CH2|| خلق الأقدار الجميلة
كريس وو (العندليب)
بطل:
العندليب والبرّيّة|| The Nightingale and the Wild
" خلق الأقدار الجميلة"
...
في المطار...
تراجعت إيف وجاكسون يتقدَّم منها، وكلما تراجعت تقدَّم؛ العصبيّة تنفُرُ من عينيه والخوفُ يتجلّى في عيني إيف؛ لأنَّها تعلم أنَّهُ لو أمسكَ بها الآن لن يَمُر الأمرُ على خير، سيحبسونها في القصر، ويمنعوها عن كل شيء مهما كان بسيط، وتعيشُ كالدَّواب لفترةٍ طويلة من الزَّمن.
لقد تعرَّضت لمثلِ هذا العِقاب عِدَّة مرّات؛ في كُلِّ مرَّة قالت فيها "لا".
إزدرئت إيف جوفها وهي تُراهن على شجاعتها للفوزِ بمصيرِها وحياتها، التي تُريدها لِنفسِها، ثم تراجعت بخطواتٍ أسرع عنه وعن رِجاله، ثم أخذت تَجري هربًا منهم مَسقط أعيُن الجميع، أخذت تركض بجنون ورجال كُثر خلفها يتبعونها جريًّا.
حاولت بِجِد حقًا أن تهرب من قبضتهم وأن تُتوِّههُم عنها، يبدو جاكسون راقيًا بمزاجٍ جيّد وهادئ من الخارج، ولكنَّه في الحقيقة شيطان بقرنين، ويستلِذ بتعريض أحد للِذُّل ويُحِب الإنتقام... لديهِ هذه النَّزعة من الشَّر.
إيف لم تَكُ تملك الخيار الآن سوى أن تهرب من قبضتِه مهما كانت مُشتدَّة عليها؛ فهي تعلم جيدًا أنَّ المصير، الذي تحدَّث عنه سابقًا، سيُصيبها ويُصبح واقعًا؛ لا إحتمال، لو أمسكَ بها الآن.
صرخت بقوّة حينما إلتفَّت أنامله بقسوة حول عِضدها، وأجتذبها إليه بِعُنف حتى إرتطمت به، عانقها بقوّة، وثم همس بأُذنِها متوعِّدًا رغم أنَّهُ يبتسم في وجوه المارّة المُتربِّصين بهم.
"سأُريكِ حقًا ما ثمن ما فعلتِه لِتَّو، ستذوقين المُر يا إيف"
أمسك بمِعصمها وسحبها معه رُغمًا عنها، قاومته وحاولت أن تجعله يتركها وتتصدّى له؛ لكن هباءً... لا تنجح.
"اسمع، أنا لا أحبك، ولو أجبرتَني عليك تكون عديم الكرامة"
إنتهت مِمّا قالت حينما أصبحت بِقُربِ السيّارة والرِّجال يحاوطوهم من كُلِّ جَنب؛ لذا لن يراهم أحد إذا صفعها لِقاء ما قالته لِتَّو، وهذا ما فعله تمامًا؛ إذ صفعها أمام رجاله بقوّة ثم دفعها داخل سيّارته، وهي لم تنبس بحرف، لم تصرخ حتى؛ لا فائدة من أي شيء تفعله.
صعد بجانبها في سيّارتِه، وهي تُمسِك بوجنتها، التي صُفِعت، والدموع تملئ عينيها رُغمًا عنها، لا تُريد أن تبكي لكن ما بيدِها حيلة، حتى دموعها باتت لا تُسيطر عليها.
مسحت على وجهها بكفيّها؛ تُزيل آثار الدُّموع، وتجاهلت تهديداته، التي يتفوه بها بعصبيّة فيما يقود، كانت تنظرُ عبر النّافِذة ببصرٍ مُشوَّش، حينما رمشت سقطت الدموع فمسحتها سريعًا.
تُقسِم أنَّها ليست هكذا؛ ولم تَكُ يومًا ضعيفة أمام رَجُل مهما تجبَّر؛ لكن اليأس يُضعف الإرادة ويبتلع الشجاعة والعزيمة.
وصل بها إلى قصرِ أبيها، وترجَّلت إيف قبل أن تمتد يده عليها بالبَطش وتسحبها بِعُنف، سبقته إلى داخل القصر بخطواتٍ سريعة وهو يتبعُها.
تجاوزت الباب، وأرادت الفِرار سريعًا إلى السلالم؛ لتختبئ منهم جميعًا في غُرفتِها- ليس خوفًا منهم بل خوفًا على نفسها من نفسها-، لكنَّها لم تستطِع، إذ فورما عَتبت قدمها الدرجة الأولى من السُّلَّم سمعت صوت والدها من خلفها.
"إيف!"
توقَّفت إيف وإلتفتت إليه، فوجدته يقف بعصبيّة وتقف خلفه عشيقته، التي تبتسِم بتشفّي.
رأتهُ إيف يرفع يدهُ بغيةِ صفعِها، لكنَّها هذهِ المرّة تراجعت سريعًا قبل أن تصلها يده المُعنِّفة، رفعت سبّابتها بوجهه كذلك حاجبه وحذَّرت.
"أياك! يتمرَّد المظلوم في بعض الأحيان ولا يعود ضحية، يُصبِح الذي يستهدف الضحايا بدلًا من ذلك!"
دخلت غُرفتها وأغلقت الباب على نفسِها، ثم جلست على السرير وبدنها يرتجف بعصبيّة، ثم أخذت تبكي.
لِمَ تبكي؟!
لأنَّ حياتها كريهة والناس فيها كريهون للغاية، المال يجلب نوعًا مُعيَّن من السعادة -الرفاهيّة- وألف نوع من التعاسة.
"المال يشتري كل شيء حتى البشر" هذا مبدأ جاكسون المُطلق، حينما سمعته أول مرة منه سخرت منه وعلَّقت: "يشتري فقط عديمي الكرامة"؛ ولكنَّهُ إشتراها وإن كان رُغمًا عنها.
إرتمت على سريرها، وبين الوسائد خبَّأت شهقاتها وذرفت دموعها، لأجلِ المال تُباع، لأجلِ المال والدها يستطيع أن يفعل أي شيء؛ رُغمَ أنَّ ماله كثير ولا ينضب.
آتى جاكسون بعد وقت، بالتأكيد تناقش مع والدها بخصوصِ محاولتها للهروب، والآن آتى ليُحاسبها أكثر.
أخذ يطرق على بابها كثيرًا؛ لكنَّها لم تستجيب له ولا تُخطِّط أن تُجيبه مهما هدَّد وتعنَّت من خلفِ الباب، طرق الباب لعدةِ دقائق، ثم غادر كما لو أنَّهُ لم يكون.
ولكنَّهُ لم يغيب كثيرًا؛ إذ سُرعان ما قعدت على فِراشِها حينما سمعت صوت المفتاح في الباب يدور.
نهضت عن السرير وتلفَّتت حولها بضياع؛ ماذا تفعل؟!
لكثرةِ ما هي مرتبكة نست أنَّ في غُرفتها دورة مياه خاصّة بها، ويُمكنها أن تختبئ بها.
وقفت مُتصلِّبة تنتظر منه أن يفتح الباب، وليفعل ما سيفعله، لكنها لا تدري كيف إستيقظت حواسها فجأة، وركضت نحو دورة المياه؛ لتختبئ بها منه، لكن يده كانت أسبق حينما إلتفَّت حول عِضدها قبل أن تُغلق على نفسها باب الحِمّام، ثم سحبها ودفعها نحو سريرها.
سقطت على السرير وصرخت، وما كادت ترفع نفسها إلا وهو فوقها، ويقيد يديها فوق رأسها فصرخت به.
"أنتَ مريض!"
تبسَّم وأومئ.
"نعم؛ أنا مريض، وأنتِ متورِّطة مع هذا المريض؛ لأنَّهُ إشتراكِ بِماله، وأصبحتِ ملكه"
إشتدَّت قبضتيه على مِعصمِها أكثر، وأنخفض بجذعه عليها؛ يطرح عليها بعضًا من وزنه، آنَّت مُتألِّمة من وزنه الثقيل ويده الصلدة، وهو همس في أُذنها.
