القطعة الرابعة و الأخيرة
عيناه الكستنائيان لم تفارق تلك البقعة الصفراء الباهتة التي عمرت عدد أيام عمره على ذلك الجدار المتصدع.
هالة من الحزن أحاطت به وجعلت الجو كئيبا وخانقا. عزفت أوتار الشجن موسيقى صاخبة تصم الآذان، والوحدة اكتنفت جنبات هذه الغريفة المعتمة. جعبة وجهه كانت خالية من التعابير، وشفتاه انفرجت ليتجلى صف من اللؤلؤ المكنون. كان في مرحلة متقدمة من السرحان، لدرجة أنه لم يعد يتفاعل مع المؤثرات الخارجية.
هو لم يزل على هذه الحالة منذ آخر محاولة له على الاِنتحار. سعت والدته لإخراجه من قوقعته كالعادة، لكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها. لم تستطع استمالته بدموعها المفترات ولا بتوسلاتها التي كانت تحاول استعطافه بها عبثا. حتى طرف أخيه ماجد السامجة لم تعد تستجدي تمعره.
أمه تخاله مجرد شاب دمث، خجول، مترهل وضعيف الشخصية. وكذلك الكل أبصره من تلك الزاوية.
هم لم يدركوا أنهم أغفلوا جوانبًا في غور شخصيته، هو نفسه لم يتبينها .
وبينما هو سابح في ملكوته الخاص الذي اتخذه لذاته سبيلا للخلاص من عذابه النفسي، إذ بظلمة تغشاه وتطبق جدرانها عليه. لم يكن مجرد عطب في الإضاءة كفيلا بأن ينتشله من قعر شروده، إلى أن اخترق طبلة أذنه نشيج طفولي خافت. هذا الأنين الباكي أيقظ كل ذرة إحساس خبت فيه، انتفض على إثرها منقبا عن مصدره.
خطى وسط الظلام يقدم رجلا ويؤخر أخرى، إلى أن ساقه حدسه نحو حجرة أكثر دهمة. هناك علا النحيب وتسارعت معه وتيرة نبض فؤاد الشاب. وفي الركن انكمش طفل على نفسه، وظهره يهتز مع كل شهقة تنسل من وجدانه.
وعلى حين غرة رفع رأسه، ليفصح عن جذوة من نار أوقدت بمقلتيه اللتين تقاطرتا حممًا.
كان الصبي يرمقه شزرا، وسهام نظراته تكاد ترديه صريعا. لم يتمكن عناد من استيعاب الموقف إلا عندما وجد الصغير يمسكه من تلابيبه. وقف يحدق فيه بذهول؛ إنه يشبهه بشكل كبير وكأنه نسخة مصغرة منه. حتى ندبته التي على جبينه الأيسر، شاكله فيها. كان ذلك الصبي نحيلا و شاحبا لدرجة أن عظامه تبرز من تحت طبقة جلده الرقيقة.
هو مازال حاليًا في حالة الصدمة، التي مُحِيت حين خُدش وجهه من طرف مخالب الطفل، لتحدث جرحا عميقا بجانب حاجبه. انسحب عناد بسرعة جنونية ضامًا يديه إلى رأسه والدماء تهرق منه بغزارة، ثم صاح بانفعال:
- أنت متوحش، شرس. لا عجب أنك نبذت لوحدك في مثل هذا المنفى !
جحده الطفل بنظرات ساخطة أتبعها بزمجرة حادة:
- أنت هو الوحش الحقيقي الذي أحالني لهذه الحالة. أنت من صنعت مني غولا يتوارى خوفا من أن يتهكم الناس على بشاعته. أنت من دفنتني في جب النسيان وردمت قبري برمال الخذلان. كنتُ كزهرة ربيع، فبعثت إلي بزعزعان انكسارك لتزيل رونقي وتصرمني.
أغرتَ على ربوع سكينتي، فأزهقت كل معالم البهاء فيها، نهبتني نقائي وطهري وأبدلتهما زخما وعطنا. أنت من جعلتني أنتكس، والآن جئت لتشهد قذارة فعلك.
أي نعم، أنت صببت علي رجس رضوخك وإذعانك وانتكاسك. أنت من دنستني وجعلت مني روحًا واهية سادرة. أوَ الآن حُق لك أن تعيرني بنا أفسدته في؟
ظل يحدق في ارتياع بذلك الكيان الصغير، الذي شرع يتحور إلى وحش دميم الخلقة. تضاعف حجمه مع كل ملامة صدح بها. ما إن اكتملت هيئته المروعة حتى صرخ بهيجان، وهو يدك الأرض بحوافره الحيوانية الضخمة:
-سأقضي عليك لأثبت وجودي، ومن ثم آخذ بثأري من كل من دمرني في هذا العالم.
