الفصل الثاني
-كل ما قد حدث بـالأمس جاعلاً من الذكرياتِ اللعينة تتدفق لـعقلِها الذي لم ينفكَ عن التفكير مليًّا،
أن تلك المدعُوَة بـ 'آيدا سميث' كانت آخر صديقة قد خسرتها روز فعليًا منذُ سنة تقريبًا.
لا تُعتبر كـثمةِ الصديقة الصدوقة، لأن مقولة ’الطيور علي أشكالِها تقع‘ لم تنطبقَ عليهم قط، خاصةً بعد أن
تخلَّت عنها بـسهولةٍ حالما طلبَ منها حبيبها الجديد ترك كل أحبائها لـتتفرغ لهُ وحده!
روز لم تأخذَ عنهُ إنطباع سوي أنهُ أحمق، ونذل، ومُنحطّ مثلها.
كـعادتِها لم تنم ليلة أمس وظلَّت تبكي كـالمعتادِ.
وها هي الآن، تستمع لـموسيقاها الحزينة متأملةً في الأجواءِ بـهدوء، ولكن بـعقلٍ تـتعارك أفكارهُ بـصخبٍ.
أثناء ذلك دون مُعايرةٍ لإنتباهِها، طُرقَ باب غرفتِها عدّة قبل أن تتقدم أمها نحوها مربتةً علي كتفِ روز مما تسبب في إفزاعِها.
إتخدت الأم مكانًا لـتعتدل روز في جلستِها تزامنًا مع إتخاذ آنچل مجلسًا بـجانبِهما منتظرًا في شغفٍ فيما سـيتحدثان عنهُ، بعدما دخل خلسةٍ وراء أُمه فور رجوعه من المدرسة.
"آنچل! أخرج من فضلكَ، أريدُ التحدث مع روز في موضوعٍ ما" بـنبرتها أمرَت مشيرةً نحو الباب، قبلما ترمقه روز أيضًا بـعينيها أثر معاندته مغلقًا الباب بـتأففٍ.
أما روز بـتيقنٍ تعلم بـشأنِ ما سـيتناقشان عنه في ذلك الأمر مرارًا وتكرارًا..
نزعت الأم سماعة رأسها دون تعقيبٍ، حتي أخذت يدّ روز بين كفّيها لـتنبثَ:
"أعلمُ جيدًا أن كلانا تأثَّر بـموتِ بريسكوت حتي إعتدنا ولكن لايزال الفقدان حاضرنا، بعيدًا عن آنچل الذي لم يعي فقدان الأب بعد.."
ثم تجرعت لُعابها ثانيةً مصرّحةً بـأسفٍ:
"لكنّ روز.. لأكونَ صريحة، أخذت حالتكِ النفسية تسوء لـلأسوءِ بعد تلك الحادثة، وإصابتكِ بـروتين يوميّ دون الحاجة لـملل، والأخطر أن بوادر المرض بدأت تحلّ عليكِ.."
لم تعقّب روز لطالما أتخذت الدموع مكانًا لـمقلتيّها تأبي التسللِ.
"لا تشعرين بـالخجل حيال علاجك. فـالمرض النفسيّ ليس عيبًا، بل يستحق العلاج كـباقِ الأمراض الجسديّة الأخري. لذا بـأقربِ وقت سـأحددُ لكِ ميعادًا عند طبيبٍ نفسيّ، هذا لأنني أهتم لـمصلحتكِ وآمل تعافيكِ"
استأنفت الأم منهية حديثها، ثم أخذتها في عناقٍ لـتشتد عليه روز وكـأنما كانت في حاجةٍ ماسّة إليه.
فـنبثت روز أخيرًا بـدورِها:"أنا لستُ مريضة، ليست سوي فترة وسـتمُر.. لا تُضخمين الأمور" بوادر الغضب إجتاحها بينما تـترُك العناق.
"روزينا، أنا بـالأجدرِ مَن يلاحظ حالتكِ المتدهورة لأنك
لم تعي بعد فيما أنتِ عليه!" بـإنفعالٍ أردفت الأُم رامقةً روز التي إستقامت بـإعتراضٍ.
"أنا أعي نفسي جيدًا، وحاجتي للطبيب ما هي إلا سوي أنني لا أريدُ لعنة من أحدٍ!" صياحُها داوي غرفتها، لـتفتح خزانتها بـسخط لـترتدي سترة للـخروجِ حتي تنفضَ المناقشة.
"لـقد تَخطيتي حدودكِ روز! إلي أين سـتذهبين؟" حذَّرت الأم بـعبارتِها الأولي جرّاء سبَّة روز.
"نحو أي مكانٍ سـتتخطاهُ قدمي!" صفعت الباب وراءها.