"أنتِ بالنسبة لي كقطعةِ أثاثٍ ثمينة إشتريتُها بمالي، ولن أسمح لأحد بأن يسرقها مني، وسأضعها في غُرفة نومي ولو ما تناسبت والدّيكور."
نهض عنها وهو يبتسم تلك الإبتسامة اللئيمة، وهي ترمقه بِكُرهٍ وبُغض شديدين.
"الآن سأذهب وأتحدَّث مع والدكِ؛ لنُحدِّد موعد زفاف قريب؛ لأنني أتشوق لِضمِّك إلى ديكور منزلي عزيزتي واللهو بكِ"
ضحك ونقر بسبابته ذقنها، أشاحت إيف بوجهها عنه وهو خرج.
لكن الأمور لن تنتهي إلى هُنا، لن يحدث ما يحلم به ولو ماتت؛ تُفضِّل الموت على أن تكون له وتُلاقي المصير الذي يُريده.
......................
وفي الرّيف فلقد كانت الأجواء ريفيّة وهادئة؛ إنَّهُ المساء والناس خارج بيوتهم يجلسون ويتسامرون، أمام كل بيت شُعلة نار يستدفئون بها، عليها إبريق شاي إسودَّ من رماد الخشب؛ ولكنَّ فيه ألذَّ الشاي على الإطلاق.
قد وصل ويفان لِتَّو إلى القرية التي يسكن بها، وهي قرية نائية وبعيدة عن ضوضاء المدينة ومنطوية، فأخبارها تقتصر على حدودها وسُكّانها من ناسِها؛ وحده الغريب فيها.
مُذُّ سبع سنوات وهو يعيش في هذه القريّة، النّاسُ في البداية إستغربوه واستغربوا كل شيء يخصُّه.
فهو شاب من المدينة، ثيابه مدنيّة ويتكلَّم لهجة غريبة، ولا يتدين بديانتهم، هُم بوذيون وهو مسيحي، ويستطيع أن يُصلِح الأجهزة الإلكترونية، يعزف عن الزواج، ويعيش وحده في بيته، ويُحب الشلّال والغناء، ويذهب هناك كل يوم ليُغني ألحانًا آسية وحزينة بلُغة أجنبية لا يعرفونها أو باللغة المندرينيّة.
حينما وصل ويفان وولجَ القرية أخذوا الأطفال الصِّغار يركضون إليه ويهتفون بحماسة.
"مُعلِّم ويفان ... مُعلِّم ويفان!"
جلس ويفان بينهم على رُكبتيه، وفيما يبتسم كان يُربِّت على رؤوسهم.
"هل قُمتُم بحلِّ الواجب المدرسي الذي كلفتُكم به؟!"
أومئ بعضُ الصِغار بحماسة، وبعضهم أومئ وهم كاذبون، وبعضهم هرب بإبتسامته الجميلة، وبعضهم تخفّى خلف بعضِ الأطفال الذين أومئوا بِثِقة.
ضحك ويفان بِخفَّة، ووقف من بين الأطفال يقول.
"اذهبوا وألعبوا... غدًا أراكم في الصَّف"
ركضوا الأطفال بعيدًا، وويفان كان يرمقهم بإبتسامة فيما يحمل حقيبته من فوق كتفه، يُحِب الأطفال جدًا وفي ذات الوقت رؤيتهم تؤلمه، سلكَ طريقه نحو منزله؛ لكن إحدى الجدّات إستوقفته وأخذت تُنادي عليه.
"ويفان تعال إلى هُنا يا بُني!"
ذهب لها ويفان، كانت الجدّة وونغ تضع صحون المائدة المعدنيّة والفُخاريّة على صينيّة من القَش.
"تعال وتناول معي الطعام يا بُني، كنتُ بإنتظارِك"
"حسنًا يا جدَّتي"
جلس أرضًا عند المائدة، ووضع حقيبته خلفه ثم قال.
"إذًا هيا لنتناول الطعام معًا"
وافقته الجدَّة، وناولته رغيف خُبز وتناولت رغيفها، ثم معًا أخذا يتناولا الطعام المتواضع جدًّا.
"بُني؟!"
نظر لها ويفان فالجدّة اتبعت.
"أيُمكن أن أسألك لِمَ تذهب كل سنة للمدينة؟!"
ورُغمَ أنَّهُ أمرًا لا يُحِب ويفان أن يفصح عنه لكنَّهُ أجابها.
"اذهب لأزور بعض النّاس المُقرَّبين مني في المدينة"
أومأت الجدّة وتبسَّمت لِتُربِّت على وجنةِ ويفان وقالت.
"أنتَ حقًا ثمين، لم أستطِع أن أقضي اليومين الفائتين بدونك، أياكَ تُفكِّر أن تتركني خلفك وتذهب، قد أموت من الوحدة إن لم أمُت شوقًا لك"
تبسَّم ويفان وأمسكَ بيدها التي على خدِّه وطبع عليها قُبلة يقول.
"أنا لن أترككِ أبدًا يا جدَّتي"
بعد وجبة العشاء؛ نهضَ ويفان والجدّة، هو تولّى غسل الصحون، وهي حضَّرت لهما أبريق شاي على نارِ الفحم والخشب بالخارج.
آتى ويفان بعدما إنتهى، وجلس على كُرسي من قَش قد أحضرته الجدّة لأجلِه، جلس بجوارها قِبالة النار وشكرها حينما مدت له كوب الشاي.
"بُني؛ أحس أنَّكَ تتألَّم ولا تتكلَّم، ألستُ في مقام أُمك يا صغيري؟! ما الذي يوجعك يا صغيري؟!"
وخزَ ويفان أيسرَ صدرَه وهمس بعد تنهيدة.
"هذا يؤلمني يا جدتي... هُنا يوجد جُرحٌ عميق في صدري، قلبي يؤلمني، لكن لهذا الوجع لا علاج له، سيموت حينما أموت أو قد لا يموت"
"ويفان!"
إنتحبت الجدّة وقرَّبت ويفان إليها تُعانقه بقوّة، ويدها إمتدَّت لِتُربِّت على صدرِه؛ تحديدًا فوق قلبه.
"لا يا صغيري، لا تقول هكذا، أنا مُتأكِّدة أنَّ عمركَ طويل، وستعيش حياة سعيدة.
الرَّب سيبعث لكَ هديّة سارّة بِكُلِّ تأكيد، وستسُرُّك وتجعلكَ سعيدًا لبقية عُمرك... أنتَ فقط كُن مُتفائل واصبر؛ الخيرُ آتٍ لا محالة"
ويفان لا يُصدِّق أنَّ أقدارًا جميلة سَتأتي بطريقه؛ فلا يرى نفسه يستحق قدرًا جميل، بل لا يستحق سوى الويل والعذاب لبقية عُمره.
غادر ويفان منزل الجَّدة وونغ، له عشرات الجدّات غيرها في القرية؛ لكنها الأحن عليه والتي تُحِبُّه أكثر... لرُبما لأنها فقدت ابنها لصالح خنزير برّي هاجم القرية قبل سنين، أو ربما لأنها تعيش وحدها، وهو فقط من يؤنِسها ويُخفِّف عنها هذه الوحدة.
ولج ويفان أخيرًا منزله، منزله من طين، لا يسمح لماء المطر أن يتسرّب في الشتاء، ورطب في الصيف.
لقد بناه بنفسه، المال هُنا ليس قيّمًا كما الخدمات، يقوم بتدريس أطفال القرية، ويقوم بتصليح الأجهزة، وهكذا يجمع قوت يومه.
الشيء الوحيد الذي يُنغِص عليه المعيشة هُنا هو زعيم القرية وابنه، كلاهما من نِطاف الشر... ويفان يتحاشاهم لكنَّهُم لا يكفوا عن مُضايقته.
منزله من غُرفة واحدة تحوي فراشًا أرضي وطاولة قصيرة خشبيّة ودولاب صغير، بالإضافة إلى مطبخ صغير ودورة مياه صغيرة.
