CH3||الرجل الذي لا يخاف
كريس وو(العندليب)
بطل:
العندليب والبرّيّة||Th Nightingale and the Wild
"الرجل الذي لا يخاف"
...
إستمرَّت إيف بالسّيرِ خلف الرَّجُل الغريب ذاك، ومُذُّ تحذيره الأخير لها بالصَّمت إلتزمته؛ خوفًا من أن يُقدِم على تنفيذ تهديده ويُتركها هُنا وحدها.
وهذا الرَّجُل الغريب يمشي بِبُطء بين الأحراش وهو يحمل بُندقيَّته على كتفه، ويضع غليونه الثَّخين في فمِه يُدخِّن.
"هل ما زال الطريقُ طويل؟!"
إلتفت لها برأسِه فرفعت يداها تقول.
"حسنًا سأصمت"
تابع سيره بهذا الصمت المُتقع حتى أدرك تَل، جلس عليه ثم فعلت هي من بعده.
"واو!"
نبست بتلك مُتفاجئة حينما رأت أضواء القرية تُنير في السهلِ أسفل التَّل.
"هل هذه قريتك؟!"
أومئ برأسه، ثم تمدَّد على الأرض؛ يزفر أنفاسه براحة، ووضع يده أسفل رأسه؛ يُغمِض عينيه.
"نامي الآن"
"ها؟!"
نظرت إلى نفسِها، ثم إلى المكان، ثم إلى هذا الرجل الغريب، الذي يبدو وكأنَّهُ ينام في بيتِه لا في الغابة.
"عفوًا؟!
ولكن كيف سأنام وأنا أرتدي فُستان زفاف، وأين سأنام، في البرّيّة هكذا؟!"
دون أن يُحرِّك طرفًا أجاب.
"تعوَّدي أن تكوني برّيّة وإلا لن تتمكَّني من النَّجاة، لا في البراري ولا حتى في المُدن"
لم تَجِد ما تقوله سوى أن تتصرَّف بغباء.
"نحنُ هُنا نتحدث عن كيف وأين سأنام"
منحها ظهره وقرَّرَ أن ينام، ولتتدبَّر هذهِ البلهاء أمورها بنفسِها.
"أنت! الآن هل أنتَ نِمت؟!"
وحينما لم يجبها تباكت.
"ماذا إن هاجمنا حيوان برّيّ؟!"
"لن يحدث"
روى خوفها بكلمتين فقط وعاد للنوم، إيف تنهدت وهي تتفقَّد المكان بعينيها، وللأسفِ عيناها لا تُساعد كثيرًا، فالعتمة طامسة تَطمُس الرؤية.
في النِّهاية قرَّرت ألا تنام وتسهر لحماية نفسها على الأقل من الحيوانات التي قد تظهر لها، تنهَّد ويفان حينما أفاق الفجر ورآها جالسة وعاد للنومِ ثانيةً.
"إن كُنتِ تظني أنَّ في القرية ينتظركِ سرير من ريشِ النَّعام فأنتِ مُخطئة، نامي وإلا لن تنامي حتى عشيّة الغد"
سُرعان ما ردَّت بِنبرة مُرتعِشة.
"أنا خائفة، إن كُنتَ لا تتفهَّم خوفي احترمه على الأقل"
يتفهَّم ويحترم الخوف؟!
لا يدري إن كان عليه القول أنَّهُ يفهم ويحترم الخوف، لكنَّهُ لا يخاف، خوفه على نفسه إنتزعه من صدرِه مُذُّ وقتٍ طويل، لا يخشى على شيء ولا يخشى على نفسه من شيء.
الحياة علَّمتهُ دروسًا قاسيّة؛ جعلتهُ ينفُر منها ويكرهها، ويريد أن يتخلَّص منها، لكنَّها تقبض عليه بأسنانها، ولا تدعه يمضي ويتركها.
الحياة مثل أُمٍ برّيّة، إن جاعت أكلت أطفالها...
قعد على الأرض ونظر إلى عروس المدينة هذه.
"لن يقتطفكِ الموت وأنتِ معي قبل أن يقتطفني، والحياة تنشب أظافرها في جلدي ولا تتركني.
لقد نمتُ في البراري أكثر مِما أستطيع أن أعُد وما زلتُ قطعة واحدة كما ترين، لن أجعلكِ تنامي في مكان يَحفُّه الخطر من الأصل، فلا تخافي ونامي!"
وأخيرًا هذا اللسان الذي بجوفه نطق جُملة كاملة وكافيّة لِتُشعرها ولو بالقليل من الآمان معه.