"حديثنا لم ينتهي بعد روز، سـتفعلين ما أمرتكِ بهِ مُجبرة!" صياحُها لم يكاد يصل لـروز التي خطت نحو الشارعِ بالفعل.
-تسير كـكُتلةٍ مُحملة بـالغضبِ، تُفكر بـشرودٍ حيال كُل شئ مزعجًا، وكذا الشرود أصاب قدمها نحو شوارعٍ مجهولة.
كـما يُقال أن: المريض هو آخر مَن يشعُر بـمرضهِ حتي بعد محاولات مَن حولهِ مرارًا وتكرارًا،
إلا أن أمها ليست علي صواب تمامًا، فـالمشكلةِ ليست عابرة بـقدرِ ما هي عميقة، أثر عدم مبادرتِها لـرفعِ العبء عن إبنتها قليلاً، لإهتمامِها بـآنچل عندئذٍ الذي كان عمره لم يتجاوز الأربع سنوات.
-عودةً لـروز التي جلست بـإرهاقٍ بـأقربِ مقعد صادفها كونها أبرحت لـقدميها السير لأمتارٍ لـحيٍّ يبدو لها أنها أكتشفته جديدًا؛ فـلازالت تتعرف علي لندن تحت تعريفِها بـالمهاجرةِ.
أخذ بصرها بـالتفحصِ علي المكان، نهر التايمز الذي يسكن بـأقصي شرق لندن ها هي الآن بـجانبهِ،
لـتتقدم نحو الرصيف العالي الكبير، حيث يعلو عن النهر بـعشرة أمتار تقريبًا، تُحيطه المياه من الثلاث جوانب.
شغلَت مكانًا لـتتدلي ساقيها من الأعلي، رغمًا عن أنها تخشي من أعماق المياه، إلا أنه أعجبها صوت خرير المياه الذي يُطيع الرياح بـأمواجه بينما تنعكس الأضواء عليه.
بقيت هكذا لـدقائقٍ معدودة تُحدّق في الـلاشئ معاودة لـصخبِ أفكارها،
إلي أن خطرت بـبالِها فكرةٍ معتمدة علي إنتهاكِ روحها تمامًا، غير مُبالية بـالمحيطين حولِها، أو الإرتفاع القاطع بينها وبين النهر، حظٌ جيّد لـعدمِ قدرتِها علي العوم بـكفاءةٍ.
تغلّبت علي ترددِها مُستقيمةً علي حافة الرصيف، تنظر لـلأسفلِ بينما تبتلع لُعابها تزامنًا مع ضربات قلبها التي تتعالي خوفًا. حينها تحاول إقناع نفسِها أن الأمر سـيستغرقُ منها لحظة إقدام وسـينتهي مطاف معاناتها فورًا؛ لا بصيصٌ من الأملِ يدفعها لـيستمرَ عالمُها لطالما كان يحمل بطشًا بـقدرِهِ سـتستريح أخيرًا!
خطفت نظرةً للـوراءِ ثم تقدمت أكثر بـنصفِ قدميها التي أصبحت علي الـلاشئ رافعةً رأسها لأعلي تاركةً الشرود يأخذها لـتسقط.
وما لبث أن ضُربَت نغمةً علي أوتارِ الجيتار علوًا تزامُنًا مع تقدمِها لـتستفيق مُتراجعةً خطوتين للـوراء دون إتزانٍ مُفتقدةً لإستيعابها أما عيناها مفتوحة علي مصرعيهما وأخذت في إستنشاقاتٍ عالية.
إلتفتت جانبًا لـذاك الشخص العازف المُتنكر في زيٍّ كامل بـاللونِ الأسود مغطيًا رأسه بـقُبعةٍ، مع وشاحٍ يخفي نصف وجهه السُفليّ، غير سامحًا لأحدٍ بـالـتعرُف عليه. جالسًا بـأخرِ زاوية الرصيف مُحتضنًا جيتاره عازفًا عليه موسيقي حزينة بـريشته، غير مباليًا لأحدٍ.
وبـساقيها جثت بـوهنٍ في محاولة لإستيعاب فيما كانت سـتفعلهُ توًا، وتناغُمًا مع الموسيقي أُجهشت روز في بكاءٍ هستيريّ مصدرةً لـشهقاتٍ زادت أكثر وكـأنما يعزف علي أوتارِ قلبها الضعيفة.
 ̄ ̄ ̄
-دلفت روز علي عتبةِ الحانةِ، غير عابئةٍ بـعدم إعتيادها علي تلك الأجواء، ولكن ما هو إلا إحتياجٍ لـعقلٍ ثمل لا يعي لـنفسه بعد محاولة إنتحارٍ فاشلة؟
بعد عدّة دقائقٍ كافيةً لـجعلِها شخصًا ثمل يتراقص جسده يُمنة ويُسرة علي إيقاعِ الموسيقي الصاخبة.
