CH8||حُب العندليب
وو ويفان (العندليب)
بطل:
العندليب والبرّيّة|| Orpheus
"حُب العندليب"
...
كانت إيف تَجلس في رُدهةِ المنزل لا تملك شيئًا لتفعله سوى التفكير بويفان، فمؤخَّرًا باتَ ويفان يَشغُل تفكيرها كثيرًا؛ فهي تُفكِّر بشكلٍ عميق حيال شعورها ناحيته؛ أهو مُجرَّد إعجاب، شعور بالآمان، أم حُب؟!
تنهَّدت فيما تنظُر إلى قمرِ الليلة، الليلة تبدو كئيبة لسببٍ لا تفهمه، أو لأنَّها ولدت من رحمِ الكآبة ترى كل شيء بسوداويّة.
تنهَّدت مُجدَّدًا فيما تجلس على الدرجات القليلة التي تفصل رُدهةِ المنزل عن الأرض التُرابيّة، ووضعت جبهتها فوق رُكبتيها.
"يا ترى كم الساعة الآن؟! لقد تأخَّر!"
لا يوجد ساعة في المنزل يسعها تفقُّدها لتعرف الوقت تمامًا، ولكنَّ الوقت فاق العشيّة على حسبِ تقديرها، وويفان عادةً لا يتأخر إلى هذا الحد عند الشلال، عادةً ما يكون في ورشتِه في هذا الوقت، هو منظم ومرتَّب ويُقسِّم وقته جيّدًا.
ذهبت إيف إلى منزل الجدَّة لتسأل عنه عندها، وقبل أن تصبوه رأت الجدَّة تتفقَّد ورشته القريبة من منزلِها؛ لذا إستحكم القلق على وجه إيف، الآن بدأت تشعُر بجديَّةِ الموقف، وركضت إلى الجدَّة تقول.
"لقد تأخر ويفان كثيرًا، لستُ أُبالغ في القلق؛ أليس كذلك يا جدَّتي؟!"
الجدَّة وونغ أومأت والخوف يلتحف تقاسيهما الكَهِلة فيما تَدُق على صدرها بقلقِ الأُمهات والجدّات.
"غيابُه يَدعو إلى القلق، لم يُسبَق لهُ أن أطال الغياب على الجِبال هكذا!"
إزدرئت إيف جوفها وأخذت تتلفَّت بقلق فيما تتخصَّر؛ تُفكِّر بِما يجب عليها أن تفعله، ثم قالت.
"علي أن أصعد إلى الجبل وأجده الآن!"
نفت الجدَّة، وتمسَّكت بيدي إيف، وقرَّبتهُما إلى صدرها.
"لا يا صغيرتي؛ لو ذهبتِ وعاد فور خروجكِ سيغضب كثيرًا لأنَّكِ صعدتِ، وصدِّقيني غضبه ليس لطيفًا"
نفت إيف برأسها وقالت.
"لا أهتم لمثلِ هذا الإحتمال الآن يا جدَّتي، يهمني أن أعلم أنَّهُ بخير، سأتحمل غضبه لاحقًا؛ ولكنني لا أستطيع أن أتحمَّل خوفي عليه؛ لذا رجاءً اتركيني اذهب إليه!"
تنهَّدت الجدَّة، ثم أومأت تقول.
"لا أُنكر أنَّني خائفة عليه أيضًا، وأُريد أن أطمئن؛ لذا حسنًا اذهبي، ولكنني سأطلب من يوك هيي أن يُرافقك."
أومأت إيف للجدَّة موافقة ثم وقفت لتنتظر الجدَّة، التي ذهبت لإحضار الفتى لوكاس، وما إن أتى قرأت على وجهه القلق حينما قال.
"هيا نذهب"
"سنتأخر في الوصول لو صعدنا على قدمينا، نحتاج لشيء ما"
كانت تنظر حولها، حينها قال.
"هل أحضر حصانًا؟!"
سُرعان ما أومأت إيف وقالت.
"أحضر اثنين، أنا أُجيد ركوبه، بسُرعة!"
أومئ لها واسرع ليأتي بحصانين، ما إن وصل لوكاس بالحصانين صعدت على ظهرِ أحداهما ببراعة، واقتربت من الجدة تقول.
"إن آتى لا تسمحي له باللحاق بنا، سنعود سريعًا!"
أومأت الجدَّة، وقدَّمت لها مِشعل نار، تناولته إيف منها فقالت الجدَّة.
"العتمة تعمي، هذه ستُساعدك!"
وناولت الجدَّة أخرى للوكاس، ثم إيف حثَّت الحِصان أن ينطلق، ولوكاس المدهوش من قدرتها على قيادة الحصان سارع في إتباعها.
صعدت الجبال على حسبِ توجيهات لوكاس حتى أدركت الشلال، كانت تبحث عنه في كل مكان، وتستخدم مِشعل النار ليُضيء لها الأماكن الغير مكشوفة، وتُنادي عليه بأعلى صوتها لعلها تجتذبه، لكن عبثًا.
لم تخف حتى من إحتمال أن يُهاجمها حيوان بَرّي، خوفها على ويفان أعمى بصيرتها عن أي مخاوف أخرى، كانت خائفة عليه وكأن عالمها يدور حوله.
"ها هو الشلال"
قال لوكاس فيما يُدركان قاع الشلال، تنهدت إيف وهي تبحث عنه بعينيها فيما تُضيق الفُسحة بين حاجبيها، تعدمها وتركز نظرها وتُنادي.
"انظري هناك!"
نظرت إيف إلى حيث أشار لوكاس وهو يبتلع حروفه من شدةِ دهشته، وحالما وقع بصرها على تلك الصخرة شهقت بقوة وضربت لِجام الحصان فينطلق نحوها.
قفزت من على الحصان وركضت صوب الصخرة، التي يتمدَّد عليها ويفان فيما يتوسَّط ظهره سهمًا.
"ويفان!"
تشوشت رؤيتها بسببِ الدموع، التي تحاشدت في عينيها، وحرَّكت يدها بِبُطئ إلى عُنقه ترى لو ما زال حيًّا، ثم إنسابت دمعة من عينيها حينما شعرت بنبضٍ في عُنقه.
"حمدًا للرب، ابقى حي رجاءً!"
إلتفتت إلى لوكاس الواقف قُربها وهو يبكي من الصدمة والمنظر الشنيع، الذي أصابَ أخاهُ الكبير.
"ما زال حي يا لوكاس، توقف عن البُكاء وهَم بمُساعدتي، علينا نقله بحذر!"
أومئ لها لوكاس رُغم أنَّهُ لا يدري ماذا قالت، وإنما كان مُجرَّد تماشيًّا مع الموقِف الحاصِل، فهو لا يرى أمامه سوى جسد أخيه الهامد كما لو أنَّ الحياة لا تتنفَّس فيه.
إقتربت يد لوكاس من السهم بغيةِ نزعه من ظهره؛ فما يراه مؤلمًا بشكلٍ مُنفِر، ولا يتحمَّل أن يرى سهم الغدر ينتصب في ظهره بإنتصار، لكن إيف أبعدت يده عن السهمِ سريعًا تقول بإنفعال للوكاس، الذي لم يستفق بعد من صدمتِه.
"أياكَ أن تنزعه، إنَّهُ يمنع النزيف وإلا كان قد مات من وقتٍ طويل، الآن علينا أن ننقله بحذر إلى مكانٍ آمن حيثُ يمكن مُعالجته!"
أومئ لها لوكاس فيما قد إستعاد جُزءً من وعيه، واقترب من ويفان فيما يمسح دموعه، يحاول أن يجمع شتاته كما إيف، التي لم تذرف دمعة بعد، ويبقى قويًّا مثلها؛ ليستطيع أن يُنقِذ ويفان من الموت المُحدِق، الذي ينتظر أن تتوقَّف النبضة الضعيفة أن توكز قلبه.
إقترب كلاهما لرفعه فيما ويفان بغيبوبة تامَّة لا يشعر بأي شيء يحدُث من حوله، وإيف لم تعرف كيف تنقله إذ قالت.
