الفصل الرابع
عاد بذاكرته بعيدا، إلى تفاصيل لم يظن يوما أنها قد تقلب موازين دنياه إلى الأبد.
بدأت قصته ذات يوم مكرر.
قبل سنتين، عاد من السوق بعد أن انتهى من بيع الفطائر التي تعدها أمه كل صباح، إذ لم تكن شهاداته العليا تكفي كي يحصل على وظيفة في وطن يدرس فيه الأفراد ليتخرجوا عاطلين عن العمل.
بعد عناء يوم كامل اعتاد ارتياد المقهى الشعبي مع رفاقه، أثناء حديثهم باح أحدهم بأن رحلة غير شرعية تنظم إلى إيطاليا.
أراضي إيطاليا باتت منذ سنين الحلم الموحد لكل شباب هذا الوطن، حين تنقبض الحياة في وجوههم و تنغلق السبل، يهرعون إلى الهجرة نحو أوروبا، متوهمين أن أبواب الجنة تفتح هناك، و أن الأقدار ستتغير بين شوارع روما.
يحيى كان شابا يافعا و طموحا، صدق أن إيطاليا -جنة السراب- ستكون نقطة تحول حاسمة تنقذه من براثن الفقر الشره. تناسى توصيات والده من أن الوطن لا يرحم رجلا تنكر له. بعد اغتياله آمن أن الوطن لا يرحم أحدا من دون أن يخطر له أن الموت بشرف أكرم من حياة بذنب لا يضمحل.
في تلك الليلة، جمع داخل حقيبة صغيرة بعض الأغراض و المؤونة، أخذ مدخرات والدته التي جمعتها على مدى سنوات بنية اللجوء إليها خلال الأيام السوداء، مبررا لنفسه أنه حين يصل إلى الضفة المقابلة سيجني أكثر منها، و غادر من دون أن يودعها.
عند منتصف الليل و النصف، بلغ الميناء الذي سينطلق منه مع ثلة من أعز رفاقه. قدموا المال المطلوب للمنظم و امتطوا المركب الصغير منتظرين أن يكتمل عددهم و تحين اللحظة المناسبة للانطلاق.
عند أول ساعات الفجر باشروا رحلتهم و قد صار عددهم قرابة المائة و الخمسين نفرا، استقروا بعضهم على سطحه متفرقين على جانبيه و منبطحين كي لا يثيروا ريبة خفر السواحل، و بعضهم لجأ إلى الخزان بالأسفل فارا من منظر المحيط المرعب. يحيى كان بالأعلى بدخن سيجارته بقلق و يغني رفقة من انطلقوا بالشدو مستبشرين بالحياة الجميلة في إيطاليا.
مرت الساعات طويلة، و أصاب الإنهاك الأغلبية؛ بعضهم كان يتقيأ من وقت لآخر و قد أصابه دوار البحر، و بعضهم انتابه الملل و الخوف من أي مفاجأة تنتظره. أما يحيى فقد اجتمع مع أصدقائه يؤسس معهم أحلاما عن الحياة الجديدة البعيدة عن الفقر و المعاناة، شاردا بين اللحظة و الأخرى مفكرا في موقف أمه منه حين يصلها خبر رحيله، مواسيا نفسه بقرار تعويضها عن كل هذا قريبا.
حين بدأ الليل بإسدال سيتاره معلنا بداية حفلة القمر و نجومه، اندفعت الغيوم لتتلبد في قلب السماء معلنة عن عاصفة قريبة. ارتسم القلق على وجوه المهاجرين و تبادلوا نظرات شاحبة.
بلع ريقه بصعوبة و هو ينقل بصره بين السماء و البحر و وجوه رفاقه. انتابه خوف غريب من ملاقاة حتفه، إذ أنه قبل هذه اللحظة لم يفكر بمصير أمه التي تركها وحيدة لا معيل لها، آخذا آخر فلس احتفظت به. اشتد نبضه و ثقل تنفسه بعد أن اكتشف حجم أنانيته، فلا شيء يعري ذواتنا عن غرورها أكثر من موت قريب.