مدَّت روز كأسها الفارغ للـنادل لـيصبّ لها مجددًا.
"يكفِ هذا. لـقد أنهيتي بـالفعلِ زُجاجتين كاملتين من النبيذ!" صرَّح النادل عاليًا لـتسمعهُ من الأجواء الصاخبة.
"ليس من شأنكَ، إنهُ في مصلحتكَ لـتربح بـالنقودِ أكثر يا غبي" قيلت بـلسانٍ ثقيل، لـيصُب هو كـما أمرت.
"هذا أفضل مشروب يُجرَب علي الإطلاق، بـإمكانِهِ جعلكَ تنسي كل مَن حولكَ، حتي نفسك، وكل شئٍ لعين.." تمتمت لـنفسِها بـضحكةٍ ساخرة.
"وسـتكونين أنتِ أفضل شئ سـأُحظي به تلكَ الليلة، يا جميلة" قالها شابٌ ثمل بـمُراوغةٍ بينما يتحسس علي شعرِها.
"أنا جميلة؟ أأنتَ تعرفُني؟" سألت روز واشكةً علي أن تخضع له.
"لا تـتعجلين! سـأعرفُ كُل شئ عنكِ إن تركتِ نفسكِ لي" همس مُستدرجًا إياها، ثم وضع يدهُ علي ظهرها بينما يقترب منها
إلّا أن في حركةٍ مُفاجئة سُكبَ علي الشاب كأس ماء بارد جعلتهُ ينتفض شاهقًا، إلتفت وراءً لـيجد ذلك الشاب ملامحه غير مباليةٍ.
أمسكه من قميصه بـعنفٍ وكذا كانت علي نبرتِه:"أنتَ يا أحمق، كيف تجرؤ علي فعلها؟" صياحه جعل الناس تلتفت لهم..
"أنتَ! لم يكفيكَ ما أحدثتهُ أمس؟! أم أنني سـأضطرُ لإفضاحكَ!" قيلت بـتوعدٍ وهو يبعد يداه.
"ما بالك أنتَ؟ دعهُ يُمارس ما يحلو لهُ!" عقّبت روز بـلامُبالاه بـأقصي حدّ ثمالتها.
"أسكت أنتَ يا معتوه. فلـتنظُر لـنفسكَ أولاً، كل يوم بـرفقةِ فتاة مختلفة حتي تشعر بـقيمةِ نفسكَ.. أم أنتَ تُريدها؟" قالها الثمل لـيوجّه الشاب لكمةً قوية لوجهه المُبتل معبرًا عن غضبه، ثم نفض يده من قطراتِ الماء بـبرودٍ.
وقال:"تلكَ لـتستفيقَ من أفعالكَ وأقوالكَ القذرة، أتظُن أنني أشبهُكَ أو في حاجةٍ إلي إشتهاءها كـأمثالكَ؟" أردف بـسخريةٍ للـثمل الذي يحاول جمع شتات عقله للـمدافعة عن نفسه.
ولكن سرعان ما أن سحبَ الشاب روز المُترنحة من ذراعِها مُسرعًا للـخارج مُتفاديًا تصدّي الناس لهم، حتي أستقل حافلةً لـكليهُما.
وقبل أن يجلسا في المقعد الثُنائي، سألت هي بـخوف بينما أنظارها تجول فيما حولها:"إلي أين أنتَ سـتأخذني؟"
لم يعقب،
لـتصيحَ هي مُمسكةً بـملابسه:"ماذا سـتفعل بي؟"
"أيمكنكِ التحلّي بـالهدوءِ!" قالها رامقًا وهو يبعد يداها عنه، لم تنفكَ هي عن جمعِ ملامح ذاك الشخص الموجود علي حوافِ ذاكرتِها لـتبيت محاولتها بـالفشلِ، ولـتستلم للـدوارِ الذي أصابها.
كسر هو الصمت سائلاً مُشيرًا بـشكٍ:"أهذا هو منزلكِ، أليس كـذلكَ؟" لم تستوعب ما قالهُ، حتي سحبها من معصمِها لـينزلا.
أجابت بـالإيجاب بعدما حدَّقت طويلاً علي المنزل.
كان يجدر بهُما الذهاب، ولكنها لحقته قبلما يغادر سائلةً بـخجلٍ:"أيُمكن أن تمنحني عناقًا؟"
تعجبَ من طلبِها، ولكنه أومأ بـموافقةٍ عاذرًا إياها، فـلازالت تحت تأثير الكحول.
تقدمت روز بـدورِها مُحيطةً جسده بـذراعِها، وبـدورِه لم يُبادلها.
