CH1||مرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر
وو ويفان|| كريس (العندليب)
بطل:
"العندليب والبرّيّة"
"مرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر"
...
كانت تُصوِّب نحوَ مُجسَّم على هيئةِ الجسد البشري ببُندُقيتها، قُربها يقف الرَّجُل، الذي تلتصق به ياء مُلكيّة مُزيّفة تعود لها.
"صوِّبي نحو القلب، لا يمكن أن يُفلِت أحد من رصاصة في قلبِه"
أطلقت نحو الرأس تعصي رأيه، ثم جعلت تستند على البُندقية بمِرفقِها، خلعت نظّاراتها ونظرت إليه الرّاكن بجانبها.
" لبعضِ الناس القِلَّة قلوبٌ في أيمنِ الصدر لا في أيسره، بينما العقل لا يُمكن أن ينبُت في مكان آخر غير الرأس."
أقامت نفسها عن البُندقية، وحملتها مُجدَّدًا تُصوِّب نحوَ المُجسَّم.
"ثِق بالعقلِ جاكسون، لا تثق بالقلب!"
صوَّبت نحو الرأس مجددًا؛ فأخترقت الطَلَقة الثانية مكان الأولى، نظرت إلى اللوحة فيما تعقد ساعديها إلى صدرها، وقالت له.
"لا تُصيب القلب بالرصاص، أنتَ لن توفر للمُصاب ميتة سريعة، قد يعيش طويلًا بقلبٍ معطوب... هذا قاسٍ!"
برم جاكسون شفتيه مُعجبًا ورفع حاجبه.
"أنا حقًّا مُعجَب بكِ!"
رمت عليه بُندقيتُها وقالت فيما تُغادِرُه.
"أنتَ لستَ مُعجبًا بي، بل بشراكتِكَ مع أبي"
سخر جاكسون منها ثم ابتسم، إنها إمرأةٌ صَبيّة وذكيّة، لكنَّها باردة وجافّة... هذا شخصُها الذي يعرفه.
لكن ما لا يعرفه جاكسون أنَّها فتاةً برّيّة، تتكيَّف والناس الذي يحيطون بها، وأن الوجه، الذي يعرفه جاكسون لها، هو وجه من اثنين وهو من إختار رؤيته.
لأنها باردة مع الذين يحبونها لمصلحة يبغونها منها، وأما الجانب الثاني؛ فهي لم تكتشفه في نفسها بعد.
إيف؛ تعني حوّاء... وهي إبنة تَكتُّل إقتصادي إحتكاري في السوق الصينيّة، يتشارك والدها وأبناء عمومته رئاسته، ولكل منهم دور يأدونه -بحرفيّة أو بلا حرفيّة- لإدارة الشَّرِكة بجِد.
وإحدى طُرق الإدارة هي الزّيجات المُدبَّرة بين الوَرَثة ووَرَثة تَكتُّلات إقتصاديّة أُخَر؛ وهكذا تمَّت خِطبةَ جاكسون؛ وهو وريث تَكتُّل إقتصادي آخر ومُدير تنفيذي فيه؛ وإيف؛ الحفيدة الأُنثى الوحيدة للعائلة.
وذلك تَطلُّعًا للمزيد من النجاحات الباهِرة والتعاونات الرّابِحة التي تعود على الأطراف جميعها... وهذا ما تكرهه إيف بِحق؛ أن تُعامل كغرض مَنفعي؛ لا كإنسان حُر بحياتِه.
خرجت إيف من ساحةِ الرِّماية في المزرعة يتبعها جاكسون، من المُفترض أنَّ هذا موعد غرامي بين الإثنين؛ ليتعارفا جيّدًا، لكن إنتهى به الحال أن يكون على هذهِ الشاكلة، فكلاهما لا يتناسب وفكرة الموعد الغرامي، تبدو شاذّة.
تبسَّمت إيف حينما رأت حصانها راكوس الأدهم مربوط إلى لِجامه ويبدو غاضبًا بعض الشيء، ركضت إليه وتجرَّدت من قُفّازيها الجلديين، ثم أخذت تمسح على رأسه حتى هدئ.
"راكوس جواد أصيل، ليس مُجرَّد حِصان، لا يتحمَّل اللِّجام ويكره أن تُقيَّد حُريَّتُه، وأنا حذَّرتُكم من ربطِه هكذا"
إقترب جاكسون من راكوس ليُربِّت عليه، لكن الحصان رفضه بعنف لولا أنَّ جاكسون تراجع عنه سريعًا، ثم ضحك مشدوهًا.
"الآن أفهم لِمَ تُحبّينه، لأنَّهُ ثائر وحُر كما أنتِ، برّي كما صاحبته البرّيّة"
نظرت إيف إليه ونبست.
"إذًا احذر منّا بما أنَّكَ تُدرِك خطرنا"
لأنَّ الحياة خَطِرة، عقباتِها وَعِرة، تحتاج الحذر، تحتاج أن تكون خطيرًا... وهذهِ هي إيف؛ حواء برّيّة.
.........
وأمّا العندليب؛ فَقِصَّتِهِ مُختلِفة... هو رَجُل الذكريات، رَجُل الأطلال والرِّثاء، السنون تَمضي وهو على حاله؛ عالق لكنَّهُ لا يدري.
هو في طريقه داخل وادٍ مُظلِم آخره الهلاك، تُرافقه الغُربان فيه تُبشِّره أنَّ الخاتِمة سوء؛ لكنَّهُ لا يقتنع، الحياة باتت صعبة عليه، يُدرك ذلك لكنَّهُ يؤمن أنَّهُ يستحق.
العندليب... هكذا يدعونه النّاس؛ لأنهم لا يعرفونه كثيرًا، هو دومًا بِمعزِل عن الجميع؛ لكنَّهُ من يوم أتى؛ وهو يُنشِد ويُنشِد ألحانًا شجيّة تملئ الصدر حُزنًا قُربَ الشلّال حيثُ يقضي الوقت من العصر وحتى العشيّة كُل يوم.
وو ويفان، الناس تعرفه بهذا الاسم، يعيشُ
في إحدى المُقاطعات النائية، حيثُ تغلب الغاب عليها، والريف على الحضر، حيثُ النّاس يملكون تلفازًا واحد في الحي، يشغلونه مساءً؛ويجتمعون حول الفيلم المعروض، حيثُ الناس بمعزل عن أخبار العالم، يعيشون في حُبٍ ووئام وبساطة... هناك أختار أن يعيش وو ويفان.
"أين العندليب؟!"
تسآل آحدى شيوخ القرية فردَّت عليه شيخته.
"يقولون أنَّهُ ذهب للمدينة"
"أهو ذلك اليوم من السنة؟!"
"نعم"
والمدينة المقصودة هي شنغهاي؛ تكلَّفهُ السفر عِدة ليالٍ عبر القطارات، من قطار إلى قطار ومن مدينة إلى مدينة حتى وصل قلب المدينة المقصودة.
اليوم تَمُر على الجريمة سبعُ سنين عُجافٌ طوال وقاسيات، قضاها بالوجعِ، والكدِّ، والكمدِ، والغضبِ، والويل.
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح العندليب...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح يتيم...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح فاقد...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح القاتل...
مُذُّ سبع سنين وهو في العِقاب، مُذُّ سبع سنين وهو يركض خلف الموت والموت يصدُّه، مُذُّ سبع سنين وهو لابث في العذاب، مُذُّ سبع سنين وهو العندليب.
قدماه ساقته إلى المكان المعلوم حيثُ ردم آخر ما يملك، ورغم أنَّ رائحة الموت تفوح في المكان؛ لكنَّهُ إشتمَّ رياح من الجنّة وهواء مُعطَّر.
كيف لا يكون؟!
وهُنا أحبائه أرواحهم تعوم، هنا حيثُ اشترى الموت منه ناسه بالرخيص، واتهمه بالقتل، ونعته بالقاتل.
دخل مُظلِم السِّنحة رُغم وسامة ملامحه ووجهه المُفدَّى، يضع كمّامة تُخبّئ أنفه وفمه، وشعره الأسود مِثلَ الحرير مَسدول على جبهته ويُغمّي على عينيه، يتطاير الحُزن من هالته وقلبه خائف.
