الفصل الأخير
تصبح الحياة خاوية حين نفقد أولائك الذين تقاسمنا معهم أيّامنا الجميلة، هكذا أصبحت حياته سلسلة من الفراغات. كان جالسا هناك وحيدا، بأحد مقاهي وسط المدينة. يحرّك سكّر قهوته بصمت لا ليذيبه بل ليشغل نفسه عن التّفكير في غيابهم.
كان يؤمن بأنّه أقوى حتّى من الفقدان، لكنّ ذاك الشّعور العميق بالذّنب و النّدم مزّق روحه بلا رحمة. اليوم و بعد فوات الأوان، أدرك أنّه كان قادرا على منعهم لو فكّر قليلا آخذا العبرة من تجارب أولئك الذين سبقوهم، لو لم يعمه ذاك الطّمع بالحصول على حاضر أجمل. أراد أن يسعد و أن يسعدهم، و بسذاجة دمّرهم و دمّر نفسه إثرهم.
رغم مرارة ما واجهه حاول أن يقاوم أحزانه و يتحمّلها دوما مكتفيا بالتّفكير بأنّ بكاءً عميقًا يطرحه على صدر أمّه كفيل بجعله ينسى، لم يعتقد يوما أنّه سيكون سببا في اختفاءها من حياته. تلك الفاجعة اللاّمتوقّعة جعلت كل شيء يتلاشى من نفسه ليغدو خاويا كقوقعة هشّة، لا تحمل في جوفها إلاّ صدى الذّكريات.
أتعبه حنينه و لومه المستمر لنفسه و لم يعد يريد أكثر من النّسيان. كان غارقا داخل أفكاره التّي لا تنضب حتّى أعاده ذاك الصّوت المنبعث من الطّاولة المجاورة إلى واقعه:
-" سينقشع هذا الكابوس ما إن أصل إلى إيطاليا، هذا الوطن لا يستحقّ أن نفني أعمارنا من أجله، الهجرة هي الحل و الطريق الأمثل لمستقبل أفضل."
ابتسم بسخرية ثم التفت ينظر إليهم و يتصنّت على حديثهم المشبع بأمل السّعادة الزّائفة. تنهّد بأسى مشفقا عليهم و على نفسه ثم قاطعهم بنبرة باردة:
-" من أي ميناء ستنطلقون، و متى؟"
رفعوا رؤوسهم ناحيته و قد أشعّت أعينهم بالأحلام ثم أجابه أحدهم قبل أن يعودوا إلى حديثهم:
- "ميناء مدينة قليبية، ليلة الأحد."
رفع حاجبيه متصنّعا الاهتمام و تمتم لهم شكره ثمّ وقف مغادرا المقهى تاركا ثمن قهوته فوق الطّاولة. هو أيضا لا يدري لما سأل ذاك السّؤال، كان يريد فقط أن يخبرهم أنّهم سائرون إلى الهلاك لكنّ الكلمات قد خانته مجدّدا.
***********************************
كانت ليلة هادئة و جميلة، جلس على ركبتيه مسندا إحدى يديه على خشب المركب، مراقبا النّجوم المشعّة في السّماء كالثّرايا المعلّقة، مدخنا سيجارته في سكينة. كانت قد مضت ساعتان منذ انطلقت الرّحلة شاقّة طريقها جهة إيطاليا. هذه المرّة لم يشعر بشيء و لم يكن خائفا من الموت، فلا سبب سيجعله يقلق على حياته بعد أن رحل كل الذّين أحبّهم إلى الجهة الأخرى من العالم.
لم يعلم كيف انتهى به الحال عائدا إلى ذاك الجحيم مكرّرا التّجربة ذاتها وحيدا. كان يحاول طيلة الأيّام السّابقة أن يتأقلم مع غربته على أرضه الأم، ثمّ فجأة خطر له أن يرحل عنها بعد أن اقتنع بأن لا سبب يدعوه للبقاء، فقد آثر أن يعيش بعيدا عن مواطن ذكرياته كي يُكتب الشّفاء لجراحه العميقة. و هكذا حزم أمتعته و قصد ميناء "قليبية" ليكون أوّل الحاضرين بالمركب.