هي ليست واعيةً كفاية لإستيعاب ما تفعله من شخصٍ غير مألوفٍ، ولكنها واعيةً كفاية لإستيعاب شعورِها المُحطّم أنها لازالت ليست علي ما يُرام، وأنها في حاجةٍ ماسّة لـحنانِ أحدهم عبر عناقٍ بسيط.
"شُكرًا لكَ.." تفوهت بـبساطةٍ، دالفةً داخل المنزل بعد ثوانٍ من العناقِ.
هي غير مُكترثة لـمَن هو؟ وكيف عرف منزلِها؟ وبـأي حق لديه أن ينتشلها قبل أن تقع في يد الشاب الثمل؟ وفوق هذا، تأمل ألا يراها مُجددًا، خزيًا إن فعلت شيئًا غير لائق.
 ̄ ̄ ̄
-لـقد ثملتي أمس، أليس كـذلك؟" وجهت الأم كلامها لـروز في محاولتِها أن تستفيقَ بـعقلها المُثقل من علي أريكةِ غرفة المعيشة صباحًا.
فـأومأت مجيبةً بـإستخفافٍ.
"وكيف عُدتي للـمنزل وأنتِ هكذا؟" أستفسرت.
هي لا تـتذكر أي شئٍ حينها سوي أنه خاطرها شعورٌ جميل قبل أن تدلف للـمنزل وتُغلَق عيناها علي سوادٍ كاحل.
غيّرت الموضوع قائلةً:"أنا عليّ الذهاب الآن، كُتبي المُستعارة لم أُسلمها بعد.."
صعدت لـغُرفتِها، وتجهزت بعدما تقيأت للـمرةِ الثانية، ثم خرجت للـشارعِ صوب المكتبةِ.
دفعت روز ذلك الباب الخشبيّ التابع للـمكتبةِ الشاهقة، مُتقدمة للـداخل أمام المكتب.
"سـأسترجعُ الكُتب المُستعارة. روزينا بريسكوت. خمسة آلآف وعشرين" قالت دفعةً واحدة وهي تُخرج كُتبها، وباقي الأموال من حقيبتها.
فجأةً أصطدم صف كُتب بـظهر روز غير عابئة الفتاة لـلإعتذار، لـتزفر روز بـنفاذ صبرٍ.
"لـقد دفعتِ القليل من الجُنيهاتِ مسبقًا، أليس كـذلك؟" سألت العميلة بينما تسجل شفرات الكتب علي الآلة، لـتومئ روز.
ثم تفوه شخصين تزامنًا مع دفع روز لـلأموال..
"مرحبًا بـهاري المستهترًا في عمله كـالمعتادِ، إنتبه لـواجبكَ وأسحب درج الكتب لـترتيبهم في أماكنِهم" بـنبرتِها الثابتة أمرت العميلة هاري الذي أتي توًا.
"لـقد أنتهيتُ" صرّحت آيدا قاصدةً عملها.
رمقته آيدا بـنظرةٍ مستهزءه التي إلتفتت لها روز لـنبرتِها المألوفة، أما هاري حوّل نظره لـروز في تفاجؤ.
وسرعان ما أن منعت آيدا هاري لـسحبِ الكتب ممسكةً بـيده.
"روزينا، كيف حالكِ؟" بادرت آيدا بـنبرتها التي تصنّعت المُفاجأة لـروز التي تجاهلتها.
وهي أول مَن لعنتها في بداية يومها أنه لن يمرّ مرور الكِرام.
"أوه، نسيت أن أُعرفكِ، هذا هاري، حبيبي، مَن أمرَني أن أتخلّي عنكم مُقابل غيرتهُ عليّ" أخبرت آيدا بـتدلُلٍ مُتشبثةً بـذراعه، لـتقلب روز عيناها بـتقزُز،
إلتفتت روز لـذاك الهاري الذي يتفادي نظراتها التي أخذت تسترجع ملامحه بـتشوشٍ عن وقتٍ قريبٍ جدًا.
"أُقسم، أنا لستُ بـحاجة لأن أعرف فئات أمثالكِ" تفوهت روز بـحماقةٍ مُعطية إياهم ملامح مُشمئزة.
دلفت نحو الباب الخلفيّ للـحديقة بـخطواتٍ واسعة مُعبرة عن غضبها، بعدما أدركت أن ذاك الأحمق هو بـعينهِ مَن أنقذها أمسٍ مُعطيًا إياها شعورٌ جميل عبر عناق!
وهو بـعينهِ أخر مَن تمنّت رؤيتهُ ثانيةً في كلتا الحالتين.