"أنا آمنة حقًا هُنا ومعك؟!"
أومئ لها فأومأت وهي تزدرئ جوفها وقالت.
"حسنًا، سأثق بكَ وأنام قُربك، لكن لا تُعطيني ظهرك من فضلك، أنتَ الظهر الوحيد الذي أستند عليه الآن"
تردَّد صوتٌ يألفه ويحبه جدًا في رأسه حينما سمع ذات الجُملة من صوتِها.
"أنتَ الظهر الوحيد الذي أستند عليه كريس"
نفض رأسه ينفض هذا الصوت عنه؛ الذي رغم أنَّهُ يُحبه وأشتاق له وأشتاق لمُلاقتِه إلا أنَّهُ يؤلمه، يؤلمه جدًا بطريقة لا يُطيقها.
إلتفت لينام على ظهره، وضع يده فوق عينيه وقال.
"نامي الآن"
"حسنًا"
تمدَّدت إيف بِقُربه وأحاطت نفسها بالفُستان جيدًا، لم تَكُن بعيدة عنه ولم تَكُن قريبة جدًا، لكنَّها قريبة بما فيه الكفاية لتقدِر أن تمد يدها وتقبض على طرفِ قميصه تتمسَّك به.
وفي خلال تلك الأثناء؛ لم ترى إيف ولم تلحظ الحال الذي هو عليه هذا الغريب، فما لحظت هذه الدمعة التي سارت على صدِغه ولم يلحظها هو حتى تمسَّكت بقميصه، فمسح دمعته ونظر لها مُستغربًا.
كانت قد طوت نفسها مثل الأجنة أسفل ذراعه التي يطويها، قريبة منه وتتمسَّك بقميصه، وإن كان ذلك يُشعرها في الأمان؛ فلتبقى... لن يُعارض.
وربما بسببِ هذهِ الفتاة الغريبة يشعر أنَّ هُناكَ أحد يحتاجه لأولِ مرة مُذُّ وقتٍ طويل؛ لذا قرَّر أن يكون مُفيدًا ويُساعد هذه الفتاة أيًا كانت هي.
...
في الصباح الباكِر جدًا؛ ضايقت خيوط الشمس السّاطعة ويفان، وفي العادة؛ هو يستيقظ في مثلِ هذا الوقت؛ فلا مُشكلة إذًا.
نهض وزفر أنفاسه بِعُمق وحرِّك مفاصل عُنقه، في هذا الحين تذكَّر أنه ليس لوحدِه، وأن بصحبته عروس المدينة الهاربة تلك.
إلتفت إلى حيث هي؛ فوجدها تنام بِعُمق، ورغم أنه نبهها بأنهم سينهضون باكرًا؛ لكنه تركها تنام؛ فيبدو عليها أنَّها لم تنم سوى مُذُّ وقتٍ قصير.
منح الفتاة ظهره، وجلس في مطلعِ الشمس؛ كي لا تُضايقها وينعكس عليها ظِل ظهره، ثم تناول حقيبته التي كان يحملها على ظهره.
أخرج الماء، غسل وجهه وأسنانه، ثم ها هو يجلس ويُدخن غليونًا آخر، ولأن ويفان من الصامتين فلا بأس به لو ضلَّ جالسًا هكذا حتى المساء، ينظر إلى القرية من أعلى التل ولا يفعل شيئًا آخر.
وهكذا فعلًا إنقضت عدة ساعات حسبما تُشير ساعة يده والعروس نائمة، ولم يشعر ويفان بالملل وهو ينتظرها أن تستيقظ وحدها؛ فهو ابن الأطلال؛ يُحبُّها وتُحبُّه.
وأخيرًا استيقظت حينما أصبحت الشمس حارَّة في وقتِ الظُّهر عليها، نهضت بإنزعاج تُتمتم.
"يبدو أنَّني سأحترم الرفاهية في الأيام القادمة"
قعدت على الأرض تنظر نحو ظهر الرجل الغريب، ثم تلفَّتت حولها تتفقد لو أن هناك حيوان بري يرغب بالإفطار عليها.
وبما أنَّ المكان نظيف من روح ثالثة فلم ترتاح، بل إقتربت من الغريب وجلست بِجواره تُتمتم.
"صباحُ الخير"
همهم لها، تناول حقيبته يُنقِّب عن شيء وهي رمقته بإمتعاض، أكان سيموت لو ردَّ عليها؟!
