مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الثالث
-"توقفا عن حركاتكُم الطفولية ومارِسا عملكُما، بـالأخصِ أنتَ هاري.. أصبحت لا تعمل بـجدٍ بـالآونة الأخيرة كما يُفترض عليكَ" قالت العميلة موجهة حديثها لـكلا من هاري وآيدا.

حينها نفر هاري ذراعه بـإنزعاج عن آيدا والذي بدا علي ملامح وجهه بـالمرة. لم يكترث لـلإعتذارِ للـعميلة، ولكنه سحبَ الصندوق المُعبأ بـالكُتبِ رغمًا عنه مُستديرًا للـداخل بينما تـتبعهُ آيدا.

"توقفِ عن سذاجتكِ والتتبُع وراء خطواتي!" أردف هاري بـنفاذِ صبر صارًّا علي أسنانهِ، بعدما شعر بـمُلاحقة آيدا وراءه.

"أنتَ لست مُجبرًا علي التعاملِ معي بـتلكَ الطريقة السخيفة! يكفي أنها خطيئتك منذُ البداية، ويجدر بكَ تحمُل نتائجها رغمًا عنكَ" أردفت بـحنقٍ مصحوب بـنظرةٍ ثاقبة، بعدما أعترضت طريقهُ لـيقف هو.

"أهو يدفع لكِ أيضًا حتي كُلما رأيتيني تُذكرينني بـذلكَ مرارًا؟ أعقلكِ فارغ تمامًا لـتلكَ الدرجة؟!" قال ساخرًا في نهاية عبارته.

"لم تُخطئ هي عندما لقبتك بـأنكَ تُشبه أمثالي، مُلطّخ بـالسوء، وهذا ما أنتَ تستحقهُ، وسعيدة لـجعلكَ أنكَ لن تستطع أن تفُر من بين أسناني، لأن ليست لديكَ القوة لـفعلِها" قالت بـخُبث كـشخصيتها تمامًا، تعلم جيدًا كيف تُثير غضبه الذي يشتعل بـسهولة والذي تجدهُ ملاذًا لها.

"أنا لا أشبهُ أحدًا، لأن إن فكّرتي جيدًا لن تجدي أحدًا يشبه أمثالكِ ووقاحتكِ" نظراته الثاقبة ونبرته العنيفة جعلتها تتصنم، ويستأنف هو بـحنق:"أغربي عن وجهي الآن!"، لـتُغادرهُ آيدا هامسةً بـ:"وقح"

قذفَ هاري الصندوق علي الأرض لـيُصدر صريرًا عبّر عن غضبهِ الذي تمكّن منهُ كليًا، قلبه الذي كاد يخرج من ضلوعهِ بـكثرة نبضاته، رغبتهُ الجامحة والتي لا يستطيع أحيانًا السيطرة عليها في أن يُحطم كل ما حوله إلي أشلاءٍ، وكـذلكَ آيدا إن كانت مصنوعة من الزُجاج.

جلسَ علي الأرض بـجسده العريض بين بُنايات الكتب الضيقة. بعدها بـقليل، نظر جانبًا حيثُ صندوق الكتب لـيسحبهُ بـمللٍ، يأخُذ فكرة عن بيانات الكُتب لـيتمكن من تصنيفهم علي الرفوف.

لاحظ كُتب تلك المدّعية 'روزينا' التي تعتلي الصندوق من ضمن البقيّة، حيثُ تغلّب عليها نوع الروايات الرومانسيّة الدراميّة وأدب المُراهقين، بعدما مسحَ بيده غُبار التُراب الذي غلّف أغلفة مُعظمهم دالاً علي عدم قراءتها لهم.

بعد أن رصّ هاري الكتب بـمكانها، خرج من المكتبة حيثُ الحديقة الخلفية، رغم أن نوبة عمله لم تنتهي بعد، ولكنهُ يخالفها كـعادتهُ. جلسَ تحت شجرتهُ المُعتادة مستندًا عليها..