 ̄ ̄
-رأي احبابي القليلين اللي بيقروها فالشابتر؟
وان شاء الله من الشابتر الجاي يدخل فالجد وكدا 🙏🏻
ودا لو حبيتوا تقروها واتباد https://my.w.tt/ILbnUIDlr8
باباي 🖤
أن تلك المدعُوَة بـ 'آيدا سميث' كانت آخر صديقة قد خسرتها روز فعليًا منذُ سنة تقريبًا.
لا تُعتبر كـثمةِ الصديقة الصدوقة، لأن مقولة ’الطيور علي أشكالِها تقع‘ لم تنطبقَ عليهم قط، خاصةً بعد أن
تخلَّت عنها بـسهولةٍ حالما طلبَ منها حبيبها الجديد ترك كل أحبائها لـتتفرغ لهُ وحده!
روز لم تأخذَ عنهُ إنطباع سوي أنهُ أحمق، ونذل، ومُنحطّ مثلها.
كـعادتِها لم تنم ليلة أمس وظلَّت تبكي كـالمعتادِ.
وها هي الآن، تستمع لـموسيقاها الحزينة متأملةً في الأجواءِ بـهدوء، ولكن بـعقلٍ تـتعارك أفكارهُ بـصخبٍ.
أثناء ذلك دون مُعايرةٍ لإنتباهِها، طُرقَ باب غرفتِها عدّة قبل أن تتقدم أمها نحوها مربتةً علي كتفِ روز مما تسبب في إفزاعِها.
إتخدت الأم مكانًا لـتعتدل روز في جلستِها تزامنًا مع إتخاذ آنچل مجلسًا بـجانبِهما منتظرًا في شغفٍ فيما سـيتحدثان عنهُ، بعدما دخل خلسةٍ وراء أُمه فور رجوعه من المدرسة.
"آنچل! أخرج من فضلكَ، أريدُ التحدث مع روز في موضوعٍ ما" بـنبرتها أمرَت مشيرةً نحو الباب، قبلما ترمقه روز أيضًا بـعينيها أثر معاندته مغلقًا الباب بـتأففٍ.
أما روز بـتيقنٍ تعلم بـشأنِ ما سـيتناقشان عنه في ذلك الأمر مرارًا وتكرارًا..
نزعت الأم سماعة رأسها دون تعقيبٍ، حتي أخذت يدّ روز بين كفّيها لـتنبثَ:
"أعلمُ جيدًا أن كلانا تأثَّر بـموتِ بريسكوت حتي إعتدنا ولكن لايزال الفقدان حاضرنا، بعيدًا عن آنچل الذي لم يعي فقدان الأب بعد.."
ثم تجرعت لُعابها ثانيةً مصرّحةً بـأسفٍ:
"لكنّ روز.. لأكونَ صريحة، أخذت حالتكِ النفسية تسوء لـلأسوءِ بعد تلك الحادثة، وإصابتكِ بـروتين يوميّ دون الحاجة لـملل، والأخطر أن بوادر المرض بدأت تحلّ عليكِ.."
لم تعقّب روز لطالما أتخذت الدموع مكانًا لـمقلتيّها تأبي التسللِ.
"لا تشعرين بـالخجل حيال علاجك. فـالمرض النفسيّ ليس عيبًا، بل يستحق العلاج كـباقِ الأمراض الجسديّة الأخري. لذا بـأقربِ وقت سـأحددُ لكِ ميعادًا عند طبيبٍ نفسيّ، هذا لأنني أهتم لـمصلحتكِ وآمل تعافيكِ"
استأنفت الأم منهية حديثها، ثم أخذتها في عناقٍ لـتشتد عليه روز وكـأنما كانت في حاجةٍ ماسّة إليه.
فـنبثت روز أخيرًا بـدورِها:"أنا لستُ مريضة، ليست سوي فترة وسـتمُر.. لا تُضخمين الأمور" بوادر الغضب إجتاحها بينما تـترُك العناق.
"روزينا، أنا بـالأجدرِ مَن يلاحظ حالتكِ المتدهورة لأنك
لم تعي بعد فيما أنتِ عليه!" بـإنفعالٍ أردفت الأُم رامقةً روز التي إستقامت بـإعتراضٍ.
"أنا أعي نفسي جيدًا، وحاجتي للطبيب ما هي إلا سوي أنني لا أريدُ لعنة من أحدٍ!" صياحُها داوي غرفتها، لـتفتح خزانتها بـسخط لـترتدي سترة للـخروجِ حتي تنفضَ المناقشة.
"لـقد تَخطيتي حدودكِ روز! إلي أين سـتذهبين؟" حذَّرت الأم بـعبارتِها الأولي جرّاء سبَّة روز.
"نحو أي مكانٍ سـتتخطاهُ قدمي!" صفعت الباب وراءها.
"حديثنا لم ينتهي بعد روز، سـتفعلين ما أمرتكِ بهِ مُجبرة!" صياحُها لم يكاد يصل لـروز التي خطت نحو الشارعِ بالفعل.