ظلّ شاردا طيلة ذاك الوقت حتّى أحسّ بحركة أحدهم قربه، نفث الدّخان في الهواء ببرود ثم نظر إليه، أدرك من ملامحه أنّه يريد أن يثرثر، و كما توقّع سمعه يقول:
-" لاحظت أنّك دخّنت كثيرا، هذه سيجارتك العاشرة على ما أظن، هل أنت متوتر؟"
-"لا."
أجاب باختصار شديد.
-" لما اخترت أن تهاجر؟"
سأله مجددا.
-" لا أدري. لما تهاجر أنت؟"
عندها ابتسم الشّاب له بحماس و قال منفعلا:
-" أتمنى أن أصل سالما حتى أجد عملا هناك، أريد أن أجني ثروة و أن أبني لنفسي حياة سعيدة."
ضحك يحيى بصوت عال، ألقى سيجارته في الماء و التفت له ساخرا:
-" أنت جاد؟"
ارتفعت قهقهته أكثر بعدها و ابتعد عنه ليقف وسط المركب تاركا إيّاه غارقا في ذهوله. واصل و هو ينظر في وجوه المهاجرين جميعا بطريقة مستفزّة. بصق على الأرضيّة ثمّ قال:
-" أنتم كلّكم مجموعة من الحمقى و أنا مثلكم. نهجر أوطاننا مخاطرين بكلّ ما لدينا، لنصل إلى هناك و كلُّ ما سنحصل عليه في الحقيقة النّدم. نحن نرفض أن نكون عاملي نظافة محترمين ببلدنا لأنّ جمع قمامتنا قارب أن يكون عارا في عقليّاتنا المتخلّفة، و لكنّنا نرضى أن نسهر على جمع قذارتهم. حتّى أنّهم لا يقبلوننا بينهم، نعيش كالهاربين المذنبين، و رغم ذلك نبقى نلتصق بهم كالكلاب الرخيصة. و مقابل أن نكون كلابهم الرخيصة، نحن نكسر راضيين الوعود التّي قطعناها على آبائنا، نلقي بأمّهاتنا في فوهة الجوع حتّى تضطر بعضهنّ لبيع منازلهنّ لكي تعشن كريمات بعدنا. ثمّ نسلبهنّ حياتهنّ حزنا علينا حين نموت قبل انتهاء الرّحلة، نحن نجرّ معنا أحبّتنا للهلاك، نشرّد أطفالنا، نقهر حبيباتنا، نرمّل زوجاتنا أو نهجرهنّ، نفعل كلَّ هذا من أجل أن نتسوّل رغيف الخبز تحت أبوابهم، من أجل أن يبصقوا على وجوهنا باحتقار كلّما رأونا، من أجل أن نكون أنذالا في أعين أنفسنا. أقسم أنّنا نستحقّ كلَّ المصائب التّي ستقع علينا بعد هذا، و نستحقّ الموت أثناء العاصفة و بعد تحطّم مركبنا، لأنّنا مجموعة من الحثالة لا أكثر. أتمنّى لكم و لنفسي الهلاك من أعماق هذه الجراح المفتوحة في قلبي."
ّتلبّدت ملامحه و لمع غشاء الدّموع في عينيه في حين نظروا له بغضب صارخ. أحدهم تقدّم نحوه، رفعه من كم قميصه و همّ بلكمه، لكنّه دفعه عنه بقوّة حتّى أوقعه. رفع سبّابته ناحيته و قال و على وجهه طيف ابتسامة مكسورة:
-" فلتوفّر جهدك حتّى تقاوم إذا ما حلّت عليكم الكارثة. أنا لن أكمل هذه الرّحلة معكم، لم آتي لكي أكملها، بل لكي أضع لها حدا."
لم ينتظر منهم أيّ رد، استدار سائرا جهة حافّة المركب، وقف على طرفه و هو يرسل نظراته السّاخرة نحوهم و ألقى بنفسه في عرض البحر.
اندفع نحو القاع بسرعة غير مبال بملامح الصّدمة التّي تركها تتجمّع فوق وجوههم، و لا بالدّهشة الخرساء التّي زرعها في قلب كلّ واحد منهم.
استلطف ملمس الماء المتجمّد على جسده. فتح عيناه و أرسل صرخات مكتومة من أعماق البحر ثمّ استسلم للبكاء مفرّطا بآخر ذرّات الهواء. تخبّط قليلا بعد أن بدأ نقص الأكسجين يأثّر عليه و ينهك جسده، و أحس بالصّداع و بالعجز عن الحركة يمتدّان شيئا فشيئا داخله. أحسّ و هو يموت ببطئ بالماء المالح المتسرّب إلى جوفه يغسله من خطاياه تدريجيا.