أخرجَ مذكرتهُ الحمراء الجلديّة من معطفه الطويل فاتحًا إحدي صفحاتها البيضاء. بدأ بـنقشِ خطوطٍ عشوائية مُتداخلة في بعضها بـقلمهِ الأسود. إحدي طُرقه للـتخفيف عن غضبهِ الحادّ، فـهو لايزال تحت تأثيره، وشفتيه التي تحطّمت من كثرة الضغط عليها.

قاطعهُ صوت رنين هاتفه لـيخرج إياه بـتنهد، حيثُ أمتلأت الشاشة بـإسمِ 'السيدة/سكارليت' بـصفتِها مسؤولة المكتبة. أجاب رغم معرفته أنه سـيتوبخ لـفعلته.

"أين أنتَ هاري؟ أتكرر خطأك مجددًا؟!" صدع صوتها من الناحية الأُخري، لـيُبرر هاري:"أنا لم أُغادر، أنا في حديقة المكتبة.." قال وهو لازال ينقش علي الورقةِ.

"لا يُهمني الآن، عملك وتلتزم به، وإن لم تستطع تحمُل المسؤولية فـإستقل من نفسكَ!" أردفت السيدة لـيُدحرج عيناه بـضجرٍ،
وأستأنفت حديثُها:"بعد دقائق، سـنقيمُ ندوة تشمل أعضاء المكتبة للـمُناقشة في موضوعٍ ما مثلما نفعل كل فترة. أدعوهم، حيث القاعة في الطابق العلوي" أثناء حديثُها رفع هاري نظره عن مُذكرتهِ لـيلمح بـالصُدفة روز التي تجلسُ تحت إحدي الأشجارِ ضامّة رُكبتيها لـصدرها تُحدّق في الأرضِ بـشرود ولا تبدو علي ما يُرام.

"حسنًا، فهمت" أجاب هاري بـنظرة المُعلق نحوها بـتعجبٍ، ثم أُغلقَت المكالمة بعد وداعهما.

أستقامَ هاري من مكانه مُتجهًا نحوها بعدما وضع حاجاته ويداه أيضًا بـجيوبِ معطفه.

"مرحبًا؟" قاطع شرودها بـتحمحمٍ مُلقيًا تحيتهُ، قبل أن يجثو علي إحدي ركبتيهِ لـيكون في مستوي جسدها الهزيل المُبعثر بـجانبه أكواب القهوة الكرتونية التي شربتها للـتو.

أستأنف حديثهُ لـسكوتِها بـعدم إلقاءِ التحيّة:"حسنًا، بعد قليل سـتُقام ندوة لـلأعضاءِ بـالداخل للـتناقشِ في موضوعٌ ما، لذا أنا أدعوكِ للـحضور بدلاً من جلوسكِ هكذا.." قالها وهو يطّلع علي ملامحِها التي لم تُشكل أية تعبيرات سوي أنها رمقتهُ بـعينيها قائلةً بـنبرةٍ مبحوحة:
"بـصفتك مَن لـتدعوني للـداخل، أو للـتحدثِ معي أصلاً؟!" علم جيدًا علام تقصُد بـسُخريتها الواضحة في نبرتِها.

أطلق هو تنهيدة عالية ثم ردَ:"أُقسم، لستُ في تحمل الجدال مع أحدٍ، ولم آتي لأشكّل أحاديث معكِ، ولكنني أدعوكِ بـصفتي عاملٌ بـتلكَ المكتبة" صرّح بـبرودٍ مُصطنع نافيًا كل توقُعاتها.

"ألا تري سواي لـتدعوه؟" حاولت أستفزازهُ كما يستحق ولكنها فشلت..

قال بـإستخفافٍ وهو يُمرر أنظارهُ علي الحديقة:"إنهُ كـذلك، لا يوجد سواكِ هُنا.." صرّح لـيأتها قليلٌ من الخزي.