-" أيمكن أن يكون هذا آخر لقاء لنا ؟ "
قالها أحد أصدقائه المقربين و قد صبغ الخوف ملامحه، فأجاب محاولا أن يحافظ على هدوء أعصابه:
-" كف عن الهراء، مازالت ساعة أو ساعتان و نصل. أضواء جزيرة " لامبادوزة" بدأت تظهر، سننجو."
همس صوت آخر خلف أذنه:
-" أتجيدون السباحة؟"
التفت له الجميع و قد لاحظوا مدى توتره، تذكروا لحظتها أنه لطالما عانى رهابا من البحر. لم يجيبوه لأن الرياح اشتدت و أعلن الموج عن غضبه. ارتفع صوت التكبير و الدعاء، صوت البكاء و النحيب، أصوات الرجاء، امتزجت جميعها لتكون أغنية جماعية تنادي بطرد الموت بعيدا.
بدأ الماء يتسرب إلى المركب و أعلن الربان أنه قد فقد السيطرة. تشنجت أعصاب الجميع، حاول أن يتهجم عليه بعضهم لكن صوت تحطم خشب المركب ما جعلهم يتراجعون و يبدؤون بالحركة العشوائية على السطح كل يحاول أن يجد منفذا لنفسه. الأمر الوحيد الذي بث فيهم الأمل، صوت الربان الذي أطلق نداءات الإستغاثة من الجزر الإيطالية المجاورة.
هو فقد أصدقاءه بين الجموع، ناداهم و لكن الأصوات العالية جعلت خاصته يتلاشى، أرعبه صوت التحطم الثاني فانبطح على الأرضية محاولا التشبث، باحثا بنظراته عنهم، لكن دون جدوى. أحس بجسده يميل ببطئ فأدرك أن المركب يغرق. ازداد قلقه على صديقه الذي لا يجيد السباحة، فعاد يبحث عنه كأم أضاعت وحيدها.
أحس بالماء يسحبه ثم يرفعه و يرميه ككرة صغيرة. حاول أن يقاوم العاصفة طافيا تارة فوق الموج و طورا متخبطا في أعماق البحر. ظل ذهنه شتاتا بين نفسه و بينهم، كلما رأى رجلا يغرق أو يرفع صوت الشهادة نادى عليهم خوفا من أن يكون الغريق الجديد أحدهم. بقي بعد كل مرة يرتفع فيها يطلق صيحة تحمل أحد الأسماء، فيمتصها البحر ساخرا من حنجرته.
حين أدركه التعب، استسلم فوق خشبة خلفها الحطام، و سلم أمره لله.
*******************
فتح جفناه بتثاقل و هو يسعل بشدة بعد أن أزعجه صوت النوارس العالي. فرك عيناه و حاول القيام بصعوبة مقاوما الألم الشديد، شعر كأنما قد سحقه أحدهم بيديه ليلة البارحة فلم يبقي على عظمة سليمة واحدة بجسده. تذكر فجأة كل تلك الأحداث فأرسل نظرة متفحصة حوله.
أدرك أنه قد بلغ الأراضي الإيطالية بعد أن وصلت فرق الإنقاذ، ذاك أنه قد وجد نفسه نائما على غلاف بلاستيكي رفقة ما يقارب العشرين رجلا. قام و تجول بينهم مركزا نظره على ملامحهم باحثا عن وجه يعرفه، حين يئس منهم اقترب من أحدهم و سأله:
- " ألا يوجد آخرون غيرنا هنا؟ أعني أين البقية؟ هل من ملاجئ أخرى؟"
طأطأ الشاب رأسه و همس بانكسار:
-" هؤلاء كل من نجى، عثروا على بعض الجثث أيضا، قد تجد ضالتك هناك، البقية ابتلعهم البحر. أنا أيضا فقدت شقيقي."
انقبض فجأة، و خرج مسرعا ليجد نفسه واقفا أمام جموع محتجة من الإيطاليين تطالب بإعادة الوافدين الجدد إلى أراضيهم، ذاك أن السكان الأصليين قد ملوا من هؤلاء المهاجرين الذين صاروا يقاسطونهم كل شيء. حاول أن يتجاهلهم و ركض ماسحا الميناء ببصره آملا أن يعثر على أحد أقرانه. في النهاية توجه إلى حيث جمعوا الجثث لنقلها إلى الثلاجات و إعادتها لاحقا إلى أوطانها، فأدخله الشرطي كي يرى إن كان يعرف أحدهم.