أخذ حمَّامًا باردًا؛ فهو أكسل من أن يقوم بتسخين الماء، ثم اندسَّ في فراشه، إنه وقت النوم رغم أن الوقت ما زال باكرًا بالنِّسبةِ للحضر، لكن الحياة بالريف بالطَّبع مُختلفة.
.........................
مرَّت بِضعة أيام، الرّيفُ هادئ والمدينة مجنونة كما هو مُتوقع...
ما زالت إيف في غُرفتِها قسرًا مُذُّ أيّام؛ كنوعٍ من أنواعِ العِقاب، أثناء تلك الأيام؛ إتَّفَقَ والدها وجاكسون على موعدِ حفل الزفاف، وبالفعل بدأت التحضيرات.
وخلال كُل هذا الوقت؛ لم تُمنَح إيف الحقَّ في إختيار أي شيء؛ ولا حتى فُستان زفافها، كل شيء على ذوقِ جاكسون حتى فُستانها، ومكياجها، ومجهوراتها.
وإيف بصراحة لا تهتم، لِمَ تهتم بفُستان ستذهب به إلى جحيم مصيري؟!
لِمَ ستهتم كيف سيكون الزفاف وهو بالنِّسبةِ لها ترح وليس فرح؟!
لِمَ ستهتم لأي شيء يَخُص هذا الأمر وهو مفروض عليها ومرفوض منها؟!
لا بأس وإن ألبسوها فُستان أسود ثم ساقوها إليه، لا تهتم.
واليوم بالتَّحديد هو اليوم، الذي أسماه جاكسون إنتصاره واسمته إيف خسارتها، لأنَّها اليوم تخسر نفسها إليه.
كانت في غُرفةِ إنتظار العروس، تجلس على الأريكة فيما تلبس فُستان الزفاف، شعرها خرّوبي وطويل، له تجعيدات عريضة وأنيقة ويتفرَّق على كتفيها وظهرها.
تعلو رأسها طرحة طويلة وتاج صغير وجميل، تنسدل على جنبات وجهها بعض الخُصل من غُرَّتِها.
وضعوا لأجلها مساحيق تجميل خفيفة ولكنها تبرز ملامحها الجميلة، ثم فُستانها ذا الكُمين الكاملين من الدّانتيل، وله فُتحة صدر واسعة، يضيقُ على خصرِها ثم يتَّسِع من أسفلِه، وأما ظهرها فكُلُّهُ مكشوف.
تتزين عُنقها ومعصميها وبعض أصابعها بمجهورات ألماسية وأحجار كريمة نادرة تُكلِّف مئات الملايين من الدولارات.
ورغم كل ذلك؛ فهي لا تبدو سعيدة، بل مُكتئبة، ومعالمها مُظلِمة.
رفعت إيف بصرها نحو الباب حينما فتحه أحد؛ وإذ به رَجُلٌ غريب لا تعرفه وبدى مُرتبكًا، تقدَّم ووضع على الطاولة الزُجاجيّة أمامها مُفتاح.
"آنستي، الآنسة لورين قد بعثت لكِ هذهِ المفاتيح، تقول أنَّها آسفة وأن هذا كل ما تستطيع فعله لأجلِك.
وأمرتني لو قرَّرتي أن تهربي سأسعادك في ذلك حتى تكوني آمنة"
نظرت إيف إلى المُفتاح على الطاولة، ثم إلى الشاب، تُفكِّر، هل تُحاول الهرب مُجدَّدًا؟!
ولكنَّها تعلَّمت ألا تثق بأحد ولكنَّها في نفسِ الوقت لا تملك خيارًا آخر الآن.
إزردئت جوفها واعتبرت مصداقية صديقتها مثل ضربةِ حظ، قد تخيب وقد تصيب، وهي ستُحاول.
تناولت المفاتيح من على الطاولة وهمست.
"هيا بنا"
أومئ لها الشاب، ثم نظر في المَمر إن كان به أحد، لا يوجد.
أشار لها أن تخرج سريعًا وفعلت، الشاب أمسك بيدها وتسلَّلَ بالعروس إلى الخارج، ورغم أن ذلك إستهلكهم وقت ومجهود، ولكنَّهُ نجح في النهاية.
صعدت بالسيارة والشاب قبل أن يغادر قال لها.
"نصيحة شخصيّة مني؛ اخرجي من شنغهاي واسلكي الطريق إلى القُرى النائية في الشمال، لن يخطر في بالِ أحد أنَّكِ تختبئي هُناك"
"حسنًا، شكرًا لك"
إنحنى لها الشاب، ثم غادر مُسرعًا، وإيف إنطلقت بالسيارة دون أن يشعر بغيابها أحد بعد، ألقت نظرة خاطفة على الكرسي في الخلف، مُحمَّل بحقائب بلاستيكية كثيرة، لا بُد أن لورين إشترت لأجلها لوازم كثيرة.
ضلَّت إيف تُراقب المرايا والطريق خوفًا من أن يكون هناك من يتبعها حتى أصبحت خارج شنغهاي، وأصبحت في أمانٍ أكثر.
تذكَّرت إيف بينما تقود ما حدث قبل عِدَّة أيام؛ فمنذ أسبوع أتت لورين إليها، تقول أنها أتت لتزورها؛ ولكن إيف تعلم أنَّها لم تأتي لزيارتها وحسب؛ بل أتت لسببٍ آخر.
لورين إبنة رجل أعمال يملك شركة ناشئة وصغيرة، تحتاج أن تُصبح أقوى بعونِ الأيدي الكبيرة في سوق الأعمال؛ وتلك اليد كانت يد والد إيف.
تذكر إيف جيدًا كيف تعرَّفت على صديقتها هذه؛ في حفل التخرج من الثانويّة أتت بِصُحبةِ والدها لتقول "مُبارك" لها.
وإيف في ذلك الوقت كانت تَطوق للصداقات والعلاقات، لطالما أحسَّت بالوحدة بعد وفاة والدتها؛ والتي كانت صديقتها بل شخصها الوحيد.
سمحت إيف للورين أن تدخل حياتها برحابة ومن أوسع أبوابها؛ لكن المُفاجئ أو اللامُفاجئ أن هذهِ لم تكن صداقة صدوق؛ بل لورين في مرحلة البداية كانت مجبورة أن تُصادق إبنة رجل الأعمال المُدلَّلة لأجلِ مصالح والدها؛ ولتتوفر له الحُجة بين الحين والآخر في زيارة قصر العائلة.
في البداية؛ إيف كانت مُتفاجئة ولا تُصدِّق، ثم رويدًا رويدًا أصبح كل شيء عاديًّا ويُمكِن تصديقه، لم تنهي إيف هذه العلاقة رُغم أنها ما عادت صداقة؛ بل لها اسمًا آخر كبير عليها؛ مصلحة.
غَضَّت إيف الطرف عن الكثير من الأمور والأحداث، "لا بأس؛ ستعود لأنَّها تحتاجني" كانت تواسي نفسها في كل مرة تبتعد فيها لورين عنها حينما تكسب صداقات جديدة، وبالفعل تُجرجرها المصلحة وتعود إليها.
لكن إيف بعدما كبرت وأصبحت واعية خيَّرت لورين أن تبتعد مع حفظ المصلحة؛ لكن لورين بكت ورفضت أن تبتعد، وصارحتها أنَّها في البداية لم تَكُ تُريد هذه الصداقة؛ لكنَّها مع الوقت أصبحت تُحبها كما لو أنها إختارتها بنفسها.
و هكذا مرَّت سنين على هذه الصداقة التي لم تَكُ يومًا عميقة قط، لكن والد لورين أحيانًا يدفعها لتفعل شيئًا لا ترغب في فعله لأجلِ مصلحته رُغم أنَّ أعماله توسَّعت وما عاد بحاجة أحد كما السابق.
ومن هذهِ المرّات؛ المرّة قبل عدة أيام، حينما أتت إليها لورين كصديقة لتطمئن على حالها، وسمحوا لها بالدخول إلى إيف.
وإيف فورما رأتها سُرَّت، أخيرًا ستتحدَّث مع أحد سِواها في هذه الغرفة.
إقتربت لورين وجلست على سرير إيف التي تتوسطه، لم تَكُ معالمها مسرورة، بل لا تبدو أنَّها بخير.