-تسير كـكُتلةٍ مُحملة بـالغضبِ، تُفكر بـشرودٍ حيال كُل شئ مزعجًا، وكذا الشرود أصاب قدمها نحو شوارعٍ مجهولة.
كـما يُقال أن: المريض هو آخر مَن يشعُر بـمرضهِ حتي بعد محاولات مَن حولهِ مرارًا وتكرارًا،
إلا أن أمها ليست علي صواب تمامًا، فـالمشكلةِ ليست عابرة بـقدرِ ما هي عميقة، أثر عدم مبادرتِها لـرفعِ العبء عن إبنتها قليلاً، لإهتمامِها بـآنچل عندئذٍ الذي كان عمره لم يتجاوز الأربع سنوات.
-عودةً لـروز التي جلست بـإرهاقٍ بـأقربِ مقعد صادفها كونها أبرحت لـقدميها السير لأمتارٍ لـحيٍّ يبدو لها أنها أكتشفته جديدًا؛ فـلازالت تتعرف علي لندن تحت تعريفِها بـالمهاجرةِ.
أخذ بصرها بـالتفحصِ علي المكان، نهر التايمز الذي يسكن بـأقصي شرق لندن ها هي الآن بـجانبهِ،
لـتتقدم نحو الرصيف العالي الكبير، حيث يعلو عن النهر بـعشرة أمتار تقريبًا، تُحيطه المياه من الثلاث جوانب.
شغلَت مكانًا لـتتدلي ساقيها من الأعلي، رغمًا عن أنها تخشي من أعماق المياه، إلا أنه أعجبها صوت خرير المياه الذي يُطيع الرياح بـأمواجه بينما تنعكس الأضواء عليه.
بقيت هكذا لـدقائقٍ معدودة تُحدّق في الـلاشئ معاودة لـصخبِ أفكارها،
إلي أن خطرت بـبالِها فكرةٍ معتمدة علي إنتهاكِ روحها تمامًا، غير مُبالية بـالمحيطين حولِها، أو الإرتفاع القاطع بينها وبين النهر، حظٌ جيّد لـعدمِ قدرتِها علي العوم بـكفاءةٍ.
تغلّبت علي ترددِها مُستقيمةً علي حافة الرصيف، تنظر لـلأسفلِ بينما تبتلع لُعابها تزامنًا مع ضربات قلبها التي تتعالي خوفًا. حينها تحاول إقناع نفسِها أن الأمر سـيستغرقُ منها لحظة إقدام وسـينتهي مطاف معاناتها فورًا؛ لا بصيصٌ من الأملِ يدفعها لـيستمرَ عالمُها لطالما كان يحمل بطشًا بـقدرِهِ سـتستريح أخيرًا!
خطفت نظرةً للـوراءِ ثم تقدمت أكثر بـنصفِ قدميها التي أصبحت علي الـلاشئ رافعةً رأسها لأعلي تاركةً الشرود يأخذها لـتسقط.
وما لبث أن ضُربَت نغمةً علي أوتارِ الجيتار علوًا تزامُنًا مع تقدمِها لـتستفيق مُتراجعةً خطوتين للـوراء دون إتزانٍ مُفتقدةً لإستيعابها أما عيناها مفتوحة علي مصرعيهما وأخذت في إستنشاقاتٍ عالية.
إلتفتت جانبًا لـذاك الشخص العازف المُتنكر في زيٍّ كامل بـاللونِ الأسود مغطيًا رأسه بـقُبعةٍ، مع وشاحٍ يخفي نصف وجهه السُفليّ، غير سامحًا لأحدٍ بـالـتعرُف عليه. جالسًا بـأخرِ زاوية الرصيف مُحتضنًا جيتاره عازفًا عليه موسيقي حزينة بـريشته، غير مباليًا لأحدٍ.
وبـساقيها جثت بـوهنٍ في محاولة لإستيعاب فيما كانت سـتفعلهُ توًا، وتناغُمًا مع الموسيقي أُجهشت روز في بكاءٍ هستيريّ مصدرةً لـشهقاتٍ زادت أكثر وكـأنما يعزف علي أوتارِ قلبها الضعيفة.
 ̄ ̄ ̄
-دلفت روز علي عتبةِ الحانةِ، غير عابئةٍ بـعدم إعتيادها علي تلك الأجواء، ولكن ما هو إلا إحتياجٍ لـعقلٍ ثمل لا يعي لـنفسه بعد محاولة إنتحارٍ فاشلة؟
بعد عدّة دقائقٍ كافيةً لـجعلِها شخصًا ثمل يتراقص جسده يُمنة ويُسرة علي إيقاعِ الموسيقي الصاخبة.