"الحديقة خالية غير عادتها تمامًا، ولكنها غير نظيفة. لذا، أنا أدعوكِ وبـشدة، لـربما يُعلمانكِ واجب النظافة" قصد هاري مُشيرًا علي أكوابِ القهوة خاصتها، ثم أستقام لـصوبِ المكتبة تاركًا إياها ترمقهُ بـحدة مع صرير أسنانِها بعدما أثار أستفزازها وبـشدة.

وعلي أثرِ ذلك، نهضت هي الأُخري تجاه المكتبة، فقط لـتُراضي شعور الغيظ الذي أتاها لـوهلةٍ بعدما رمَت أكوابها في المُخلفاتِ حسب قولهِ..

صادف طريقها نحو الصعود للـصالة بـتلكَ وجهها المُتعكر آيدا التي نظرت لها بـقرفٍ. جلست روز بـمؤخرة القاعة مع الحاضرين، غير عابئة لِـما يحدُث أو لأصواتِ صخبهم المزعج، ولكن ما أثارَ أنتباهها أن كلا من هاري وآيدا غير جالسين بـجانبِ بعضهم كما تخيّلت.. هي لازالت تعبأ لهُما بين أفكارِ عقلها المُزعجة.

بعد ثوانٍ، دخلت سيدة في مُنتصف الخمسينيات بـخطواتِها المهيبة التي تسببت في صمت الحاضرين..

صعدت علي المنصةِ، ثم مهّدت قائلةً في المذياع:"مرحبًا. بدايةً أقدِّر حضوركم جميعًا. أنا السيدة سكارليت مسؤولة تلكَ المكتبة. سـأُقدمُ بـنفسي تلكَ الندوة اليوم كما نعتادُ بين الحين والآخر.." قالت السيدة بـنبرتِها وملامحِها الجديّة.

وأستأنفت حديثها:"وقبل أن نُشرع في الندوة. كـما تعلمون، أن مكتبة لندن الحديثة لا تقتصرُ علي قراءة الكُتب فقط، وإنما تحوي أيضًا علي الوصولِ لـبعض الوثائق والمطبوعات، والخرائط،و شرائح الفيديو، والندوات المختلفة لـتزويدكم بـالمعلوماتِ الكافية.." صرّحت السيدة لـتتعمقَ روز في مقعدِها بـشعور الملل الأولي..

وواصلت:"وبُناءً علي ذلك، سـنتحدثُ اليوم عن 'الرضا النفسي والسعادة الداخليّة' إحدي موضوعات التنمية البشرية" قالت السيدة جعلت بعضهم يعتدل بـإهتمام في جلسته، وجعلت روز تضحك بـسخرية داخلها تزامُنًا مع إطلاق هاري لـتنهيدة عالية جسّدت ضيق نفسه.

أخذت السيدة سكارليت في الحديث لـدقائق.
وفي ملل، أدار هاري رأسهُ لـيُلاحظ بعضهم صبّ أهتمامه علي كلامها، والآخر أخدهُ الشرود بعيدًا، لطالما كان يُحب رؤية ملامح وجوههم الصامتة لـيضحك عليها..
صادفه روز التي بدا علي وجهها الضيق والإنزعاج، ثم ألتفتت ناظرة لهُ بـطرف عينيها بعدما أبتسم لها ساخرًا لـكونها حضرت علي أساس كلامه،
وعلي أثرِ ذلك، ألتفتت آيدا للـوراء لـحيثُ أبتسم هاري لـترمق روز بـعينيها الحادتين.

نفسيتها لم تتحمل نظرتهم لها، ولا حتي الكلام الذي تسمعهُ أذناها الذي يُناقض نفسها تمامًا.. غير قادرة علي الإتعاظِ لـسواد حياتها.. أفكارها لعنت مشاعرها المُغتاظة بـسبب حضورها لـذلك المكان دون تفكير.