وجدته يُخرِج من حقيبته سخّان يحفظ الحرارة، وعُلبة بلاستيكة كما أخرج قطعتين خُبز لم ترى مثله في حياتها.
"ما هذا؟!"
"إفطارنا؟!"
أجابها بنبرةٍ هادئة وهي بلا تصديق قالت.
"ماذا؟!"
لم يَرُد بل بِغطاء السخّان سكب لها الشاي ومدَّ لها قطعة من الخبز عليها من ذلك الشيء الأبيض والذي يقول عنه إفطارنا.
أشاحت بوجهها ترفض أن تأكل ما يقدمه لها، هو وضع ما في يده جانبًا، وأخذ السخان يشرب منه ويأكل قطعة الخُبز مع كُرات اللَّبن التي حضَّرتها له الجدة وونغ.
"إن ما أكلتِ ما أقدمه لكِ قد تموتي جوعًا"
نظرت إلى الطعام الذي خصَّصهُ لها، ثم إليه وهو يأكل.
"هل هذا طعام يؤكل حقًا؟!"
نظر لها مُتنهدًا.
"عليكِ أن تحترمي الطعام هنا؛ لأنَّهُ قليل بالفعل"
برمت شفتيها وأمسكت ببطنها الذي يكاد يتمزَّق جوعًا، آخر مرَّة أكلت وهي في القصر قبل الزفاف.
وجدت أنَّها أصبحت بلا رفاهية إختيار ماذا ومتى تأكل، ومجبورة لتأكل ما يُقدَّم لها لتعيش، إمتدَّت يدها نحو الغطاء الذي تحول لكأس وإلى قطعة الخُبز التي تعلوه.
"اممم!"
نظر لها ويفان بملامح ساخرة.
"للتو كُنتِ تشعرين بالقرف!"
إقتربت منه حتى حاذته تقول بدهشة.
"هذا الشيء الأبيض لذيذ جدًا وهذا الشاي رغم أنه ما عاد ساخنًا لكنَّه شهي وطعمه غريب، ظننتُ أن طعام القُرى رديئ!"
"ليس رديئ... هو فقط قليل"
وبعدما إنتهيا من الطعام نهض يُضبضب أغراضه.
"لدينا طريق طويل علينا إكماله"
سار أمامها وهي خلفه، منظر ظهره جيّد، لكنَّها تُفضِّل أن تسير بجوارِه لا خلفه، فهرولت حتى أدركته، ولكنَّها ما إن أدركته حتى سقطت مُتعثِّرة بالفُستان.
إلتفت ناحيتها وتنهد بأستياء، ثم إقترب منها يُساعدها على النهوض، كان الدَّمعُ طفر في عينيها وهي تشكو له.
"الفُستان ثقيل يُشعرني أنَّني أحملُ جسدًا آخر، من الجيد أنني على الأقل بدَّلتُ الحذاء قبل أن تجدني، لكن ما عاد يسعني أن أسير هكذا"
نظر إلى الفُستان وهمس.
"قِفي بإعتدال"
فعلت كما قال، ثم ويفان إنحنى يجلس على قدميه أمامها، رمقته مُتفاجئة.
"ماذا تفعل؟!"
لم يجبها، ماذا كانت تتوقع؟!
دوَّرت عيناها بأستياء من إستمراره بتجاهلها، ولكن إستياءها لم يَطُل، فلقد شمَّر عن نصف ساقه وأخرج السكين التي يربطها بها.
لم تسأله فهو لن يجيب؛ لكنها إزدرئت رمقها بتوتر، وأما ويفان؛ فلقد أمسك بِقُماس الفُستان وأخذ يُمزِّقُه من حيث يخمن أن تكون رُكبتيها.
استمر في تمزيق الفُستان وهو يدور حولها مُنحنيًّا حتى إنتهى.
"كيف تفعل ذلك؟!"
أمسكت بالفُستان مُتفاجئة، فتقريبًا قد مزَّقه بخطِّ دائري إعوجاجه قليل.
"هيا!"
عادت تسير خلفه فيما تشعر أنها أخاف، هرولت إليه مُجدَّدًا حتى أصبحت بجواره ونبست مُبتسمة.
"القص بالسكين والحصول على هذه النتيجة الجيدة يستلزم مهارة! كيف أنتَ ماهر في كل شيء رأيتُك تفعله للآن؟!"
"إعتدتُ أن أُصمم الفساتين؟!"
"حقًا؟! لأي علامة تجارية؟!"
"للدُمى!"
تهرلا كتفيها ونبست.