"أخشى لو رفعناه على ظهر الحِصان أن ينغرز السهم في ظهرهِ أكثر أو أن يخرج فيتسبب بنزيفٍ يقتله، ماذا نفعل؟!"
لوكاس وقف ليُفكِّر مثلها وهو مُتوتر حتى قال.
"صحيح، نحن نضع قريبًا من هنا عربة خشبيّة، ننقُل عليها الحيوانات التي نصطادها، أحضرها؟!"
"بالطبع أسرع!"
ركض لوكاس سريعًا في العتمة ليحضرها بينما إيف بقيت قُربَ ويفان تحرُسه، إنحنت على ركبتيها قُربَ رأسه، وأخذت تمسح على شعره بيد حنونة وهي تَقول.
"سأحرص أن تعيش يا ويفان، لن أسمح للموت أن يسرقكَ مني أنتَ الآخر، أنتَ يجب أن تبقى معي دومًا وإلا لِمَ سأعيش؟ ولِمن؟ أرجوك إبقَ لأجلي!"
ورغم ما تشعر به إيف من مشاعر سوداء تجعل فؤادها يُقطِّع نفسه، لكنَّها لم تذرف دمعة واحدة حتى، ليس لأنَّها تريد أن تبقى قويّة وتُنقذ الموقف، بل لأن الشعور المُريع الذي تشعر به لبَّدَ دموعها، فلو ذرفتها لن تُخفف ألمها؛ لذا قرَّرت الدموع ألا تُذرَف بلا فائدة.
لو كان البُكاء سيُخفِّف عنها حِدة الشعور والألم لاستطاعت أن تبكي.
وصل لوكاس أخيرًا فيما يَجُر خلفه العَربة، التي تحدَّث عنها، حمل كلاهما ويفان بإرشادات من إيف، ثم ربطت إيف العربة بحبلٍ طويل علَّقته بخصرِها، ثم صعدت حصانها وجعلته ينطلق، ورغم الألم الذي يُسببه لها جرَّ العربة، لكنَّها لم تأبه، المهم بالنِّسبةِ لها أن يعيش ويفان مهما كان الثمن الذي يتوجَّب دفعه.
كانت تنظر إليهِ بين الحين والآخر، تتفقَّده بعينها الخائفة عليه وحده حتى أدركت القريّة، كانت تُفكِّر أثناء ذلك بإحتمالات كثيرة.
لو استفاق ستجعله يُحِب الحياة، وإن لم يستفيق ستنتقم له أشنع إنتقام، في كلتي الحالتين ستنتقم، لكن بشاعة غضبها سيحدده ويفان.
وجدت أنَّ مُعظم أهالي القرية مُجتمعين قُرب منزل ويفان، يحاولون تهدئة الجدَّة التي تبكي ويبدو أنَّ بُكائها ونواحها من لمَّ كل هؤلاء الناس حولها.
هرع الناس ناحية إيف حينما بزغت بضجيج العربة وصهيل الأحصنة، قفزت من على ظهرِ الحصان وهرعت إلى ويفان.
"ويفان صغيري!"
إنتحبت الجدَّة وأخذت تبكي بجنون حينما رأت بظهرهِ سهمًا وهو ليس واعيًّا؛ إذ ركضت إليه ثم إرتمت قُرب العربة وهي تبكي بجنون.
"هل مات ابني؟! هل مات؟!"
أسرعت إيف لِتُهدّئ الجدَّة، إذ قالت وهي تُربِّت على كتفيها.
"لا يا جدَّتي، لم يَمُت، ولكنَّهُ بحاجة أن يتلقَّى العِلاج، ألا يوجد طبيب هنا؟!"
مسحت الجدَّة دموعها وتنشَّقت نفسًا صعبًا تقول.
"بلى يوجد!"
نظرت إيف إلى الناس وصاحت.
"فليأتي بهِ أحد رجاءً!"
رفع إحدى الرِّجال يده قائلًا.
"سأحضره في الحال يا زوجة أخي!"
أومأت له إيف والرَّجُل انطلق ليُحضِر طبيب القُرى المنشود، أثناء ذلك؛ تعاونَ بِضعُ رِجال على نقلِه إلى داخل المنزل بينما هُم حريصون على عدم تحريكه كما نبَّهت إيف.
آتى الطبيب بِصُحبةِ الرَّجُل المبعوث، وحينما رأى حالة ويفان دون أن يفحصه حتى تراجع يزدرئ جوفه، وقال متوترًا يُنفي برأسِه.
"أنا لستُ طبيبًا حقًا، لا أعرف كيف أُعالج مثل هذهِ الحالة المُستعصيّة، لا يمكنني إخراج السهم من ظهره ومداواته، أنا لا أستطيع!"
وقفت إيف بغضب ودفعت الطبيب بقوَّة تصرخ فيه؛ فلقد كان إنتظارها له فارغًا، إنما فقط أسرف وقتًا محسوبًا في سِباق الحياة والموت على ويفان.
"لِمَ يُسمونكَ طبيبًا إذًا؟!"
"ماذا نفعل؟!"
قال لوكاس وهو يبكي فيما إيف ترتجف لشدة القلق والغضب، لقد تأزَّم الوضع جدًّا وانحصرت الخيارات إلى خيارات لن تكون حميدة العواقب، لكنَّها لم تُفكِّر كذلك، بل فكَّرت وآمنت بأنَّها يجب أن تنقذ حياة ويفان مهما كان الثمن باهِظًا.
أمسكت فجأة بتلابيب قميص لوكاس واجتذبته تقول.
"ألا يوجد طريقة تجعلنا نتَّصِل بالمدينة؟!"
"لنتصل بالمدينة علينا أن نخرج من مُقاطعات الشمال جميعها، وأنا لا أعرف الطريق، كذلك لا أحد بالقرية يعرفه سوى ويفان، هو من يُسافر للخارج فقط."
أومأت إيف فيما تَضع رأسها بين يديها، لقد أتت من شنغهاي إلى مُقاطعات الشمال المُعدمة، لن تُضيّع الطريق بِكُلِ تأكيد.
"ولكنني أعرف، أين تركتم السيارة التي أتيتُ بها؟!"
إتسعت عينا لوكاس، ثم تأتأ.
"سأدُلَّكِ عليها حالًا!"
تمسَّكت إيف بكتفي الجدَّة تقول.
"جدَّتي انتبهي عليه، لا تسمحي لأحد بتحريكه، ولا تخرجي السهم من ظهره، وحضَّري ثبوتاته الرسميّة!"
أومأت الجدَّة وإيف أخذت تبحث عن مفتاح السيارة، فلقد رأت مرَّة ويفان يضعه بإحدى الجرّارات حتى وجدته.
وقبل أن تنطلق أوقفها قلبها حينما إلتفتت إليه نصف إلتفاتة وهمست.
"اصمد أرجوك!"
لا تستطيع أن تجعل مشاعرها تتمكَّن منها الآن، بل عليها أن تكبح مشاعرها وتُنقذ ويفان ولو كان الثمن أن ينفجر قلبها بسببِ وجعها الذي تبكته عليه.
خرجت مع لوكاس إلى حيثُ ويفان خبّأ السيارة، وما إن وجدتها إيف حتى صعدت بها، وقادتها بأسرع ما يُمكن نحو حدود المدينة.
لوكاس كانت مرَّته الأولى التي يركب بها سيارة، والمُخيف في الأمر أن تجربته الأولى كانت مجنونة جدًا؛ إذ كانت إيف تُسابق السحاب بقيادتها المجنونة، وتسرق النبضات وكل قطرة دم في بدن لوكاس الخائف، لكنَّهُ لم يعترض هو الآخر، يُدرك جيّدًا أنَّهُ يتوجَّب عليه إنقاذ ويفان، وصموده جُزءًا من عملية الإنقاذ.
إستهلكت القيادة إيف ساعة واحدة بالضبط حتى أدركت أقرب هاتف عمومي قُربَ إحدى الدكاكين الصغيرة عند أول خط سريع صادفها.
ترجَّلت من السيارة مُسرِعة، وتوجَّهت إلى الهاتف تضع فيه عُملة، ثم إنتظرت قليلًا حتى أجاب الذي تتصل به رُغمَ أنَّها لا تحتمِل الصبر أبدًا.