ضاق صدرها أكثر من الـلازم مُراكمًا ما حدث داخل المكتبة ولـرؤية مَن لا تـتمني رؤيتهم. منعها الضعف للـخروج وسط الندوة. حينها تمكّن البكاء منها في صمتٍ مع تنهيداتٍ طفيفة تُشهق جسدها بينما دفنت وجهها بين ذراعها علي ظهر المقعد الفارغ الذي أمامها.

أن تكون خاضعًا للـبكاء بـأقلِ سبب أو دون سبب.. فقط لأنكَ مريض إكتئاب.

 ̄ ̄ ̄

-في نفس ذلكَ المكان علي ضفّة النهر قرابة منتصف اللّيل، ورغم برودة الجو.
تجلس روز مُستلقية علي ظهرِها بـإرهاقٍ تنظر للـسماءِ الكاحلة ونجومِها التي تُنقطها بـضيّها الطفيف.
لـرُبما وجدت قليلاً من الإريحيّة بـذلكَ المكان المُموَج بـالماءِ رغم ما كانت سـتفعلهُ سابقًا.

ولكن لازال عقلها في ضيق من النفس، والإفتقار للـطاقة، وقلة الشغف، فوق كل هذا ألمُ قلبها وأفكارها السوداوية من سلبياتِ كل شئ،
والذين لن تتحرر منهم إلا عندما تـتعالج، وهذا ما أيقنته مؤخرًا.
هي في حاجة ماسّة بـأن أحدًا يأخذ بـيدها لـلأمام يُشعرها بـقليلٍ من الإهتمام للـتخلصِ من كل هذا لأن وحدها لن تكفي، وحقيقة أنها وحيدة لن تتغير. بعيدًا عن محاولات أمها معها بـإسلوبِها العنيف.

تتناغم ضرب أوتار الجيتار تناغُمًا مع أفكارِها، وبعد محاولتها لـتوقف صخب عقلها أعتدلت مُلتفتة لـناحية مصدر الصوت الذي أثار تعجُبها في زيّه المُتخفي، وأنهُ تقريبًا لا يظهر سوي في الليالِ التعيسة..

في تردد، أقتربت منهُ قليلاً، وبعد أن توقف عن العزفِ قالت بـقلقٍ:"عزفُكَ جميل!" هو كـذلكَ بـالفعل رغم سماعها لـبعض مقطوعاته الصغيرة، سمع هو لـيؤمي بـخفة لـتشُك هي أنه أبكم.

ثم أنتهزت الفُرصة قائلةً بـنبرةٍ مؤلمة:"عندما توجد محاسن في الشخص أذكُرها.. أنا لستُ سيئة في كل الحالات.." نظرت لأصابعها التي تعبث بهُما، أما هو سمع دون رد، وهذا ما أراحها أكثر حتي لا تدخلُ في جدال من طرفين، ولكن هذا في حدّ ذاته رائعًا كون روز تـتحدث لأحدٍ.

"أنتَ تأتي لـهُنا كل يوم؟" سألت روز تحاول إيجاد أيّة ملامح لـوجهه التي غطّها الظلام والوشاح أيضًا، لـيُجيب هو مُشيرًا بـيده بـ'أحيانًا'، لـتومئ له مُستنتجة أنهُ يأتي لـهنا عندما تسوء حالته وفقًا لـمعزوفاتهِ الحزينة.

"وكـأن هذا أمر إعتيادي علي الحياة، إن عشت بـسعادةٍ مطلقة لا تُعتبر من إحدي أبناءها. فـهي حتمًا سـتُشعركَ بـالحزنِ والألم إلي أبعد الحدود بين طُرقها المختلفة.." قالت زافرةً بـضحكةٍ ساخرة ويشتعل بـداخلِها الألم أكثر.