"أنتَ أيضًا ماهر في تثبيط المعنويات!"
وبما إنَّ الغريب شحيح الكلام شديد البُخل في التعبير، وهي لا تعرفه كفايّة لتخلق معه حديثًا، ولو فعلت سيقتله فورًا؛ لذا كان لديها الوقت الكافي لتتسآل في جوفها.
ماذا حصل يا تُرى في المدينة؟!
....................................
في شنغهاي...
إنتزعَ الزَّفاف فالعروس هربت؛ لم يَكُ موقفًا عصيبًا وحسب بل وعنيفًا خصوصًا بالنِّسبة لوالد إيف؛ جاكسون كما الخطر كان يُحدِّق به.
إذ دخل والدها ليصطحبها ويسوقها ليد جاكسون؛ لكنَّهُ لم يجدها... حاول التَّستُّر عن إختفائها ريثما يجدها؛ لكن الأوان قد فات وجاكسون بحلولِ هذا الوقت أصبح يعلم ما حصل.
خرجوا الحضور رويدًا رويدًا وليس على إلسنتهم سوى العروس الهاربة والعريس الذي يكاد يشق الأرض للبحثِ عنها.
كان والد إيف بقصرِه، يجلس على إحدى الآرائك وجبينه حصر كفِّ يده، يُفكِّر ويخاف ثم يُفكِّر ويخاف؛ لأن فعلة إبنته لن تنعكس إلا عليه، جاكسون سيقلب حياته جحيم.
كانت عشيقته الثلاثينيّة تجلس على ذراع الأريكة وتُمسِّد كتفيه، لم تكن سعيدة بما حصل بل خائفة... وخائفة جدًا بالحقيقة؛ فلقاء ما فعلته إيف قد يخسروا ثروة ضخمة.
"أنا حقًا لا أفهم تلك الفتاة كي تُفكِّر! بفعلتِها هذه أنهتنا... ما السيء بجاك لترفضه؟!
إنَّهُ ثري، ووسيم، وشاب يافع أيضًا!"
نظر لها السيّد من فوق أهدابه ونبس ببرود ينتزع يديها عن كتفيه.
"وهذا العجوز الثري لم يُجبركِ عليه، أنتِ ركضتِ بقدميكِ إليه"
قضمت على شفاهها، ما كان عليها التحدُّث بما يُخالِجُها سِرًّا بين نفسها ونفسها.
"أنا لم أكن أعنيكَ بكلامي"
لكن قد فات الأوان؛ فهو يعلم أنَّهُ المعني بكلامها.
تجاهلها السيّد متوجِّهًا نحو السُّلم الذي يقود لغرفته في الأعلى؛ لكن أحدهم إقتحم المنزل، قبض السيّد بيده على الدرابزون ودون أن يلتفت ويرى ضيفه المتهجِّم يعرفه؛ جاكسون ومن قد يكون غيره؟!
"أين ابنتك؟!"
صرخ جاكسون والغيظ يأكله، إلتفت إليه العجوز ينبس.
"لو كنتُ أعرف مكانها لكانت الآن أمامك، بالتأكيد هي لن تخبرني أنها هربت وأنا من أجبرها عليك"
إمتلئ ثغر جاكسون بإبتسامة غاضبة واستنكر.
"تجبرها علي؟!"
ثم أومئ جاكسون برأسه، هو يعلم أنَّها مجبورة عليه... لا شك في ذلك.
لكن...
إقترب من والدها يُهدِّد، وجاكسون إن هدَّدَ واستوفى شروط الإيذاء سيؤذي وبكل جسارة وبكل نذالة.
"اسمع أيها العجوز الهرم ما أقوله جيدًا، إن لم تظهر إبنتك ستخسر ثروة بقدرِ ما توقعت أن تكسب مني"
ثم خرج دون أن يزيد حرف، أخذت نايا -عشيقة السيد- بالنواح والتقرُّب منه باكية.
"ماذا سنفعل الآن عزيزي؟!
إيف ستُلقي بنا للتهلُكة بلا شك!"
السيد لا يجد ما يفعله، أين سيبحث؟!
يدري أنها لن تهرب إلى مكان متوقع، هي لا تُخطئ ذات الخطأ مرَّتين.
تنهَّد والعجز يأكله، سينتهي إذًا فلينتهي... سينام أولًا.
.....
وأمّا جاكسون؛ ففورما صعد في سيّارته مدَّ له ساعده الأيمن في العمل -تاو- مُغلَّفًا يحوي بعض الصور.