"مرحبًا؟!"
"لوهان؛ هذهِ أنا إيف"
سمعت صوت شهقتِه المُتفاجئة، ثُمَّ ردِّه.
"آنستي!"
"استمع إليَّ لوهان، عليكَ أن تأتي لي بطائرة هيلوكوبتر إلى حيثُ اطلب منك القدوم، واحرص أن يكون معك طبيبًا يحمل كل مُعدّاته الطبيّة، اجعله يستعد لمُعالجة مريض قد إنغرس سهم في ظهرِه."
"ماذا؟! أنا لا أفهم شيء!"
تنهَّدت إيف واحتدَّ صوتها.
"لا أملك الوقت لأجعلكَ تفهم، افعل ما أقوله لك وهاكَ العنوان"
ثم بعدما أعطته العنوان حذَّرته.
"أياكَ أن يعلم أحد، تفهم؟"
"نعم آنستي!"
أغلقت الخط، ثم أشارت للوكاس أن يصعد سريعًا في السيارة، عادت بأسرعِ ما يُمكن إلى القرية، وأثناء ذلك تسآل لوكاس.
"بدوتِ ذات نفوذ بينما تتكلَّمين على الهاتف، مثل الزعيم وابنه!"
قالت إيف فيما الغضب يتَّقِد في عينيها كذلك في أثيرها.
"لا تُقارنّي بالحُثالة، أدري أنَّهم خلف إصابة ويفان، وسأُريك كيف سأفعل بهم دون أن أرجع لنفوذي حتى!"
شعر لوكاس بجديّة كلامها وأنَّ لا مجال للمزحِ فيه، كانت جادة كما لو أنها تنتظر أن تنقذ ويفان لتنتقم له فقط.
خلال ساعة كانت في المنزل، وبينما تلجه قالت.
"على بعضِ الرجال أن يصعدوا فوق سطحِ المنزل وهم يلوحون بالمشاعل، ستأتي المُساعدة قريبًا"
إنسحب بعض الرجال مع لوكاس لتنفيذ ما تطلبه إيف بينما إيف تجرَّدت من كل قوتها عند الباب وولجت بنفسِها الضعيفة التي قابلتهُ أول مرة حينما أنقذها من الخنزير البري، الآن دورها أن تنقذه من خنازير برّيّة ولكنَّها بشريّة في الوقتِ ذاته.
جلست أرضًا قُربه ورفعت يدها تتحسَّس بها وجهه الذابل، كان ذابلًا وشاحبًا للغاية، لقد نام في الغابة ولم يَخف هجوم الضِباع والأسود، كان مُحِق؛ الحيوانات مهما غدرت واستقوت تبقى لا شيء أمام جبروت الإنسان وغدره.
إنخفضت تطبع على جبينه قُبلة، ثم سقطت من عينيها دمعة واحدة وحيدة، كانت الأولى والأخيرة وبلا فائدة، لم تُخفف عنها بشيء وفقط وقعت على صِدغه.
"مهما يكون الثمن، سأنقذك!"
سمعت صوت خِوار الهواء فأدركت أن لوهان وصل، خرجت من المنزل سريعًا، وراقبت المروحية تهبط على الأرض فيما تنفث هواءً كالعاصفة تجعل كل شيء يطير في المكان.
هبطت المروحية وترجَّلَ منها لوهان، الذي ركض ليقف أمام سيدته بلهفةِ الفُراق، لم تكن عيناها عمياء عن السعادة التي تتمخَّض بالقلق في مُقلتيه، ولكنَّها أجَّلت أي حديث جانبي للوقتِ اللاحق.
"هل أحضرتَ طبيبًا معك؟!"
أومئ لوهان وأشار إلى خلفه إلى الطبيب الذي تُسعداه مُمرِضتان على نقلِ الأدوات.
"نعم، هو معي وشرحتُ له ما عرفته عن وضعِ الحالة"
أومأت إيف ثم سبقت لوهان إلى الداخل، لوهان تريَّث لينظر في المكان الذي تعيش فيه أغنى عازبة صينيّة.
مُجرَّد كوخٍ صغير من الطين والخشب والقش، مثل أي كوخ بدائي فقير مُعدم القِوامة، التي هي مُعتادة عليها، في أرضٍ قحط، لا مُزفَّتة ولا مُعبَّدة وسط عدد كبير من الأكواخ، التي لا يمكن إعتبارها أفضل.
تعيش في وسط بدائي بربري من الناس، ينظرون له وكأنَّه آتى من الفضاء، وهو ينظر لهم كما لو أنهم كائنات غفلت عنها موجات الإنقراض الحَضريّة، ثيابهم من القُماش الرَّث، وجوههم مُغبرَّة، وواضح أن حياتهم صعبة.
ولج إلى الكوخ الذي ولجته إيف حَذِر الخطوات فيما يُتمتِم.
"هل هي تعيش مع ماوكلي، أم هي ماوكلي بحدِّ ذاته؟!"
إقشعرَّ بدنه حينما رأى رَجُلًا شابًا ذا بدن طويل وممشوق يتوسَّط ظهره سهمًا قاتل، وإزدرئ جوفه بقلق حينما نظر إلى إيف، وهي تجلس قُربه وتُمسك بيدِه بينما الطبيب يتفقَّد حالته الصعبة.
وقف الطبيب ليتكلَّم مع إيف، ثم قال فيما معالمه كذلك صوته؛ لا شيء فيه يُبشِّر بالخير.
"لا أظنه يستطيع الصمود حتى ننقله إلى المدينة، يتوجَّب علينا مُعالجته في الحال!"
"إذًا افعل!"
"لكن..."
الطبيب إرتبك وإيف تفهمته إذ قالت.
"لا تُفكِّر برخصتك، لن يعلم أي أحد بشأنِها إطلاقًا، وأنا سأعطيكَ تعويضًا وافيًّا"
نظرت إلى لوهان وقالت.
"لوهان أعطِه مليون دولار لو نجح في إنقاذ هذا الرَّجُل"
"مليون!"
أومأت له بثبات وقالت.
"أظنك تعرفني ولا تُشكِّك بِصدق كلمتي!"
سُرعان ما إنحنى إليها الطبيب قائلًا.
"بالطبعِ آنستي، لِحُسن الحظ؛ لقد أحضرتُ معي كل الأدوات التي قد نحتاجها في إنقاذه"
همهمت إيف، ثم طلبت من الجميع إخلاء غرفة العمليات لأجلِ أن يستطيع الطبيب القيام بعملِه، وقبل أن تخرج أخيرًا نظرت إلى ويفان مرَّة أخيرة وهي ترجوه بلا كلام أن يصمد وسارت دمعة أخرى على خدِّها.
كانت تجلس أرضًا في الرُّدهة والجدَّة تجلس قُربها كذلك لوكاس، وبعض الأهالي يجلسون في الرُّدهة، وبعضهم يتجولون حول -الكائن الغريب- المروحيّة.
لوهان كان يقف على مقربة منها وتسآل.
"هل يُمكنني التحدُّث معكِ على إنفراد يا آنستي؟!"
حرَّكت رأسها برفض وأغلقت عيناها المُرهقة تتنهد.
"ليس الآن يا لوهان"
ولوهان إحترم قرارها. نظرت إيف إلى السماء، الشمس تكاد تبزغ، ثم نظرت إلى الناس، لم يُتعبهم السهر رغم أن العمل المُرهق ينتظرهم بالغد، ولكن ويفان دسَّ محبتِه في قلوب الناس جميعًا بالفعل رُغم قلة إختلاطه بهم، لكن لأخلاقه لسان يتكلم في أفواه الناس جميعًا هنا.
مَضت عِدَّة ساعات مُذُّ أن إستفرد الطبيب وممرضتيه بجسدِ ويفان، الإرهاق كان يأكل من وجهِ إيف شأنها شأن بقية الناس، الذين رفضوا الذهاب إلى الحقول للعمل مهما أودى هذا القرار بهم.