"إيف؛ لِمَ تفعلين هذا بنفسِك؟!
أنتِ تعلمي أنَّ لا فِرار من جاكسون؛ فلِمَ تُحاولين عبثًا؟!
أنا لا أفهمك!"
أفلتت إيف يدها من لورين وأختفت إبتسامتها.
"هل بعثكِ أبي لتُقنعيني أن أتزوج بجاكسون؟"
تنهدت لورين واتبعت.
"وهل تحتاجين للسؤال حتى؟!"
زفرت إيف أنفاسها وإرتفع شِدقها بسُخرية، نهضت عن سريرها وسارت حتى أدركت النافذة؛ المُتنفَّس الوحيد لها بهذه الغرفة.
"لا تقولي لي ما أخبركِ أبي أن تقوليه، قولي لي ما أنتِ مُقتنعة به يا لورين أو غادري ولا تُتعبي نفسك بمحاولة إقناعي هباءً"
قضمت لورين على شفاهها بتوتر، ثم نهضت وسارت حتى أدركت صديقتها ونبست.
"لو كنتُ مكانك لن أكف عن الهرب"
إلتفتت لها إيف وهي تعقد ساعديها إلى صدرها وتبتسم بإستنكار.
"لقد إتفقنا مُذُّ زمن غابر ألا تجمعنا سوى الصداقة الحقيقيّة، التي لا تتخلَّلها أيُّ مصالح مهما كان؛ لكن أنتِ لا تكفّي عن الإخلال بالإتفاق وتجعليني لا أحتاج هذه الصداقة أبدًا يا لورين"
"إيف!"
رفعت إيف يدها تُسكت لورين وقالت.
"يكفي، أنا إكتفيت من هذه العلاقة العقيمة، التي تؤذيني وتؤذيكِ، دعينا لا نكون أصدقاء بعد اليوم"
وهكذا أنهت إيف هذه العلاقة التي لطالما كانت في نظرها علاقة عقيمة، ولكن لورين اليوم بهذا السلوك المُخلِص أعادت ربطها، وجعلت إيف تشعر أنَّها تملك من يشعر بها ولن يتخلّى عنها.
أدركت إيف المساء وهي تقود بلا توقف، تكاد تموت جوعًا وعطشًا وتعبًا؛ ولكن النجاة مثل حبل رفيع، إن أفلتُّه لن يحملك.
دخلت بأحراش الشمال مُذُّ وقت، وقطعت بضع الكيلومترات داخلها، ولكنَّها أُنهِكَت جدًّا وما عادت تستطيع أن تقود بعد الآن.
وقتٌ مُستقطع لأخذِ إستراحة قصيرة لن يَضُر، أخفت السيارة بين الشجر الكثيف وثُمَّ أسقطت الكرسي وفورًا نامت؛ كأنَّها لم تنام مُذُّ دهور.
آتى الصباح سريعًا وإيف مُستغرِقة بالنوم؛ لكنَّ حرارة الشمس التي تضرب الزُجاج أيقضتها، تنهدت إيف بأستياء وهمست.
"شُكرًا لورين حقًا"
أقامت نفسها عن الكُرسي ثم شهقت شهقة قويّة حينما رأت خنزير برّي أمام السيّارة، وما إن رأى الخنزير آدمي يتحرَّك في قلبِ السيّارة حتى أصدر صوتًا مُرعِبًا؛ ليُرعب الفريسة التي هي من الأصل مُرتعبة.
"اسمع أيُّها الخنزير البرّي، أنا لم أُسافر كل هذا الوقت وأهرب؛ كي أكون فريسة لك؛ لذا إبتعد وإلا دهستُك!"
والخنزير صعد على مُقدِّمة السيارة واقترب من الزُّجاج يخدشه بحوافره، وإيف من هولِ المنظر ولشدة الرُّعب أخذت تصرخ إيف مرعوبة فيما تُحيط بيديها رأسها.
"أنت! لا تصعد! لا تصعد!
فلينقذني أحدهم"
ثم صرخت صرخة أقوى من سابقتها حينما سمعت صوت عيارًا ناري والدَّم فجأة تناثر على زُجاج السيّارة.
لم تستطيع إيف أن تؤتي بحركة، فقط بقيت متصنِّمة داخل السيارة فيما تتنفَّس بإضطرابٍ ورُعب.
"الآنسة في الداخل، اخرجي أنتِ آمنة!"
"ها؟!"
نبست بتلك إيف وهي ترتجف وخائفة، ويبدو أن الصيّاد قد مَلَّ من صمتِها؛ فتقدَّم من السيارة وطرق على الزُّجاج؛ فأخفضته وهي تزدرئ جوفها.
"أنت!"
قبض الشاب حاجبيه ونبس.
"لِمَ؟! أتعرفينني؟!"
ترجَّلت إيف من السيارة والإبتسامة تشق وجهها؛ إنَّهُ هو... الشاب الحزين الذي رأته قُرب المقبرة؛ لكنه يبدو مُختلفًا.
إذ يرتدي بنطلون من الكِتّان وحذاء طويل العُنق بذات اللون، ويرتدي قميص داخلي باللون الزيتي ويلف حول عُنقه وشاح مُرقط بالأبيض والأسود أسفله قلادة حديديّة.
شعره مرفوع عن ناصيته فيظهر وجهه أكثر وسامة، وأخيرًا يرفع البُندقية على كتفه، وبين شفتيه يَمُجَّ دُخّان سيجارة ثخينة؛ يدويّة الصُّنع كما يبدو.
"تبدو مُختلفًا!"
همست بتلك فيما ترمقه بإبتسامة وأعين واسعة، وأما هو فرمقها من الأعلى للأسفل، ثم بعدما أزفر دُخانًا همس.
"وأنتِ تبدين مُختلفة"
نظرت إيف إلى نفسها، حسنًا؛ هو الآن يدري أنَّها عروس هاربة؛ لا حاجة للتعريف على ما يبدو.
إلتفَّ وسار يمنحها ظهره، وهي ركضت تتبعه.
"إلى أين تذهب وتتركني وحدي؟!"
نبس دون أن يتوقف عن السير.
"امشي معي إذًا؛ سآخذكِ إلى مكانٍ آمن"
"وهل يُمكن أن أثق بك؟!"
"لا أظُنُّكِ تملكين خيارًا آخر"
إلتفتت إيف إلى السيارة تنظر لها ولإغراضها.
"ولكن أغراضي"
"سأعود لأجلها لاحقًا"
سارت إيف خلفه دون أن تنبس بحرفٍ زائد، تشعر بالخوف من هذا الغريب ذا الوجوه، في المدينة بدى مثل طير العندليب وفي الغابة يبدو مثل الأسد.
"عُذرًا؛ هل يُمكن أن أسأل سؤال؟!"
حافظ على صمته وهي اتبعت، بإعتبار السكوت إيجاب.
"ما اسمك؟!"
"ويفان"
سُرعان ما هتفت بحماسة.
"اووه! إذًا أنت من هنا حقًا"
لم يجب؛ لذا برمت شفتيها بأستياء وسارت خلفه، ثم بعد وقت سألت.
"ألا تملك أي فضول حيالي؟!"
"لا"
ترهلا كتفيها.
"لِمَ أنتَ هكذا يا رَجُل؟! ألا تود أن تعلم ما اسمي على الأقل أو لِمَ أرتدي فُستان زفاف أو لِمَ أتيت إلى هنا؟!"
"أيضًا لا"
برمت شفتيها بأستياء ورفعت قبضتها بظهره تود أن تضربه؛ ولكنها تخاف أن يتركها ويذهب، هي من تحتاجه الآن.
"حسنًا؛ على الأقل لو هاجمني خنزير وأردت تحذيري قُل "إيف" سأعلم أنني المقصودة"
إلتفتَ لها ويفان وتنهد فتوقفت عن المشي، وهو رفع سبّابته مُحذِّرًا.
"توقفي عن الثرثرة وإلا تركتُكِ هنا وغادرت"
.......................................
يُتبَع...
الفصل الثاني "خلق الأقدار الجميلة"
الرواية العاطفيّة "العندليب والبرّيّة"
27th/May/2021
..........................