"هذه الفتاة تُدعى لورين، وهي من هرَّبت الآنسة إيف"
تمعَّن جاكسون في خِلقتها، تلك الملامح ليست غريبة عليه.
"أليس والدها إحدى رجال الأعمال الصّاعدين الذي تقدَّم للعمل في المُناقصة التي تُقدِّمها الشركة؟"
"بلى سيدي، إنَّهُ رجل أعمال كوري ناشئ لدينا"
"رائع! احضر لي رقم هاتفه فورًا"
إستغرق تاو البحث دقائق ثم ها هو يمد الهاتف لسيده.
"ها هو سيدي!"
"نظِّم لهم عشاء في بيتي الليلة"
"أمرُكَ سيّدي"
...
حينما سمع السيد كيم -والد لورين- بالأخبار الجيدة إمتلأ فرحًا واذبهل، وأخبر عائلته أن تتجهَّز سريعًا؛ فهُم الليلة سيدخلون إحدى أكثر القصور بغددة في شنغهاي بأكملِها.
لكن لورين حينما سمعت بالأخبار راودها الخوف، أرادت أن ترفض الدعوة، لكنَّها تعلم أنَّ رفضها لن يأتي بنتيجة، فكما كان يجبرها والدها على التَّودُّد لإيف سيجبرها الآن للقاء جاكسون، ورُبَّما التودُّد له أيضًا... ترجو ألا تصل بها الأمور إلى هذا الحد.
تجهَّزت كما تفعل حينما يأخذها والدها إلى أي عشاء عمل عادي، ستتظاهر أنَّها لا تعرفه ولا تدري عنه شيء.
إرتدت قميص أبيض يعلوه سُترة سوداء وتنوّرة خمريّة اللون تصل ركبتيها، وضعت ساعة في معصميها، وقرطين ناعمين، حقيبتها الصغيرة وكعب عالي في قدمها... وها هي ذا؛ جاهزة.
لم يصمت والدها طول الطريق يتحدَّث عن فرط حماسه للقاء السيد وأمها وهي تسمعانه بعجز؛ أُمها أيضًا لا تُطيق سلوكه المُنفِر حينما يتعلَّق الأمر بالجشع.
وصلت سيارة رولز رويس فانتون، كان قد إشتراها والدها العام الفائت فحسب ويتباهى بها كلما ذهب للقاءٍ مهم، حتى أنَّهُ في أحد المرات عرض عليها أن تتباهى بها أمام إيف؛ ولكن كيف ستتباهى حقًا؟!
فإيف تملك تشكلية من السيارات من أغلى الأنواع في العالم... رولز رويس فانتون، مرسيدي مايباخ، بواغاتي، لامبور غيني وجي كلاس الفاخرة.
يخت شديد الفخامة، وطائرة خاصة، وشاحنة بيت مُتنقِّل فاخرة جدًّا، بخلاف الشقق الفاخرة التي تملكها بأكثر من دولة والقصر في بيكّين الذي باسمها... لورين وكل عائلتها بجانب إيف لا شيء حقًا.
لورين لم تك غيورة بشأن المال إطلاقًا، ولم تتمنى حياة إيف لأنها فاخشة الثراء، هي لم تتمنّاها على الإطلاق؛ فرُغم الثراء الفاحش لم تَكُ إيف سعيدة أبدًا، دفعت ثمن الرفاهية حياة أمها والآن حياتها هي.
"انظروا إلى هذا!"
لم يكن قصرًا بل قلعة وأشد فخامة من القِلاع حتّى، فُغِر ثغر لورين من الدهشة لكنَّها سيطرت على إنفعالها وتصرَّفت بلباقة وتهذيب حينما ولجت القصر بقدميها، وكان بإستقبالهم كهلان، خمَّنت لورين أنهما أبوي جاكسون.
إنخرط الكِبار في الأحاديث ولورين تجلس قُرب أمها ولا تُشارك بالحديث إطلاقًا، فقط كفّيها في حِجرها وتنظر نحو الأرض بشرود.
حتى سمعت صوت شاب يقترب، كان يبتسم فيما يلج ساحة الجلوس، يرتدي بنطال أسود وقميص خمرّي فتَّق أزراره إلى منتصفِ صدرِه؛ لتظهر معالم صدره المُتخمة بالرجولة.
شعره مرفوع عن جبهته ومُصفَّف بعناية، شفتاه تبتسم من زاوية واحدة، وعيناه عليها.
