الفصل الثاني
عانق القبر كطفل جريح مستشعرا دقّات الألم تمتزج بنبضه. بدأت الصّور القديمة تتشكل أمامه، لهذا يكره أن يزور المقبرة; كي لا يرى ذاك اليوم الأسود يتكرّر في مخيّلته، حتّى بعد قطيعة سنتين خارج أسوار الوطن مازال كلّ تفصيل صغير يشعّ بغصصه. أغمض عيناه و سافر بالذّاكرة بعيدا.
" كان صبيًا صغيرًا و سعيدًا. خرج من مدرسته راكضا يعانق دفتر النتائج و يلوّح بدعوة تكريمه في حفلة آخر السّنة. كان كمن يحلّق بأجنحة من النّور الخفي، وجهه لا يتّسع ليحمل ابتسامته كاملة. دخل أزقّة الحيّ الشعبي
الذّي يسكنه مهلّلا من شدّة الفرح.
مرّ أمام دكّان الحلاّق مهرولا فصاح به الرّجل العجوز:
- يحيى أيها المجنون الصّغير ما خطبك؟
توقّف و عاد إليه، رفع الدّفتر و الدّعوة ناحيته بحماس و قال:
- أنظر.. لقد حللت الأول على الصف.. أنا مدعو لأستلم الجائزة الأولى بالمدرسة. وعدني بابا أن يعطيني عشرة دنانير إذا تفوّقت.
أدخل العجوز المجعّد يده في جيبه كأنّما يبحث عن شيء، أمسك يده و ضرب على كفته بقوة واضعا داخلها القطعة الفضيّة ثمّ داعب شعره ببشاشة.
- هكذا يصبح عددها إحدى عشر دينارا.
عاد إلى الجري مجدّدا و بدأ يغنّي الهتافات التي حفظها عن والده. رأى إحدى نساء الحي تنشر غسيلها بالشّرفة فصاح بها و هو يخرج لسانه بسخرية:
- لقد تفوّقت على ابنك الأفطس، يا أمّ الفاشل.
أمسكت بالسّطل البلاستيكي و رشّت الماء ناحيته بغضب ففرّ ضاحكا بصوت عال. حين اقترب من دكّان أبيه بدأ بالقفز ملوّحا بيديه و رأسه مناديا باسمه بعبثيّة و مرح.
صوت القعقعة الذي دوّى فجأة في الأرجاء جعله يتجمّد في مكانه مرعوبا، هذا الصّوت لا يعني له شيئا أكثر من الموت. سمعه مرّة واحدة في حياته من التّلفاز، رأى بعده صورة ذاك الطّفل الفلسطيني "محمد الدّرة" يهوي ميتا على الأرض. لا يمكنه أن ينساه لأنّه لم يفتح التّلفاز أبدا من بعده. هذا الصوت ينهي عمر الإنسان قبل أوانه.
الصيّاح الذي صدح بعده زرع بقلبه رغبة في البكاء. سار مسرع الخطوات جهة الدكاّن. فجأة، لمح رجلا ملثّما يخرج راكضا من البقالة الصّغيرة و يصطدم به ليوقعه أرضا بقوّة. قام لينفض ملابسه من الغبار متأوها. رأى إثره رجال الحيّ يطاردونه، فركض مقطّبا جبينه قلقا.
توقف أمام الباب و هو يرى الحشد الذّي اجتمع بالدّاخل، سقط دفتره من يده و طارت الدّعوة مع النّسيم الخفيف. أحسّ بالدّم المتدفّق داخل شرايينه يتحوّل إلى مسامير تنغرز بقلبه و هو يسمع همساتهم المتفرّقة و نواحهم المخنوق.
- " الحكومة من أمر بقتله... إكتشفوا أنّه ناشط بأحزاب المعارضة.. أرادوا أن يكتموا صوته.."
اخترق جموع النّاس بصعوبة متنفّسا بجهد مناديا على والده، وجده أخيرا جالسا على الأرض، يسند جسده إلى الجدار. شعر بعقدة التفّت بحنجرته و هو يرى اللّون الأحمر قد صبغ بلوزته الزّرقاء، صدره يعلو و ينخفض بعنف و قد انبعث من أنفاسه صوت شخير خفيف، جفناه كانا يرتجفان و حدقاته ترتفع لتمتدّ مساحة البياض أكثر بعينيه.
ألقى بنفسه في أحضانه بدون إدراك و حاول بلهفة أن يسدّ بيديه مواقع الطّلقات الثّلاث آملا أن يمنع الدّم من التّدفّق. في النّهاية عانقه بقوّة دافعا جسده نحو صدره يريد أن ينهي النّزيف. حين لم يسمعه يئنّ وجعا و هو يضغط على جرحه استنتج أنّ ألم انفصال الرّوح عن جسده أشدّ قسوة من ألم تمزّق أعضاءه. تشبّث به و هو يصرخ قرب أذنه مقطوع النّفس بعد أن أحسّ بيده تربّت على رأسه.
