القطعة الأولى
هي ذلك الكيان الأثيري الذي عمَّر الأكوان منذ الوجود، أزلية لا تفنى إلا في حال تدنيسها، هي في كل ذرة أكسجين تسبح حولنا في الفضاء، هي عبارة عن متاهات وهواة العمق يخشون التيه فيها.
اُختُلِف في مسماها، والبعض اعتبرها والنفس سواء، لكنها الطاقة التي تحركنا بينما النفس هي الذات والسائق الذي يتحكم بأجسادنا وشخصيتنا تكمن فيها أكثر مما تكمن في الجسد. هي معنا وليس لنا بها علم.
- هاه، هل عرفت من أقصد؟
بعد أن قص الجد فزورته، أطبق على شفتيه التي طبعت عليها أطلال الدهر، وراح يرمق الصبي الماثل أمامه بنظرات تحثه على البوح بما يختلجه.
اِنسلت من ثغر الطفل كلمات متذمرة، وارتسمت على محياه ملامح الحيرة والعجب؛ فأنى له أن يحل هذه الأحجية العويصة وهو لم يفقه من الحياة إلا قليلا؟
أطلق الجد ضحكة خافتة، تبعتها كحة بسطت نفوذها كثيرًا في هاته الأيام الأخيرة.
لقد أضحكته تعابير وجه حفيده المستاءة من جهله الإجابة. أجل، إنه حفيده الفضولي المتعطش لمعرفة كل ما هو جديد.
نظرات هذا الفتى المتلهفة تستهويه جدا، وما إن طرح ثقله على ظهر الأريكة المتهالك، حتى صدح بما يروي ظمأ هذا الكائن اللطيف.
- إنها الروح!
صدى هذه الكلمة لبث يتردد في خلد الطفل وذهنه يسترجع وصف جده للروح ليعترف في قرارة نفسه " أجل، إنها الروح ".
صمت محبب زار غرفة المعيشة، ثم ما لبث الصغير أن صرخ جذلا:
- جدي! أخبرني عن الروح، فأنا أحب طريقة سردك.
كانت عيناه تشتعل حماسًا، وهو ينتظر ويتحرى بشوق لحديث هذا المِلسان.
اِعتدل الجد في جلسته واستطرد قائلا:
- بسم الله الرحمان الرحيم: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" - الإسراء ٨٥ -
الروح يا بني علمها عند الله؛ ولهذا ما نفقهه عنها ليس بالكثير. الروح هي التي تعمل كل شيء، هي محرك الأجساد، في حين أن العيون تبدي قوة الروح.
تنمو بتناسب مع إخضاعها لأجسادنا؛ فالجسد هو الضد الذي تبرهن الروح وجودها بكبحه وقمعه.
الروح تزهر حسب فصول أفكارها، ولا شيء يرهقها غير العيش على نحو سطحي؛ لأنها تعشق كل ما هو عميق وسامي.
الروح تربو وتتضوع، إذا كان غذاؤها الغفران، الشجاعة، حب الذات وتقديرها، الإيثار والثقة بالنفس.
وتضمحل وتندثر إذا شُرِّبت بالجبن والألم والحزن والحقد والشعور بالذنب؛ فكما يضر التدخين بالرئتين كذلك يفعل الاِستياء، نفحة واحدة منه تلفح الروح وتحرقها.
الروح يا صغيري، إن لم تشد عقالها وتقودها إلى بر الأمان، انفلتت عنك وضلت سبيل العودة إليك. قد تبقى حبيسة صدرك لكنها في الحقيقة لم تعد ملكا لك.
هل تتذكر العبارة التي تتلفظ بها جدتك كلما تعبت؟
قاطعه الصبي بحماس:
-آه، أجل أنا أتذكر ذلك.
وقف يقلد جدته واضعًا يديه على خاصرته ليئِن:
- أي، لقد أصبحت جسدًا بلا روح!
ضحك الجد على خفة دم حفيده ومن ثم واصل حديثه:
- أحسنت! هي كذلك، قد تظن أن هذه العبارة ماهي إلا مجاز، لكن مع الوقت ستكتشف أن هناك العديد من الأجساد التي تحوم حولك وهي خالية من أرواحها.
فحاذر على روحك حتى ولو من نسمة الربيع، وإياك، إياك أن تضل عنك فتشقى.