اتسعت عيناه بصدمة حين رفع الغطاء عن صديق طفولته الأقرب إلى قلبه. لم يتمالك نفسه، غطى وجهه بيديه و سالت دموعه، اقترب منه و عانقه بقوة محاولا أن يبث في صدره و لو بعض حياة. تذكر لحظتها يوم عانق جثة والده يرجوه أن لا يغادره، فاشتعل ألم الرصاصات داخل روحه مجددا و وضع رأسه على رقبة الصديق الميت مستسلما لبكاء حاد.
و هو يهم بالخروج، أشار له الشرطي أن يذهب ليسجل اسمه في سجل الناجيين ليتم إعلام السلطات التونسية بأمرهم و ترحيلهم ما إن تتم الإجراءات اللازمة. أومأ له متظاهرا بأنه كان يسمعه و سار كالتائه حول الميناء. في النهاية تسلل إلى خارجه محاولا الابتعاد قدر الإمكان عن ذاك المكان و قد بدأ الحزن يتلف كل حلم جميل رآه قبل بلوغ هذه الضفة.
بعد أن ركض قليلا، وقع على ركبتيهو أسلم ثقل جسده لذراعيه لاهثا، أحس بالغثيان و فجأة تقيأ وجعه، و بدأ بالسعال محيطا بطنه بذراعيه بألم.
*****************************
مرت الأيام متسارعة و هو يتجول من مدينة لأخرى، من محل إلى مطعم، باحثا في كل زاوية عن عمل يقتات منه أو مأوى. لكن الحظ قد نفاه عن لائحته هذه المرة أيضا، أدرك حينها أن أبواب الحياة لا يمكن أن تفتح في وجه من ترك أما تعيش مرتشفة دمعاتها.
ظل يقاوم بإصرار من أجلها، حتى يعود إليها بأكثر مما سلبها. جعلته تلك الحاجة ينظم أخيرا إلى إحدى عصابات ترويج المخدرات في حي مشبوه. وافق على مضض و أصبح من أهم المروجين أمام بوابات المدارس مستدرجا المراهقين الطائشين لسطوة ذاك الأفيون.
اختبر و لأول مرة أن يسير ضد نفسه، أظ يلطخ يداه بالخطيئة، و يعيش بذنب ضحايا كان أهم المدافعين عنهم و المناهضين للمروجين الذين يستدرجونهم بحيه القديم. ذاك ما كان يطلق عليه سخرية القدر، أن يرتكب بيديه الجرم الذي أفنى عمرا يتصدى له.
كان يتمزق بين ألم الفقدان الذي لا يشفى، عذاب ضميره إثر كل نفس يطلقه، و الخوف من أن يقبض عليه أثناء قيامه بعمله الدنيء أو أثناء تجواله بين الشوارع بهوية مجهولة و وجود غير شرعي، فحتى الحصول على أوراق الإقامة هناك قارب أن يكون أحد المستحيلات.
و بعد مضي سنتين من الصراع اللامجدي، و المقاومة التي باتت تجره نحو القاع اليوم تلو الآخر، خارت قدرة تحمله و اتخذ قرارا حاسما. قصد السفارة التونسية و ركع أمام المسؤولين يتوسلهم أن يعيدوه إلى وطنه. هكذا تم ترحيله مع أول طائرة متجهة نحو " مطار تونس قرطاج الدولي" حيث قرر أن يعود إلى حياته السابقة المطمئمنة، غير واع بما كان ينتظره من مفاجآة الحياة القاسية.
أفاق من ذكرياته بعد أن سالت على خده دمعة حارقة، مسحها متنهدا و وقف ينظر للبحر بحنين، فهناك قد أودع الجزء الجميل من طفولته.
لامس نسيم خفيف وجهه ففتح يديه ليستقبله باكيا بصوت عال، أحدهم أخبره ذات يوم بأن الرياح تحمل إلينا أرواح أحبتنا لتعانقنا كلما اشتاقت إلينا. كان يدرك أنها فكرة طفولية تافهة، لكن شوقه المسعور إليهم جعله يريد أن يؤمن بكل تلك الخرافات، فكل ما كان يشتهيه من الذين غادروه بلا رجعة... عناق الوداع الأخير.