يخشى أن يتعرَّف عليه أحد وينعتونه بالقاتل، سيتذكَّر دومًا أنَّهُ القاتل، لكنَّهُ لا يُريد أن يسمع تلك الكلمة الجارحة من أحد.
سار حتى أدركَ قبرين متجاورين، أحدهما صغير والآخر لشخصٍ بالغ، وضع الباقتين، كل باقة على قبر، هذهِ ورود حمراء وأُخرى بيضاء.
مسح على الشاهدين بيديه يُزيح الغُبار عن الاسمين، تألَّمَ أكثر حينما أصبح الاسمين واضحين، وتذكَّر آخر لقاء كم كان حميم.
الحُب كان يصرخ في عينيه كما الحُزن والألم، قلبه مكسور مُذُّ ذلك اليوم، وذلك الكسر ككسرِ الزُجاج، لا يُصلَّح.
تنهد مِلأ صدرِه فيما يجلس القُرفصاء بين القبرين، أنزل رأسه وانسابت دمعة من عينيه، لكنَّهُ مسحها وهمس.
"لا يحقُّ لي البُكاء حتّى، أنا آسف، لا تسامحوني!"
هكذا أراد، ألّا ينال المغفرة، لأنَّهُ يستحق أن يلبث في العذاب حتى يجاورهم، ويرافقهم، ويكون معهم، فيتقبلونه أو يرفضونه، لن يُصِر، وسيتحمَّل لومهم... حتى ذلك الحين سيلوم نفسه ويعذِّب نفسه؛ لإنَّهُ بنظرِ نفسه يستحق.
ولكنه لا يدري أنَّهم لو لاموه سيلوموه؛ لأنَّه يُعذِّب نفسه عليهم، ومن بعدهم؛ وكأنَّ حياته توقفت بتوقف حياتهم.
كان العصر، وحانت العشيّة، وآتى الصباح، وانتهى الوقت سريعًا دون أن يشعر به، حمل نفسه ونهض يمشي بتلكؤ، يَجُر أقدامِه بالغصب، لا يُريد الذهاب إلى أي مكان.
خرج من المَقبرة؛ ورأسه مُنكَس، وبصره خانغ نحو الأرض، وخُصل شعره الدهماء تُداعب جبهتِه.
وفي طريق خروجه؛ توقَّفت سيارة سوداء فارهة مرسيدس إس كلاس مايباخ، خلفها توقَّفت فان سوداء أيضًا ترجَّل منها أربعةِ رجال، ضِخام البُنية، عظيمي الجَسد.
ومن السيارة ترجَّلت إمرأة صبيّة مُختالة فخورة، الكِبرُ والكبرياء يفوح من مناكبها، تسير وكأنَّها ملكة الكون وسيدة العالم الأولى، تسير وكأن الذي خلقها ما خلق مثلها، ولا مثيلتها، ولا بعدها، ولا قبلها، إمرأة برّيّة، تبدو خَطِرة.
لفتت إنتباه الجميع إلّاه، فهو قد ترفَّع عن الأهواء والملذّات وما عاد شيء يُغريه، لا إمرأة حسناء، ولا طعام فاخر، ولا مال، ولا جاه، ولا سُلطة، ولا شيء إطلاقًا.
وذلك ما أثار حفيظتها حوله، كيف يَمُر مرور الكِرام؟ كيف يتجاهلها؟ من هو؟!
أعاش في مثلِ هذا العِز ليبدو مُعتادًا عليه؟!
مُستحيل... ثيابه المتواضعة لا تقول أنَّهُ يعيش في رُبع رخاء عيشتها حتى.
خلعت نظّارتها عن عينيها؛ لِتلحظه جيدًا، أتجاهلها لتلحظه؟! أم تجاهلها لأنَّهُ حقًا لا يهتم؟!
لكنَّها لم تهتم لأي ما كانت الإجابة، سواء كانت نعم أم لا؛ لِمَ؟!
لأنَّ النظر إليه مَسرَّة، وجهه مثل قُرص البدر مُنير، عيناه مرسومة بطريقةٍ فاتنة تجعلها لا تقدر أن ترفع عيناها عنه، شعره أدهم كالليل الدّاجي، يُداعبه الهواء ويراقصه على جبهته العلياء.
جميل... لا؛ ليس جميل، بل آية في الحُسن، كيف لرجُل أن يكون جميل إلى هذه الدرجة؟!
توقفت، وتوقف الجميع خلفها، وتوقف الجميع لينظر لها، وهو عَبَرَ وكأنَّها شفّافة لا تُرى، وهو بالفعلِ لا يراها، فغشاوة الحُزن على عينيه تجعله لا يرى أحد، لا يُميز أحد.
هكذا كُتِبَ على اللقاء الأول أن يكون، وفي تلك اللحظة العابرة؛ لم يَكُ يُدرِك أيًا منهم أن أحبال الأمصِرة تعلَّقت، وأنَّ هذه المرأة المُلفِتة وذلك الرَّجُل العابر سيكونا شريكان مصير وأزود من مصير.
تَهِبُّ الرياح عليه كما لو أنَّها نسيم، تُرافقه وتواسيه، وتهب عليها كما لو أنَّها ريح تُزلزِلها، وتُزمهر كيانها، أو تغليه... لا تدري؛ لكن هذا الرجل الذي مرَّ بها مرور الكرام لن تَمُرَّ به مرور الكِرام أيضًا.
لم تدري أنها تملك قلبًا خفيفًا رهيفًا... لقد أعجبها أو بالأحرى أحبَّت هذا الغريب، وستُفكِّر به لعدةِ أيامٍ أُخَر.
"آنستي؟!"
خرجت من معمعةِ فِكرها حينما زاودها الوقت على المُضي فاستفاقت واستعادت رُشدها، تناولت من إحدى رجالها باقة الزهور وتحلَّت بالأدب الذي يُناسب وقارة المقبرة واحترامها... حاولت.
ولجت إلى المقبرة، وقصدت قبرًا معروفًا وبارزًا، طُبِعَ على الشاهد اسم إمرأة وحسب إحداثيات الولادة والوفاة فلقد توفَّت في مُنتصفِ العُمر، هُناك ربضت إيف وطالعت الشاهد.
"أمي، إشتقتُ لكِ، كيف تُبلي هناك حيث أنتِ؟! هل دخلتِ الجنّة أم علقتِ؟!"
تنهَّدت إيف مِلأ صدرها واتبعت تومئ.
"أنتِ لم تفعلي ذنبًا لا يُغفر في حياتك يمنعكِ عن الجنّة سوى واحد؛ إختياركِ أبًا لي لا يُناسبني، لا أحبه ولا أريده، وهو يُبادلني نفس الشعور.
سأصدقكِ القول وأخبركِ أنَّني شككتُ بأنَّهُ أبي حقًا في إحدى فترات نضوجي المُبكِّرة، بل أنا حتى ذهبت لأتأكد بنفسي إن كان أبي أم لا، ومع الأسف أنتِ لم تخونيه.
لِمَ كان عليكِ أن تكوني وفيّة لِرَجُلٍ واحد طيلة حياتك؟!
كان عليكِ أن تمرحي، وتعيشي، وتُصادقي عليه كما هو فعل بكِ أُمّاه، هذا ما أودى بكِ إليه الوفاء لِرَجُل لا يستحق... الموت.
لا تقلقي أُمّاه، لن أكون مثلكِ، سأعيش حياتي بأوسع مساحة، وكيف تشتهي نفسي وتريد، لن أربط على قلبي حجر لأجلِ رَجُل."
وهذا هو الإختلاف الدّامِغ بين إيف ووالدتِها، بينما والدتها إنتهت بخسارةِ نفسها وحياتها لأجلِ رَجُل؛ إختارت إيف أن تعيش حياتها كما تشتهي رُغمًا عن أنفِ الرَّجُل.
لأنها إيف؛ حواء مُختلفة؛ لا تهتم بما يقولونه الناس ولا بمقدار أرباح الصفقات، ولا تعطي أهمية للذي أنجبها حتى، فكيف ترضى بخياره وتُسلِّم وتستسلم؟!
إختار لها من بين رجال الأرض أجمعين جاكسون وانغ، ليس لأنه الأفضل بل لأنه يحمل العرض المُغري أكثر.