مدَّت روز كأسها الفارغ للـنادل لـيصبّ لها مجددًا.
"يكفِ هذا. لـقد أنهيتي بـالفعلِ زُجاجتين كاملتين من النبيذ!" صرَّح النادل عاليًا لـتسمعهُ من الأجواء الصاخبة.
"ليس من شأنكَ، إنهُ في مصلحتكَ لـتربح بـالنقودِ أكثر يا غبي" قيلت بـلسانٍ ثقيل، لـيصُب هو كـما أمرت.
"هذا أفضل مشروب يُجرَب علي الإطلاق، بـإمكانِهِ جعلكَ تنسي كل مَن حولكَ، حتي نفسك، وكل شئٍ لعين.." تمتمت لـنفسِها بـضحكةٍ ساخرة.
"وسـتكونين أنتِ أفضل شئ سـأُحظي به تلكَ الليلة، يا جميلة" قالها شابٌ ثمل بـمُراوغةٍ بينما يتحسس علي شعرِها.
"أنا جميلة؟ أأنتَ تعرفُني؟" سألت روز واشكةً علي أن تخضع له.
"لا تـتعجلين! سـأعرفُ كُل شئ عنكِ إن تركتِ نفسكِ لي" همس مُستدرجًا إياها، ثم وضع يدهُ علي ظهرها بينما يقترب منها
إلّا أن في حركةٍ مُفاجئة سُكبَ علي الشاب كأس ماء بارد جعلتهُ ينتفض شاهقًا، إلتفت وراءً لـيجد ذلك الشاب ملامحه غير مباليةٍ.
أمسكه من قميصه بـعنفٍ وكذا كانت علي نبرتِه:"أنتَ يا أحمق، كيف تجرؤ علي فعلها؟" صياحه جعل الناس تلتفت لهم..
"أنتَ! لم يكفيكَ ما أحدثتهُ أمس؟! أم أنني سـأضطرُ لإفضاحكَ!" قيلت بـتوعدٍ وهو يبعد يداه.
"ما بالك أنتَ؟ دعهُ يُمارس ما يحلو لهُ!" عقّبت روز بـلامُبالاه بـأقصي حدّ ثمالتها.
"أسكت أنتَ يا معتوه. فلـتنظُر لـنفسكَ أولاً، كل يوم بـرفقةِ فتاة مختلفة حتي تشعر بـقيمةِ نفسكَ.. أم أنتَ تُريدها؟" قالها الثمل لـيوجّه الشاب لكمةً قوية لوجهه المُبتل معبرًا عن غضبه، ثم نفض يده من قطراتِ الماء بـبرودٍ.
وقال:"تلكَ لـتستفيقَ من أفعالكَ وأقوالكَ القذرة، أتظُن أنني أشبهُكَ أو في حاجةٍ إلي إشتهاءها كـأمثالكَ؟" أردف بـسخريةٍ للـثمل الذي يحاول جمع شتات عقله للـمدافعة عن نفسه.
ولكن سرعان ما أن سحبَ الشاب روز المُترنحة من ذراعِها مُسرعًا للـخارج مُتفاديًا تصدّي الناس لهم، حتي أستقل حافلةً لـكليهُما.
وقبل أن يجلسا في المقعد الثُنائي، سألت هي بـخوف بينما أنظارها تجول فيما حولها:"إلي أين أنتَ سـتأخذني؟"
لم يعقب،
لـتصيحَ هي مُمسكةً بـملابسه:"ماذا سـتفعل بي؟"
"أيمكنكِ التحلّي بـالهدوءِ!" قالها رامقًا وهو يبعد يداها عنه، لم تنفكَ هي عن جمعِ ملامح ذاك الشخص الموجود علي حوافِ ذاكرتِها لـتبيت محاولتها بـالفشلِ، ولـتستلم للـدوارِ الذي أصابها.
كسر هو الصمت سائلاً مُشيرًا بـشكٍ:"أهذا هو منزلكِ، أليس كـذلكَ؟" لم تستوعب ما قالهُ، حتي سحبها من معصمِها لـينزلا.
أجابت بـالإيجاب بعدما حدَّقت طويلاً علي المنزل.
كان يجدر بهُما الذهاب، ولكنها لحقته قبلما يغادر سائلةً بـخجلٍ:"أيُمكن أن تمنحني عناقًا؟"
تعجبَ من طلبِها، ولكنه أومأ بـموافقةٍ عاذرًا إياها، فـلازالت تحت تأثير الكحول.
تقدمت روز بـدورِها مُحيطةً جسده بـذراعِها، وبـدورِه لم يُبادلها.