_________________
بدأت قصته ذات يوم مكرر.
قبل سنتين، عاد من السوق بعد أن انتهى من بيع الفطائر التي تعدها أمه كل صباح، إذ لم تكن شهاداته العليا تكفي كي يحصل على وظيفة في وطن يدرس فيه الأفراد ليتخرجوا عاطلين عن العمل.
بعد عناء يوم كامل اعتاد ارتياد المقهى الشعبي مع رفاقه، أثناء حديثهم باح أحدهم بأن رحلة غير شرعية تنظم إلى إيطاليا.
أراضي إيطاليا باتت منذ سنين الحلم الموحد لكل شباب هذا الوطن، حين تنقبض الحياة في وجوههم و تنغلق السبل، يهرعون إلى الهجرة نحو أوروبا، متوهمين أن أبواب الجنة تفتح هناك، و أن الأقدار ستتغير بين شوارع روما.
يحيى كان شابا يافعا و طموحا، صدق أن إيطاليا -جنة السراب- ستكون نقطة تحول حاسمة تنقذه من براثن الفقر الشره. تناسى توصيات والده من أن الوطن لا يرحم رجلا تنكر له. بعد اغتياله آمن أن الوطن لا يرحم أحدا من دون أن يخطر له أن الموت بشرف أكرم من حياة بذنب لا يضمحل.
في تلك الليلة، جمع داخل حقيبة صغيرة بعض الأغراض و المؤونة، أخذ مدخرات والدته التي جمعتها على مدى سنوات بنية اللجوء إليها خلال الأيام السوداء، مبررا لنفسه أنه حين يصل إلى الضفة المقابلة سيجني أكثر منها، و غادر من دون أن يودعها.
عند منتصف الليل و النصف، بلغ الميناء الذي سينطلق منه مع ثلة من أعز رفاقه. قدموا المال المطلوب للمنظم و امتطوا المركب الصغير منتظرين أن يكتمل عددهم و تحين اللحظة المناسبة للانطلاق.
عند أول ساعات الفجر باشروا رحلتهم و قد صار عددهم قرابة المائة و الخمسين نفرا، استقروا بعضهم على سطحه متفرقين على جانبيه و منبطحين كي لا يثيروا ريبة خفر السواحل، و بعضهم لجأ إلى الخزان بالأسفل فارا من منظر المحيط المرعب. يحيى كان بالأعلى بدخن سيجارته بقلق و يغني رفقة من انطلقوا بالشدو مستبشرين بالحياة الجميلة في إيطاليا.
مرت الساعات طويلة، و أصاب الإنهاك الأغلبية؛ بعضهم كان يتقيأ من وقت لآخر و قد أصابه دوار البحر، و بعضهم انتابه الملل و الخوف من أي مفاجأة تنتظره. أما يحيى فقد اجتمع مع أصدقائه يؤسس معهم أحلاما عن الحياة الجديدة البعيدة عن الفقر و المعاناة، شاردا بين اللحظة و الأخرى مفكرا في موقف أمه منه حين يصلها خبر رحيله، مواسيا نفسه بقرار تعويضها عن كل هذا قريبا.
حين بدأ الليل بإسدال سيتاره معلنا بداية حفلة القمر و نجومه، اندفعت الغيوم لتتلبد في قلب السماء معلنة عن عاصفة قريبة. ارتسم القلق على وجوه المهاجرين و تبادلوا نظرات شاحبة.
بلع ريقه بصعوبة و هو ينقل بصره بين السماء و البحر و وجوه رفاقه. انتابه خوف غريب من ملاقاة حتفه، إذ أنه قبل هذه اللحظة لم يفكر بمصير أمه التي تركها وحيدة لا معيل لها، آخذا آخر فلس احتفظت به. اشتد نبضه و ثقل تنفسه بعد أن اكتشف حجم أنانيته، فلا شيء يعري ذواتنا عن غرورها أكثر من موت قريب.
-" أيمكن أن يكون هذا آخر لقاء لنا ؟ "
قالها أحد أصدقائه المقربين و قد صبغ الخوف ملامحه، فأجاب محاولا أن يحافظ على هدوء أعصابه:
-" كف عن الهراء، مازالت ساعة أو ساعتان و نصل. أضواء جزيرة " لامبادوزة" بدأت تظهر، سننجو."