ولكنها بخلافهم بها نفحة كآبة سوداوية مُظلِمة، أراد لوهان الإستفسار، لماذا، ومن هذا الرَّجُل؟! لكنَّهُ إلتزم الصبر حتى يخرج الطبيب، وحبَّذا لو أبلغهم سلامته وإلا إيف ستتحوَّل إلى إعصار شرس ينتُف جذور الحياة من رأسِ الأرض.
وأخيرًا بعد طولِ إنتظار؛ بزغت شمسُ الطبيب، الذي فورما رأته إيف يخرج بشكلِه المُتهالك والتعب باديًّا على وجهه تسآلت.
"كيف حال ويفان أيُّها الطبيب؟!"
إستنتج الطبيب وحده أن الرَّجُل المغدور يُدعى ويفان، وأهلَّ عليها الخبر.
"بخير أخيرًا؛ صحيح أنَّ وضعه صعب وسيلبث في الفراش لفترةٍ طويلة، لكنَّهُ سينجو."
وتلك اللحظة فقط، التي أصبحت فيها الدموع تنزل مِدرارًا على خدّيها، تغسل روحها المُتدهورة، تربط التمزُّق، الذي أحدثه هذا السهم بقلبها وظهره معًا.
إنهارت أرضًا، وأمسكت رأسها بين كفيها تنتحب، لم يَكُ البكاء كافيًّا، تذكَّرت كل اللحظات التي جمعتهم، مُذُّ أن قتل الخنزير وحتى صباح الأمس.
كانت تبكي كما لو أنها تستفرغ روحًا تتمزَّق أو تستأصل من جوفِها ورم ألم، كانت كما لو أنها ماتت لسنين واستعادت حياتها الآن، كشيء لا يُصدَّق.
ذرفت دموعًا كثيرة، وبصعوبة نهضت على عقبيها وركضت إلى الداخل، إرتمت ببدنها أرضًا قُرب السرير، وأمسكت بيده التي تنغرز بها إبر المحاليل، قبَّلتها لأنَّها مُمتنّة لأنَّهُ صمد، لأنَّهُ تمسَّكَ بحبلِ الحياة رُغم أنَّهُ يكرهها، لأنَّهُ تحمَّل هذا الوجع، لأنَّهُ لم يسمح لروحه أن تَنسَلَّ من بين ضلوعه، لأنه سيعود إليها مُجدَّدًا... كان لديها الكثير من الأسباب لتكون مُمتنَّة.
قبَّلت يده كثيرًا ويدها تحسَّست شعره ووجهه وكتفه، وضعت رأسها قُرب رأسه ورغم أن دموعها لا تتوقَّف لكنَّها تبسَّمت وأخذت تضحك، لقد إنتصرت، أنقذته. ثم عادت تبكي لأنَّها خاضت لأجله مثل هذه الحرب، ثم تكحَّلت عيناها بالغضب، وتناولت السهم الذي كان ينخر ظهره، لأن ما حدث لن يَمُر دون عِقاب.
هُم مزارعون، ويعلمون أنهم سيحصدوا ما زرعوا، وهي ستُطعمهم حصادهم بيدها.
سمعت صوت بوق سيارة بالخارج، ولأنَّهُ صوتًا مألوف خرجت يتلبَّسها ثوبًا من الجراءة والشجاعة لطالما لبسته قبل أن يُجرٍّدها منه جاكسون، لكنَّها اليوم وكل يوم سترتديه مُجدَّدًا، لن تسمح لأحد بعد الآن أن يلمس بدن الرَّجُل الذي تُحِبُه بِسوء.
وكما تخيَّلت؛ لقد كان ايشينغ ووالده الذي يدَّعي الزعامة، تسمع صياحهم وصراخهم بالناس، كذلك تسمع تهديداتهم بوضوح لقطعِ أرزاق الناس.
لطالما كانت القائدة، حان الوقت لتقود مُجدَّدًا، كانت عيناها حمراء بسببِ الدموع، وثياب المدينة التي دومًا تُميّزها عن بقية الناس مُلطَّخة بدماء ويفان، حينما رآها يشينغ ضحك، إذًا وجدوا ويفان، ولكنَّهُ حينما رأى وجهها، الذي يتمضَّخ بالغضب عبس، لم يعرف عنها هذا الوجه.
شَقَّت صفوف الناس المُطأطئين برؤوسهم ورأسها الوحيد الشامخ، إقتربت من السيارة ودون أن تنبس بحرف؛ غضبها كانوا يسمعونه.
نظرت نحو لوهان الذي يقف قُربَ المروحيّة المُغادرة، فعلم أنَّها تطلب منه الإقتراب.
"تفضَّلي آنستي!"
استغرب الرجل وأبوه أن رَجُل المدينة صاحب الطائرة يدعوها بهذا اللقب التبجيلي ذا السيّادة، وفيما تنظر إلى ايشينغ ووالده قالت بصوتٍ تَموت فيه المشاعر، الذي يمكن أن نقول عنها مشاعر خيّرة كالرَّحمة وأشباهها.
"احضر لي ما يسعكَ إحضاره من بنادق ورصاص، فالسهام طريقة بدائية للقتل، وحربُ البرابِرة باتت وشيكة، وآنستُكَ لها مزاج عنيف مُتدهوِر مُتهوِّر، يُمكِّنُها أن تقتُل روحًا ولا تساورها ذرَّةِ ندم واحدة!
وأريد أن تشتري باسم ويفان كل الأراضي المُتاحة في مُقاطعاتِ الشمال، ستتحوَّل إلى مَزارع يعمل بها أهالي القُرى، يكسبون بها رِزقهم دون أن تُنكَس رؤوسهم لأجلِ الطعام، وزعيمهم الجديد سيكون ويفان... ويفان وحده.
وسأحرص أن أقتلع أي من يُفكِّر أن يؤذيه، أو يظن نفسه أعلى شأنًا منه، أو يتعالى عليه، أو يدَّعي أنَّهُ زعيم القُرى وأنف ويفان يتنفَّس الحياة"
إقتربت من السيارة، واجتذبت ايشينغ من تلابيب قميصه بقبضتها، وهسهست في شراسة فيما وجهه المُستغرِب يُقابل وجهها المُستنفِر.
"من الآن وصاعدًا لا أحد يجرؤ أن يستعبد الناس، أو يحاول أن يَقتُل حُرًّا شجاعًا لم تضرب الحاجة عُنقه!"
لوهان نبس.
"يمكن أن نرفع عليهم دعوة شروع بالقتل بدلًا من ذلك لو أردتِ يا سيدتي"
رفعت إيف يدها ترفض إقتراح لوهان المُسالم وقالت.
"لا؛ الحُكم بالمؤبَّد أو الإعدام لن يكن كافيًّا يا لوهان!"
أخفض رأسه وانحنى لها بطاعة.
"أمرُكِ سيدتي!"
كاد ايشينغ أن يقود سيّارته، ولكنَّ إيف صاحت عليه.
"انتظر؛ هل أنتَ من سددتَ السهم عليه لقتله بيدك؟!"
تبسَّم ثغر ايشينغ وقال.
"وماذا ستفعلين لو قلتُ نعم؟!"
إقتربت من سيارته وقالت.
"لا فرق لو قلت نعم أو لا، النتيجة ستكون ذاتها!"
ثم لا يدري من أين أتت بالسهم الذي كان بظهرِ ويفان، وغرسته بيدِه فيصرُخ مولوِلًا، والناس بدأوا -وبلا خوف- بقذفِ سيارتهم ومسيرتهم بالحجارة حتى أدمت الرؤوس وفرَّوا من المكان.
لوهان نظر إلى آنسة القصر المُدلَّلة مُستعجبًا مُكفهِرًّا وجهه، لم تَكُ في حياتها كلها مُخيفة إلى هذا الحد، لطالما كانت شُجاعة، جريئة ولا تخاف، لكن جاكسون قتل كل ذلك بجبروته؛ فتسآل.
"ما الذي أحيا بكِ هذهِ القوَّة من جديد يا آنستي؟!"
وبنبرةٍ صوت ثابتة، لا إهتزاز فيها، كلمات خرجت من فاهها عن قناعة.
"حُب العندليب"
.......................
يُتبَع...
العندليب والبريّة|| Orpheus
"حُب العندليب"
12th/Sep/2021
......................