سرت قشعريرة في جسد عناد كصعقة كهربائية؛ إنها أول مرة يتعرض لمثل هذا التهديد.
أطلق الوحش صيحة مدوية، من شدتها تصدعت الجدران حولهم وانهارت. ليتراءى سطح الأرضية سابحا وسط لجة من الكواكب والأفلاك والنجوم .
فغر فاه ودهش لوهلة:
- أيعقل أن أكون في كابوس؟
في تلك الأثناء كان الوحش يتقدم نحوه، والأرض تميد بهم مع كل خطوة يخطوها. حتى كاد عناد يهوي في قعر الفضاء اللامتناهي.
وقف الندان وجها لوجه، كانت تلك لحظة أسطورية لشخص في مواجهة روحه الثائرة. مد الوحش يده لتمسك قبضته بعنق عناد، ثم توجه نحو الجرف ليلوح بالرجل كشاة مذبوحة. تلاقت أعينهما لتتبادلا العتاب و الملامة، باحتا بما لا يجسر اللسان على التلفظ به.
ثم ما فتئ أن خاطب عناد الوحش قائلا:
- أصغِ إلي وكأنها أول مرة نتعرف فيها على بعضنا.
أنت جزء مني وأنا أنتمي إليك. أنت ملاذي، وقوتك تستمدها فقط من تقديري لك. ونضارتك تنعكس على وجهي. إن تخلصت مني الآن فأنت هالك بعدي؛ لا حياة لك من دوني. أنا وأنت سواء.
اِزدرد ريقه ليكمل قائلا:
-اِمنحني ثقتك ودعنا نبدأ عهدًا جديدًا، نكون فيه كيانا واحدا ورائدا في الصدارة، شخصًا مؤثرا لا متأثرا، ونمضي معا لنسمو بهمتنا ونجعل أحلامنا واقعا نعيشه. لنقلبْ الموازين ونحول نقاط ضعفنا إلى قوة، ومعا لنردم الحاجز الذي أحاط بنا وطوق أفكارنا، ولنفتحْ أبواب الأمل التي أوصدناها... إذا لم تستشعر صدق كلامي، فاطرحني في جب التيهان؛ فالروح إن هان عليها نديمها، لم تعد المنية تهديدا يقض مضجعه، بل مطلبا يتوق له .
تراخت القبضة التي كانت تعيق مجرى تنفسه، وركد ريحها. فانسلخ الوحش عن صورته المرعبة، واِستحال طفلا وضح المحيا مونق الطلعة، تلألأت عيناه ببريق الحياة. أمسك بكف عناد وألقى عليه كلمات عذبة:
- هلمَّ بنا لنكتشف ألوان الحياة من جديد! لا مزيد من التردد والخجل، ولنبدِ جمالنا للعالم.
هش عناد في وجه الصبي و ضمه إلى صدره، ثم حدثه ممازحًا:
-ما أخبار مغامراتك السالفة في عالم البرزخ؟
أصدر الصغير زهزقة ناعمة وأجاب:
- لا تتعجل! فلدينا متسع من الوقت لأقص عليك كل نوادري؛ لأننا صرنا...
تراجع الطفل وصدح بأعلى صوته:
- معا إلى الأبد !
ما إن أتم عبارته، حتى تكور على نفسه وتحول إلى حجر أرجواني بديع، بحجم قبضة اليد. وفي خضم ذهوله المشوب بالجذل، تمتم عناد وهو يلتقط ذلك الحجر:
-إذا لقد كان حجر أماتيست!
ظل يردد هذه الجملة وهو يستعذب حلاوة كل حرف ينبس به.
الناس معادن منهم الذهب و منهم الفضة ومنهم النحاس، لكن روحه لم تكن معدنا. بل كانت حجرًا كريما يدعى "الأماتيست ".
~~~~
في مكان عبقت أجواؤه برائحة الموت، تعالت تهليلات وعبارات حمدلة. وما إن برز رجل يرتدي ملابسًا بيضاء، حتى تهافت عليه جمع من الناس. لتسأله إحداهم بصوت مهزوز ومستبشر:
- يا دكتور! أحقا شرع ابني في الاستجابة للعوامل الخارجية؟
فاه الرجل بجدية، في حين توجهت كل الأنظار نحوه:
- لنقل أن معجزة حدثت، وأعادت له الحياة، فكما أخبرتكم آنفا، أن كل وظائف المريض الحيوية كانت متوقفة ما عدا قلبه. الذي حرصنا على بقاء نبضه بشق الأنفس. لكن ما أثار فضولي حقا، هو الكلمات التي نطقها.