- " أبي لا تمت.. لا يمكن أن تموت.. أبي لقد نجحت الأول على المدرسة و سنذهب معا إلى حفلة التكريم.. أبي لقد وعدتني أن تفتخر بي حين أصبح رجلا عظيما.. أبي لا تمت! "
صوت سيّارات الشرطة اقترب و النّاس بدأت تتفرّق، أحدهم حمله من الخلف، حاول أن يصارع ليبقى بحضنه أكثر لكنّه كان ضعيفا و هشًا. و هو يبتعد عنه، أدرك أنّه أصبح ساكنا و باردا كزهرة أوّل ساعات الفجر، قد تفتّحت على ثغره ابتسامة خافتة لم يلمحها أحد سواه. فتح فمه مصدوما و شخصت عيناه بذهول أمام مشهد لم يعتقد يوما أنه قد يراه. أغلق جفنيه و صاح بنغمة أشبه بالأنين:
- أعدك أن لا أبكي عليك إلاّ منتصرا لصوتك يا أبي. "
********************
الشّمس بدأت تقترب من مغربها، صار يتجوّل بين أزقّة حيّه قاصدا منزله. مشى ببطئ خافضا رأسه محاولا أن لا يلاحظ التّفاصيل التّي ستجرح الحنين في صدره، لكنّه أحسّ بحركاتهم و بالإستفهامات الكثيرة حوله. أمكنه أن يلاحظ أنّه أينما مرّ وقف النّاس يحدّقون به بحيرة مفضوحة، حتّى الأولاد الذّين كانوا يلعبون كرة القدم منذ حين توقّفوا مكرّرين تلك الهمسات: " هل ذاك يحيى ابن الشّهيد؟ ألم يمت؟".
رفع رأسه حين أدرك أنّه صار يسير بمنطقته. أخذ نفسا عميقا و وقف ليتأمّل ذاك المنزل الدّافئ، قطّب جبينه و انقبض قلبه أمام منظر لم يعتقد أنّه ما سيراه؛ بيته ذو باب حديدي أسود و طلاء الجدران حديث. أحسّ بالحزن، أيعقل أن تغيّر الغربة حتّى التّفاصيل التّي قدّسها الزّمن الطّويل؟
لو لم يكن واثقا أنّ الزهايمر نفسه عاجز عن جعله ينسى طريق العودة لظنّ أنّه أضاع السّبيل. تقدّم نحو الباب و طرقه بقلق، تملّكه التّوتر الشّديد إذ لم يعتقد أنّ لحظة اللّقاء ستكون قاسية بذاك القدر، انتظر بشوق أن تفتح له و هو غير واثق من ردة فعلها حين تراه...
" كان صبيًا صغيرًا و سعيدًا. خرج من مدرسته راكضا يعانق دفتر النتائج و يلوّح بدعوة تكريمه في حفلة آخر السّنة. كان كمن يحلّق بأجنحة من النّور الخفي، وجهه لا يتّسع ليحمل ابتسامته كاملة. دخل أزقّة الحيّ الشعبي
الذّي يسكنه مهلّلا من شدّة الفرح.
مرّ أمام دكّان الحلاّق مهرولا فصاح به الرّجل العجوز:
- يحيى أيها المجنون الصّغير ما خطبك؟
توقّف و عاد إليه، رفع الدّفتر و الدّعوة ناحيته بحماس و قال:
- أنظر.. لقد حللت الأول على الصف.. أنا مدعو لأستلم الجائزة الأولى بالمدرسة. وعدني بابا أن يعطيني عشرة دنانير إذا تفوّقت.
أدخل العجوز المجعّد يده في جيبه كأنّما يبحث عن شيء، أمسك يده و ضرب على كفته بقوة واضعا داخلها القطعة الفضيّة ثمّ داعب شعره ببشاشة.
- هكذا يصبح عددها إحدى عشر دينارا.
عاد إلى الجري مجدّدا و بدأ يغنّي الهتافات التي حفظها عن والده. رأى إحدى نساء الحي تنشر غسيلها بالشّرفة فصاح بها و هو يخرج لسانه بسخرية:
- لقد تفوّقت على ابنك الأفطس، يا أمّ الفاشل.
أمسكت بالسّطل البلاستيكي و رشّت الماء ناحيته بغضب ففرّ ضاحكا بصوت عال. حين اقترب من دكّان أبيه بدأ بالقفز ملوّحا بيديه و رأسه مناديا باسمه بعبثيّة و مرح.
صوت القعقعة الذي دوّى فجأة في الأرجاء جعله يتجمّد في مكانه مرعوبا، هذا الصّوت لا يعني له شيئا أكثر من الموت. سمعه مرّة واحدة في حياته من التّلفاز، رأى بعده صورة ذاك الطّفل الفلسطيني "محمد الدّرة" يهوي ميتا على الأرض. لا يمكنه أن ينساه لأنّه لم يفتح التّلفاز أبدا من بعده. هذا الصوت ينهي عمر الإنسان قبل أوانه.