ختمت روز ذلك الحديث الصغير قبل أن تستقيم للـمغادرة قائلةً:"شكرًا لكَ" أخبرت بـإبهامٍ مُمتنة لِـما قدمه لها من أشياءٍ بسيطة، كـضربِ الأوتار وإفاقتها من الإقدام علي الإنتحارحتي وإن كان غير قاصدًا، وشعورها أنها ليست حزينة وحدها.

ولكن لـحسنِ الحظ، أنها لم تخطط لإنتحارها، لأنها إن كانت تنوي فـكانت سـتفعلُها حتمًا.

 ̄ ̄ ̄

-دخل هاري منزله الصغير بـإرهاقٍ بعد نوبة عمله التي تخطت ساعاتها المُحددة. خلع سترته وبـندانتهِ التي تقيّد خصلات شعرهُ الملفوف، ثم رمي بـجسده علي الفراش كـجثةٍ هامدة.

أخرج هاتفهُ لـينقرَ علي أسم 'أُمي' مُتصلاً بها في وحدته، يعلمُ أنها لا تجيب حينما يحتاجها بـشدة، وحين أتصالها به يكون الأمر قد فقدَ هيجانه.. أصابت ظنّه ولم تجب بـالفعل بعد عدّة مكالماتٍ صادرة منه. أحتضن وسادته بـيأسٍ فـهو وحيد، محطّم، لا أحد يكترث لـحالته سوي نفسه فقط.

-أمّا من جهة روز، التي بقيت في غرفتها لـساعاتٍ علي هاتفها بين البرامج دون ملل، رغم أنها لا تفعل شئ مهم، ولا يوجد مَن تـتحدث معه، فقط تُبالي بـأخبارِ الآخرين ولا تُبالي لـنفسها.

وأخيرًا وُجدَ لـمَن سـيتحدث إليها، مكالمة هاتفية مجهولة لـتتجاهل الإتصال الذي بدا لها ناتجٌ عن خطأ أحدهم. منذ متي وأحدٌ يسأل عنها؟

عاود الرقم الإتصال بها لـتُتمتمَ بـغرابة، مشاعرها طرحت سؤالاً 'أهي إحدي صديقاتها السابقات؟' ولكن نفت أفكارها بعدما فتحت المكالمة وسأل الطرف الآخر بـصوتٍ رجولي:"أأنتِ رقم خمسة آلآف وعشرين التابع للـمكتبة؟"

"نعم.." أجابت روز بـقلقٍ وهي تشك بـنفسها ماذا فعلت.

أردف هو من الطرفِ الآخر بـنبرةٍ آليّة مصطنعة:"جيد. أنا من إحدي عملاء المكتبة. فضلاً أبدي رأيك إن كنت من إحدي حاضرين ندوتنا السابقة، لأنه سـيُساعدنا في أختيار نوع الندوات القادمة، لأن بعضهم لم يبدوا أرآئهم حين أنتهاءها مباشرةً لأن منهم مَن كان يبكي"
قُصدَ هي بـعينها،
كادت تغلق المكالمة من منتصفها لـسخافة الطلب، ولكن فور سماعها لـعبارته الأخيرة تصنّمت ملامحها، وأخذت تتمشي بـإرتباكٍ بين أرجاء غرفتها مع ضربات قلبها المتعالية.

رغم عدم خضوعها لـمناقشة أحدهم ولكنها خضعت لـفضولها لـتسأل بـإنزعاج:"أيُمكنك التوقف عن المداعبة؟ من أين أتيت بـرقمي؟"

"إن أستخدمتي عقلكِ.. كل شئ عنكِ مُسجل بـسجلاتِ أعضاء المكتبة" ردّ بـفظاظة، وأسترسل:"أتساءلُ إرضاءً لـفضولي، أكان الموضوع يستحقُ البكاء؟" سأل بـنبرةٍ ساخرة.