بطل:
العندليب والبرّيّة|| The Nightingale and the Wild
" خلق الأقدار الجميلة"
...
في المطار...
تراجعت إيف وجاكسون يتقدَّم منها، وكلما تراجعت تقدَّم؛ العصبيّة تنفُرُ من عينيه والخوفُ يتجلّى في عيني إيف؛ لأنَّها تعلم أنَّهُ لو أمسكَ بها الآن لن يَمُر الأمرُ على خير، سيحبسونها في القصر، ويمنعوها عن كل شيء مهما كان بسيط، وتعيشُ كالدَّواب لفترةٍ طويلة من الزَّمن.
لقد تعرَّضت لمثلِ هذا العِقاب عِدَّة مرّات؛ في كُلِّ مرَّة قالت فيها "لا".
إزدرئت إيف جوفها وهي تُراهن على شجاعتها للفوزِ بمصيرِها وحياتها، التي تُريدها لِنفسِها، ثم تراجعت بخطواتٍ أسرع عنه وعن رِجاله، ثم أخذت تَجري هربًا منهم مَسقط أعيُن الجميع، أخذت تركض بجنون ورجال كُثر خلفها يتبعونها جريًّا.
حاولت بِجِد حقًا أن تهرب من قبضتهم وأن تُتوِّههُم عنها، يبدو جاكسون راقيًا بمزاجٍ جيّد وهادئ من الخارج، ولكنَّه في الحقيقة شيطان بقرنين، ويستلِذ بتعريض أحد للِذُّل ويُحِب الإنتقام... لديهِ هذه النَّزعة من الشَّر.
إيف لم تَكُ تملك الخيار الآن سوى أن تهرب من قبضتِه مهما كانت مُشتدَّة عليها؛ فهي تعلم جيدًا أنَّ المصير، الذي تحدَّث عنه سابقًا، سيُصيبها ويُصبح واقعًا؛ لا إحتمال، لو أمسكَ بها الآن.
صرخت بقوّة حينما إلتفَّت أنامله بقسوة حول عِضدها، وأجتذبها إليه بِعُنف حتى إرتطمت به، عانقها بقوّة، وثم همس بأُذنِها متوعِّدًا رغم أنَّهُ يبتسم في وجوه المارّة المُتربِّصين بهم.
"سأُريكِ حقًا ما ثمن ما فعلتِه لِتَّو، ستذوقين المُر يا إيف"
أمسك بمِعصمها وسحبها معه رُغمًا عنها، قاومته وحاولت أن تجعله يتركها وتتصدّى له؛ لكن هباءً... لا تنجح.
"اسمع، أنا لا أحبك، ولو أجبرتَني عليك تكون عديم الكرامة"
إنتهت مِمّا قالت حينما أصبحت بِقُربِ السيّارة والرِّجال يحاوطوهم من كُلِّ جَنب؛ لذا لن يراهم أحد إذا صفعها لِقاء ما قالته لِتَّو، وهذا ما فعله تمامًا؛ إذ صفعها أمام رجاله بقوّة ثم دفعها داخل سيّارته، وهي لم تنبس بحرف، لم تصرخ حتى؛ لا فائدة من أي شيء تفعله.
صعد بجانبها في سيّارتِه، وهي تُمسِك بوجنتها، التي صُفِعت، والدموع تملئ عينيها رُغمًا عنها، لا تُريد أن تبكي لكن ما بيدِها حيلة، حتى دموعها باتت لا تُسيطر عليها.
مسحت على وجهها بكفيّها؛ تُزيل آثار الدُّموع، وتجاهلت تهديداته، التي يتفوه بها بعصبيّة فيما يقود، كانت تنظرُ عبر النّافِذة ببصرٍ مُشوَّش، حينما رمشت سقطت الدموع فمسحتها سريعًا.
تُقسِم أنَّها ليست هكذا؛ ولم تَكُ يومًا ضعيفة أمام رَجُل مهما تجبَّر؛ لكن اليأس يُضعف الإرادة ويبتلع الشجاعة والعزيمة.
وصل بها إلى قصرِ أبيها، وترجَّلت إيف قبل أن تمتد يده عليها بالبَطش وتسحبها بِعُنف، سبقته إلى داخل القصر بخطواتٍ سريعة وهو يتبعُها.
تجاوزت الباب، وأرادت الفِرار سريعًا إلى السلالم؛ لتختبئ منهم جميعًا في غُرفتِها- ليس خوفًا منهم بل خوفًا على نفسها من نفسها-، لكنَّها لم تستطِع، إذ فورما عَتبت قدمها الدرجة الأولى من السُّلَّم سمعت صوت والدها من خلفها.
"إيف!"
توقَّفت إيف وإلتفتت إليه، فوجدته يقف بعصبيّة وتقف خلفه عشيقته، التي تبتسِم بتشفّي.
رأتهُ إيف يرفع يدهُ بغيةِ صفعِها، لكنَّها هذهِ المرّة تراجعت سريعًا قبل أن تصلها يده المُعنِّفة، رفعت سبّابتها بوجهه كذلك حاجبه وحذَّرت.
"أياك! يتمرَّد المظلوم في بعض الأحيان ولا يعود ضحية، يُصبِح الذي يستهدف الضحايا بدلًا من ذلك!"
دخلت غُرفتها وأغلقت الباب على نفسِها، ثم جلست على السرير وبدنها يرتجف بعصبيّة، ثم أخذت تبكي.
لِمَ تبكي؟!
لأنَّ حياتها كريهة والناس فيها كريهون للغاية، المال يجلب نوعًا مُعيَّن من السعادة -الرفاهيّة- وألف نوع من التعاسة.
"المال يشتري كل شيء حتى البشر" هذا مبدأ جاكسون المُطلق، حينما سمعته أول مرة منه سخرت منه وعلَّقت: "يشتري فقط عديمي الكرامة"؛ ولكنَّهُ إشتراها وإن كان رُغمًا عنها.
إرتمت على سريرها، وبين الوسائد خبَّأت شهقاتها وذرفت دموعها، لأجلِ المال تُباع، لأجلِ المال والدها يستطيع أن يفعل أي شيء؛ رُغمَ أنَّ ماله كثير ولا ينضب.
آتى جاكسون بعد وقت، بالتأكيد تناقش مع والدها بخصوصِ محاولتها للهروب، والآن آتى ليُحاسبها أكثر.
أخذ يطرق على بابها كثيرًا؛ لكنَّها لم تستجيب له ولا تُخطِّط أن تُجيبه مهما هدَّد وتعنَّت من خلفِ الباب، طرق الباب لعدةِ دقائق، ثم غادر كما لو أنَّهُ لم يكون.
ولكنَّهُ لم يغيب كثيرًا؛ إذ سُرعان ما قعدت على فِراشِها حينما سمعت صوت المفتاح في الباب يدور.
نهضت عن السرير وتلفَّتت حولها بضياع؛ ماذا تفعل؟!
لكثرةِ ما هي مرتبكة نست أنَّ في غُرفتها دورة مياه خاصّة بها، ويُمكنها أن تختبئ بها.
وقفت مُتصلِّبة تنتظر منه أن يفتح الباب، وليفعل ما سيفعله، لكنها لا تدري كيف إستيقظت حواسها فجأة، وركضت نحو دورة المياه؛ لتختبئ بها منه، لكن يده كانت أسبق حينما إلتفَّت حول عِضدها قبل أن تُغلق على نفسها باب الحِمّام، ثم سحبها ودفعها نحو سريرها.
سقطت على السرير وصرخت، وما كادت ترفع نفسها إلا وهو فوقها، ويقيد يديها فوق رأسها فصرخت به.
"أنتَ مريض!"
تبسَّم وأومئ.
"نعم؛ أنا مريض، وأنتِ متورِّطة مع هذا المريض؛ لأنَّهُ إشتراكِ بِماله، وأصبحتِ ملكه"
إشتدَّت قبضتيه على مِعصمِها أكثر، وأنخفض بجذعه عليها؛ يطرح عليها بعضًا من وزنه، آنَّت مُتألِّمة من وزنه الثقيل ويده الصلدة، وهو همس في أُذنها.