- وما الذي كان يتفوه به؟
هتف بهذا التساؤل رجل في عقده الثالث. ليصدح الطبيب في حيرة:
- لقد كان يقول "إنه حجر الأماتيست "
هالة من الحزن أحاطت به وجعلت الجو كئيبا وخانقا. عزفت أوتار الشجن موسيقى صاخبة تصم الآذان، والوحدة اكتنفت جنبات هذه الغريفة المعتمة. جعبة وجهه كانت خالية من التعابير، وشفتاه انفرجت ليتجلى صف من اللؤلؤ المكنون. كان في مرحلة متقدمة من السرحان، لدرجة أنه لم يعد يتفاعل مع المؤثرات الخارجية.
هو لم يزل على هذه الحالة منذ آخر محاولة له على الاِنتحار. سعت والدته لإخراجه من قوقعته كالعادة، لكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها. لم تستطع استمالته بدموعها المفترات ولا بتوسلاتها التي كانت تحاول استعطافه بها عبثا. حتى طرف أخيه ماجد السامجة لم تعد تستجدي تمعره.
أمه تخاله مجرد شاب دمث، خجول، مترهل وضعيف الشخصية. وكذلك الكل أبصره من تلك الزاوية.
هم لم يدركوا أنهم أغفلوا جوانبًا في غور شخصيته، هو نفسه لم يتبينها .
وبينما هو سابح في ملكوته الخاص الذي اتخذه لذاته سبيلا للخلاص من عذابه النفسي، إذ بظلمة تغشاه وتطبق جدرانها عليه. لم يكن مجرد عطب في الإضاءة كفيلا بأن ينتشله من قعر شروده، إلى أن اخترق طبلة أذنه نشيج طفولي خافت. هذا الأنين الباكي أيقظ كل ذرة إحساس خبت فيه، انتفض على إثرها منقبا عن مصدره.
خطى وسط الظلام يقدم رجلا ويؤخر أخرى، إلى أن ساقه حدسه نحو حجرة أكثر دهمة. هناك علا النحيب وتسارعت معه وتيرة نبض فؤاد الشاب. وفي الركن انكمش طفل على نفسه، وظهره يهتز مع كل شهقة تنسل من وجدانه.
وعلى حين غرة رفع رأسه، ليفصح عن جذوة من نار أوقدت بمقلتيه اللتين تقاطرتا حممًا.
كان الصبي يرمقه شزرا، وسهام نظراته تكاد ترديه صريعا. لم يتمكن عناد من استيعاب الموقف إلا عندما وجد الصغير يمسكه من تلابيبه. وقف يحدق فيه بذهول؛ إنه يشبهه بشكل كبير وكأنه نسخة مصغرة منه. حتى ندبته التي على جبينه الأيسر، شاكله فيها. كان ذلك الصبي نحيلا و شاحبا لدرجة أن عظامه تبرز من تحت طبقة جلده الرقيقة.
هو مازال حاليًا في حالة الصدمة، التي مُحِيت حين خُدش وجهه من طرف مخالب الطفل، لتحدث جرحا عميقا بجانب حاجبه. انسحب عناد بسرعة جنونية ضامًا يديه إلى رأسه والدماء تهرق منه بغزارة، ثم صاح بانفعال:
- أنت متوحش، شرس. لا عجب أنك نبذت لوحدك في مثل هذا المنفى !
جحده الطفل بنظرات ساخطة أتبعها بزمجرة حادة:
- أنت هو الوحش الحقيقي الذي أحالني لهذه الحالة. أنت من صنعت مني غولا يتوارى خوفا من أن يتهكم الناس على بشاعته. أنت من دفنتني في جب النسيان وردمت قبري برمال الخذلان. كنتُ كزهرة ربيع، فبعثت إلي بزعزعان انكسارك لتزيل رونقي وتصرمني.
أغرتَ على ربوع سكينتي، فأزهقت كل معالم البهاء فيها، نهبتني نقائي وطهري وأبدلتهما زخما وعطنا. أنت من جعلتني أنتكس، والآن جئت لتشهد قذارة فعلك.
أي نعم، أنت صببت علي رجس رضوخك وإذعانك وانتكاسك. أنت من دنستني وجعلت مني روحًا واهية سادرة. أوَ الآن حُق لك أن تعيرني بنا أفسدته في؟
ظل يحدق في ارتياع بذلك الكيان الصغير، الذي شرع يتحور إلى وحش دميم الخلقة. تضاعف حجمه مع كل ملامة صدح بها. ما إن اكتملت هيئته المروعة حتى صرخ بهيجان، وهو يدك الأرض بحوافره الحيوانية الضخمة:
-سأقضي عليك لأثبت وجودي، ومن ثم آخذ بثأري من كل من دمرني في هذا العالم.
سرت قشعريرة في جسد عناد كصعقة كهربائية؛ إنها أول مرة يتعرض لمثل هذا التهديد.