دمتم سالمين❤
❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤
Love❤
بطل:
العندليب والبرّيّة|| Orpheus
"حُب العندليب"
...
كانت إيف تَجلس في رُدهةِ المنزل لا تملك شيئًا لتفعله سوى التفكير بويفان، فمؤخَّرًا باتَ ويفان يَشغُل تفكيرها كثيرًا؛ فهي تُفكِّر بشكلٍ عميق حيال شعورها ناحيته؛ أهو مُجرَّد إعجاب، شعور بالآمان، أم حُب؟!
تنهَّدت فيما تنظُر إلى قمرِ الليلة، الليلة تبدو كئيبة لسببٍ لا تفهمه، أو لأنَّها ولدت من رحمِ الكآبة ترى كل شيء بسوداويّة.
تنهَّدت مُجدَّدًا فيما تجلس على الدرجات القليلة التي تفصل رُدهةِ المنزل عن الأرض التُرابيّة، ووضعت جبهتها فوق رُكبتيها.
"يا ترى كم الساعة الآن؟! لقد تأخَّر!"
لا يوجد ساعة في المنزل يسعها تفقُّدها لتعرف الوقت تمامًا، ولكنَّ الوقت فاق العشيّة على حسبِ تقديرها، وويفان عادةً لا يتأخر إلى هذا الحد عند الشلال، عادةً ما يكون في ورشتِه في هذا الوقت، هو منظم ومرتَّب ويُقسِّم وقته جيّدًا.
ذهبت إيف إلى منزل الجدَّة لتسأل عنه عندها، وقبل أن تصبوه رأت الجدَّة تتفقَّد ورشته القريبة من منزلِها؛ لذا إستحكم القلق على وجه إيف، الآن بدأت تشعُر بجديَّةِ الموقف، وركضت إلى الجدَّة تقول.
"لقد تأخر ويفان كثيرًا، لستُ أُبالغ في القلق؛ أليس كذلك يا جدَّتي؟!"
الجدَّة وونغ أومأت والخوف يلتحف تقاسيهما الكَهِلة فيما تَدُق على صدرها بقلقِ الأُمهات والجدّات.
"غيابُه يَدعو إلى القلق، لم يُسبَق لهُ أن أطال الغياب على الجِبال هكذا!"
إزدرئت إيف جوفها وأخذت تتلفَّت بقلق فيما تتخصَّر؛ تُفكِّر بِما يجب عليها أن تفعله، ثم قالت.
"علي أن أصعد إلى الجبل وأجده الآن!"
نفت الجدَّة، وتمسَّكت بيدي إيف، وقرَّبتهُما إلى صدرها.
"لا يا صغيرتي؛ لو ذهبتِ وعاد فور خروجكِ سيغضب كثيرًا لأنَّكِ صعدتِ، وصدِّقيني غضبه ليس لطيفًا"
نفت إيف برأسها وقالت.
"لا أهتم لمثلِ هذا الإحتمال الآن يا جدَّتي، يهمني أن أعلم أنَّهُ بخير، سأتحمل غضبه لاحقًا؛ ولكنني لا أستطيع أن أتحمَّل خوفي عليه؛ لذا رجاءً اتركيني اذهب إليه!"
تنهَّدت الجدَّة، ثم أومأت تقول.
"لا أُنكر أنَّني خائفة عليه أيضًا، وأُريد أن أطمئن؛ لذا حسنًا اذهبي، ولكنني سأطلب من يوك هيي أن يُرافقك."
أومأت إيف للجدَّة موافقة ثم وقفت لتنتظر الجدَّة، التي ذهبت لإحضار الفتى لوكاس، وما إن أتى قرأت على وجهه القلق حينما قال.
"هيا نذهب"
"سنتأخر في الوصول لو صعدنا على قدمينا، نحتاج لشيء ما"
كانت تنظر حولها، حينها قال.
"هل أحضر حصانًا؟!"
سُرعان ما أومأت إيف وقالت.
"أحضر اثنين، أنا أُجيد ركوبه، بسُرعة!"
أومئ لها واسرع ليأتي بحصانين، ما إن وصل لوكاس بالحصانين صعدت على ظهرِ أحداهما ببراعة، واقتربت من الجدة تقول.
"إن آتى لا تسمحي له باللحاق بنا، سنعود سريعًا!"
أومأت الجدَّة، وقدَّمت لها مِشعل نار، تناولته إيف منها فقالت الجدَّة.
"العتمة تعمي، هذه ستُساعدك!"
وناولت الجدَّة أخرى للوكاس، ثم إيف حثَّت الحِصان أن ينطلق، ولوكاس المدهوش من قدرتها على قيادة الحصان سارع في إتباعها.
صعدت الجبال على حسبِ توجيهات لوكاس حتى أدركت الشلال، كانت تبحث عنه في كل مكان، وتستخدم مِشعل النار ليُضيء لها الأماكن الغير مكشوفة، وتُنادي عليه بأعلى صوتها لعلها تجتذبه، لكن عبثًا.
لم تخف حتى من إحتمال أن يُهاجمها حيوان بَرّي، خوفها على ويفان أعمى بصيرتها عن أي مخاوف أخرى، كانت خائفة عليه وكأن عالمها يدور حوله.
"ها هو الشلال"
قال لوكاس فيما يُدركان قاع الشلال، تنهدت إيف وهي تبحث عنه بعينيها فيما تُضيق الفُسحة بين حاجبيها، تعدمها وتركز نظرها وتُنادي.
"انظري هناك!"
نظرت إيف إلى حيث أشار لوكاس وهو يبتلع حروفه من شدةِ دهشته، وحالما وقع بصرها على تلك الصخرة شهقت بقوة وضربت لِجام الحصان فينطلق نحوها.
قفزت من على الحصان وركضت صوب الصخرة، التي يتمدَّد عليها ويفان فيما يتوسَّط ظهره سهمًا.
"ويفان!"
تشوشت رؤيتها بسببِ الدموع، التي تحاشدت في عينيها، وحرَّكت يدها بِبُطئ إلى عُنقه ترى لو ما زال حيًّا، ثم إنسابت دمعة من عينيها حينما شعرت بنبضٍ في عُنقه.
"حمدًا للرب، ابقى حي رجاءً!"
إلتفتت إلى لوكاس الواقف قُربها وهو يبكي من الصدمة والمنظر الشنيع، الذي أصابَ أخاهُ الكبير.
"ما زال حي يا لوكاس، توقف عن البُكاء وهَم بمُساعدتي، علينا نقله بحذر!"
أومئ لها لوكاس رُغم أنَّهُ لا يدري ماذا قالت، وإنما كان مُجرَّد تماشيًّا مع الموقِف الحاصِل، فهو لا يرى أمامه سوى جسد أخيه الهامد كما لو أنَّ الحياة لا تتنفَّس فيه.
إقتربت يد لوكاس من السهم بغيةِ نزعه من ظهره؛ فما يراه مؤلمًا بشكلٍ مُنفِر، ولا يتحمَّل أن يرى سهم الغدر ينتصب في ظهره بإنتصار، لكن إيف أبعدت يده عن السهمِ سريعًا تقول بإنفعال للوكاس، الذي لم يستفق بعد من صدمتِه.
"أياكَ أن تنزعه، إنَّهُ يمنع النزيف وإلا كان قد مات من وقتٍ طويل، الآن علينا أن ننقله بحذر إلى مكانٍ آمن حيثُ يمكن مُعالجته!"
أومئ لها لوكاس فيما قد إستعاد جُزءً من وعيه، واقترب من ويفان فيما يمسح دموعه، يحاول أن يجمع شتاته كما إيف، التي لم تذرف دمعة بعد، ويبقى قويًّا مثلها؛ ليستطيع أن يُنقِذ ويفان من الموت المُحدِق، الذي ينتظر أن تتوقَّف النبضة الضعيفة أن توكز قلبه.
إقترب كلاهما لرفعه فيما ويفان بغيبوبة تامَّة لا يشعر بأي شيء يحدُث من حوله، وإيف لم تعرف كيف تنقله إذ قالت.
"أخشى لو رفعناه على ظهر الحِصان أن ينغرز السهم في ظهرهِ أكثر أو أن يخرج فيتسبب بنزيفٍ يقتله، ماذا نفعل؟!"