مليارات الدولارات مقابل الوريثة الأُنثى الوحيدة في العائلة، وظنَّ أن الصفقة نجحت، لأنَّه لا يعلم مع أي أُنثى قد ورَّط نفسه، أُنثى بعد نفسها الطوفان... تقتلع ولا تهتم.
في المساء وعلى طاولة العشاء؛ تفاجئت إيف بأنَّ جاكسون مَدعو على وجبةِ العشاء؛ وكأنَّ هذا ما كان ينقُصها، لقد تحمَّلتهُ طيلة اليوم، وظنَّت أنَّ في ساعاتِ الليل راحةً منهُ؛ لكنَّ ظنُّها خاب، وها هو يربض أمامها يتناول طعامه بتهذيب، ومن أسفلِ الطاولة يتصرَّف بلا تهذيب.
كان والدها كما العادة يتحدَّث فهو كثير الكلام، وكما العادة لا أحد يسمعه فكلامه يُناسب جيله الأغبر فحسب.
إنتباه صِغار الجيل لبعضِهما، فكما سبق الذِّكر؛ جاكسون يتصرَّف بلا تهذيب من أسفلِ الطاولة، وإيف تنظر إليه كُل حين، وتراه يبتسم لها كلما نظرت في عينيه؛ فإنَّه يرفع قماش الفُستان عن ساقيها ولا يكف عن تحسسهما، وهي لم تنهه، ليس لأنَّ ما يفعله يعجبها، بل لسببٍ تُريده.
وَشوَشَت له.
"اتبعني إلى غُرفتي"
نبستها بنبرة عاديّة، لكنَّها زادته إستثارة، هو من هذا النوع من الرِّجال، الذي لم يصوم عن النساء مُذُّ تذوَّق أول إمرأة، لكن خطبته لإيف كلَّفته الصوم غصبًا، فهي لا تسمح له بالتمادي جسديًّا، ولو أمسكت به في حِجر أُخرى ستكون نهايته؛ ولو لم تَكِنُّ له الحُب.
إستئذن من والد خطيبته، واستعجل نفسه لينفرد بخطيبته في غُرفتها، التي تتضمَّن سرير ناعم بالمُناسبة.
ولج إلى غُرفتِها، وأغلق الباب خلفه، ثم باشر بخلعِ سُترته فورًا يرمي بها على الأريكة، ثم جلس يُراقبها.
قد بدَّلت ثيابها إلى ثوبِ نوم باللون الأسود؛ مُلفِت كفاية ليستثيره ويُطيّر حبّات الرُّشد من عقلِه، ثم جلست أمام تسريحتها تُرطِّب ذراعيها وساقيها بكريماتها الخاصّة أمام عينيه.
"أترغب بي لدرجة أن تتحرَّش بي من أسفل الطاولة وبحضور أبي؟!"
كان واضحًا وصريحًا كما عينيه، التي تنظر إلى ساقيها، وتمنّى أن يديها يديه.
"نعم"
تبسَّمت.
"وما الذي سيجعلك أعقل؟"
"لا بأس لو سبق الزواج الجسدي الزواج المدني، أليس كذلك؟"
نظرت إليه لوهلة، كم بدى مُسترخٍ وهو يراقبها بعينٍ جائعة تملؤها الشهوة والرغبة البحت، نهضت إيف من على مقعدها واقتربت منه، جلست في حِجره وأشعلت ناره، ثم أحاطت عُنقه الصلبة بذراعيها وهمست له.
"افعل ما تُريد، لكن ابلغني متى ينفذ صبرك"
همهم وابتسم، وفكَّر ببغيٍّ وغباوة: لقد لانت أخيرًا، والليلة حُضنها دافئ ومجنون!
فتركته على راحتِه، وعلى حسبِ رغبتِه يُقبِّل وجهها ورقبتها، ويديه تتلمَّس ذراعها ثم ساقها ثم ذراعها مُجدَّدًا.
أنزل كتف الفُستان وطبع على كتفها قُبل كثيرة، ثم أنزل الآخر وفعل ذات الشيء، لكنَّه حينما اقتربت شفتاه من حدودها الآمنة أستوقفته وأمسكت بيده.
"هل نفذ صبرك؟"
"أستطيع أن أُقبلك وأداعبك للغد، لكنني لا أطوق، أبغي كشف المزيد ثم تطويقه على مهل"
أطرقت إليه ونقرت ذقنه تبتسِم.
"لا يُناسبني ما تُريدُه، استوي ثم انتقل"
أحاط خصرها بعدوانيّة، واجتذبها يُقبِّل عُنقها الطويل بجنون حتى استوى وأراد خلع الفُستان عن قَدِّها؛ قالت.
"هل استويت؟"
رمقها بعين تملؤها الشهوة والضعف.
"بل ضعفت، ولو نقرتِني الآن من أي مكان سأتألم... دعيني أُحِبُّكِ بألم!"
همهمت كموافقة، لكنها أربكته حينما نهضت عن ساقيه، وعقدت شريطي الروب على خصرها، ثم تكتَّفت تهمس بنبرة باردة.
"لا أنوي أن أتألم... تألم وحدك!"
"إيف!"
صرخ عليها بعصبيّة وهو في وضعٍ حرج فقهقهت، ثم جلست على سريرها وقالت.
"لطالما كنتُم الرجال حيوانات شرهة وجنسيّة، لكنني لستُ الوليمة يا عزيزي!"
نهضت تتركه في عذاب ولا تُبالي، هو من آتى بالوجع على نفسه، لكنَّها سمعت خطواته سريعة من خلفها حتى أدركها وضربها في الحائط، فتألمت، وتأوهت، وإلتفتت ناحيته سريعًا؛ كي لا يتربص بها بفُحش.
أمسك بذقنها بقوّة واعتصره بيده، ثم نبس بنبرة غاضبة بالكاد تتسرَّب من بين أسنانه المرصوصة.
"أنتِ مريضة وفوق ذلك مُختالة وفخورة، عليكِ أن تهبطي وتُقبٍّلي قدمي؛ لأنني رضيتُ بإمرأة معلولة مثلك، لا أن تتكبري علي وتستكثري علي أن أَفُضَّكِ.
أنا سأُفُضَّكِ بكل الأحوال عاجلًا أم آجلًا، برضاكِ أو دونه، وستريني في الصباح اذهب لحجرِ أُخرى، وأنتِ لن تجرؤي أن تنبسي بحرف.
سأصبر إلى ذلك الحين فقط يا إيف، ثم سأكسر لكِ هذه العنجهية وهذا الغرور النّاطح، سأنطحكِ بالمذلّة... صدِّقيني!"
إستشرست عيناها كما هو، هي ليست المرأة، التي تأتي بالتهديد، والشتيمة لا تحرك في شعورها شيء.
ما تكرهه أن يُحجِّمها أحد أو يُحدِّد مصيرها أحد، هي تملئ حجم لا يسع رؤياها، ولها مصير هي من تُحدِّدُه وتُنمِّطُه، ونُقطة انتهى.
صرَّت على أسنانها كما يفعل، وهمست بشراسة بعدما دفعت بيده عنها بضراوة.
"لو ظننتَ أن تحرُّشكَ المُستمر بي، أو كلامك هذا، أو حتى شتمي يُذايقني؛ فإذًا أنت لا تعرفني، اليوم أنت تُحجِّمُني، وتُخبرني ما مصيري الذي قرَّرته، وغدًا أنا سأُريك ما مصيري، وكيف سيكون"
حملت سُترته عن أريكتها، ورمت بها خارجًا، ثم إلتفتت إليه.
"اخرج قبل أن أتصرَّف بطريقة ستؤكد لك أنني مريضة حقًا"
سار حتى أدركها فيما يرمقها بعينه الغاضبة ثم خرج، وضربت هي الباب خلفه بقوّة، فهو بنظرِها ليس رَجُلًا ولا حتى كلبًا، الكلب أفضل.
...
على طاولةِ الإفطار في اليوم الموالي؛ كانت إيف تُشارك الطاولة مع والدها وعشيقته، التي لا يتجاوز عمرها نِصف عمره.
"أنا لا أريد الإستمرار مع جاكسون، لا أُحِبُّه"
في خضمِّ الهدوء المُستكين إزداد إستكانة وصمتت الملاعق في الأواني حينما بلَّغت أيف بتلك الرغبة صراحةً وبِلا مُقدِّمات.