قطع حديث الجد صوت أنثوي مبحوح:
- يا رجل! دعك من إلقاء الترهات على الصغير، وعوضا عنه احمل أنت وحفيدك ربضيكما واتبعاني إلى المطبخ؛ هناك غيلان ستقضي على الأخضر واليابس.
تجاهل الرجل العجوز كلام زوجته، وخاطب حفيده قائلا:
- قم يا صغيري لنتناول الغداء، ولنا في هذا الحديث بقية بإذن الله .
أفاق عناد من حزام ذكرياته والعبرات تتسلل من مقلتيه خفية، وبسرعة قياسية محى وجودها بكم قميصه الرثيث، والذي هو أقل ما يوصف بخرقة بالية.
انتصب عن السرير تاركا مكان جلوسه هوة شرعت بالاِرتفاع شيئا فشيئا ليتجه نحو الخزانة المدمرة أين حطت عيناه على تلك الخرابيش التي نقشها على باب الدولاب في صغره، فأسفرت شفتاه التوتيتان عن اِبتسامة، سرعان ما انقشعت حين أخرجت يداه شيئا مسطحًا من الدرج السفلي. تربع أرضا في حين مال بجذعه ليتوكأ على طرف سريره، وخفض رأسه لتعاين عيناه ذلك الشيء المحاط بيديه بحرص وعناية.
لقد كان إطارًا يحمل صورة بالأبيض والأسود لشيخ في الثمانين من عمره يجلس في حجره صبيّ لا يتجاوز عمره السبع سنوات، كانت البهجة تشع من تلك الصورة والسعادة بادية على محياهما.
قال عناد بصوته المتحشرج والدموع تخط سبيلها على وجهه:
- سامحاني فقد خيبت أملكما، أنا لم أعد أنا، أنا فاشل، غبي، أخرق، أنا جسد بلا روح، أنا كل شيء سيء في هذا الكون.
بت أكره نفسي بشكل لا يطاق، أنا عبء على العالم، أنا لا أستحق فرصة للحياة حتى، كل ما علي فعله هو الرحيل عن هذا العالم، وأراهن على أن لا أحد سيأسى علي، وهذا ما يزيد دافعي للرحيل.
أطلق ضحكة هستيرية ليردف بعدها:
- أخبرتكما أني بائس، لذا لنفعلها معا.
ثم علا صوت تحطيم.
اُختُلِف في مسماها، والبعض اعتبرها والنفس سواء، لكنها الطاقة التي تحركنا بينما النفس هي الذات والسائق الذي يتحكم بأجسادنا وشخصيتنا تكمن فيها أكثر مما تكمن في الجسد. هي معنا وليس لنا بها علم.
- هاه، هل عرفت من أقصد؟
بعد أن قص الجد فزورته، أطبق على شفتيه التي طبعت عليها أطلال الدهر، وراح يرمق الصبي الماثل أمامه بنظرات تحثه على البوح بما يختلجه.
اِنسلت من ثغر الطفل كلمات متذمرة، وارتسمت على محياه ملامح الحيرة والعجب؛ فأنى له أن يحل هذه الأحجية العويصة وهو لم يفقه من الحياة إلا قليلا؟
أطلق الجد ضحكة خافتة، تبعتها كحة بسطت نفوذها كثيرًا في هاته الأيام الأخيرة.
لقد أضحكته تعابير وجه حفيده المستاءة من جهله الإجابة. أجل، إنه حفيده الفضولي المتعطش لمعرفة كل ما هو جديد.
نظرات هذا الفتى المتلهفة تستهويه جدا، وما إن طرح ثقله على ظهر الأريكة المتهالك، حتى صدح بما يروي ظمأ هذا الكائن اللطيف.
- إنها الروح!
صدى هذه الكلمة لبث يتردد في خلد الطفل وذهنه يسترجع وصف جده للروح ليعترف في قرارة نفسه " أجل، إنها الروح ".
صمت محبب زار غرفة المعيشة، ثم ما لبث الصغير أن صرخ جذلا:
- جدي! أخبرني عن الروح، فأنا أحب طريقة سردك.
كانت عيناه تشتعل حماسًا، وهو ينتظر ويتحرى بشوق لحديث هذا المِلسان.