لوكاس وقف ليُفكِّر مثلها وهو مُتوتر حتى قال.
"صحيح، نحن نضع قريبًا من هنا عربة خشبيّة، ننقُل عليها الحيوانات التي نصطادها، أحضرها؟!"
"بالطبع أسرع!"
ركض لوكاس سريعًا في العتمة ليحضرها بينما إيف بقيت قُربَ ويفان تحرُسه، إنحنت على ركبتيها قُربَ رأسه، وأخذت تمسح على شعره بيد حنونة وهي تَقول.
"سأحرص أن تعيش يا ويفان، لن أسمح للموت أن يسرقكَ مني أنتَ الآخر، أنتَ يجب أن تبقى معي دومًا وإلا لِمَ سأعيش؟ ولِمن؟ أرجوك إبقَ لأجلي!"
ورغم ما تشعر به إيف من مشاعر سوداء تجعل فؤادها يُقطِّع نفسه، لكنَّها لم تذرف دمعة واحدة حتى، ليس لأنَّها تريد أن تبقى قويّة وتُنقذ الموقف، بل لأن الشعور المُريع الذي تشعر به لبَّدَ دموعها، فلو ذرفتها لن تُخفف ألمها؛ لذا قرَّرت الدموع ألا تُذرَف بلا فائدة.
لو كان البُكاء سيُخفِّف عنها حِدة الشعور والألم لاستطاعت أن تبكي.
وصل لوكاس أخيرًا فيما يَجُر خلفه العَربة، التي تحدَّث عنها، حمل كلاهما ويفان بإرشادات من إيف، ثم ربطت إيف العربة بحبلٍ طويل علَّقته بخصرِها، ثم صعدت حصانها وجعلته ينطلق، ورغم الألم الذي يُسببه لها جرَّ العربة، لكنَّها لم تأبه، المهم بالنِّسبةِ لها أن يعيش ويفان مهما كان الثمن الذي يتوجَّب دفعه.
كانت تنظر إليهِ بين الحين والآخر، تتفقَّده بعينها الخائفة عليه وحده حتى أدركت القريّة، كانت تُفكِّر أثناء ذلك بإحتمالات كثيرة.
لو استفاق ستجعله يُحِب الحياة، وإن لم يستفيق ستنتقم له أشنع إنتقام، في كلتي الحالتين ستنتقم، لكن بشاعة غضبها سيحدده ويفان.
وجدت أنَّ مُعظم أهالي القرية مُجتمعين قُرب منزل ويفان، يحاولون تهدئة الجدَّة التي تبكي ويبدو أنَّ بُكائها ونواحها من لمَّ كل هؤلاء الناس حولها.
هرع الناس ناحية إيف حينما بزغت بضجيج العربة وصهيل الأحصنة، قفزت من على ظهرِ الحصان وهرعت إلى ويفان.
"ويفان صغيري!"
إنتحبت الجدَّة وأخذت تبكي بجنون حينما رأت بظهرهِ سهمًا وهو ليس واعيًّا؛ إذ ركضت إليه ثم إرتمت قُرب العربة وهي تبكي بجنون.
"هل مات ابني؟! هل مات؟!"
أسرعت إيف لِتُهدّئ الجدَّة، إذ قالت وهي تُربِّت على كتفيها.
"لا يا جدَّتي، لم يَمُت، ولكنَّهُ بحاجة أن يتلقَّى العِلاج، ألا يوجد طبيب هنا؟!"
مسحت الجدَّة دموعها وتنشَّقت نفسًا صعبًا تقول.
"بلى يوجد!"
نظرت إيف إلى الناس وصاحت.
"فليأتي بهِ أحد رجاءً!"
رفع إحدى الرِّجال يده قائلًا.
"سأحضره في الحال يا زوجة أخي!"
أومأت له إيف والرَّجُل انطلق ليُحضِر طبيب القُرى المنشود، أثناء ذلك؛ تعاونَ بِضعُ رِجال على نقلِه إلى داخل المنزل بينما هُم حريصون على عدم تحريكه كما نبَّهت إيف.
آتى الطبيب بِصُحبةِ الرَّجُل المبعوث، وحينما رأى حالة ويفان دون أن يفحصه حتى تراجع يزدرئ جوفه، وقال متوترًا يُنفي برأسِه.
"أنا لستُ طبيبًا حقًا، لا أعرف كيف أُعالج مثل هذهِ الحالة المُستعصيّة، لا يمكنني إخراج السهم من ظهره ومداواته، أنا لا أستطيع!"
وقفت إيف بغضب ودفعت الطبيب بقوَّة تصرخ فيه؛ فلقد كان إنتظارها له فارغًا، إنما فقط أسرف وقتًا محسوبًا في سِباق الحياة والموت على ويفان.
"لِمَ يُسمونكَ طبيبًا إذًا؟!"
"ماذا نفعل؟!"
قال لوكاس وهو يبكي فيما إيف ترتجف لشدة القلق والغضب، لقد تأزَّم الوضع جدًّا وانحصرت الخيارات إلى خيارات لن تكون حميدة العواقب، لكنَّها لم تُفكِّر كذلك، بل فكَّرت وآمنت بأنَّها يجب أن تنقذ حياة ويفان مهما كان الثمن باهِظًا.
أمسكت فجأة بتلابيب قميص لوكاس واجتذبته تقول.
"ألا يوجد طريقة تجعلنا نتَّصِل بالمدينة؟!"
"لنتصل بالمدينة علينا أن نخرج من مُقاطعات الشمال جميعها، وأنا لا أعرف الطريق، كذلك لا أحد بالقرية يعرفه سوى ويفان، هو من يُسافر للخارج فقط."
أومأت إيف فيما تَضع رأسها بين يديها، لقد أتت من شنغهاي إلى مُقاطعات الشمال المُعدمة، لن تُضيّع الطريق بِكُلِ تأكيد.
"ولكنني أعرف، أين تركتم السيارة التي أتيتُ بها؟!"
إتسعت عينا لوكاس، ثم تأتأ.
"سأدُلَّكِ عليها حالًا!"
تمسَّكت إيف بكتفي الجدَّة تقول.
"جدَّتي انتبهي عليه، لا تسمحي لأحد بتحريكه، ولا تخرجي السهم من ظهره، وحضَّري ثبوتاته الرسميّة!"
أومأت الجدَّة وإيف أخذت تبحث عن مفتاح السيارة، فلقد رأت مرَّة ويفان يضعه بإحدى الجرّارات حتى وجدته.
وقبل أن تنطلق أوقفها قلبها حينما إلتفتت إليه نصف إلتفاتة وهمست.
"اصمد أرجوك!"
لا تستطيع أن تجعل مشاعرها تتمكَّن منها الآن، بل عليها أن تكبح مشاعرها وتُنقذ ويفان ولو كان الثمن أن ينفجر قلبها بسببِ وجعها الذي تبكته عليه.
خرجت مع لوكاس إلى حيثُ ويفان خبّأ السيارة، وما إن وجدتها إيف حتى صعدت بها، وقادتها بأسرع ما يُمكن نحو حدود المدينة.
لوكاس كانت مرَّته الأولى التي يركب بها سيارة، والمُخيف في الأمر أن تجربته الأولى كانت مجنونة جدًا؛ إذ كانت إيف تُسابق السحاب بقيادتها المجنونة، وتسرق النبضات وكل قطرة دم في بدن لوكاس الخائف، لكنَّهُ لم يعترض هو الآخر، يُدرك جيّدًا أنَّهُ يتوجَّب عليه إنقاذ ويفان، وصموده جُزءًا من عملية الإنقاذ.
إستهلكت القيادة إيف ساعة واحدة بالضبط حتى أدركت أقرب هاتف عمومي قُربَ إحدى الدكاكين الصغيرة عند أول خط سريع صادفها.
ترجَّلت من السيارة مُسرِعة، وتوجَّهت إلى الهاتف تضع فيه عُملة، ثم إنتظرت قليلًا حتى أجاب الذي تتصل به رُغمَ أنَّها لا تحتمِل الصبر أبدًا.