ثم عاد السيد لتناول طعامه وكأنَّه لم يسمع شيء، وذلك ما استفزَّ إيف؛ أن تُعامل وكأنَّها ليست موجودة؛ ضربت بقبضتِها على الطاولة وصاحت.
"أبي!"
فنظر لها نظرة متوعِّدة ونبس.
"لو تحدَّثتِ بهذهِ السيرة مُجدَّدًا لن أكون أبوكِ بعد الآن!"
تنهدت إيف مِلأ صدرِها، ثم نهضت تقول له.
"إذًا أنا لستُ إبنتكَ من الدقيقة هذه!"
"إيف! إيف توقفي مكانك!"
لكنَّها لا تستمع، وقرَّرت ألا تستمع بعد الآن لأي حد صوته أبعد من صوتِها وصوت إرادتها، لا تريد جاكسون... هذا الصوت الوحيد الذي تسمعه.
صعدت إلى غُرفتِها، وبعصبيّة ربضت على سريرها، لا يُمكِن أن تتحمَّل أن يُفرض عليها مصيرها وتتقبله غصبًا طالما تستطيع تغييره وإن كان بطريقة مجنونة... لا تهتم.
آتى الليل وخلد الجميع إلى فراشه إلا أنَّ حرس القصر لا يغفون ولا ينامون، لا يكلوا ولا يتعبوا من حراسة القصر وتنفيذ أوامر والدها وإن أتت عليها.
تعلم جيّدًا أنها الآن مُحتجزة بالقصر، ولا يمكنها الخروج ولو أرادت، فلقد سنَّ والدها الكلمة ويتم تنفيذها، في كل مرة تختلف فيها معه يأمر حرس قصره أن يحبسونها داخل أسوار القصر، ولا يدعونها تخرج مهما تعالت عليهم وهددت؛ تبقى أصغر وأقل شأنًا من أبيها.
لكنَّها هذهِ المرّة وفرت على نفسها عناء التَّجادُل الفارغ معهم، وضعت أغراضها، التي لا يُمكن أن تستغني عنها في حقيبة ظهر، ثم تسلَّلت عبر أسوار القصر إلى الخارج.
فلقد علَّمها هذا السجن الكبير وهؤلاء السجّانون من كبيرهم -أبيها- إلى أصغر سجّان فيهم كيف تهرب وتتصرَّف في مثلِ هذهِ الظروف.
حملت حقيبتها على ظهرها، وخرجت دون أن يحس عليها أحد أو تلتقطها كاميرات المراقبة حتى أصبحت في الخارج.
ومن الخارج سلكت طريقها نحو طريق بعيد، بعيدٌ جدًا، بعيد لدرجة أن أحد لن يعرفها فيه، لأنها إكتفت من حياة العِز والمال.
المال يرفع شأن صاحبه بين الناس ويذله بينه وبين نفسه.
ما فائدة السيارات والقصور والمجوهرات إن كانت ستسلب منها حياتها وسعادتها؟
حياة الفقير كادحة بالفعل، ولكن الفقير لا يملك مالًا ليُديره ويقلق عليه، وهي تعبت من إدارة المال.
لا توجد حياة مثالية، قصص الأميرات خياليّة، الفتاة المُدلَّلة الثريّة ما هو إلا قِناع، من خلفه تنكشف بشاعة الحياة.
نعم... الحياة بشعة جدًا مهما كانت ظروفها، لا يوجد أحد راضٍ عن حياته إلا إن كان سعيد، سواء كان غني أم فقير... المال ليس كل شيء.
تعوَّدَ بعض الناس أن يبيعوا أنفسهم لأجل المال حتى لو لم يكونوا بحاجته، فقط للمزيد من الرفاهية والسيط، ولكنَّها لا تحتاج.
حياتها مليئة بعلاقات المصلحة وهي لا تحتاجها، لا تحتاج أبًا يبيعها، ولا إمرأة تدعي أنها أمها لتكسب وِدَّها المُربِح، ولا رَجل تزوجها بالمُقايضة بدل صفقة مُربحة، ولا صديقة تحبها لأجلِ أن تشتري لها حقيبة غوتشي أو تأخذها إلى مقاهي ستاربكس.
تحتاج أحد يُريدها كما هي، مُجرَّدة من كل شيء عدا ثيابها، تحتاج من يحتاجها لأنَّها إيف فقط دون أن يعرف المزيد... لذا هي لا تريد جاكسون، ولا يُناسبها رجل داعر وذا مصلحة مثله.
وهي حواء إبنة حواء، ولدت لتكون حُرّة أبيّة، ولدت لتكون قويّة وبريّة، لأنَّها لم تعش في ذُل لساعة؛ فكيف تقبل على نفسها المهانة؟!
لن تقبلها، وفي هذا السبيل؛ قد تفعل أي شيء مجنون؛ كأن تدوس على أي من يعترض طريق نجاتها كأنًا من يكون... لا تهتم.
الحياة فُرص، وهي لن تُضيع المزيد من الفُرص في القعود والبكاء، لن تستسلم، لم تتعوَّد أن ترضى بشيء لا تريده أو ينفرض عليها شيء.
لا تدري كيف خطر على فكرِ أبيها أنها عُرضة للبيع أي للإهانة والمذلة، كيف يبيعها؟!
لذا مهما كان الذي تفعله وستفعله لا يحق لأحد أن يلومها، لأنها أحسنت بأختيار كرامتها بالظروف، التي تحفُّها مهما كانت صعبة، على حياة الذُّل بقالب من الرفاهيّة.
وهذه هي النتيجة؛ أنها هربت... يشهد الرَّب أنَّها حاولت بكل مقدرتها ثَنيَ والدها عن قراره، وحاولت أن تجعل جاكسون يكرهها فيتركها من تلقاء نفسه، لكنها فشلت وآخرُ الدواء الكَي كما يقولون.
ولِتهرب بنجاح كان عليها تَدبُّر الكثير وبحذر وسريّة تامة.
بدايةً برجل دفعت له مبلغ طائل حتى يُساعدها في الهرب، فيجهز لها الأوراق المطلوبة للفرار خارج البلد، والمال، ومكانًا للإقامة، وكل ما تحتاجه.
ركضت حتى الشارع الرئيسي ومن هُناك إستقلَّت سيارة أُجرة لتوصلها إلى المطار، استهلكت قرابة الساعتين حتى وصلت فكان الفجر قد إقترب.
ولجت المطار وأنفها يكاد يشتم هواء الحُريّة، ركضت تسيرُ في معاملةِ السَّفر وتُتم الإجراءات المطلوبة في المطار، ثم حينما نادوا المُسافرين إلى بوابة معينة ذهبت إليها.
وما إن ولجتها، واقتربت من الطائرة؛ تفاجئت بجاكسون يقف وسيجارة في فمه يُدخِّنها بإستمتاع، وحينما رآها ورأى الإرتباك يعلو معالم وجهها الحائرة إبتسم إبتسامة ساخرة ولئيمة فيما يشعل سيجارة ثانية ويبدأ بتدخينها.
تقدَّم منها ويده في جيبه، والأخرى يمسك بها السيجارة، يتكلم وينفث دخان السيجارة من بين شفتيه.
"في المرة القادمة التي تحاولي فيها الهروب مني كوني أذكى، لا تستعيني برجل أعرفه على الأقل يا غبيّة"
رمى السيجارة نحوها بعصبيّة فتراجعت خطوتين سريعًا وتطلَّعت عليه، عيناه تشتعل كما عُقب السيجارة أرضًا قبل أن يدوسه بقدمه ويزلف منها أكثر.
"لكنني أشك أن يكون هناك مرة قادمة من الأصل!"
.....................
الفصل الأول "مَرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر"
الرواية العاطفيّة "العندليب والبرّيّة"
21st/May/2021
....................
سلاااااااام
أخيرًا أخيرًا أخيرًا بلش مشوار هاي الرواية👏👏👏
طبعًا لأكون معكم صريحة أنا مش متوقعة منكم أي دعم أو أي حُسنى للرواية رغم هيك رح انشرها واكتبها بغض النظر عن ردود الأفعال.
التنزيل بإذن الله رح يكون منتظم والرواية ح تكون حلوة ومُسليّة تتركلكم ذكريات وعواطف حلوة.
دمتم سالمين❤
❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤
Love❤
بطل:
"العندليب والبرّيّة"
"مرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر"
...