أرخى جسمه و بدأ بالارتفاع إلى السّطح حين أحسّ بشرارة تشعُّ حياة في أعماقه. تذكّر وعده لوالده؛ تذكّر أنّه لم ّيف به و أنّه بعد الموت سيبقى كلّما تقابلت روحيهما يخفض رأسه خجلا إلى الأبد. صوت خافت همس له بأن عليه أن يعيش حتّى يثبت أنّه رجل حقيقي.
فتح فمه ليندفع الهواء إلى رئتيه محاولا أن يدرّبهما على التّنفس من جديد كما يتدرّب طفل غادر رحم أمّه حديثا. ذاك ما كان يشعر به و هو يصارع الأمواج التّي حاولت إغراقه في كلّ مرّة بجسد هزيل. اندفع جهة أرض الوطن واثقا أنّ نجاته إن تحقّقت لن تكون إلاّ ولادة أخرى لرجل خفيّ بداخله صارع سنوات كي يخرج للحياة. حاول أن يتقدّم رغم الإنهاك الذي أصابه و رغم كيد البحر كي يحول دونه و دون رغبة الإستمرار التّي انبثقت في نفسه فجأة، لأوّل مرة يختار أن يقاوم حتّى النهاية.
*******************************
صوت النّوارس يعلو كالنّشاز المزعج كي يوقظه من سباته، أحسّ بصداع شديد يمتدّ داخل رأسه. و بدأ يسعل بشدّة مستفرغا الماء الذي استقرّ بجوفه.
شعر بيد ترفعه برفق و تمسح على وجهه. حاول أن يفتح عيناه الثّقيلتان بصعوبة بعد أن تخدّرتا بمفعول الملح و الشّمس التّي سطعت حارّة قبالته.
أوّل ما قد رآه وجهها القلق و شعرها المبعثر على خدّيها.
-" أنت بخير؟ كيف تشعر؟"
بلغته رنّة صوتها المضطرب.
-" أعتقد أنّي حي."
أجابها و هو يحاول أن يرفع جسده المهشّم عن الأرض دون جدوى. دقّق نظره لها ليعلم عمّا كانت تصنعه عند ذاك الشّاطئ فاستنتج من زيّها الرّياضي أنّها كانت تتدرّب.
-" عثرت عليك صدفة في طريقي ملقى هنا، فزعت، ظننت أنّك ميّت، ثمّ انتبهت أنّ قلبك ينبض. نجوت من الغرق كما يبدو."
ابتسم باستهزاء ثمّ همس:
-" مقدّر لي أن أعود للحياة في كلّ مرّة بعد أن أقف على حافّة الموت. تعلمين؟ أوّل ما يراه الرّضيع الصّغير بعد الولادة مباشرة، وجه أمّه، و وجهك أوّل ما رأيت."
ردّت له ابتسامة خجولة و هي تساعده على الجلوس، تحسّست جبينه ثمّ قالت بقلق:
-" حمدا لله على السّلامة. عليك أن تغيّر ملابسك و إلاّ ستمرض. سأتّصل بالإسعاف على كلّ حال كي يحملوك إلى المشفى، أريد التّأكّد من أنّك بخير."
ضحك، شعر بسعادة عميقة لأنّه أخيرا انتصر على نفسه و فاز برهانه الخاص، هذه المرّة سيأخذ الحياة من جانبها المشرق. خطرت على باله فكرة مجنونة فتأمّلها برهة و هي منهمكة في العبث بأزرار هاتفها كي تجري ذاك الاتّصال، ثمّ أردف:
-" لو أطلب منك أن تمنحيني اسما، ماذا تختارين لي؟."
بادلته التّأمل مفكّرة في كلماته ثمّ قالت و هي تبتسم بمكر:
-" يحيى."
قطّب جبينه و أرسل نظره جهة البحر الهادئ بذهن مشوّش، ثمّ همهم:
-" لماذا؟"
أجابته و هي تقترب منه و تربّت على كتفه:
-" لأنّ رجلا مثلك وعد أن ينتصر بالحياة كلّما تربّص به الموت، لا يحقّ له إلاّ أن يحيا."