"يبدو أن ضيوفنا وصلوا أخيرًا"
سُرعان ما نهض والدها للترحيب به، فعلت والدتها، وحينما حان دورها لم تقترب منه كما فعلا أبويها، حينها إتسعت إبتسامته واقترب منها بنفسها يمد لها يده وصافحته.
"هذه هي الآنسة الصغيرة، لقد سمعتُ عنها الكثير"
غمز للفتاة التي شعرت بالإرتباك الشديد وحاولت سحب يدها منه لكن عبثًا؛ بدلُا من ذلك شد بيده على يدها حتى آلمها وأخذ يُربِّت على يدها بيده الأخرى.
وهذا قاد لورين إلى نتيجة واحدة... هو يعلم كل شيء بالفعل.
أتت إحدى العاملات تُعلن أنَّ طعام العشاء جاهز، ثم الجميع إجتمعوا على الطاولة، السيد وانغ على رأس الطاولة زوجته على يمينه وجاكسون على يساره.
بجانب السيدة وانغ السيدة كيم ثم لورين، وبجانب جاكسون السيد كيم، أحاديث العمل لم تخلو عن الطاولة؛ فالسيد كيم تحدَّث كثيرًا عن المُناقصة التي يريد أن يعمل عليها لصالحهم.
وتلك كانت اللحظة التي يضع فيها جاكسون الحروف على النِّقاط، إذ وضع سكيّنه وشوكته بلباقة، ثم شبك أصابعه فوق الطاولة يُحدِّث السيد بجانبه رُغم أن بصره على الصبيّة التي تجلس بعيدًا.
"اسمع سيد كيم؛ أنا بجديّة أُفكِّر بمنحِكَ المُناقصة، لكنني أيضًا أُريد شيئًا في المُقابل"
بإرتباكٍ وتوَّتُّر قبضت لورين على تنورتها، وأخفضت رأسها كي لا تلتحم نظراتها المُرتبكة معه.
"أي شيء تطلبه لك سيد جاكسون"
السيد كيم وافق دون أن يدري ما يُريد جاكسون؛ فهو على إستعداد أن يدفع أي ثمن ليأخذ هذه الصفقة التي ستحوله من غني لثري.
والآن نظر جاكسون نحو لورين بِجُرءة ووضوح قائلًا.
"ابنتُك"
سُرعان ما رفعت لورين نظرها إليه وقد إتسعت عيناها وشحب لونها لشدة الخوف، وأما السيد فأزدرئ رمقه ولم يدري ما يقول.
لكن جاكسون إبتسم يُربِّت على كتف كيم.
"أُريد أن أختطفها لبضعِ دقائق فحسب؛ لا تقلق!"
أومئ السيد كيم وتبسَّم بحرج، حينها نهض جاكسون يُقدِّم يده بلباقة نحو لورين؛ وحدها من تعلم أنَّ هذه اللباقة مُصطنعة.
"هل ستكوني بخير؟!"
همست لها السيدة كيم فيما تُمسِك بكتفيها، أومأت لها لورين ووضعت يدها بيد جاكسون... حسنًا؛ هي تتمنَّى أن تبقى بخير.
"نذهب معًا لنحضر بعض زُجاجات النبيذ من القبو"
حسنًا؛ هي ترى زُجاجات النبيذ بالفعل على بار المشروبات في صالة الجلوس.
حاولت سحب يدها منه تقول.
"لكن ها هو النبيذ، لِمَ علي أن أذهب معك إلى القبو؟!"
"حسنًا، لن نذهب إلى القبو، غُرفتي أفضل"
إزدادت مقاومتها له تحاول الإفلات لكن عبثًا لا تنجح.
"عفوًا سيدي؛ لكنَّني لا أريد أن أذهب معك إلى أي مكان، من فضلك اتركني!"
يُحب جاكسون الإستبداد رغم أنَّ ذلك ليس ظاهرًا عليه؛ لذا توسلات الناس إليه تُشبع رغباته المريضة بالهوس والسيطرة.
دفع بها إلى داخل غرفته، وهي توازنت سريعًا قبل أن تسقط أرضًا وإلتفتت له بمعالم واجلة خائفة.
كان قد أغلق الباب عليهما، وأخذ يسير نحوها فيما يضع كفّيه في جيوب بنطاله.
"والآن أيَّتُها الفتاة اللطيفة والبريئة؛ أين إيف؟"
إزدرئت جوفها، ولكنها إستجمعت شجاعتها وأجابته فيما تنظر في عينيه.
"لا أدري، لم أراها من قبل الزفاف، أنا لا أعلم!"
رفع حاجبًا يستنكر.