كانت تُصوِّب نحوَ مُجسَّم على هيئةِ الجسد البشري ببُندُقيتها، قُربها يقف الرَّجُل، الذي تلتصق به ياء مُلكيّة مُزيّفة تعود لها.
"صوِّبي نحو القلب، لا يمكن أن يُفلِت أحد من رصاصة في قلبِه"
أطلقت نحو الرأس تعصي رأيه، ثم جعلت تستند على البُندقية بمِرفقِها، خلعت نظّاراتها ونظرت إليه الرّاكن بجانبها.
" لبعضِ الناس القِلَّة قلوبٌ في أيمنِ الصدر لا في أيسره، بينما العقل لا يُمكن أن ينبُت في مكان آخر غير الرأس."
أقامت نفسها عن البُندقية، وحملتها مُجدَّدًا تُصوِّب نحوَ المُجسَّم.
"ثِق بالعقلِ جاكسون، لا تثق بالقلب!"
صوَّبت نحو الرأس مجددًا؛ فأخترقت الطَلَقة الثانية مكان الأولى، نظرت إلى اللوحة فيما تعقد ساعديها إلى صدرها، وقالت له.
"لا تُصيب القلب بالرصاص، أنتَ لن توفر للمُصاب ميتة سريعة، قد يعيش طويلًا بقلبٍ معطوب... هذا قاسٍ!"
برم جاكسون شفتيه مُعجبًا ورفع حاجبه.
"أنا حقًّا مُعجَب بكِ!"
رمت عليه بُندقيتُها وقالت فيما تُغادِرُه.
"أنتَ لستَ مُعجبًا بي، بل بشراكتِكَ مع أبي"
سخر جاكسون منها ثم ابتسم، إنها إمرأةٌ صَبيّة وذكيّة، لكنَّها باردة وجافّة... هذا شخصُها الذي يعرفه.
لكن ما لا يعرفه جاكسون أنَّها فتاةً برّيّة، تتكيَّف والناس الذي يحيطون بها، وأن الوجه، الذي يعرفه جاكسون لها، هو وجه من اثنين وهو من إختار رؤيته.
لأنها باردة مع الذين يحبونها لمصلحة يبغونها منها، وأما الجانب الثاني؛ فهي لم تكتشفه في نفسها بعد.
إيف؛ تعني حوّاء... وهي إبنة تَكتُّل إقتصادي إحتكاري في السوق الصينيّة، يتشارك والدها وأبناء عمومته رئاسته، ولكل منهم دور يأدونه -بحرفيّة أو بلا حرفيّة- لإدارة الشَّرِكة بجِد.
وإحدى طُرق الإدارة هي الزّيجات المُدبَّرة بين الوَرَثة ووَرَثة تَكتُّلات إقتصاديّة أُخَر؛ وهكذا تمَّت خِطبةَ جاكسون؛ وهو وريث تَكتُّل إقتصادي آخر ومُدير تنفيذي فيه؛ وإيف؛ الحفيدة الأُنثى الوحيدة للعائلة.
وذلك تَطلُّعًا للمزيد من النجاحات الباهِرة والتعاونات الرّابِحة التي تعود على الأطراف جميعها... وهذا ما تكرهه إيف بِحق؛ أن تُعامل كغرض مَنفعي؛ لا كإنسان حُر بحياتِه.
خرجت إيف من ساحةِ الرِّماية في المزرعة يتبعها جاكسون، من المُفترض أنَّ هذا موعد غرامي بين الإثنين؛ ليتعارفا جيّدًا، لكن إنتهى به الحال أن يكون على هذهِ الشاكلة، فكلاهما لا يتناسب وفكرة الموعد الغرامي، تبدو شاذّة.
تبسَّمت إيف حينما رأت حصانها راكوس الأدهم مربوط إلى لِجامه ويبدو غاضبًا بعض الشيء، ركضت إليه وتجرَّدت من قُفّازيها الجلديين، ثم أخذت تمسح على رأسه حتى هدئ.
"راكوس جواد أصيل، ليس مُجرَّد حِصان، لا يتحمَّل اللِّجام ويكره أن تُقيَّد حُريَّتُه، وأنا حذَّرتُكم من ربطِه هكذا"
إقترب جاكسون من راكوس ليُربِّت عليه، لكن الحصان رفضه بعنف لولا أنَّ جاكسون تراجع عنه سريعًا، ثم ضحك مشدوهًا.
"الآن أفهم لِمَ تُحبّينه، لأنَّهُ ثائر وحُر كما أنتِ، برّي كما صاحبته البرّيّة"
نظرت إيف إليه ونبست.
"إذًا احذر منّا بما أنَّكَ تُدرِك خطرنا"
لأنَّ الحياة خَطِرة، عقباتِها وَعِرة، تحتاج الحذر، تحتاج أن تكون خطيرًا... وهذهِ هي إيف؛ حواء برّيّة.
.........
وأمّا العندليب؛ فَقِصَّتِهِ مُختلِفة... هو رَجُل الذكريات، رَجُل الأطلال والرِّثاء، السنون تَمضي وهو على حاله؛ عالق لكنَّهُ لا يدري.
هو في طريقه داخل وادٍ مُظلِم آخره الهلاك، تُرافقه الغُربان فيه تُبشِّره أنَّ الخاتِمة سوء؛ لكنَّهُ لا يقتنع، الحياة باتت صعبة عليه، يُدرك ذلك لكنَّهُ يؤمن أنَّهُ يستحق.
العندليب... هكذا يدعونه النّاس؛ لأنهم لا يعرفونه كثيرًا، هو دومًا بِمعزِل عن الجميع؛ لكنَّهُ من يوم أتى؛ وهو يُنشِد ويُنشِد ألحانًا شجيّة تملئ الصدر حُزنًا قُربَ الشلّال حيثُ يقضي الوقت من العصر وحتى العشيّة كُل يوم.
وو ويفان، الناس تعرفه بهذا الاسم، يعيشُ
في إحدى المُقاطعات النائية، حيثُ تغلب الغاب عليها، والريف على الحضر، حيثُ النّاس يملكون تلفازًا واحد في الحي، يشغلونه مساءً؛ويجتمعون حول الفيلم المعروض، حيثُ الناس بمعزل عن أخبار العالم، يعيشون في حُبٍ ووئام وبساطة... هناك أختار أن يعيش وو ويفان.
"أين العندليب؟!"
تسآل آحدى شيوخ القرية فردَّت عليه شيخته.
"يقولون أنَّهُ ذهب للمدينة"
"أهو ذلك اليوم من السنة؟!"
"نعم"
والمدينة المقصودة هي شنغهاي؛ تكلَّفهُ السفر عِدة ليالٍ عبر القطارات، من قطار إلى قطار ومن مدينة إلى مدينة حتى وصل قلب المدينة المقصودة.
اليوم تَمُر على الجريمة سبعُ سنين عُجافٌ طوال وقاسيات، قضاها بالوجعِ، والكدِّ، والكمدِ، والغضبِ، والويل.
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح العندليب...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح يتيم...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح فاقد...
سبعُ سنين مُذُّ أن أصبح القاتل...
مُذُّ سبع سنين وهو في العِقاب، مُذُّ سبع سنين وهو يركض خلف الموت والموت يصدُّه، مُذُّ سبع سنين وهو لابث في العذاب، مُذُّ سبع سنين وهو العندليب.
قدماه ساقته إلى المكان المعلوم حيثُ ردم آخر ما يملك، ورغم أنَّ رائحة الموت تفوح في المكان؛ لكنَّهُ إشتمَّ رياح من الجنّة وهواء مُعطَّر.
كيف لا يكون؟!
وهُنا أحبائه أرواحهم تعوم، هنا حيثُ اشترى الموت منه ناسه بالرخيص، واتهمه بالقتل، ونعته بالقاتل.
دخل مُظلِم السِّنحة رُغم وسامة ملامحه ووجهه المُفدَّى، يضع كمّامة تُخبّئ أنفه وفمه، وشعره الأسود مِثلَ الحرير مَسدول على جبهته ويُغمّي على عينيه، يتطاير الحُزن من هالته وقلبه خائف.