"أعتقد أن ليست بـصفتكَ عامل الآن لـتسألَني سؤال كـهذا.." رغم عدم إعتيادها علي صوته وإختلاف نبرته عن الحقيقة، ولكنها استغلت ذكاءها الذي يتصفون به بعض مرضي الإكتئاب رغم أعراضه السلبية.

"علي أي شئ كان يستحق البكاء؟ أأنتِ بـخير؟" سأل مجددًا بـجديّة، لـتشعرَ بـالإختناق في حلقِها لـتجيبَ عكس ما في كيانِها:"نعم.. بـخير.."

"لا يبدو علي صوتـ.." تزامنًا مع كلامه طُرقَ باب الغرفة لـتلتفت روز وتدخل أمها بينما أغلقت هي المكالمة في وجهُه بـإنزعاج دون عُذر. لازال يسوء بها الأمر أكثر عندما يسألها أحدًا عن أحوالِها.

"أكنتِ تتحدثين مع أحدٍ؟" طرحت إيلين سؤالها لـتنفي روز مُكفكفة دموع عيناها.

"حسنًا. لِـما لم توافقي علي طلب آنچل وتصطحبيه معكِ للـمكتبة في حين أنهُ يحتاج لإستعارةِ قصص لـتساعده في دراسته؟" سألت الأم.

"لأنني قلتُ لن أذهب لـهناكَ مجددًا..!" تحدثت روز بـإندفاعية مبالغة،

لـتثير غضب أمها وتردف:"يكفي تمرُدكِ علي كلينا روز كُلما طلبنا شيئًا، بـالأخصِ أنا. يكفي تقاعدك من الجامعة وهذا بـسبب مرضكِ الذي ترفضين أتخاذ خطوة لـعلاجه. سئمتُ من عدم إشعارنا بـوجودكِ، ورفضكِ لـكل شئ يُمكنكِ فعله" وها ذا جرحٌ جديد، لوم أُمها علي حالها يخدشُ قلبها الضعيف.

"قدِّري أن ليست لديّ حيلة لـمقاومة شئٍ آخر، أو الإقدام علي تجربةِ شئ لا يمكنها إحداث تغيير في حياتي، أو الشجاعة للـذهاب لأماكن ورؤية عيني لأناسٍ لا أُحبذهم. تكفيني جرعة السلبيات التي تأتيني من الـلاشئ وعدم قدرتي لـتحريرِها. مَن يريد التعامل معي حتي وأنا غير قادرة علي تقبّل نفسي فـليفعل، ولكن حسب ما يروقُ لي أنا.." أنفجرت روز صارخة بـألم.

ثم قالت الأم بـحنقٍ:"لـقد قلتُ ما فيه الكفاية، إن استمعتي لِـما عرضتهُ عليكِ لإنزاحَ كل هذا. في أقربِ وقت خُذي آنچل للـمكتبةِ، كما أمرتُ" غادرت الغرفة مُتغاضية عمّا تفوهت به روز وكـأن شيئًا لم يكُن، وباتت هي في حالة يُرثي لها..

جهل أمها بـالتحكم في الغضب لـلامبالاة وإنطفاء إبنتها، وجهلها في كيفية مشاركتها الحزن كـحالةِ إكتئاب.

 ̄ ̄ ̄

في الشارع صوب المكتبة، بعدما وافقت روز رضاءًا لهما، رغمًا عنها بـنفسيتها الهزيلة وجسدها بـالمرة، إصابتها بـالصباح رؤية ضبابية أثر البكاء المستمر.

وصلا للـمكتبة التي بدت مزدحمة بـالناس، وجّهت حديثها لآنچل قائلة:"لا تبتعد من جانبي ولا تذهب لـمكانٍ دون إخباري. كما تري المكان مُزدحم" أومأ آنچل، ثم تقدما للـداخل ناحية قسم كتب الأطفال. تأمل روز ألا يُصادفها ما لا يروقُ لها.