"أنتِ بالنسبة لي كقطعةِ أثاثٍ ثمينة إشتريتُها بمالي، ولن أسمح لأحد بأن يسرقها مني، وسأضعها في غُرفة نومي ولو ما تناسبت والدّيكور."
نهض عنها وهو يبتسم تلك الإبتسامة اللئيمة، وهي ترمقه بِكُرهٍ وبُغض شديدين.
"الآن سأذهب وأتحدَّث مع والدكِ؛ لنُحدِّد موعد زفاف قريب؛ لأنني أتشوق لِضمِّك إلى ديكور منزلي عزيزتي واللهو بكِ"
ضحك ونقر بسبابته ذقنها، أشاحت إيف بوجهها عنه وهو خرج.
لكن الأمور لن تنتهي إلى هُنا، لن يحدث ما يحلم به ولو ماتت؛ تُفضِّل الموت على أن تكون له وتُلاقي المصير الذي يُريده.
......................
وفي الرّيف فلقد كانت الأجواء ريفيّة وهادئة؛ إنَّهُ المساء والناس خارج بيوتهم يجلسون ويتسامرون، أمام كل بيت شُعلة نار يستدفئون بها، عليها إبريق شاي إسودَّ من رماد الخشب؛ ولكنَّ فيه ألذَّ الشاي على الإطلاق.
قد وصل ويفان لِتَّو إلى القرية التي يسكن بها، وهي قرية نائية وبعيدة عن ضوضاء المدينة ومنطوية، فأخبارها تقتصر على حدودها وسُكّانها من ناسِها؛ وحده الغريب فيها.
مُذُّ سبع سنوات وهو يعيش في هذه القريّة، النّاسُ في البداية إستغربوه واستغربوا كل شيء يخصُّه.
فهو شاب من المدينة، ثيابه مدنيّة ويتكلَّم لهجة غريبة، ولا يتدين بديانتهم، هُم بوذيون وهو مسيحي، ويستطيع أن يُصلِح الأجهزة الإلكترونية، يعزف عن الزواج، ويعيش وحده في بيته، ويُحب الشلّال والغناء، ويذهب هناك كل يوم ليُغني ألحانًا آسية وحزينة بلُغة أجنبية لا يعرفونها أو باللغة المندرينيّة.
حينما وصل ويفان وولجَ القرية أخذوا الأطفال الصِّغار يركضون إليه ويهتفون بحماسة.
"مُعلِّم ويفان ... مُعلِّم ويفان!"
جلس ويفان بينهم على رُكبتيه، وفيما يبتسم كان يُربِّت على رؤوسهم.
"هل قُمتُم بحلِّ الواجب المدرسي الذي كلفتُكم به؟!"
أومئ بعضُ الصِغار بحماسة، وبعضهم أومئ وهم كاذبون، وبعضهم هرب بإبتسامته الجميلة، وبعضهم تخفّى خلف بعضِ الأطفال الذين أومئوا بِثِقة.
ضحك ويفان بِخفَّة، ووقف من بين الأطفال يقول.
"اذهبوا وألعبوا... غدًا أراكم في الصَّف"
ركضوا الأطفال بعيدًا، وويفان كان يرمقهم بإبتسامة فيما يحمل حقيبته من فوق كتفه، يُحِب الأطفال جدًا وفي ذات الوقت رؤيتهم تؤلمه، سلكَ طريقه نحو منزله؛ لكن إحدى الجدّات إستوقفته وأخذت تُنادي عليه.
"ويفان تعال إلى هُنا يا بُني!"
ذهب لها ويفان، كانت الجدّة وونغ تضع صحون المائدة المعدنيّة والفُخاريّة على صينيّة من القَش.
"تعال وتناول معي الطعام يا بُني، كنتُ بإنتظارِك"
"حسنًا يا جدَّتي"
جلس أرضًا عند المائدة، ووضع حقيبته خلفه ثم قال.
"إذًا هيا لنتناول الطعام معًا"
وافقته الجدَّة، وناولته رغيف خُبز وتناولت رغيفها، ثم معًا أخذا يتناولا الطعام المتواضع جدًّا.
"بُني؟!"
نظر لها ويفان فالجدّة اتبعت.
"أيُمكن أن أسألك لِمَ تذهب كل سنة للمدينة؟!"
ورُغمَ أنَّهُ أمرًا لا يُحِب ويفان أن يفصح عنه لكنَّهُ أجابها.
"اذهب لأزور بعض النّاس المُقرَّبين مني في المدينة"
أومأت الجدّة وتبسَّمت لِتُربِّت على وجنةِ ويفان وقالت.
"أنتَ حقًا ثمين، لم أستطِع أن أقضي اليومين الفائتين بدونك، أياكَ تُفكِّر أن تتركني خلفك وتذهب، قد أموت من الوحدة إن لم أمُت شوقًا لك"
تبسَّم ويفان وأمسكَ بيدها التي على خدِّه وطبع عليها قُبلة يقول.
"أنا لن أترككِ أبدًا يا جدَّتي"
بعد وجبة العشاء؛ نهضَ ويفان والجدّة، هو تولّى غسل الصحون، وهي حضَّرت لهما أبريق شاي على نارِ الفحم والخشب بالخارج.
آتى ويفان بعدما إنتهى، وجلس على كُرسي من قَش قد أحضرته الجدّة لأجلِه، جلس بجوارها قِبالة النار وشكرها حينما مدت له كوب الشاي.
"بُني؛ أحس أنَّكَ تتألَّم ولا تتكلَّم، ألستُ في مقام أُمك يا صغيري؟! ما الذي يوجعك يا صغيري؟!"
وخزَ ويفان أيسرَ صدرَه وهمس بعد تنهيدة.
"هذا يؤلمني يا جدتي... هُنا يوجد جُرحٌ عميق في صدري، قلبي يؤلمني، لكن لهذا الوجع لا علاج له، سيموت حينما أموت أو قد لا يموت"
"ويفان!"
إنتحبت الجدّة وقرَّبت ويفان إليها تُعانقه بقوّة، ويدها إمتدَّت لِتُربِّت على صدرِه؛ تحديدًا فوق قلبه.
"لا يا صغيري، لا تقول هكذا، أنا مُتأكِّدة أنَّ عمركَ طويل، وستعيش حياة سعيدة.
الرَّب سيبعث لكَ هديّة سارّة بِكُلِّ تأكيد، وستسُرُّك وتجعلكَ سعيدًا لبقية عُمرك... أنتَ فقط كُن مُتفائل واصبر؛ الخيرُ آتٍ لا محالة"
ويفان لا يُصدِّق أنَّ أقدارًا جميلة سَتأتي بطريقه؛ فلا يرى نفسه يستحق قدرًا جميل، بل لا يستحق سوى الويل والعذاب لبقية عُمره.
غادر ويفان منزل الجَّدة وونغ، له عشرات الجدّات غيرها في القرية؛ لكنها الأحن عليه والتي تُحِبُّه أكثر... لرُبما لأنها فقدت ابنها لصالح خنزير برّي هاجم القرية قبل سنين، أو ربما لأنها تعيش وحدها، وهو فقط من يؤنِسها ويُخفِّف عنها هذه الوحدة.
ولج ويفان أخيرًا منزله، منزله من طين، لا يسمح لماء المطر أن يتسرّب في الشتاء، ورطب في الصيف.
لقد بناه بنفسه، المال هُنا ليس قيّمًا كما الخدمات، يقوم بتدريس أطفال القرية، ويقوم بتصليح الأجهزة، وهكذا يجمع قوت يومه.
الشيء الوحيد الذي يُنغِص عليه المعيشة هُنا هو زعيم القرية وابنه، كلاهما من نِطاف الشر... ويفان يتحاشاهم لكنَّهُم لا يكفوا عن مُضايقته.
منزله من غُرفة واحدة تحوي فراشًا أرضي وطاولة قصيرة خشبيّة ودولاب صغير، بالإضافة إلى مطبخ صغير ودورة مياه صغيرة.