أطلق الوحش صيحة مدوية، من شدتها تصدعت الجدران حولهم وانهارت. ليتراءى سطح الأرضية سابحا وسط لجة من الكواكب والأفلاك والنجوم .
فغر فاه ودهش لوهلة:
- أيعقل أن أكون في كابوس؟
في تلك الأثناء كان الوحش يتقدم نحوه، والأرض تميد بهم مع كل خطوة يخطوها. حتى كاد عناد يهوي في قعر الفضاء اللامتناهي.
وقف الندان وجها لوجه، كانت تلك لحظة أسطورية لشخص في مواجهة روحه الثائرة. مد الوحش يده لتمسك قبضته بعنق عناد، ثم توجه نحو الجرف ليلوح بالرجل كشاة مذبوحة. تلاقت أعينهما لتتبادلا العتاب و الملامة، باحتا بما لا يجسر اللسان على التلفظ به.
ثم ما فتئ أن خاطب عناد الوحش قائلا:
- أصغِ إلي وكأنها أول مرة نتعرف فيها على بعضنا.
أنت جزء مني وأنا أنتمي إليك. أنت ملاذي، وقوتك تستمدها فقط من تقديري لك. ونضارتك تنعكس على وجهي. إن تخلصت مني الآن فأنت هالك بعدي؛ لا حياة لك من دوني. أنا وأنت سواء.
اِزدرد ريقه ليكمل قائلا:
-اِمنحني ثقتك ودعنا نبدأ عهدًا جديدًا، نكون فيه كيانا واحدا ورائدا في الصدارة، شخصًا مؤثرا لا متأثرا، ونمضي معا لنسمو بهمتنا ونجعل أحلامنا واقعا نعيشه. لنقلبْ الموازين ونحول نقاط ضعفنا إلى قوة، ومعا لنردم الحاجز الذي أحاط بنا وطوق أفكارنا، ولنفتحْ أبواب الأمل التي أوصدناها... إذا لم تستشعر صدق كلامي، فاطرحني في جب التيهان؛ فالروح إن هان عليها نديمها، لم تعد المنية تهديدا يقض مضجعه، بل مطلبا يتوق له .
تراخت القبضة التي كانت تعيق مجرى تنفسه، وركد ريحها. فانسلخ الوحش عن صورته المرعبة، واِستحال طفلا وضح المحيا مونق الطلعة، تلألأت عيناه ببريق الحياة. أمسك بكف عناد وألقى عليه كلمات عذبة:
- هلمَّ بنا لنكتشف ألوان الحياة من جديد! لا مزيد من التردد والخجل، ولنبدِ جمالنا للعالم.
هش عناد في وجه الصبي و ضمه إلى صدره، ثم حدثه ممازحًا:
-ما أخبار مغامراتك السالفة في عالم البرزخ؟
أصدر الصغير زهزقة ناعمة وأجاب:
- لا تتعجل! فلدينا متسع من الوقت لأقص عليك كل نوادري؛ لأننا صرنا...
تراجع الطفل وصدح بأعلى صوته:
- معا إلى الأبد !
ما إن أتم عبارته، حتى تكور على نفسه وتحول إلى حجر أرجواني بديع، بحجم قبضة اليد. وفي خضم ذهوله المشوب بالجذل، تمتم عناد وهو يلتقط ذلك الحجر:
-إذا لقد كان حجر أماتيست!
ظل يردد هذه الجملة وهو يستعذب حلاوة كل حرف ينبس به.
الناس معادن منهم الذهب و منهم الفضة ومنهم النحاس، لكن روحه لم تكن معدنا. بل كانت حجرًا كريما يدعى "الأماتيست ".
~~~~
في مكان عبقت أجواؤه برائحة الموت، تعالت تهليلات وعبارات حمدلة. وما إن برز رجل يرتدي ملابسًا بيضاء، حتى تهافت عليه جمع من الناس. لتسأله إحداهم بصوت مهزوز ومستبشر:
- يا دكتور! أحقا شرع ابني في الاستجابة للعوامل الخارجية؟
فاه الرجل بجدية، في حين توجهت كل الأنظار نحوه:
- لنقل أن معجزة حدثت، وأعادت له الحياة، فكما أخبرتكم آنفا، أن كل وظائف المريض الحيوية كانت متوقفة ما عدا قلبه. الذي حرصنا على بقاء نبضه بشق الأنفس. لكن ما أثار فضولي حقا، هو الكلمات التي نطقها.
- وما الذي كان يتفوه به؟
هتف بهذا التساؤل رجل في عقده الثالث. ليصدح الطبيب في حيرة:
- لقد كان يقول "إنه حجر الأماتيست "
Коментарі