هي ليست واعيةً كفاية لإستيعاب ما تفعله من شخصٍ غير مألوفٍ، ولكنها واعيةً كفاية لإستيعاب شعورِها المُحطّم أنها لازالت ليست علي ما يُرام، وأنها في حاجةٍ ماسّة لـحنانِ أحدهم عبر عناقٍ بسيط.
"شُكرًا لكَ.." تفوهت بـبساطةٍ، دالفةً داخل المنزل بعد ثوانٍ من العناقِ.
هي غير مُكترثة لـمَن هو؟ وكيف عرف منزلِها؟ وبـأي حق لديه أن ينتشلها قبل أن تقع في يد الشاب الثمل؟ وفوق هذا، تأمل ألا يراها مُجددًا، خزيًا إن فعلت شيئًا غير لائق.
 ̄ ̄ ̄
-لـقد ثملتي أمس، أليس كـذلك؟" وجهت الأم كلامها لـروز في محاولتِها أن تستفيقَ بـعقلها المُثقل من علي أريكةِ غرفة المعيشة صباحًا.
فـأومأت مجيبةً بـإستخفافٍ.
"وكيف عُدتي للـمنزل وأنتِ هكذا؟" أستفسرت.
هي لا تـتذكر أي شئٍ حينها سوي أنه خاطرها شعورٌ جميل قبل أن تدلف للـمنزل وتُغلَق عيناها علي سوادٍ كاحل.
غيّرت الموضوع قائلةً:"أنا عليّ الذهاب الآن، كُتبي المُستعارة لم أُسلمها بعد.."
صعدت لـغُرفتِها، وتجهزت بعدما تقيأت للـمرةِ الثانية، ثم خرجت للـشارعِ صوب المكتبةِ.
دفعت روز ذلك الباب الخشبيّ التابع للـمكتبةِ الشاهقة، مُتقدمة للـداخل أمام المكتب.
"سـأسترجعُ الكُتب المُستعارة. روزينا بريسكوت. خمسة آلآف وعشرين" قالت دفعةً واحدة وهي تُخرج كُتبها، وباقي الأموال من حقيبتها.
فجأةً أصطدم صف كُتب بـظهر روز غير عابئة الفتاة لـلإعتذار، لـتزفر روز بـنفاذ صبرٍ.
"لـقد دفعتِ القليل من الجُنيهاتِ مسبقًا، أليس كـذلك؟" سألت العميلة بينما تسجل شفرات الكتب علي الآلة، لـتومئ روز.
ثم تفوه شخصين تزامنًا مع دفع روز لـلأموال..
"مرحبًا بـهاري المستهترًا في عمله كـالمعتادِ، إنتبه لـواجبكَ وأسحب درج الكتب لـترتيبهم في أماكنِهم" بـنبرتِها الثابتة أمرت العميلة هاري الذي أتي توًا.
"لـقد أنتهيتُ" صرّحت آيدا قاصدةً عملها.
رمقته آيدا بـنظرةٍ مستهزءه التي إلتفتت لها روز لـنبرتِها المألوفة، أما هاري حوّل نظره لـروز في تفاجؤ.
وسرعان ما أن منعت آيدا هاري لـسحبِ الكتب ممسكةً بـيده.
"روزينا، كيف حالكِ؟" بادرت آيدا بـنبرتها التي تصنّعت المُفاجأة لـروز التي تجاهلتها.
وهي أول مَن لعنتها في بداية يومها أنه لن يمرّ مرور الكِرام.
"أوه، نسيت أن أُعرفكِ، هذا هاري، حبيبي، مَن أمرَني أن أتخلّي عنكم مُقابل غيرتهُ عليّ" أخبرت آيدا بـتدلُلٍ مُتشبثةً بـذراعه، لـتقلب روز عيناها بـتقزُز،
إلتفتت روز لـذاك الهاري الذي يتفادي نظراتها التي أخذت تسترجع ملامحه بـتشوشٍ عن وقتٍ قريبٍ جدًا.
"أُقسم، أنا لستُ بـحاجة لأن أعرف فئات أمثالكِ" تفوهت روز بـحماقةٍ مُعطية إياهم ملامح مُشمئزة.
دلفت نحو الباب الخلفيّ للـحديقة بـخطواتٍ واسعة مُعبرة عن غضبها، بعدما أدركت أن ذاك الأحمق هو بـعينهِ مَن أنقذها أمسٍ مُعطيًا إياها شعورٌ جميل عبر عناق!
وهو بـعينهِ أخر مَن تمنّت رؤيتهُ ثانيةً في كلتا الحالتين.
 ̄ ̄
-رأي احبابي القليلين اللي بيقروها فالشابتر؟
وان شاء الله من الشابتر الجاي يدخل فالجد وكدا 🙏🏻
ودا لو حبيتوا تقروها واتباد https://my.w.tt/ILbnUIDlr8
باباي 🖤
Коментарі