يخشى أن يتعرَّف عليه أحد وينعتونه بالقاتل، سيتذكَّر دومًا أنَّهُ القاتل، لكنَّهُ لا يُريد أن يسمع تلك الكلمة الجارحة من أحد.
سار حتى أدركَ قبرين متجاورين، أحدهما صغير والآخر لشخصٍ بالغ، وضع الباقتين، كل باقة على قبر، هذهِ ورود حمراء وأُخرى بيضاء.
مسح على الشاهدين بيديه يُزيح الغُبار عن الاسمين، تألَّمَ أكثر حينما أصبح الاسمين واضحين، وتذكَّر آخر لقاء كم كان حميم.
الحُب كان يصرخ في عينيه كما الحُزن والألم، قلبه مكسور مُذُّ ذلك اليوم، وذلك الكسر ككسرِ الزُجاج، لا يُصلَّح.
تنهد مِلأ صدرِه فيما يجلس القُرفصاء بين القبرين، أنزل رأسه وانسابت دمعة من عينيه، لكنَّهُ مسحها وهمس.
"لا يحقُّ لي البُكاء حتّى، أنا آسف، لا تسامحوني!"
هكذا أراد، ألّا ينال المغفرة، لأنَّهُ يستحق أن يلبث في العذاب حتى يجاورهم، ويرافقهم، ويكون معهم، فيتقبلونه أو يرفضونه، لن يُصِر، وسيتحمَّل لومهم... حتى ذلك الحين سيلوم نفسه ويعذِّب نفسه؛ لإنَّهُ بنظرِ نفسه يستحق.
ولكنه لا يدري أنَّهم لو لاموه سيلوموه؛ لأنَّه يُعذِّب نفسه عليهم، ومن بعدهم؛ وكأنَّ حياته توقفت بتوقف حياتهم.
كان العصر، وحانت العشيّة، وآتى الصباح، وانتهى الوقت سريعًا دون أن يشعر به، حمل نفسه ونهض يمشي بتلكؤ، يَجُر أقدامِه بالغصب، لا يُريد الذهاب إلى أي مكان.
خرج من المَقبرة؛ ورأسه مُنكَس، وبصره خانغ نحو الأرض، وخُصل شعره الدهماء تُداعب جبهتِه.
وفي طريق خروجه؛ توقَّفت سيارة سوداء فارهة مرسيدس إس كلاس مايباخ، خلفها توقَّفت فان سوداء أيضًا ترجَّل منها أربعةِ رجال، ضِخام البُنية، عظيمي الجَسد.
ومن السيارة ترجَّلت إمرأة صبيّة مُختالة فخورة، الكِبرُ والكبرياء يفوح من مناكبها، تسير وكأنَّها ملكة الكون وسيدة العالم الأولى، تسير وكأن الذي خلقها ما خلق مثلها، ولا مثيلتها، ولا بعدها، ولا قبلها، إمرأة برّيّة، تبدو خَطِرة.
لفتت إنتباه الجميع إلّاه، فهو قد ترفَّع عن الأهواء والملذّات وما عاد شيء يُغريه، لا إمرأة حسناء، ولا طعام فاخر، ولا مال، ولا جاه، ولا سُلطة، ولا شيء إطلاقًا.
وذلك ما أثار حفيظتها حوله، كيف يَمُر مرور الكِرام؟ كيف يتجاهلها؟ من هو؟!
أعاش في مثلِ هذا العِز ليبدو مُعتادًا عليه؟!
مُستحيل... ثيابه المتواضعة لا تقول أنَّهُ يعيش في رُبع رخاء عيشتها حتى.
خلعت نظّارتها عن عينيها؛ لِتلحظه جيدًا، أتجاهلها لتلحظه؟! أم تجاهلها لأنَّهُ حقًا لا يهتم؟!
لكنَّها لم تهتم لأي ما كانت الإجابة، سواء كانت نعم أم لا؛ لِمَ؟!
لأنَّ النظر إليه مَسرَّة، وجهه مثل قُرص البدر مُنير، عيناه مرسومة بطريقةٍ فاتنة تجعلها لا تقدر أن ترفع عيناها عنه، شعره أدهم كالليل الدّاجي، يُداعبه الهواء ويراقصه على جبهته العلياء.
جميل... لا؛ ليس جميل، بل آية في الحُسن، كيف لرجُل أن يكون جميل إلى هذه الدرجة؟!
توقفت، وتوقف الجميع خلفها، وتوقف الجميع لينظر لها، وهو عَبَرَ وكأنَّها شفّافة لا تُرى، وهو بالفعلِ لا يراها، فغشاوة الحُزن على عينيه تجعله لا يرى أحد، لا يُميز أحد.
هكذا كُتِبَ على اللقاء الأول أن يكون، وفي تلك اللحظة العابرة؛ لم يَكُ يُدرِك أيًا منهم أن أحبال الأمصِرة تعلَّقت، وأنَّ هذه المرأة المُلفِتة وذلك الرَّجُل العابر سيكونا شريكان مصير وأزود من مصير.
تَهِبُّ الرياح عليه كما لو أنَّها نسيم، تُرافقه وتواسيه، وتهب عليها كما لو أنَّها ريح تُزلزِلها، وتُزمهر كيانها، أو تغليه... لا تدري؛ لكن هذا الرجل الذي مرَّ بها مرور الكرام لن تَمُرَّ به مرور الكِرام أيضًا.
لم تدري أنها تملك قلبًا خفيفًا رهيفًا... لقد أعجبها أو بالأحرى أحبَّت هذا الغريب، وستُفكِّر به لعدةِ أيامٍ أُخَر.
"آنستي؟!"
خرجت من معمعةِ فِكرها حينما زاودها الوقت على المُضي فاستفاقت واستعادت رُشدها، تناولت من إحدى رجالها باقة الزهور وتحلَّت بالأدب الذي يُناسب وقارة المقبرة واحترامها... حاولت.
ولجت إلى المقبرة، وقصدت قبرًا معروفًا وبارزًا، طُبِعَ على الشاهد اسم إمرأة وحسب إحداثيات الولادة والوفاة فلقد توفَّت في مُنتصفِ العُمر، هُناك ربضت إيف وطالعت الشاهد.
"أمي، إشتقتُ لكِ، كيف تُبلي هناك حيث أنتِ؟! هل دخلتِ الجنّة أم علقتِ؟!"
تنهَّدت إيف مِلأ صدرها واتبعت تومئ.
"أنتِ لم تفعلي ذنبًا لا يُغفر في حياتك يمنعكِ عن الجنّة سوى واحد؛ إختياركِ أبًا لي لا يُناسبني، لا أحبه ولا أريده، وهو يُبادلني نفس الشعور.
سأصدقكِ القول وأخبركِ أنَّني شككتُ بأنَّهُ أبي حقًا في إحدى فترات نضوجي المُبكِّرة، بل أنا حتى ذهبت لأتأكد بنفسي إن كان أبي أم لا، ومع الأسف أنتِ لم تخونيه.
لِمَ كان عليكِ أن تكوني وفيّة لِرَجُلٍ واحد طيلة حياتك؟!
كان عليكِ أن تمرحي، وتعيشي، وتُصادقي عليه كما هو فعل بكِ أُمّاه، هذا ما أودى بكِ إليه الوفاء لِرَجُل لا يستحق... الموت.
لا تقلقي أُمّاه، لن أكون مثلكِ، سأعيش حياتي بأوسع مساحة، وكيف تشتهي نفسي وتريد، لن أربط على قلبي حجر لأجلِ رَجُل."
وهذا هو الإختلاف الدّامِغ بين إيف ووالدتِها، بينما والدتها إنتهت بخسارةِ نفسها وحياتها لأجلِ رَجُل؛ إختارت إيف أن تعيش حياتها كما تشتهي رُغمًا عن أنفِ الرَّجُل.
لأنها إيف؛ حواء مُختلفة؛ لا تهتم بما يقولونه الناس ولا بمقدار أرباح الصفقات، ولا تعطي أهمية للذي أنجبها حتى، فكيف ترضى بخياره وتُسلِّم وتستسلم؟!
إختار لها من بين رجال الأرض أجمعين جاكسون وانغ، ليس لأنه الأفضل بل لأنه يحمل العرض المُغري أكثر.
مليارات الدولارات مقابل الوريثة الأُنثى الوحيدة في العائلة، وظنَّ أن الصفقة نجحت، لأنَّه لا يعلم مع أي أُنثى قد ورَّط نفسه، أُنثى بعد نفسها الطوفان... تقتلع ولا تهتم.