الصيّاح الذي صدح بعده زرع بقلبه رغبة في البكاء. سار مسرع الخطوات جهة الدكاّن. فجأة، لمح رجلا ملثّما يخرج راكضا من البقالة الصّغيرة و يصطدم به ليوقعه أرضا بقوّة. قام لينفض ملابسه من الغبار متأوها. رأى إثره رجال الحيّ يطاردونه، فركض مقطّبا جبينه قلقا.
توقف أمام الباب و هو يرى الحشد الذّي اجتمع بالدّاخل، سقط دفتره من يده و طارت الدّعوة مع النّسيم الخفيف. أحسّ بالدّم المتدفّق داخل شرايينه يتحوّل إلى مسامير تنغرز بقلبه و هو يسمع همساتهم المتفرّقة و نواحهم المخنوق.
- " الحكومة من أمر بقتله... إكتشفوا أنّه ناشط بأحزاب المعارضة.. أرادوا أن يكتموا صوته.."
اخترق جموع النّاس بصعوبة متنفّسا بجهد مناديا على والده، وجده أخيرا جالسا على الأرض، يسند جسده إلى الجدار. شعر بعقدة التفّت بحنجرته و هو يرى اللّون الأحمر قد صبغ بلوزته الزّرقاء، صدره يعلو و ينخفض بعنف و قد انبعث من أنفاسه صوت شخير خفيف، جفناه كانا يرتجفان و حدقاته ترتفع لتمتدّ مساحة البياض أكثر بعينيه.
ألقى بنفسه في أحضانه بدون إدراك و حاول بلهفة أن يسدّ بيديه مواقع الطّلقات الثّلاث آملا أن يمنع الدّم من التّدفّق. في النّهاية عانقه بقوّة دافعا جسده نحو صدره يريد أن ينهي النّزيف. حين لم يسمعه يئنّ وجعا و هو يضغط على جرحه استنتج أنّ ألم انفصال الرّوح عن جسده أشدّ قسوة من ألم تمزّق أعضاءه. تشبّث به و هو يصرخ قرب أذنه مقطوع النّفس بعد أن أحسّ بيده تربّت على رأسه.
- " أبي لا تمت.. لا يمكن أن تموت.. أبي لقد نجحت الأول على المدرسة و سنذهب معا إلى حفلة التكريم.. أبي لقد وعدتني أن تفتخر بي حين أصبح رجلا عظيما.. أبي لا تمت! "
صوت سيّارات الشرطة اقترب و النّاس بدأت تتفرّق، أحدهم حمله من الخلف، حاول أن يصارع ليبقى بحضنه أكثر لكنّه كان ضعيفا و هشًا. و هو يبتعد عنه، أدرك أنّه أصبح ساكنا و باردا كزهرة أوّل ساعات الفجر، قد تفتّحت على ثغره ابتسامة خافتة لم يلمحها أحد سواه. فتح فمه مصدوما و شخصت عيناه بذهول أمام مشهد لم يعتقد يوما أنه قد يراه. أغلق جفنيه و صاح بنغمة أشبه بالأنين:
- أعدك أن لا أبكي عليك إلاّ منتصرا لصوتك يا أبي. "
********************
الشّمس بدأت تقترب من مغربها، صار يتجوّل بين أزقّة حيّه قاصدا منزله. مشى ببطئ خافضا رأسه محاولا أن لا يلاحظ التّفاصيل التّي ستجرح الحنين في صدره، لكنّه أحسّ بحركاتهم و بالإستفهامات الكثيرة حوله. أمكنه أن يلاحظ أنّه أينما مرّ وقف النّاس يحدّقون به بحيرة مفضوحة، حتّى الأولاد الذّين كانوا يلعبون كرة القدم منذ حين توقّفوا مكرّرين تلك الهمسات: " هل ذاك يحيى ابن الشّهيد؟ ألم يمت؟".
رفع رأسه حين أدرك أنّه صار يسير بمنطقته. أخذ نفسا عميقا و وقف ليتأمّل ذاك المنزل الدّافئ، قطّب جبينه و انقبض قلبه أمام منظر لم يعتقد أنّه ما سيراه؛ بيته ذو باب حديدي أسود و طلاء الجدران حديث. أحسّ بالحزن، أيعقل أن تغيّر الغربة حتّى التّفاصيل التّي قدّسها الزّمن الطّويل؟
لو لم يكن واثقا أنّ الزهايمر نفسه عاجز عن جعله ينسى طريق العودة لظنّ أنّه أضاع السّبيل. تقدّم نحو الباب و طرقه بقلق، تملّكه التّوتر الشّديد إذ لم يعتقد أنّ لحظة اللّقاء ستكون قاسية بذاك القدر، انتظر بشوق أن تفتح له و هو غير واثق من ردة فعلها حين تراه...
Коментарі
Упорядкувати
- За популярністю
- Спочатку нові
- По порядку
Показати всі коментарі
(1)
الفصل الثاني
خائفة من القادم..!
Відповісти
2020-10-08 17:32:30
Подобається