"أي كتب تريدها؟" سألت روز، لـيجيبَ آنچل بـإبتسامةٍ عريضة:"الكلب الطماع، وليلة متأخرة في حديقة الحيوان"

وأستأنف آنچل وهو يكتشف روعة تصميم ما حوله:"معلمتي طلبتهم كـنشاط مدرسي، لـتسألنا ما تعلمنا منهم حتي تعطينا درجات أعمال السنة. إن لم تجديهم يمكنني البحث أيضًا في البُناية التي خلفنا تمامًا.."

مرّت دقائق بينما ترمش روز أكثر من مرة في الثوانِ الواحدة وهي تبحث بـدون تركيز لـرؤيتها الضبابية.

ثم تحدثت بـإستسلام:"آنچل، دع أحدًا من العملاء يبحث عن القصص بدلاً مني، دون سؤال" ذهب هو يبحث عن أحدًا يحمل قلادة بـإسمه، بينما هي جلست علي إحدي الطاولات المُصطفة بـالردهة لـتستريح مُغمضة عيناها بعد وصولها بـصعوبة، غير حاذرة بـأنه قد يُضلَ أخيها منها..

بعد لحظاتٍ، فُتحَت مكبرات الصوت تُنوه لـمرتين متتاليتين:"مرحبًا. هنالك طفلٌ مُضل في السادسة من عمره معنا، مَن يبحث عنه فلـيصعدَ لـمكتبِ المسؤولة" جعلت الحاضرين ينتبهوا وتنتبه روز مدركة عقلها المُغفل، ثم هرولت لـلأعلي بـفزعٍ..

فتحت باب المكتب لـيركضَ آنچل نحوها مُعانقًا خصرها قائلاً بـلوم:"لـقد ابتعدنا من المنتصف وتركتيني أنا، لأشعرَ بـالقلق"

"أنا لم أقصد.. هل وجدت قصصكَ؟" سألت بـعطف، لـيشير آنچل:"نعم، لـقد أحضرهم لي ذلكَ الفتي"

نظرت لـلأعلي لـتجده هو بـعينه يقف بـجانب السيدة سكارليت، لـتنظر له دون أية تعبيرات ويبتسم هو إبتسامة صفراء لها..

نزلت لـلأسفل لـتستعير القصص نهائيًا بينما لاحقها هاري قائلاً بـإستهزاء:"أعتقد أنه طبيعيًا لـفتاة غير مهذبة أن تغلق المكالمة من منتصفها دون إستئذان، ولا حتي تشكر علي جميل ما فعلتهُ بـأخيها"

رمقته روز بـصدمة وقالت بـإنفعال:"وأنت أحمق. ليس لديكَ الحق أن تعاملني بـتلكَ الطريقة، أنا لم أفعلَ لكَ شئ!"

"أنا لا أستثني أحدًا، كلكم تستحقون معاملتي هذه!" صرّح بلا إهتمام.

"ماذا تريد مني؟" سألت بـنبرةٍ ضيقة، لـيتنهد قائلاً:"بـالخارج" لـتنتهي روز وتتبعه ناحية الحديقة مُشتدّة علي يد آنچل بـضيق.

توقف هاري عن المشي فجأة لـيستدير قائلاً:"توقفِ عن الحُكمِ بـالنتيجة دون أن تعرفي الأسباب! وتوقفِ عن حماقتكِ معي وكـأن زمام الأمر بين يدي. أنا لستُ من النوع الأناني الغيور الذي يميلُ علي نوع صديقتكِ.." قال مُشتعلاً بـالغضبِ لـتفزع روز، ثم يصبّ كلاهما غضبه علي الآخر..

"أنتَ لستَ أناني من ناحية ذلكَ الأمر فقط، بل مُتكبر لأنكَ لا تُلاحظ إبدائك للـحماقات أيضًا. إنها تؤذي!" ردت هي بـنفسِ نبرته.