__________________________________________
نهاية المأساة ✋
إن كان اسمه يحيى منذ ولادته الأولى... أو أنه الاسم الذي وهبته له نهاية تلك القصة ليمتد إلى حياته السابقة... خيار تركته لكم.. فليقرأ كل حسب مزاجه.
كان يؤمن بأنّه أقوى حتّى من الفقدان، لكنّ ذاك الشّعور العميق بالذّنب و النّدم مزّق روحه بلا رحمة. اليوم و بعد فوات الأوان، أدرك أنّه كان قادرا على منعهم لو فكّر قليلا آخذا العبرة من تجارب أولئك الذين سبقوهم، لو لم يعمه ذاك الطّمع بالحصول على حاضر أجمل. أراد أن يسعد و أن يسعدهم، و بسذاجة دمّرهم و دمّر نفسه إثرهم.
رغم مرارة ما واجهه حاول أن يقاوم أحزانه و يتحمّلها دوما مكتفيا بالتّفكير بأنّ بكاءً عميقًا يطرحه على صدر أمّه كفيل بجعله ينسى، لم يعتقد يوما أنّه سيكون سببا في اختفاءها من حياته. تلك الفاجعة اللاّمتوقّعة جعلت كل شيء يتلاشى من نفسه ليغدو خاويا كقوقعة هشّة، لا تحمل في جوفها إلاّ صدى الذّكريات.
أتعبه حنينه و لومه المستمر لنفسه و لم يعد يريد أكثر من النّسيان. كان غارقا داخل أفكاره التّي لا تنضب حتّى أعاده ذاك الصّوت المنبعث من الطّاولة المجاورة إلى واقعه:
-" سينقشع هذا الكابوس ما إن أصل إلى إيطاليا، هذا الوطن لا يستحقّ أن نفني أعمارنا من أجله، الهجرة هي الحل و الطريق الأمثل لمستقبل أفضل."
ابتسم بسخرية ثم التفت ينظر إليهم و يتصنّت على حديثهم المشبع بأمل السّعادة الزّائفة. تنهّد بأسى مشفقا عليهم و على نفسه ثم قاطعهم بنبرة باردة:
-" من أي ميناء ستنطلقون، و متى؟"
رفعوا رؤوسهم ناحيته و قد أشعّت أعينهم بالأحلام ثم أجابه أحدهم قبل أن يعودوا إلى حديثهم:
- "ميناء مدينة قليبية، ليلة الأحد."
رفع حاجبيه متصنّعا الاهتمام و تمتم لهم شكره ثمّ وقف مغادرا المقهى تاركا ثمن قهوته فوق الطّاولة. هو أيضا لا يدري لما سأل ذاك السّؤال، كان يريد فقط أن يخبرهم أنّهم سائرون إلى الهلاك لكنّ الكلمات قد خانته مجدّدا.
***********************************
كانت ليلة هادئة و جميلة، جلس على ركبتيه مسندا إحدى يديه على خشب المركب، مراقبا النّجوم المشعّة في السّماء كالثّرايا المعلّقة، مدخنا سيجارته في سكينة. كانت قد مضت ساعتان منذ انطلقت الرّحلة شاقّة طريقها جهة إيطاليا. هذه المرّة لم يشعر بشيء و لم يكن خائفا من الموت، فلا سبب سيجعله يقلق على حياته بعد أن رحل كل الذّين أحبّهم إلى الجهة الأخرى من العالم.
لم يعلم كيف انتهى به الحال عائدا إلى ذاك الجحيم مكرّرا التّجربة ذاتها وحيدا. كان يحاول طيلة الأيّام السّابقة أن يتأقلم مع غربته على أرضه الأم، ثمّ فجأة خطر له أن يرحل عنها بعد أن اقتنع بأن لا سبب يدعوه للبقاء، فقد آثر أن يعيش بعيدا عن مواطن ذكرياته كي يُكتب الشّفاء لجراحه العميقة. و هكذا حزم أمتعته و قصد ميناء "قليبية" ليكون أوّل الحاضرين بالمركب.
ظلّ شاردا طيلة ذاك الوقت حتّى أحسّ بحركة أحدهم قربه، نفث الدّخان في الهواء ببرود ثم نظر إليه، أدرك من ملامحه أنّه يريد أن يثرثر، و كما توقّع سمعه يقول:
-" لاحظت أنّك دخّنت كثيرا، هذه سيجارتك العاشرة على ما أظن، هل أنت متوتر؟"
-"لا."