أخذ حمَّامًا باردًا؛ فهو أكسل من أن يقوم بتسخين الماء، ثم اندسَّ في فراشه، إنه وقت النوم رغم أن الوقت ما زال باكرًا بالنِّسبةِ للحضر، لكن الحياة بالريف بالطَّبع مُختلفة.
.........................
مرَّت بِضعة أيام، الرّيفُ هادئ والمدينة مجنونة كما هو مُتوقع...
ما زالت إيف في غُرفتِها قسرًا مُذُّ أيّام؛ كنوعٍ من أنواعِ العِقاب، أثناء تلك الأيام؛ إتَّفَقَ والدها وجاكسون على موعدِ حفل الزفاف، وبالفعل بدأت التحضيرات.
وخلال كُل هذا الوقت؛ لم تُمنَح إيف الحقَّ في إختيار أي شيء؛ ولا حتى فُستان زفافها، كل شيء على ذوقِ جاكسون حتى فُستانها، ومكياجها، ومجهوراتها.
وإيف بصراحة لا تهتم، لِمَ تهتم بفُستان ستذهب به إلى جحيم مصيري؟!
لِمَ ستهتم كيف سيكون الزفاف وهو بالنِّسبةِ لها ترح وليس فرح؟!
لِمَ ستهتم لأي شيء يَخُص هذا الأمر وهو مفروض عليها ومرفوض منها؟!
لا بأس وإن ألبسوها فُستان أسود ثم ساقوها إليه، لا تهتم.
واليوم بالتَّحديد هو اليوم، الذي أسماه جاكسون إنتصاره واسمته إيف خسارتها، لأنَّها اليوم تخسر نفسها إليه.
كانت في غُرفةِ إنتظار العروس، تجلس على الأريكة فيما تلبس فُستان الزفاف، شعرها خرّوبي وطويل، له تجعيدات عريضة وأنيقة ويتفرَّق على كتفيها وظهرها.
تعلو رأسها طرحة طويلة وتاج صغير وجميل، تنسدل على جنبات وجهها بعض الخُصل من غُرَّتِها.
وضعوا لأجلها مساحيق تجميل خفيفة ولكنها تبرز ملامحها الجميلة، ثم فُستانها ذا الكُمين الكاملين من الدّانتيل، وله فُتحة صدر واسعة، يضيقُ على خصرِها ثم يتَّسِع من أسفلِه، وأما ظهرها فكُلُّهُ مكشوف.
تتزين عُنقها ومعصميها وبعض أصابعها بمجهورات ألماسية وأحجار كريمة نادرة تُكلِّف مئات الملايين من الدولارات.
ورغم كل ذلك؛ فهي لا تبدو سعيدة، بل مُكتئبة، ومعالمها مُظلِمة.
رفعت إيف بصرها نحو الباب حينما فتحه أحد؛ وإذ به رَجُلٌ غريب لا تعرفه وبدى مُرتبكًا، تقدَّم ووضع على الطاولة الزُجاجيّة أمامها مُفتاح.
"آنستي، الآنسة لورين قد بعثت لكِ هذهِ المفاتيح، تقول أنَّها آسفة وأن هذا كل ما تستطيع فعله لأجلِك.
وأمرتني لو قرَّرتي أن تهربي سأسعادك في ذلك حتى تكوني آمنة"
نظرت إيف إلى المُفتاح على الطاولة، ثم إلى الشاب، تُفكِّر، هل تُحاول الهرب مُجدَّدًا؟!
ولكنَّها تعلَّمت ألا تثق بأحد ولكنَّها في نفسِ الوقت لا تملك خيارًا آخر الآن.
إزردئت جوفها واعتبرت مصداقية صديقتها مثل ضربةِ حظ، قد تخيب وقد تصيب، وهي ستُحاول.
تناولت المفاتيح من على الطاولة وهمست.
"هيا بنا"
أومئ لها الشاب، ثم نظر في المَمر إن كان به أحد، لا يوجد.
أشار لها أن تخرج سريعًا وفعلت، الشاب أمسك بيدها وتسلَّلَ بالعروس إلى الخارج، ورغم أن ذلك إستهلكهم وقت ومجهود، ولكنَّهُ نجح في النهاية.
صعدت بالسيارة والشاب قبل أن يغادر قال لها.
"نصيحة شخصيّة مني؛ اخرجي من شنغهاي واسلكي الطريق إلى القُرى النائية في الشمال، لن يخطر في بالِ أحد أنَّكِ تختبئي هُناك"
"حسنًا، شكرًا لك"
إنحنى لها الشاب، ثم غادر مُسرعًا، وإيف إنطلقت بالسيارة دون أن يشعر بغيابها أحد بعد، ألقت نظرة خاطفة على الكرسي في الخلف، مُحمَّل بحقائب بلاستيكية كثيرة، لا بُد أن لورين إشترت لأجلها لوازم كثيرة.
ضلَّت إيف تُراقب المرايا والطريق خوفًا من أن يكون هناك من يتبعها حتى أصبحت خارج شنغهاي، وأصبحت في أمانٍ أكثر.
تذكَّرت إيف بينما تقود ما حدث قبل عِدَّة أيام؛ فمنذ أسبوع أتت لورين إليها، تقول أنها أتت لتزورها؛ ولكن إيف تعلم أنَّها لم تأتي لزيارتها وحسب؛ بل أتت لسببٍ آخر.
لورين إبنة رجل أعمال يملك شركة ناشئة وصغيرة، تحتاج أن تُصبح أقوى بعونِ الأيدي الكبيرة في سوق الأعمال؛ وتلك اليد كانت يد والد إيف.
تذكر إيف جيدًا كيف تعرَّفت على صديقتها هذه؛ في حفل التخرج من الثانويّة أتت بِصُحبةِ والدها لتقول "مُبارك" لها.
وإيف في ذلك الوقت كانت تَطوق للصداقات والعلاقات، لطالما أحسَّت بالوحدة بعد وفاة والدتها؛ والتي كانت صديقتها بل شخصها الوحيد.
سمحت إيف للورين أن تدخل حياتها برحابة ومن أوسع أبوابها؛ لكن المُفاجئ أو اللامُفاجئ أن هذهِ لم تكن صداقة صدوق؛ بل لورين في مرحلة البداية كانت مجبورة أن تُصادق إبنة رجل الأعمال المُدلَّلة لأجلِ مصالح والدها؛ ولتتوفر له الحُجة بين الحين والآخر في زيارة قصر العائلة.
في البداية؛ إيف كانت مُتفاجئة ولا تُصدِّق، ثم رويدًا رويدًا أصبح كل شيء عاديًّا ويُمكِن تصديقه، لم تنهي إيف هذه العلاقة رُغم أنها ما عادت صداقة؛ بل لها اسمًا آخر كبير عليها؛ مصلحة.
غَضَّت إيف الطرف عن الكثير من الأمور والأحداث، "لا بأس؛ ستعود لأنَّها تحتاجني" كانت تواسي نفسها في كل مرة تبتعد فيها لورين عنها حينما تكسب صداقات جديدة، وبالفعل تُجرجرها المصلحة وتعود إليها.
لكن إيف بعدما كبرت وأصبحت واعية خيَّرت لورين أن تبتعد مع حفظ المصلحة؛ لكن لورين بكت ورفضت أن تبتعد، وصارحتها أنَّها في البداية لم تَكُ تُريد هذه الصداقة؛ لكنَّها مع الوقت أصبحت تُحبها كما لو أنها إختارتها بنفسها.
و هكذا مرَّت سنين على هذه الصداقة التي لم تَكُ يومًا عميقة قط، لكن والد لورين أحيانًا يدفعها لتفعل شيئًا لا ترغب في فعله لأجلِ مصلحته رُغم أنَّ أعماله توسَّعت وما عاد بحاجة أحد كما السابق.
ومن هذهِ المرّات؛ المرّة قبل عدة أيام، حينما أتت إليها لورين كصديقة لتطمئن على حالها، وسمحوا لها بالدخول إلى إيف.
وإيف فورما رأتها سُرَّت، أخيرًا ستتحدَّث مع أحد سِواها في هذه الغرفة.
إقتربت لورين وجلست على سرير إيف التي تتوسطه، لم تَكُ معالمها مسرورة، بل لا تبدو أنَّها بخير.
