة منكِ.. هي ليست واثقةً إن كانت اللعنة ستكون بنفس القوة مع ذلك، لكنهم على الأقل سيعانون من الكثير بسبب لغتهم و هويتهم العربية، نحن سنسافر غدًا مع أمير لأنه يريد أن يعرفني بأهله في المغرب قبل أن ننتقل للعيش ببلاد الأندلس، أتفهم أنكِ تتمنين لو أختفي إلى الأبد الآن، و أعدكِ أنكِ لن تريني ثانيةً "
انسحبت سميا من الغرفة فارةً من نظرات ضاد التي توشك أن تحيي فيها ما يسمى بـ" الضمير " و قد قررت ترك كل هذا خلفها و التركيز على حياتها مع أمير كما نصحتها والدتها، بالنسبة لضاد فتعجز كلماتي المتواضعة و مفرداتها غير المسلوبة عن وصف حالها الآن و كم الأسى الذي تعانيه، أهي جادة؟ ستدمر حضارةً بأكملها فقط لأجل غيرتها على رجلٍ واحد! ثم أتحسب حقًا أن " لعنة " قادرةٌ على إفناء لغة كاللغة العربية؟ هذا هراء! لن تنكر ضاد الخوف على أبنائها و قريتها و كل متحدثي العربية، و لكنها دفعت بخوفها بعيدًا عن ذهنها و انشغلت بالدعاء لهم، ثم أجبرت نفسها على التحامل و ترك كل ذلك خلفها و سجلت كل كلمةٍ قالتها سميا في دفترها، هذا الكتاب سيكون لأبنائها و أحفادها من بعدهم و هكذا، تشبث فؤادها بكل ما تبقى لها من قوة في كلمات سميا التي تبعث فيها أملًا أن سحر والدتها ليس قويًا كفايةً و أنه لن يمتد لجميع من تحبهم.
في الأيام التالية عادت ضاد لحالتها الأولى و أسوأ حتى، في نفس الوقت الذي أشيعت فيه الإشاعة- بفعل الساحرة- بأن جميع متحدثي العربية السليمة هالكون لا محالة! و ما هي سوى أيام معدودة حتى استسلم الجميع و قد هاجر بعضهم لبلاد الغرب و آخرون امتنعوا عن تعليم أبنائهم لغتهم الأم، و كلٌ منهم يحارب اللغة العربية بما يراه مناسبًا.. يقتلون لغتهم بأيديهم، هويتهم التي كانت سبب عزتهم بين الناس، حتى أن أحدهم لم يفكر بمواجهة الساحرة بدلًا من ذلك! و في أحد الأيام استعادت ضاد كامل نشاطها و قوتها.. أمضته في الصلاة و الدعاء لطفليها، و توديعهما بالإضافة لأهلها أيضًا، ثم خرجت لتستنشق بعض الهواء النقي و لتسترجع ذكرياتها في القرية قبل أن تعود لمنزلها خائرة القوى و قد عاد لها المرض و بحلول الصباح كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة!
.
.
أنا لا أكتب حتى أشتهر.. لا و لا أكتب كي أرقى القمر
أنا لا أكتب إلا لغة.. في فؤادي سكنت منذ الصغر
لغة الضاد و ما أجملها.. سأغنيها إلى أن أندثر
سوف أسري في رباها عاشقًا.. أنحت الصخر و حرفي يزدهر
لا أبالي بالذي يجرحني.. بل أرى في خدشه فكرا نضر
أنا جندي و سيفي قلمي.. و حروف الضاد فيها تستقر
سيخوض الحرب حبر قلمي.. لا يهاب الموت لا يخشى الخطر
قلبي المفتون فيكم أمتي.. ثمل في ودكم حد الخدر
أنا كالطير أغني ألمي.. و قصيدي عازف لحن الوتر
صباح الحكيم
.
.