"مرحبًا؟!"
"لوهان؛ هذهِ أنا إيف"
سمعت صوت شهقتِه المُتفاجئة، ثُمَّ ردِّه.
"آنستي!"
"استمع إليَّ لوهان، عليكَ أن تأتي لي بطائرة هيلوكوبتر إلى حيثُ اطلب منك القدوم، واحرص أن يكون معك طبيبًا يحمل كل مُعدّاته الطبيّة، اجعله يستعد لمُعالجة مريض قد إنغرس سهم في ظهرِه."
"ماذا؟! أنا لا أفهم شيء!"
تنهَّدت إيف واحتدَّ صوتها.
"لا أملك الوقت لأجعلكَ تفهم، افعل ما أقوله لك وهاكَ العنوان"
ثم بعدما أعطته العنوان حذَّرته.
"أياكَ أن يعلم أحد، تفهم؟"
"نعم آنستي!"
أغلقت الخط، ثم أشارت للوكاس أن يصعد سريعًا في السيارة، عادت بأسرعِ ما يُمكن إلى القرية، وأثناء ذلك تسآل لوكاس.
"بدوتِ ذات نفوذ بينما تتكلَّمين على الهاتف، مثل الزعيم وابنه!"
قالت إيف فيما الغضب يتَّقِد في عينيها كذلك في أثيرها.
"لا تُقارنّي بالحُثالة، أدري أنَّهم خلف إصابة ويفان، وسأُريك كيف سأفعل بهم دون أن أرجع لنفوذي حتى!"
شعر لوكاس بجديّة كلامها وأنَّ لا مجال للمزحِ فيه، كانت جادة كما لو أنها تنتظر أن تنقذ ويفان لتنتقم له فقط.
خلال ساعة كانت في المنزل، وبينما تلجه قالت.
"على بعضِ الرجال أن يصعدوا فوق سطحِ المنزل وهم يلوحون بالمشاعل، ستأتي المُساعدة قريبًا"
إنسحب بعض الرجال مع لوكاس لتنفيذ ما تطلبه إيف بينما إيف تجرَّدت من كل قوتها عند الباب وولجت بنفسِها الضعيفة التي قابلتهُ أول مرة حينما أنقذها من الخنزير البري، الآن دورها أن تنقذه من خنازير برّيّة ولكنَّها بشريّة في الوقتِ ذاته.
جلست أرضًا قُربه ورفعت يدها تتحسَّس بها وجهه الذابل، كان ذابلًا وشاحبًا للغاية، لقد نام في الغابة ولم يَخف هجوم الضِباع والأسود، كان مُحِق؛ الحيوانات مهما غدرت واستقوت تبقى لا شيء أمام جبروت الإنسان وغدره.
إنخفضت تطبع على جبينه قُبلة، ثم سقطت من عينيها دمعة واحدة وحيدة، كانت الأولى والأخيرة وبلا فائدة، لم تُخفف عنها بشيء وفقط وقعت على صِدغه.
"مهما يكون الثمن، سأنقذك!"
سمعت صوت خِوار الهواء فأدركت أن لوهان وصل، خرجت من المنزل سريعًا، وراقبت المروحية تهبط على الأرض فيما تنفث هواءً كالعاصفة تجعل كل شيء يطير في المكان.
هبطت المروحية وترجَّلَ منها لوهان، الذي ركض ليقف أمام سيدته بلهفةِ الفُراق، لم تكن عيناها عمياء عن السعادة التي تتمخَّض بالقلق في مُقلتيه، ولكنَّها أجَّلت أي حديث جانبي للوقتِ اللاحق.
"هل أحضرتَ طبيبًا معك؟!"
أومئ لوهان وأشار إلى خلفه إلى الطبيب الذي تُسعداه مُمرِضتان على نقلِ الأدوات.
"نعم، هو معي وشرحتُ له ما عرفته عن وضعِ الحالة"
أومأت إيف ثم سبقت لوهان إلى الداخل، لوهان تريَّث لينظر في المكان الذي تعيش فيه أغنى عازبة صينيّة.
مُجرَّد كوخٍ صغير من الطين والخشب والقش، مثل أي كوخ بدائي فقير مُعدم القِوامة، التي هي مُعتادة عليها، في أرضٍ قحط، لا مُزفَّتة ولا مُعبَّدة وسط عدد كبير من الأكواخ، التي لا يمكن إعتبارها أفضل.
تعيش في وسط بدائي بربري من الناس، ينظرون له وكأنَّه آتى من الفضاء، وهو ينظر لهم كما لو أنهم كائنات غفلت عنها موجات الإنقراض الحَضريّة، ثيابهم من القُماش الرَّث، وجوههم مُغبرَّة، وواضح أن حياتهم صعبة.
ولج إلى الكوخ الذي ولجته إيف حَذِر الخطوات فيما يُتمتِم.
"هل هي تعيش مع ماوكلي، أم هي ماوكلي بحدِّ ذاته؟!"
إقشعرَّ بدنه حينما رأى رَجُلًا شابًا ذا بدن طويل وممشوق يتوسَّط ظهره سهمًا قاتل، وإزدرئ جوفه بقلق حينما نظر إلى إيف، وهي تجلس قُربه وتُمسك بيدِه بينما الطبيب يتفقَّد حالته الصعبة.
وقف الطبيب ليتكلَّم مع إيف، ثم قال فيما معالمه كذلك صوته؛ لا شيء فيه يُبشِّر بالخير.
"لا أظنه يستطيع الصمود حتى ننقله إلى المدينة، يتوجَّب علينا مُعالجته في الحال!"
"إذًا افعل!"
"لكن..."
الطبيب إرتبك وإيف تفهمته إذ قالت.
"لا تُفكِّر برخصتك، لن يعلم أي أحد بشأنِها إطلاقًا، وأنا سأعطيكَ تعويضًا وافيًّا"
نظرت إلى لوهان وقالت.
"لوهان أعطِه مليون دولار لو نجح في إنقاذ هذا الرَّجُل"
"مليون!"
أومأت له بثبات وقالت.
"أظنك تعرفني ولا تُشكِّك بِصدق كلمتي!"
سُرعان ما إنحنى إليها الطبيب قائلًا.
"بالطبعِ آنستي، لِحُسن الحظ؛ لقد أحضرتُ معي كل الأدوات التي قد نحتاجها في إنقاذه"
همهمت إيف، ثم طلبت من الجميع إخلاء غرفة العمليات لأجلِ أن يستطيع الطبيب القيام بعملِه، وقبل أن تخرج أخيرًا نظرت إلى ويفان مرَّة أخيرة وهي ترجوه بلا كلام أن يصمد وسارت دمعة أخرى على خدِّها.
كانت تجلس أرضًا في الرُّدهة والجدَّة تجلس قُربها كذلك لوكاس، وبعض الأهالي يجلسون في الرُّدهة، وبعضهم يتجولون حول -الكائن الغريب- المروحيّة.
لوهان كان يقف على مقربة منها وتسآل.
"هل يُمكنني التحدُّث معكِ على إنفراد يا آنستي؟!"
حرَّكت رأسها برفض وأغلقت عيناها المُرهقة تتنهد.
"ليس الآن يا لوهان"
ولوهان إحترم قرارها. نظرت إيف إلى السماء، الشمس تكاد تبزغ، ثم نظرت إلى الناس، لم يُتعبهم السهر رغم أن العمل المُرهق ينتظرهم بالغد، ولكن ويفان دسَّ محبتِه في قلوب الناس جميعًا بالفعل رُغم قلة إختلاطه بهم، لكن لأخلاقه لسان يتكلم في أفواه الناس جميعًا هنا.
مَضت عِدَّة ساعات مُذُّ أن إستفرد الطبيب وممرضتيه بجسدِ ويفان، الإرهاق كان يأكل من وجهِ إيف شأنها شأن بقية الناس، الذين رفضوا الذهاب إلى الحقول للعمل مهما أودى هذا القرار بهم.
ولكنها بخلافهم بها نفحة كآبة سوداوية مُظلِمة، أراد لوهان الإستفسار، لماذا، ومن هذا الرَّجُل؟! لكنَّهُ إلتزم الصبر حتى يخرج الطبيب، وحبَّذا لو أبلغهم سلامته وإلا إيف ستتحوَّل إلى إعصار شرس ينتُف جذور الحياة من رأسِ الأرض.