"إيف؛ لِمَ تفعلين هذا بنفسِك؟!
أنتِ تعلمي أنَّ لا فِرار من جاكسون؛ فلِمَ تُحاولين عبثًا؟!
أنا لا أفهمك!"
أفلتت إيف يدها من لورين وأختفت إبتسامتها.
"هل بعثكِ أبي لتُقنعيني أن أتزوج بجاكسون؟"
تنهدت لورين واتبعت.
"وهل تحتاجين للسؤال حتى؟!"
زفرت إيف أنفاسها وإرتفع شِدقها بسُخرية، نهضت عن سريرها وسارت حتى أدركت النافذة؛ المُتنفَّس الوحيد لها بهذه الغرفة.
"لا تقولي لي ما أخبركِ أبي أن تقوليه، قولي لي ما أنتِ مُقتنعة به يا لورين أو غادري ولا تُتعبي نفسك بمحاولة إقناعي هباءً"
قضمت لورين على شفاهها بتوتر، ثم نهضت وسارت حتى أدركت صديقتها ونبست.
"لو كنتُ مكانك لن أكف عن الهرب"
إلتفتت لها إيف وهي تعقد ساعديها إلى صدرها وتبتسم بإستنكار.
"لقد إتفقنا مُذُّ زمن غابر ألا تجمعنا سوى الصداقة الحقيقيّة، التي لا تتخلَّلها أيُّ مصالح مهما كان؛ لكن أنتِ لا تكفّي عن الإخلال بالإتفاق وتجعليني لا أحتاج هذه الصداقة أبدًا يا لورين"
"إيف!"
رفعت إيف يدها تُسكت لورين وقالت.
"يكفي، أنا إكتفيت من هذه العلاقة العقيمة، التي تؤذيني وتؤذيكِ، دعينا لا نكون أصدقاء بعد اليوم"
وهكذا أنهت إيف هذه العلاقة التي لطالما كانت في نظرها علاقة عقيمة، ولكن لورين اليوم بهذا السلوك المُخلِص أعادت ربطها، وجعلت إيف تشعر أنَّها تملك من يشعر بها ولن يتخلّى عنها.
أدركت إيف المساء وهي تقود بلا توقف، تكاد تموت جوعًا وعطشًا وتعبًا؛ ولكن النجاة مثل حبل رفيع، إن أفلتُّه لن يحملك.
دخلت بأحراش الشمال مُذُّ وقت، وقطعت بضع الكيلومترات داخلها، ولكنَّها أُنهِكَت جدًّا وما عادت تستطيع أن تقود بعد الآن.
وقتٌ مُستقطع لأخذِ إستراحة قصيرة لن يَضُر، أخفت السيارة بين الشجر الكثيف وثُمَّ أسقطت الكرسي وفورًا نامت؛ كأنَّها لم تنام مُذُّ دهور.
آتى الصباح سريعًا وإيف مُستغرِقة بالنوم؛ لكنَّ حرارة الشمس التي تضرب الزُجاج أيقضتها، تنهدت إيف بأستياء وهمست.
"شُكرًا لورين حقًا"
أقامت نفسها عن الكُرسي ثم شهقت شهقة قويّة حينما رأت خنزير برّي أمام السيّارة، وما إن رأى الخنزير آدمي يتحرَّك في قلبِ السيّارة حتى أصدر صوتًا مُرعِبًا؛ ليُرعب الفريسة التي هي من الأصل مُرتعبة.
"اسمع أيُّها الخنزير البرّي، أنا لم أُسافر كل هذا الوقت وأهرب؛ كي أكون فريسة لك؛ لذا إبتعد وإلا دهستُك!"
والخنزير صعد على مُقدِّمة السيارة واقترب من الزُّجاج يخدشه بحوافره، وإيف من هولِ المنظر ولشدة الرُّعب أخذت تصرخ إيف مرعوبة فيما تُحيط بيديها رأسها.
"أنت! لا تصعد! لا تصعد!
فلينقذني أحدهم"
ثم صرخت صرخة أقوى من سابقتها حينما سمعت صوت عيارًا ناري والدَّم فجأة تناثر على زُجاج السيّارة.
لم تستطيع إيف أن تؤتي بحركة، فقط بقيت متصنِّمة داخل السيارة فيما تتنفَّس بإضطرابٍ ورُعب.
"الآنسة في الداخل، اخرجي أنتِ آمنة!"
"ها؟!"
نبست بتلك إيف وهي ترتجف وخائفة، ويبدو أن الصيّاد قد مَلَّ من صمتِها؛ فتقدَّم من السيارة وطرق على الزُّجاج؛ فأخفضته وهي تزدرئ جوفها.
"أنت!"
قبض الشاب حاجبيه ونبس.
"لِمَ؟! أتعرفينني؟!"
ترجَّلت إيف من السيارة والإبتسامة تشق وجهها؛ إنَّهُ هو... الشاب الحزين الذي رأته قُرب المقبرة؛ لكنه يبدو مُختلفًا.
إذ يرتدي بنطلون من الكِتّان وحذاء طويل العُنق بذات اللون، ويرتدي قميص داخلي باللون الزيتي ويلف حول عُنقه وشاح مُرقط بالأبيض والأسود أسفله قلادة حديديّة.
شعره مرفوع عن ناصيته فيظهر وجهه أكثر وسامة، وأخيرًا يرفع البُندقية على كتفه، وبين شفتيه يَمُجَّ دُخّان سيجارة ثخينة؛ يدويّة الصُّنع كما يبدو.
"تبدو مُختلفًا!"
همست بتلك فيما ترمقه بإبتسامة وأعين واسعة، وأما هو فرمقها من الأعلى للأسفل، ثم بعدما أزفر دُخانًا همس.
"وأنتِ تبدين مُختلفة"
نظرت إيف إلى نفسها، حسنًا؛ هو الآن يدري أنَّها عروس هاربة؛ لا حاجة للتعريف على ما يبدو.
إلتفَّ وسار يمنحها ظهره، وهي ركضت تتبعه.
"إلى أين تذهب وتتركني وحدي؟!"
نبس دون أن يتوقف عن السير.
"امشي معي إذًا؛ سآخذكِ إلى مكانٍ آمن"
"وهل يُمكن أن أثق بك؟!"
"لا أظُنُّكِ تملكين خيارًا آخر"
إلتفتت إيف إلى السيارة تنظر لها ولإغراضها.
"ولكن أغراضي"
"سأعود لأجلها لاحقًا"
سارت إيف خلفه دون أن تنبس بحرفٍ زائد، تشعر بالخوف من هذا الغريب ذا الوجوه، في المدينة بدى مثل طير العندليب وفي الغابة يبدو مثل الأسد.
"عُذرًا؛ هل يُمكن أن أسأل سؤال؟!"
حافظ على صمته وهي اتبعت، بإعتبار السكوت إيجاب.
"ما اسمك؟!"
"ويفان"
سُرعان ما هتفت بحماسة.
"اووه! إذًا أنت من هنا حقًا"
لم يجب؛ لذا برمت شفتيها بأستياء وسارت خلفه، ثم بعد وقت سألت.
"ألا تملك أي فضول حيالي؟!"
"لا"
ترهلا كتفيها.
"لِمَ أنتَ هكذا يا رَجُل؟! ألا تود أن تعلم ما اسمي على الأقل أو لِمَ أرتدي فُستان زفاف أو لِمَ أتيت إلى هنا؟!"
"أيضًا لا"
برمت شفتيها بأستياء ورفعت قبضتها بظهره تود أن تضربه؛ ولكنها تخاف أن يتركها ويذهب، هي من تحتاجه الآن.
"حسنًا؛ على الأقل لو هاجمني خنزير وأردت تحذيري قُل "إيف" سأعلم أنني المقصودة"
إلتفتَ لها ويفان وتنهد فتوقفت عن المشي، وهو رفع سبّابته مُحذِّرًا.
"توقفي عن الثرثرة وإلا تركتُكِ هنا وغادرت"
.......................................
يُتبَع...
الفصل الثاني "خلق الأقدار الجميلة"
الرواية العاطفيّة "العندليب والبرّيّة"
27th/May/2021
..........................
Коментарі