همس صوت آخر خلف أذنه:
-" أتجيدون السباحة؟"
التفت له الجميع و قد لاحظوا مدى توتره، تذكروا لحظتها أنه لطالما عانى رهابا من البحر. لم يجيبوه لأن الرياح اشتدت و أعلن الموج عن غضبه. ارتفع صوت التكبير و الدعاء، صوت البكاء و النحيب، أصوات الرجاء، امتزجت جميعها لتكون أغنية جماعية تنادي بطرد الموت بعيدا.
بدأ الماء يتسرب إلى المركب و أعلن الربان أنه قد فقد السيطرة. تشنجت أعصاب الجميع، حاول أن يتهجم عليه بعضهم لكن صوت تحطم خشب المركب ما جعلهم يتراجعون و يبدؤون بالحركة العشوائية على السطح كل يحاول أن يجد منفذا لنفسه. الأمر الوحيد الذي بث فيهم الأمل، صوت الربان الذي أطلق نداءات الإستغاثة من الجزر الإيطالية المجاورة.
هو فقد أصدقاءه بين الجموع، ناداهم و لكن الأصوات العالية جعلت خاصته يتلاشى، أرعبه صوت التحطم الثاني فانبطح على الأرضية محاولا التشبث، باحثا بنظراته عنهم، لكن دون جدوى. أحس بجسده يميل ببطئ فأدرك أن المركب يغرق. ازداد قلقه على صديقه الذي لا يجيد السباحة، فعاد يبحث عنه كأم أضاعت وحيدها.
أحس بالماء يسحبه ثم يرفعه و يرميه ككرة صغيرة. حاول أن يقاوم العاصفة طافيا تارة فوق الموج و طورا متخبطا في أعماق البحر. ظل ذهنه شتاتا بين نفسه و بينهم، كلما رأى رجلا يغرق أو يرفع صوت الشهادة نادى عليهم خوفا من أن يكون الغريق الجديد أحدهم. بقي بعد كل مرة يرتفع فيها يطلق صيحة تحمل أحد الأسماء، فيمتصها البحر ساخرا من حنجرته.
حين أدركه التعب، استسلم فوق خشبة خلفها الحطام، و سلم أمره لله.
*******************
فتح جفناه بتثاقل و هو يسعل بشدة بعد أن أزعجه صوت النوارس العالي. فرك عيناه و حاول القيام بصعوبة مقاوما الألم الشديد، شعر كأنما قد سحقه أحدهم بيديه ليلة البارحة فلم يبقي على عظمة سليمة واحدة بجسده. تذكر فجأة كل تلك الأحداث فأرسل نظرة متفحصة حوله.
أدرك أنه قد بلغ الأراضي الإيطالية بعد أن وصلت فرق الإنقاذ، ذاك أنه قد وجد نفسه نائما على غلاف بلاستيكي رفقة ما يقارب العشرين رجلا. قام و تجول بينهم مركزا نظره على ملامحهم باحثا عن وجه يعرفه، حين يئس منهم اقترب من أحدهم و سأله:
- " ألا يوجد آخرون غيرنا هنا؟ أعني أين البقية؟ هل من ملاجئ أخرى؟"
طأطأ الشاب رأسه و همس بانكسار:
-" هؤلاء كل من نجى، عثروا على بعض الجثث أيضا، قد تجد ضالتك هناك، البقية ابتلعهم البحر. أنا أيضا فقدت شقيقي."
انقبض فجأة، و خرج مسرعا ليجد نفسه واقفا أمام جموع محتجة من الإيطاليين تطالب بإعادة الوافدين الجدد إلى أراضيهم، ذاك أن السكان الأصليين قد ملوا من هؤلاء المهاجرين الذين صاروا يقاسطونهم كل شيء. حاول أن يتجاهلهم و ركض ماسحا الميناء ببصره آملا أن يعثر على أحد أقرانه. في النهاية توجه إلى حيث جمعوا الجثث لنقلها إلى الثلاجات و إعادتها لاحقا إلى أوطانها، فأدخله الشرطي كي يرى إن كان يعرف أحدهم.