وأخيرًا بعد طولِ إنتظار؛ بزغت شمسُ الطبيب، الذي فورما رأته إيف يخرج بشكلِه المُتهالك والتعب باديًّا على وجهه تسآلت.
"كيف حال ويفان أيُّها الطبيب؟!"
إستنتج الطبيب وحده أن الرَّجُل المغدور يُدعى ويفان، وأهلَّ عليها الخبر.
"بخير أخيرًا؛ صحيح أنَّ وضعه صعب وسيلبث في الفراش لفترةٍ طويلة، لكنَّهُ سينجو."
وتلك اللحظة فقط، التي أصبحت فيها الدموع تنزل مِدرارًا على خدّيها، تغسل روحها المُتدهورة، تربط التمزُّق، الذي أحدثه هذا السهم بقلبها وظهره معًا.
إنهارت أرضًا، وأمسكت رأسها بين كفيها تنتحب، لم يَكُ البكاء كافيًّا، تذكَّرت كل اللحظات التي جمعتهم، مُذُّ أن قتل الخنزير وحتى صباح الأمس.
كانت تبكي كما لو أنها تستفرغ روحًا تتمزَّق أو تستأصل من جوفِها ورم ألم، كانت كما لو أنها ماتت لسنين واستعادت حياتها الآن، كشيء لا يُصدَّق.
ذرفت دموعًا كثيرة، وبصعوبة نهضت على عقبيها وركضت إلى الداخل، إرتمت ببدنها أرضًا قُرب السرير، وأمسكت بيده التي تنغرز بها إبر المحاليل، قبَّلتها لأنَّها مُمتنّة لأنَّهُ صمد، لأنَّهُ تمسَّكَ بحبلِ الحياة رُغم أنَّهُ يكرهها، لأنَّهُ تحمَّل هذا الوجع، لأنَّهُ لم يسمح لروحه أن تَنسَلَّ من بين ضلوعه، لأنه سيعود إليها مُجدَّدًا... كان لديها الكثير من الأسباب لتكون مُمتنَّة.
قبَّلت يده كثيرًا ويدها تحسَّست شعره ووجهه وكتفه، وضعت رأسها قُرب رأسه ورغم أن دموعها لا تتوقَّف لكنَّها تبسَّمت وأخذت تضحك، لقد إنتصرت، أنقذته. ثم عادت تبكي لأنَّها خاضت لأجله مثل هذه الحرب، ثم تكحَّلت عيناها بالغضب، وتناولت السهم الذي كان ينخر ظهره، لأن ما حدث لن يَمُر دون عِقاب.
هُم مزارعون، ويعلمون أنهم سيحصدوا ما زرعوا، وهي ستُطعمهم حصادهم بيدها.
سمعت صوت بوق سيارة بالخارج، ولأنَّهُ صوتًا مألوف خرجت يتلبَّسها ثوبًا من الجراءة والشجاعة لطالما لبسته قبل أن يُجرٍّدها منه جاكسون، لكنَّها اليوم وكل يوم سترتديه مُجدَّدًا، لن تسمح لأحد بعد الآن أن يلمس بدن الرَّجُل الذي تُحِبُه بِسوء.
وكما تخيَّلت؛ لقد كان ايشينغ ووالده الذي يدَّعي الزعامة، تسمع صياحهم وصراخهم بالناس، كذلك تسمع تهديداتهم بوضوح لقطعِ أرزاق الناس.
لطالما كانت القائدة، حان الوقت لتقود مُجدَّدًا، كانت عيناها حمراء بسببِ الدموع، وثياب المدينة التي دومًا تُميّزها عن بقية الناس مُلطَّخة بدماء ويفان، حينما رآها يشينغ ضحك، إذًا وجدوا ويفان، ولكنَّهُ حينما رأى وجهها، الذي يتمضَّخ بالغضب عبس، لم يعرف عنها هذا الوجه.
شَقَّت صفوف الناس المُطأطئين برؤوسهم ورأسها الوحيد الشامخ، إقتربت من السيارة ودون أن تنبس بحرف؛ غضبها كانوا يسمعونه.
نظرت نحو لوهان الذي يقف قُربَ المروحيّة المُغادرة، فعلم أنَّها تطلب منه الإقتراب.
"تفضَّلي آنستي!"
استغرب الرجل وأبوه أن رَجُل المدينة صاحب الطائرة يدعوها بهذا اللقب التبجيلي ذا السيّادة، وفيما تنظر إلى ايشينغ ووالده قالت بصوتٍ تَموت فيه المشاعر، الذي يمكن أن نقول عنها مشاعر خيّرة كالرَّحمة وأشباهها.
"احضر لي ما يسعكَ إحضاره من بنادق ورصاص، فالسهام طريقة بدائية للقتل، وحربُ البرابِرة باتت وشيكة، وآنستُكَ لها مزاج عنيف مُتدهوِر مُتهوِّر، يُمكِّنُها أن تقتُل روحًا ولا تساورها ذرَّةِ ندم واحدة!
وأريد أن تشتري باسم ويفان كل الأراضي المُتاحة في مُقاطعاتِ الشمال، ستتحوَّل إلى مَزارع يعمل بها أهالي القُرى، يكسبون بها رِزقهم دون أن تُنكَس رؤوسهم لأجلِ الطعام، وزعيمهم الجديد سيكون ويفان... ويفان وحده.
وسأحرص أن أقتلع أي من يُفكِّر أن يؤذيه، أو يظن نفسه أعلى شأنًا منه، أو يتعالى عليه، أو يدَّعي أنَّهُ زعيم القُرى وأنف ويفان يتنفَّس الحياة"
إقتربت من السيارة، واجتذبت ايشينغ من تلابيب قميصه بقبضتها، وهسهست في شراسة فيما وجهه المُستغرِب يُقابل وجهها المُستنفِر.
"من الآن وصاعدًا لا أحد يجرؤ أن يستعبد الناس، أو يحاول أن يَقتُل حُرًّا شجاعًا لم تضرب الحاجة عُنقه!"
لوهان نبس.
"يمكن أن نرفع عليهم دعوة شروع بالقتل بدلًا من ذلك لو أردتِ يا سيدتي"
رفعت إيف يدها ترفض إقتراح لوهان المُسالم وقالت.
"لا؛ الحُكم بالمؤبَّد أو الإعدام لن يكن كافيًّا يا لوهان!"
أخفض رأسه وانحنى لها بطاعة.
"أمرُكِ سيدتي!"
كاد ايشينغ أن يقود سيّارته، ولكنَّ إيف صاحت عليه.
"انتظر؛ هل أنتَ من سددتَ السهم عليه لقتله بيدك؟!"
تبسَّم ثغر ايشينغ وقال.
"وماذا ستفعلين لو قلتُ نعم؟!"
إقتربت من سيارته وقالت.
"لا فرق لو قلت نعم أو لا، النتيجة ستكون ذاتها!"
ثم لا يدري من أين أتت بالسهم الذي كان بظهرِ ويفان، وغرسته بيدِه فيصرُخ مولوِلًا، والناس بدأوا -وبلا خوف- بقذفِ سيارتهم ومسيرتهم بالحجارة حتى أدمت الرؤوس وفرَّوا من المكان.
لوهان نظر إلى آنسة القصر المُدلَّلة مُستعجبًا مُكفهِرًّا وجهه، لم تَكُ في حياتها كلها مُخيفة إلى هذا الحد، لطالما كانت شُجاعة، جريئة ولا تخاف، لكن جاكسون قتل كل ذلك بجبروته؛ فتسآل.
"ما الذي أحيا بكِ هذهِ القوَّة من جديد يا آنستي؟!"
وبنبرةٍ صوت ثابتة، لا إهتزاز فيها، كلمات خرجت من فاهها عن قناعة.
"حُب العندليب"
.......................
يُتبَع...
العندليب والبريّة|| Orpheus
"حُب العندليب"
12th/Sep/2021
......................
دمتم سالمين❤
❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤
Love❤
Коментарі