"حقًا؟!"
أومأت له، فاقترب منها حتى أمسك بيدها واجتذبها لتجلس على الأريكة قبالة التلفاز، حمل جهاز التحكم ووقف خلفها مُتَّكئًا على ظهر الأريكة حيثُ تستند.
ظهرت على التلفاز صور للرجل، الذي وكلته بمهمة مساعدة إيف للهرب وهو يُهرِّبُها، قضمت على شفتيها وقبضت على تنورتها بخوف، وجاكسون تحدَّث.
"كما ترين أنا رجل مسالم، بعثت بعض رجالي إلى هذا الرجل، ضربوه لكمتين فاعترف عليكِ، أنتِ ما رأيك؟ ما زِلتِ لم تَري إيف قبل الزفاف؟!"
مررت يدها على قفا عنقها تمسح العرق وقالت.
"لم تُسبق لي رؤيته، لا أعرفه، لم أراه مُسبقًا، ويبدو أن أحدهم يرغب أن أقع في مُشكلة، أنا لستُ شجاعة كفايّة لأقوم بتهريب أحد أيُّها السيد!"
"كذب... كذب... كذب!"
كان يهمس وصار يصرخ غاضًبا في كل مرة يكرر الكلمة، نشزا كتفي لورين لحدة صُراخه وأغلقت عيناها.
ثم فجأة شعرت به يُمسك بشعرها؛ يجعلها تنهض، ثم يدفعها نحو الحائط وهو يصرخ بها بشراسة.
"دور الفتاة اللطيفة والمسكينة مُقرف عليكِ!"
أشاحت بوجهه عنها وهي تُغمض عيناها بِشدَّة.
"ابتعد عني!"
أمسك ذقنها يجعلها تنظر إليه، وأنفاسه مثل اللهيب على وجهها وعيناه تشتعل غضبًا.
"اسمعي أيَّتُها الحمقاء جيّدًا؛ إن ما عادت إيف وتزوَّجتها سأتزوجكِ أنتِ، والحياة المُرَّة التي كان من المفترض أن تعيشها هي ستعشينها أنتِ؛ بل وأمَر!"
"بماذا تهذي أنت؟!"
صاحت بلا تصديق، ثم شهقت حينما رفع بوجهها سبّابته يُهدِّد.
"خلال شهر واحد فقط، إن لم تَعُد ستكوني مكانها"
دفعت به عنها بِكُلِّ قوَّتِها من صدرِه.
"من تظن نفسكَ أنت؟!
العالم لا يسير تِبعًا لِهواك، وأنا لستُ دُمية بين يديك!"
إرتفع حاجبه يستنكر هذه الشجاعة، واقترب منها مجدَّدًا يوخز صِدغها بطرفِ سبّابته.
"سأشتريكِ كما اشتريتها، الذي يملك المال يملك العالم، وأبوكِ سيكون على إستعداد لبيعكِ لي مُقابل صفقة مُربحة أيَّتُها الآنسة الصغيرة!"
دفعت به عنها بقوة والدموع ظفرت بعينيها، تخشى أنَّ ما يقوله صحيح، تخشى أن يبيعها والدها حقًا؛ لكنَّها واجهتهُ بجُرءة رُغم تذبذب الثقة داخلها.
"قد يحدُث ذلك في أحلامك فقط!"
ثم خرجت سريعًا وتركته خلفها يعض على قبضتيه بأصابعه.
"سنرى إن كانت أحلام!"
.........................
عودةً إلى البرّيّة؛ فبعدما قطع ويفان وإيف مشيًا على الأقدام مسافة طويلة من التَّل حتى السَّهل؛ أخيرًا ها هُما يلجا القرية.
بيوت من طين وقش تنتشر هُنا وهُناك تلتف حولها أسيجة من خشب وأخرى من طين... الأطفال يركضون هُنا وهُناك وضحكاتهم تعلو في السماء رغم وجوههم المُغبرَّة وثيابهم المُمزَّقة.
النِّساء يخبزن كالخُبز الذي قدمه لها الغريب ويطهون الطعام في قدور كبيرة مصنوعة من الفُخّار، وأما الرِّجال؛ فلا ترى سوى المسنون الذين يجلسون على عتبات بيوتهم.
بدى نمط الحياة الذي تراه بعينيها شديد الغرابة، ولم تعلم أن مثل هذه القُرى وهؤلاء الناس ما زالوا موجودين حقًا.