أجاب باختصار شديد.
-" لما اخترت أن تهاجر؟"
سأله مجددا.
-" لا أدري. لما تهاجر أنت؟"
عندها ابتسم الشّاب له بحماس و قال منفعلا:
-" أتمنى أن أصل سالما حتى أجد عملا هناك، أريد أن أجني ثروة و أن أبني لنفسي حياة سعيدة."
ضحك يحيى بصوت عال، ألقى سيجارته في الماء و التفت له ساخرا:
-" أنت جاد؟"
ارتفعت قهقهته أكثر بعدها و ابتعد عنه ليقف وسط المركب تاركا إيّاه غارقا في ذهوله. واصل و هو ينظر في وجوه المهاجرين جميعا بطريقة مستفزّة. بصق على الأرضيّة ثمّ قال:
-" أنتم كلّكم مجموعة من الحمقى و أنا مثلكم. نهجر أوطاننا مخاطرين بكلّ ما لدينا، لنصل إلى هناك و كلُّ ما سنحصل عليه في الحقيقة النّدم. نحن نرفض أن نكون عاملي نظافة محترمين ببلدنا لأنّ جمع قمامتنا قارب أن يكون عارا في عقليّاتنا المتخلّفة، و لكنّنا نرضى أن نسهر على جمع قذارتهم. حتّى أنّهم لا يقبلوننا بينهم، نعيش كالهاربين المذنبين، و رغم ذلك نبقى نلتصق بهم كالكلاب الرخيصة. و مقابل أن نكون كلابهم الرخيصة، نحن نكسر راضيين الوعود التّي قطعناها على آبائنا، نلقي بأمّهاتنا في فوهة الجوع حتّى تضطر بعضهنّ لبيع منازلهنّ لكي تعشن كريمات بعدنا. ثمّ نسلبهنّ حياتهنّ حزنا علينا حين نموت قبل انتهاء الرّحلة، نحن نجرّ معنا أحبّتنا للهلاك، نشرّد أطفالنا، نقهر حبيباتنا، نرمّل زوجاتنا أو نهجرهنّ، نفعل كلَّ هذا من أجل أن نتسوّل رغيف الخبز تحت أبوابهم، من أجل أن يبصقوا على وجوهنا باحتقار كلّما رأونا، من أجل أن نكون أنذالا في أعين أنفسنا. أقسم أنّنا نستحقّ كلَّ المصائب التّي ستقع علينا بعد هذا، و نستحقّ الموت أثناء العاصفة و بعد تحطّم مركبنا، لأنّنا مجموعة من الحثالة لا أكثر. أتمنّى لكم و لنفسي الهلاك من أعماق هذه الجراح المفتوحة في قلبي."
ّتلبّدت ملامحه و لمع غشاء الدّموع في عينيه في حين نظروا له بغضب صارخ. أحدهم تقدّم نحوه، رفعه من كم قميصه و همّ بلكمه، لكنّه دفعه عنه بقوّة حتّى أوقعه. رفع سبّابته ناحيته و قال و على وجهه طيف ابتسامة مكسورة:
-" فلتوفّر جهدك حتّى تقاوم إذا ما حلّت عليكم الكارثة. أنا لن أكمل هذه الرّحلة معكم، لم آتي لكي أكملها، بل لكي أضع لها حدا."
لم ينتظر منهم أيّ رد، استدار سائرا جهة حافّة المركب، وقف على طرفه و هو يرسل نظراته السّاخرة نحوهم و ألقى بنفسه في عرض البحر.
اندفع نحو القاع بسرعة غير مبال بملامح الصّدمة التّي تركها تتجمّع فوق وجوههم، و لا بالدّهشة الخرساء التّي زرعها في قلب كلّ واحد منهم.
استلطف ملمس الماء المتجمّد على جسده. فتح عيناه و أرسل صرخات مكتومة من أعماق البحر ثمّ استسلم للبكاء مفرّطا بآخر ذرّات الهواء. تخبّط قليلا بعد أن بدأ نقص الأكسجين يأثّر عليه و ينهك جسده، و أحس بالصّداع و بالعجز عن الحركة يمتدّان شيئا فشيئا داخله. أحسّ و هو يموت ببطئ بالماء المالح المتسرّب إلى جوفه يغسله من خطاياه تدريجيا.