في المساء وعلى طاولة العشاء؛ تفاجئت إيف بأنَّ جاكسون مَدعو على وجبةِ العشاء؛ وكأنَّ هذا ما كان ينقُصها، لقد تحمَّلتهُ طيلة اليوم، وظنَّت أنَّ في ساعاتِ الليل راحةً منهُ؛ لكنَّ ظنُّها خاب، وها هو يربض أمامها يتناول طعامه بتهذيب، ومن أسفلِ الطاولة يتصرَّف بلا تهذيب.
كان والدها كما العادة يتحدَّث فهو كثير الكلام، وكما العادة لا أحد يسمعه فكلامه يُناسب جيله الأغبر فحسب.
إنتباه صِغار الجيل لبعضِهما، فكما سبق الذِّكر؛ جاكسون يتصرَّف بلا تهذيب من أسفلِ الطاولة، وإيف تنظر إليه كُل حين، وتراه يبتسم لها كلما نظرت في عينيه؛ فإنَّه يرفع قماش الفُستان عن ساقيها ولا يكف عن تحسسهما، وهي لم تنهه، ليس لأنَّ ما يفعله يعجبها، بل لسببٍ تُريده.
وَشوَشَت له.
"اتبعني إلى غُرفتي"
نبستها بنبرة عاديّة، لكنَّها زادته إستثارة، هو من هذا النوع من الرِّجال، الذي لم يصوم عن النساء مُذُّ تذوَّق أول إمرأة، لكن خطبته لإيف كلَّفته الصوم غصبًا، فهي لا تسمح له بالتمادي جسديًّا، ولو أمسكت به في حِجر أُخرى ستكون نهايته؛ ولو لم تَكِنُّ له الحُب.
إستئذن من والد خطيبته، واستعجل نفسه لينفرد بخطيبته في غُرفتها، التي تتضمَّن سرير ناعم بالمُناسبة.
ولج إلى غُرفتِها، وأغلق الباب خلفه، ثم باشر بخلعِ سُترته فورًا يرمي بها على الأريكة، ثم جلس يُراقبها.
قد بدَّلت ثيابها إلى ثوبِ نوم باللون الأسود؛ مُلفِت كفاية ليستثيره ويُطيّر حبّات الرُّشد من عقلِه، ثم جلست أمام تسريحتها تُرطِّب ذراعيها وساقيها بكريماتها الخاصّة أمام عينيه.
"أترغب بي لدرجة أن تتحرَّش بي من أسفل الطاولة وبحضور أبي؟!"
كان واضحًا وصريحًا كما عينيه، التي تنظر إلى ساقيها، وتمنّى أن يديها يديه.
"نعم"
تبسَّمت.
"وما الذي سيجعلك أعقل؟"
"لا بأس لو سبق الزواج الجسدي الزواج المدني، أليس كذلك؟"
نظرت إليه لوهلة، كم بدى مُسترخٍ وهو يراقبها بعينٍ جائعة تملؤها الشهوة والرغبة البحت، نهضت إيف من على مقعدها واقتربت منه، جلست في حِجره وأشعلت ناره، ثم أحاطت عُنقه الصلبة بذراعيها وهمست له.
"افعل ما تُريد، لكن ابلغني متى ينفذ صبرك"
همهم وابتسم، وفكَّر ببغيٍّ وغباوة: لقد لانت أخيرًا، والليلة حُضنها دافئ ومجنون!
فتركته على راحتِه، وعلى حسبِ رغبتِه يُقبِّل وجهها ورقبتها، ويديه تتلمَّس ذراعها ثم ساقها ثم ذراعها مُجدَّدًا.
أنزل كتف الفُستان وطبع على كتفها قُبل كثيرة، ثم أنزل الآخر وفعل ذات الشيء، لكنَّه حينما اقتربت شفتاه من حدودها الآمنة أستوقفته وأمسكت بيده.
"هل نفذ صبرك؟"
"أستطيع أن أُقبلك وأداعبك للغد، لكنني لا أطوق، أبغي كشف المزيد ثم تطويقه على مهل"
أطرقت إليه ونقرت ذقنه تبتسِم.
"لا يُناسبني ما تُريدُه، استوي ثم انتقل"
أحاط خصرها بعدوانيّة، واجتذبها يُقبِّل عُنقها الطويل بجنون حتى استوى وأراد خلع الفُستان عن قَدِّها؛ قالت.
"هل استويت؟"
رمقها بعين تملؤها الشهوة والضعف.
"بل ضعفت، ولو نقرتِني الآن من أي مكان سأتألم... دعيني أُحِبُّكِ بألم!"
همهمت كموافقة، لكنها أربكته حينما نهضت عن ساقيه، وعقدت شريطي الروب على خصرها، ثم تكتَّفت تهمس بنبرة باردة.
"لا أنوي أن أتألم... تألم وحدك!"
"إيف!"
صرخ عليها بعصبيّة وهو في وضعٍ حرج فقهقهت، ثم جلست على سريرها وقالت.
"لطالما كنتُم الرجال حيوانات شرهة وجنسيّة، لكنني لستُ الوليمة يا عزيزي!"
نهضت تتركه في عذاب ولا تُبالي، هو من آتى بالوجع على نفسه، لكنَّها سمعت خطواته سريعة من خلفها حتى أدركها وضربها في الحائط، فتألمت، وتأوهت، وإلتفتت ناحيته سريعًا؛ كي لا يتربص بها بفُحش.
أمسك بذقنها بقوّة واعتصره بيده، ثم نبس بنبرة غاضبة بالكاد تتسرَّب من بين أسنانه المرصوصة.
"أنتِ مريضة وفوق ذلك مُختالة وفخورة، عليكِ أن تهبطي وتُقبٍّلي قدمي؛ لأنني رضيتُ بإمرأة معلولة مثلك، لا أن تتكبري علي وتستكثري علي أن أَفُضَّكِ.
أنا سأُفُضَّكِ بكل الأحوال عاجلًا أم آجلًا، برضاكِ أو دونه، وستريني في الصباح اذهب لحجرِ أُخرى، وأنتِ لن تجرؤي أن تنبسي بحرف.
سأصبر إلى ذلك الحين فقط يا إيف، ثم سأكسر لكِ هذه العنجهية وهذا الغرور النّاطح، سأنطحكِ بالمذلّة... صدِّقيني!"
إستشرست عيناها كما هو، هي ليست المرأة، التي تأتي بالتهديد، والشتيمة لا تحرك في شعورها شيء.
ما تكرهه أن يُحجِّمها أحد أو يُحدِّد مصيرها أحد، هي تملئ حجم لا يسع رؤياها، ولها مصير هي من تُحدِّدُه وتُنمِّطُه، ونُقطة انتهى.
صرَّت على أسنانها كما يفعل، وهمست بشراسة بعدما دفعت بيده عنها بضراوة.
"لو ظننتَ أن تحرُّشكَ المُستمر بي، أو كلامك هذا، أو حتى شتمي يُذايقني؛ فإذًا أنت لا تعرفني، اليوم أنت تُحجِّمُني، وتُخبرني ما مصيري الذي قرَّرته، وغدًا أنا سأُريك ما مصيري، وكيف سيكون"
حملت سُترته عن أريكتها، ورمت بها خارجًا، ثم إلتفتت إليه.
"اخرج قبل أن أتصرَّف بطريقة ستؤكد لك أنني مريضة حقًا"
سار حتى أدركها فيما يرمقها بعينه الغاضبة ثم خرج، وضربت هي الباب خلفه بقوّة، فهو بنظرِها ليس رَجُلًا ولا حتى كلبًا، الكلب أفضل.
...
على طاولةِ الإفطار في اليوم الموالي؛ كانت إيف تُشارك الطاولة مع والدها وعشيقته، التي لا يتجاوز عمرها نِصف عمره.
"أنا لا أريد الإستمرار مع جاكسون، لا أُحِبُّه"
في خضمِّ الهدوء المُستكين إزداد إستكانة وصمتت الملاعق في الأواني حينما بلَّغت أيف بتلك الرغبة صراحةً وبِلا مُقدِّمات.