اتسعت عيناه بصدمة حين رفع الغطاء عن صديق طفولته الأقرب إلى قلبه. لم يتمالك نفسه، غطى وجهه بيديه و سالت دموعه، اقترب منه و عانقه بقوة محاولا أن يبث في صدره و لو بعض حياة. تذكر لحظتها يوم عانق جثة والده يرجوه أن لا يغادره، فاشتعل ألم الرصاصات داخل روحه مجددا و وضع رأسه على رقبة الصديق الميت مستسلما لبكاء حاد.
و هو يهم بالخروج، أشار له الشرطي أن يذهب ليسجل اسمه في سجل الناجيين ليتم إعلام السلطات التونسية بأمرهم و ترحيلهم ما إن تتم الإجراءات اللازمة. أومأ له متظاهرا بأنه كان يسمعه و سار كالتائه حول الميناء. في النهاية تسلل إلى خارجه محاولا الابتعاد قدر الإمكان عن ذاك المكان و قد بدأ الحزن يتلف كل حلم جميل رآه قبل بلوغ هذه الضفة.
بعد أن ركض قليلا، وقع على ركبتيهو أسلم ثقل جسده لذراعيه لاهثا، أحس بالغثيان و فجأة تقيأ وجعه، و بدأ بالسعال محيطا بطنه بذراعيه بألم.
*****************************
مرت الأيام متسارعة و هو يتجول من مدينة لأخرى، من محل إلى مطعم، باحثا في كل زاوية عن عمل يقتات منه أو مأوى. لكن الحظ قد نفاه عن لائحته هذه المرة أيضا، أدرك حينها أن أبواب الحياة لا يمكن أن تفتح في وجه من ترك أما تعيش مرتشفة دمعاتها.
ظل يقاوم بإصرار من أجلها، حتى يعود إليها بأكثر مما سلبها. جعلته تلك الحاجة ينظم أخيرا إلى إحدى عصابات ترويج المخدرات في حي مشبوه. وافق على مضض و أصبح من أهم المروجين أمام بوابات المدارس مستدرجا المراهقين الطائشين لسطوة ذاك الأفيون.
اختبر و لأول مرة أن يسير ضد نفسه، أظ يلطخ يداه بالخطيئة، و يعيش بذنب ضحايا كان أهم المدافعين عنهم و المناهضين للمروجين الذين يستدرجونهم بحيه القديم. ذاك ما كان يطلق عليه سخرية القدر، أن يرتكب بيديه الجرم الذي أفنى عمرا يتصدى له.
كان يتمزق بين ألم الفقدان الذي لا يشفى، عذاب ضميره إثر كل نفس يطلقه، و الخوف من أن يقبض عليه أثناء قيامه بعمله الدنيء أو أثناء تجواله بين الشوارع بهوية مجهولة و وجود غير شرعي، فحتى الحصول على أوراق الإقامة هناك قارب أن يكون أحد المستحيلات.
و بعد مضي سنتين من الصراع اللامجدي، و المقاومة التي باتت تجره نحو القاع اليوم تلو الآخر، خارت قدرة تحمله و اتخذ قرارا حاسما. قصد السفارة التونسية و ركع أمام المسؤولين يتوسلهم أن يعيدوه إلى وطنه. هكذا تم ترحيله مع أول طائرة متجهة نحو " مطار تونس قرطاج الدولي" حيث قرر أن يعود إلى حياته السابقة المطمئمنة، غير واع بما كان ينتظره من مفاجآة الحياة القاسية.
أفاق من ذكرياته بعد أن سالت على خده دمعة حارقة، مسحها متنهدا و وقف ينظر للبحر بحنين، فهناك قد أودع الجزء الجميل من طفولته.
لامس نسيم خفيف وجهه ففتح يديه ليستقبله باكيا بصوت عال، أحدهم أخبره ذات يوم بأن الرياح تحمل إلينا أرواح أحبتنا لتعانقنا كلما اشتاقت إلينا. كان يدرك أنها فكرة طفولية تافهة، لكن شوقه المسعور إليهم جعله يريد أن يؤمن بكل تلك الخرافات، فكل ما كان يشتهيه من الذين غادروه بلا رجعة... عناق الوداع الأخير.
_________________
Коментарі