"لـطالما هي كـذلكَ فلـتوقفيها أنتِ أولاً، ولكن أنا لديّ أسبابي الخاصّة!" أردف وهو لازال يلوح بـيده في الهواء.

"وأنا أيضًا لديّ أسبابي الخاصّة. لا تلومني. لـقد سئمتُ من معاملتي الطيبة معكم كـبشر، فـتستحقون ما يُبدي مني.." صرّحت بـحنقٍ.

"وهذا ما أخدناه، أمثالنا المُلطخة من أيدي البشر يدمرون ما كنتِ عليه" صرّح بـردًا بدي مُبهمًا لـروز..

أنفاسٌ مُضطربة أصابتها. شفتيه التي أُصيبت مجددًا من الضغط عليها وقبضته أيضًا اللتان يُفرغ غضبه فيهما، بينما ينظرُ لها، ووسط الصمت الذي دام لـثوانٍ قاطعه هاري جاهدًا للـتحدثِ بـهدوءٍ:

"لا أعلمُ ما السبب ولا أودُ معرفته، ولكن توقفِ عن إرهاقِ عينيكِ أكثر من ذلكَ" قال مُحدقًا بـخضروتيها لـتوشح بـنظرها عنه.. هذا أخر ما تمنّت الملاحظة بهُما.

"لِـما لازلت باقيًا عليها طالما هو ذلكَ؟" سألت دون تفكير،

لـيردف صادًّا إياها:"إنه ليس من شأنكِ.." يخشي ألا يتفوه بـالسرِ حتي لا تتكرر خيباته مجددًا.

أومأت هي بـإستسلام، عليها الرحيل سريعًا قبل أن تخدعها عيناها بـالدموعِ أمامه بعد إنفعاله عليها.. تركته هو في تأنيب ضمير قبل أن يتفوه بـشئٍ آخر، ولكنه أشار لأخيها بـأن يُهدئ من حزنها، ثم إبتسم له إبتسامة حزينة عمّا يُبدي منه دون قصد دائمًا.

"روز عزيزتي، لا تحزني لأجله، يكفي ما بـداخلكِ، أتعلمين؟ معلمتي قالت أن الحزن يقتل، وأنا لا أريدُ فقدانكِ.." أردف آنچل بـهدوء مُرطبًا حزنها قليلاً وهما ذاهبان للـمنزلِ،

ثم استأنف:"رغم أنكِ تعاملينني بـطيش أحيانًا وترفضين اللعب معي، ولكنني لازلتُ أحبكِ. سـأحبكِ أكثر إن دعتِ الحزن بعيدًا وإبتعدتي عن وحدتكِ، ولكنني أحزن عندما أراكِ تبكين وترفضين وجودي بـجانبكِ. لن أحزن إن لم توافقين علي معالجتكِ كما قالت أمي، ولكن إبقِ سعيدة.
أنا لا أُبالغ روز" صرّح هو بينما نظرت له بـصمت مع عينين دامعتين مع أبتسامة طفيفة لـيبادلَها هو.

وقد أُرضيت حاجاتها الماسّة في أن أحدًا يخبرها بـحبه لها، يتقبّلها حتي وهي مُنطفئة، يخبرها أنها لازالت جيدة ولو قليلاً.

أخد الكلام يدور في عقلِها حتي أن وصلا المنزل.

تصادفت عينا روز وأمها بـبعض لـتقول روز:"طريقتكِ لم تنفع معي.." قضبت الأم حاجبيها بـعدم فهم.

واستأنفت:"أنا.. أريدُ أن أتعالج.." قررت سريعًا بـتردد قبل أن تتراجع في قرارها.. لـيبتسم كلا من أمها وآنچل،

"ولكن بـشرط، هو أن يأتي الطبيب لـهنا.."

لـقد نجح ذو الستّ سنوات للـتقدمِ بـأخته في خطوة لـلأمام.

 ̄ ̄ ̄
© M ,
книга «MOD: مُـعجزة القـدَر».
Коментарі