و تمضي قرون و مازال الجهلاء يحاولون إطفاء نور العرب و طمس هويتهم و اتهام لغتهم بالضعف و التخلف، فها هم التتار يلقون بكتب لا تقدر بثمن في المياه بكل همجية فقط لأن عقليتهم البسيطة عجزت عن استيعاب قدر العلم و المعرفة و لم تتح لهم بصيرتهم العمياء سوى رؤية أراضٍ لاستعمارها و ممالك لتدميرها و مياهًا تقف حائلًا بينهم و بينها، و ها هي الحملة الفرنسية تجاهد لمحو الهوية العربية من الجزائر بعدما تعدت عليهم بالقتل و التعذيب و التجويع و التشريد لعجزهم عن هزيمتهم عسكريًا بعدلٍ و إنصاف فمنعت تدريس العربية و تاريخ العرب و القرآن حتى آمن بعض الجزائريين أن عزتهم في تعلم اللغة الفرنسية كما فرض عليهم سابقًا، و حتى عندما تحررت الجزائر مازالت ترى في عدم إتقان الفرنسية تخلفًا جاعلةً من لغتها العربية تمتزج بالفرنسية بشكلٍ يضر برونق العربية و يصعب تواصلهم مع بقية العرب، و لا نغفل عن ذكر أعدائنا الذين لطالما حاولوا إنهاء الوجود العربي للاستيلاء على بلاد العرب و خيراتها مثل الإنجليز و الأمريكيين و الفرنسيين و أهمهم إسرائيل التي لا تكل و لا تمل من الصدام مع العرب تحسب نفسها دولةً عريقةً ذات هوية و لغة يحق لها الاستيلاء على أي أرض تشاء، بل و تمادت في كبرها و وحشيتها باستيلائها على غزة بقيامها بعدة مذابح و مازال عملها جاريًا على تطهير الوجود العربي الإسلامي كليًا من فلسطين التي تحفل أيامها بتطاير الرصاص و سيل الدماء و انهمار الدموع و سقوط الشهداء و الدعاء للنجاة من قصف الأعداء، و العرب متنازعون متفرقون لا ينظر كلٌ منهم إلا لمصلحته و لا سيما الحكام و معاونيهم فحتى و إن كان الحاكم صالحًا يسيء لصورته أعوانه الطالحون و تهاونه في تخليص البلاد من أطماعهم، منذ أن رسمت الحدود و تعددت اللهجات ما عاد العرب كما كانوا وحدةً واحدةً لا يجرؤ أيٌّ كان على التفكير فقط بمسهم بسوء، لا يسعني تصديق أن ما نراه اليوم هو الوطن نفسه الذي لطالما أذهل العالم بمختلف الأزمان و على مر العصور، الذي وقف يدًا بيدٍ ضد المعتدين.. و أقرب مثالٍ على ذلك تعاون مصر و سوريا ضد إسرائيل بحرب عام ألفٍ و تسعمائة و ثلاثٍ و سبعين بمعاوناتٍ من العراق و الجزائر و ليبيا و الأردن و المغرب و السودان و كويت و تونس ، و حين تدخلت السعودية و دول الخليج بوقف ضخ البترول العربي لإسرائيل و الولايات المتحدة لمساندتها إياها و الذي كان أحد عوامل انتصار العرب، أين ذهبت كل تلك البطولات؟ أكان الزمن أقوى منا ليمحو منا كل الحب و المودة و البطولة التي تميزنا بها نحن العرب؟ أبعض الكلمات الأجنبية أفقدتنا الاحترام لذاتنا؟ أنستنا ديننا و هويتنا بعدما كان الغرب قديمًا يحرص على تعلم الكلمات العربية ليتباهى بقدر علمه بها أمام أقرانه؟ فانظروا إلينا الآن لا لغة، لا دين، لا احتشام، لا مبالاة- إلا من رحم ربي- و أجيبوني متى سنعود لسابق عهدنا؟ و كم يلزمنا لندرك واقعنا؟ و إلى كم عامٍ سنحتاج لنقرر تغييره للأفضل؟ و إلى كم قرنٍ سنحتاج لنتمكن من تغييره فعليًا؟ لغتنا هي هويتنا، لغتنا هي نحن، ما لم نصنها ينتهِ وجودنا!
.
.
لا تقل عن لغتي أم اللغات.. إنها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أم لم تلد.. لذويها العرب غير المكرمات
إن ربي قد خلق الضاد و قد.. خصها بالحسنات الخالدات
إن يوما تجرح الضاد به.. هو و الله لكم يوم الممات
أيها العرب إن ضاقت بكم.. مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد و إن.. دحرجوكم معها في الفلوات
وديع عقل
1
2
3
4
5
6
7
8
Коментарі