اِعتدل الجد في جلسته واستطرد قائلا:
- بسم الله الرحمان الرحيم: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" - الإسراء ٨٥ -
الروح يا بني علمها عند الله؛ ولهذا ما نفقهه عنها ليس بالكثير. الروح هي التي تعمل كل شيء، هي محرك الأجساد، في حين أن العيون تبدي قوة الروح.
تنمو بتناسب مع إخضاعها لأجسادنا؛ فالجسد هو الضد الذي تبرهن الروح وجودها بكبحه وقمعه.
الروح تزهر حسب فصول أفكارها، ولا شيء يرهقها غير العيش على نحو سطحي؛ لأنها تعشق كل ما هو عميق وسامي.
الروح تربو وتتضوع، إذا كان غذاؤها الغفران، الشجاعة، حب الذات وتقديرها، الإيثار والثقة بالنفس.
وتضمحل وتندثر إذا شُرِّبت بالجبن والألم والحزن والحقد والشعور بالذنب؛ فكما يضر التدخين بالرئتين كذلك يفعل الاِستياء، نفحة واحدة منه تلفح الروح وتحرقها.
الروح يا صغيري، إن لم تشد عقالها وتقودها إلى بر الأمان، انفلتت عنك وضلت سبيل العودة إليك. قد تبقى حبيسة صدرك لكنها في الحقيقة لم تعد ملكا لك.
هل تتذكر العبارة التي تتلفظ بها جدتك كلما تعبت؟
قاطعه الصبي بحماس:
-آه، أجل أنا أتذكر ذلك.
وقف يقلد جدته واضعًا يديه على خاصرته ليئِن:
- أي، لقد أصبحت جسدًا بلا روح!
ضحك الجد على خفة دم حفيده ومن ثم واصل حديثه:
- أحسنت! هي كذلك، قد تظن أن هذه العبارة ماهي إلا مجاز، لكن مع الوقت ستكتشف أن هناك العديد من الأجساد التي تحوم حولك وهي خالية من أرواحها.
فحاذر على روحك حتى ولو من نسمة الربيع، وإياك، إياك أن تضل عنك فتشقى.
قطع حديث الجد صوت أنثوي مبحوح:
- يا رجل! دعك من إلقاء الترهات على الصغير، وعوضا عنه احمل أنت وحفيدك ربضيكما واتبعاني إلى المطبخ؛ هناك غيلان ستقضي على الأخضر واليابس.
تجاهل الرجل العجوز كلام زوجته، وخاطب حفيده قائلا:
- قم يا صغيري لنتناول الغداء، ولنا في هذا الحديث بقية بإذن الله .
أفاق عناد من حزام ذكرياته والعبرات تتسلل من مقلتيه خفية، وبسرعة قياسية محى وجودها بكم قميصه الرثيث، والذي هو أقل ما يوصف بخرقة بالية.
انتصب عن السرير تاركا مكان جلوسه هوة شرعت بالاِرتفاع شيئا فشيئا ليتجه نحو الخزانة المدمرة أين حطت عيناه على تلك الخرابيش التي نقشها على باب الدولاب في صغره، فأسفرت شفتاه التوتيتان عن اِبتسامة، سرعان ما انقشعت حين أخرجت يداه شيئا مسطحًا من الدرج السفلي. تربع أرضا في حين مال بجذعه ليتوكأ على طرف سريره، وخفض رأسه لتعاين عيناه ذلك الشيء المحاط بيديه بحرص وعناية.
لقد كان إطارًا يحمل صورة بالأبيض والأسود لشيخ في الثمانين من عمره يجلس في حجره صبيّ لا يتجاوز عمره السبع سنوات، كانت البهجة تشع من تلك الصورة والسعادة بادية على محياهما.
قال عناد بصوته المتحشرج والدموع تخط سبيلها على وجهه:
- سامحاني فقد خيبت أملكما، أنا لم أعد أنا، أنا فاشل، غبي، أخرق، أنا جسد بلا روح، أنا كل شيء سيء في هذا الكون.
بت أكره نفسي بشكل لا يطاق، أنا عبء على العالم، أنا لا أستحق فرصة للحياة حتى، كل ما علي فعله هو الرحيل عن هذا العالم، وأراهن على أن لا أحد سيأسى علي، وهذا ما يزيد دافعي للرحيل.
أطلق ضحكة هستيرية ليردف بعدها:
- أخبرتكما أني بائس، لذا لنفعلها معا.
ثم علا صوت تحطيم.
Коментарі