ثم عاد السيد لتناول طعامه وكأنَّه لم يسمع شيء، وذلك ما استفزَّ إيف؛ أن تُعامل وكأنَّها ليست موجودة؛ ضربت بقبضتِها على الطاولة وصاحت.
"أبي!"
فنظر لها نظرة متوعِّدة ونبس.
"لو تحدَّثتِ بهذهِ السيرة مُجدَّدًا لن أكون أبوكِ بعد الآن!"
تنهدت إيف مِلأ صدرِها، ثم نهضت تقول له.
"إذًا أنا لستُ إبنتكَ من الدقيقة هذه!"
"إيف! إيف توقفي مكانك!"
لكنَّها لا تستمع، وقرَّرت ألا تستمع بعد الآن لأي حد صوته أبعد من صوتِها وصوت إرادتها، لا تريد جاكسون... هذا الصوت الوحيد الذي تسمعه.
صعدت إلى غُرفتِها، وبعصبيّة ربضت على سريرها، لا يُمكِن أن تتحمَّل أن يُفرض عليها مصيرها وتتقبله غصبًا طالما تستطيع تغييره وإن كان بطريقة مجنونة... لا تهتم.
آتى الليل وخلد الجميع إلى فراشه إلا أنَّ حرس القصر لا يغفون ولا ينامون، لا يكلوا ولا يتعبوا من حراسة القصر وتنفيذ أوامر والدها وإن أتت عليها.
تعلم جيّدًا أنها الآن مُحتجزة بالقصر، ولا يمكنها الخروج ولو أرادت، فلقد سنَّ والدها الكلمة ويتم تنفيذها، في كل مرة تختلف فيها معه يأمر حرس قصره أن يحبسونها داخل أسوار القصر، ولا يدعونها تخرج مهما تعالت عليهم وهددت؛ تبقى أصغر وأقل شأنًا من أبيها.
لكنَّها هذهِ المرّة وفرت على نفسها عناء التَّجادُل الفارغ معهم، وضعت أغراضها، التي لا يُمكن أن تستغني عنها في حقيبة ظهر، ثم تسلَّلت عبر أسوار القصر إلى الخارج.
فلقد علَّمها هذا السجن الكبير وهؤلاء السجّانون من كبيرهم -أبيها- إلى أصغر سجّان فيهم كيف تهرب وتتصرَّف في مثلِ هذهِ الظروف.
حملت حقيبتها على ظهرها، وخرجت دون أن يحس عليها أحد أو تلتقطها كاميرات المراقبة حتى أصبحت في الخارج.
ومن الخارج سلكت طريقها نحو طريق بعيد، بعيدٌ جدًا، بعيد لدرجة أن أحد لن يعرفها فيه، لأنها إكتفت من حياة العِز والمال.
المال يرفع شأن صاحبه بين الناس ويذله بينه وبين نفسه.
ما فائدة السيارات والقصور والمجوهرات إن كانت ستسلب منها حياتها وسعادتها؟
حياة الفقير كادحة بالفعل، ولكن الفقير لا يملك مالًا ليُديره ويقلق عليه، وهي تعبت من إدارة المال.
لا توجد حياة مثالية، قصص الأميرات خياليّة، الفتاة المُدلَّلة الثريّة ما هو إلا قِناع، من خلفه تنكشف بشاعة الحياة.
نعم... الحياة بشعة جدًا مهما كانت ظروفها، لا يوجد أحد راضٍ عن حياته إلا إن كان سعيد، سواء كان غني أم فقير... المال ليس كل شيء.
تعوَّدَ بعض الناس أن يبيعوا أنفسهم لأجل المال حتى لو لم يكونوا بحاجته، فقط للمزيد من الرفاهية والسيط، ولكنَّها لا تحتاج.
حياتها مليئة بعلاقات المصلحة وهي لا تحتاجها، لا تحتاج أبًا يبيعها، ولا إمرأة تدعي أنها أمها لتكسب وِدَّها المُربِح، ولا رَجل تزوجها بالمُقايضة بدل صفقة مُربحة، ولا صديقة تحبها لأجلِ أن تشتري لها حقيبة غوتشي أو تأخذها إلى مقاهي ستاربكس.
تحتاج أحد يُريدها كما هي، مُجرَّدة من كل شيء عدا ثيابها، تحتاج من يحتاجها لأنَّها إيف فقط دون أن يعرف المزيد... لذا هي لا تريد جاكسون، ولا يُناسبها رجل داعر وذا مصلحة مثله.
وهي حواء إبنة حواء، ولدت لتكون حُرّة أبيّة، ولدت لتكون قويّة وبريّة، لأنَّها لم تعش في ذُل لساعة؛ فكيف تقبل على نفسها المهانة؟!
لن تقبلها، وفي هذا السبيل؛ قد تفعل أي شيء مجنون؛ كأن تدوس على أي من يعترض طريق نجاتها كأنًا من يكون... لا تهتم.
الحياة فُرص، وهي لن تُضيع المزيد من الفُرص في القعود والبكاء، لن تستسلم، لم تتعوَّد أن ترضى بشيء لا تريده أو ينفرض عليها شيء.
لا تدري كيف خطر على فكرِ أبيها أنها عُرضة للبيع أي للإهانة والمذلة، كيف يبيعها؟!
لذا مهما كان الذي تفعله وستفعله لا يحق لأحد أن يلومها، لأنها أحسنت بأختيار كرامتها بالظروف، التي تحفُّها مهما كانت صعبة، على حياة الذُّل بقالب من الرفاهيّة.
وهذه هي النتيجة؛ أنها هربت... يشهد الرَّب أنَّها حاولت بكل مقدرتها ثَنيَ والدها عن قراره، وحاولت أن تجعل جاكسون يكرهها فيتركها من تلقاء نفسه، لكنها فشلت وآخرُ الدواء الكَي كما يقولون.
ولِتهرب بنجاح كان عليها تَدبُّر الكثير وبحذر وسريّة تامة.
بدايةً برجل دفعت له مبلغ طائل حتى يُساعدها في الهرب، فيجهز لها الأوراق المطلوبة للفرار خارج البلد، والمال، ومكانًا للإقامة، وكل ما تحتاجه.
ركضت حتى الشارع الرئيسي ومن هُناك إستقلَّت سيارة أُجرة لتوصلها إلى المطار، استهلكت قرابة الساعتين حتى وصلت فكان الفجر قد إقترب.
ولجت المطار وأنفها يكاد يشتم هواء الحُريّة، ركضت تسيرُ في معاملةِ السَّفر وتُتم الإجراءات المطلوبة في المطار، ثم حينما نادوا المُسافرين إلى بوابة معينة ذهبت إليها.
وما إن ولجتها، واقتربت من الطائرة؛ تفاجئت بجاكسون يقف وسيجارة في فمه يُدخِّنها بإستمتاع، وحينما رآها ورأى الإرتباك يعلو معالم وجهها الحائرة إبتسم إبتسامة ساخرة ولئيمة فيما يشعل سيجارة ثانية ويبدأ بتدخينها.
تقدَّم منها ويده في جيبه، والأخرى يمسك بها السيجارة، يتكلم وينفث دخان السيجارة من بين شفتيه.
"في المرة القادمة التي تحاولي فيها الهروب مني كوني أذكى، لا تستعيني برجل أعرفه على الأقل يا غبيّة"
رمى السيجارة نحوها بعصبيّة فتراجعت خطوتين سريعًا وتطلَّعت عليه، عيناه تشتعل كما عُقب السيجارة أرضًا قبل أن يدوسه بقدمه ويزلف منها أكثر.
"لكنني أشك أن يكون هناك مرة قادمة من الأصل!"
.....................
الفصل الأول "مَرأة مُلفِتة ورَجُلٌ عابِر"
الرواية العاطفيّة "العندليب والبرّيّة"
21st/May/2021
....................
سلاااااااام
أخيرًا أخيرًا أخيرًا بلش مشوار هاي الرواية👏👏👏
طبعًا لأكون معكم صريحة أنا مش متوقعة منكم أي دعم أو أي حُسنى للرواية رغم هيك رح انشرها واكتبها بغض النظر عن ردود الأفعال.
التنزيل بإذن الله رح يكون منتظم والرواية ح تكون حلوة ومُسليّة تتركلكم ذكريات وعواطف حلوة.
دمتم سالمين❤
❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤
Love❤
Коментарі