أرخى جسمه و بدأ بالارتفاع إلى السّطح حين أحسّ بشرارة تشعُّ حياة في أعماقه. تذكّر وعده لوالده؛ تذكّر أنّه لم ّيف به و أنّه بعد الموت سيبقى كلّما تقابلت روحيهما يخفض رأسه خجلا إلى الأبد. صوت خافت همس له بأن عليه أن يعيش حتّى يثبت أنّه رجل حقيقي.
فتح فمه ليندفع الهواء إلى رئتيه محاولا أن يدرّبهما على التّنفس من جديد كما يتدرّب طفل غادر رحم أمّه حديثا. ذاك ما كان يشعر به و هو يصارع الأمواج التّي حاولت إغراقه في كلّ مرّة بجسد هزيل. اندفع جهة أرض الوطن واثقا أنّ نجاته إن تحقّقت لن تكون إلاّ ولادة أخرى لرجل خفيّ بداخله صارع سنوات كي يخرج للحياة. حاول أن يتقدّم رغم الإنهاك الذي أصابه و رغم كيد البحر كي يحول دونه و دون رغبة الإستمرار التّي انبثقت في نفسه فجأة، لأوّل مرة يختار أن يقاوم حتّى النهاية.
*******************************
صوت النّوارس يعلو كالنّشاز المزعج كي يوقظه من سباته، أحسّ بصداع شديد يمتدّ داخل رأسه. و بدأ يسعل بشدّة مستفرغا الماء الذي استقرّ بجوفه.
شعر بيد ترفعه برفق و تمسح على وجهه. حاول أن يفتح عيناه الثّقيلتان بصعوبة بعد أن تخدّرتا بمفعول الملح و الشّمس التّي سطعت حارّة قبالته.
أوّل ما قد رآه وجهها القلق و شعرها المبعثر على خدّيها.
-" أنت بخير؟ كيف تشعر؟"
بلغته رنّة صوتها المضطرب.
-" أعتقد أنّي حي."
أجابها و هو يحاول أن يرفع جسده المهشّم عن الأرض دون جدوى. دقّق نظره لها ليعلم عمّا كانت تصنعه عند ذاك الشّاطئ فاستنتج من زيّها الرّياضي أنّها كانت تتدرّب.
-" عثرت عليك صدفة في طريقي ملقى هنا، فزعت، ظننت أنّك ميّت، ثمّ انتبهت أنّ قلبك ينبض. نجوت من الغرق كما يبدو."
ابتسم باستهزاء ثمّ همس:
-" مقدّر لي أن أعود للحياة في كلّ مرّة بعد أن أقف على حافّة الموت. تعلمين؟ أوّل ما يراه الرّضيع الصّغير بعد الولادة مباشرة، وجه أمّه، و وجهك أوّل ما رأيت."
ردّت له ابتسامة خجولة و هي تساعده على الجلوس، تحسّست جبينه ثمّ قالت بقلق:
-" حمدا لله على السّلامة. عليك أن تغيّر ملابسك و إلاّ ستمرض. سأتّصل بالإسعاف على كلّ حال كي يحملوك إلى المشفى، أريد التّأكّد من أنّك بخير."
ضحك، شعر بسعادة عميقة لأنّه أخيرا انتصر على نفسه و فاز برهانه الخاص، هذه المرّة سيأخذ الحياة من جانبها المشرق. خطرت على باله فكرة مجنونة فتأمّلها برهة و هي منهمكة في العبث بأزرار هاتفها كي تجري ذاك الاتّصال، ثمّ أردف:
-" لو أطلب منك أن تمنحيني اسما، ماذا تختارين لي؟."
بادلته التّأمل مفكّرة في كلماته ثمّ قالت و هي تبتسم بمكر:
-" يحيى."
قطّب جبينه و أرسل نظره جهة البحر الهادئ بذهن مشوّش، ثمّ همهم:
-" لماذا؟"
أجابته و هي تقترب منه و تربّت على كتفه:
-" لأنّ رجلا مثلك وعد أن ينتصر بالحياة كلّما تربّص به الموت، لا يحقّ له إلاّ أن يحيا."
__________________________________________
نهاية المأساة ✋
إن كان اسمه يحيى منذ ولادته الأولى... أو أنه الاسم الذي وهبته له نهاية تلك القصة ليمتد إلى حياته السابقة... خيار تركته لكم.. فليقرأ كل حسب مزاجه.
Коментарі