وهي كانت محط أنظار الجميع، فهي فتاة ترتدي فُستان مُتلألئ غريب وثقيل، لها هالة مُختلفة عنهم، يفوح من مظهرها الترف والغِنى رُغمَّ أنَّها في أسوء حالاتها على الإطلاق.
الأطفال ركضوا ناحية ويفان يرحبون به فيما يتلصصون النظر على الفتاة الغريبة عنهم، شأنها شأنه.
"مُعلِّم من هذه الفتاة التي تُرافقك؟!"
ربَّتَ على رؤوس الأطفال يُجيبهم.
"زوجتي"
...................................
يُتبَع...
"الرَّجُل الذي لا يخاف"
"العندليب والبرّيّة"
7th/Jun/2021
........................................
بطل:
العندليب والبرّيّة||Th Nightingale and the Wild
"الرجل الذي لا يخاف"
...
إستمرَّت إيف بالسّيرِ خلف الرَّجُل الغريب ذاك، ومُذُّ تحذيره الأخير لها بالصَّمت إلتزمته؛ خوفًا من أن يُقدِم على تنفيذ تهديده ويُتركها هُنا وحدها.
وهذا الرَّجُل الغريب يمشي بِبُطء بين الأحراش وهو يحمل بُندقيَّته على كتفه، ويضع غليونه الثَّخين في فمِه يُدخِّن.
"هل ما زال الطريقُ طويل؟!"
إلتفت لها برأسِه فرفعت يداها تقول.
"حسنًا سأصمت"
تابع سيره بهذا الصمت المُتقع حتى أدرك تَل، جلس عليه ثم فعلت هي من بعده.
"واو!"
نبست بتلك مُتفاجئة حينما رأت أضواء القرية تُنير في السهلِ أسفل التَّل.
"هل هذه قريتك؟!"
أومئ برأسه، ثم تمدَّد على الأرض؛ يزفر أنفاسه براحة، ووضع يده أسفل رأسه؛ يُغمِض عينيه.
"نامي الآن"
"ها؟!"
نظرت إلى نفسِها، ثم إلى المكان، ثم إلى هذا الرجل الغريب، الذي يبدو وكأنَّهُ ينام في بيتِه لا في الغابة.
"عفوًا؟!
ولكن كيف سأنام وأنا أرتدي فُستان زفاف، وأين سأنام، في البرّيّة هكذا؟!"
دون أن يُحرِّك طرفًا أجاب.
"تعوَّدي أن تكوني برّيّة وإلا لن تتمكَّني من النَّجاة، لا في البراري ولا حتى في المُدن"
لم تَجِد ما تقوله سوى أن تتصرَّف بغباء.
"نحنُ هُنا نتحدث عن كيف وأين سأنام"
منحها ظهره وقرَّرَ أن ينام، ولتتدبَّر هذهِ البلهاء أمورها بنفسِها.
"أنت! الآن هل أنتَ نِمت؟!"
وحينما لم يجبها تباكت.
"ماذا إن هاجمنا حيوان برّيّ؟!"
"لن يحدث"
روى خوفها بكلمتين فقط وعاد للنوم، إيف تنهدت وهي تتفقَّد المكان بعينيها، وللأسفِ عيناها لا تُساعد كثيرًا، فالعتمة طامسة تَطمُس الرؤية.
في النِّهاية قرَّرت ألا تنام وتسهر لحماية نفسها على الأقل من الحيوانات التي قد تظهر لها، تنهَّد ويفان حينما أفاق الفجر ورآها جالسة وعاد للنومِ ثانيةً.
"إن كُنتِ تظني أنَّ في القرية ينتظركِ سرير من ريشِ النَّعام فأنتِ مُخطئة، نامي وإلا لن تنامي حتى عشيّة الغد"
سُرعان ما ردَّت بِنبرة مُرتعِشة.
"أنا خائفة، إن كُنتَ لا تتفهَّم خوفي احترمه على الأقل"
يتفهَّم ويحترم الخوف؟!
لا يدري إن كان عليه القول أنَّهُ يفهم ويحترم الخوف، لكنَّهُ لا يخاف، خوفه على نفسه إنتزعه من صدرِه مُذُّ وقتٍ طويل، لا يخشى على شيء ولا يخشى على نفسه من شيء.
الحياة علَّمتهُ دروسًا قاسيّة؛ جعلتهُ ينفُر منها ويكرهها، ويريد أن يتخلَّص منها، لكنَّها تقبض عليه بأسنانها، ولا تدعه يمضي ويتركها.
الحياة مثل أُمٍ برّيّة، إن جاعت أكلت أطفالها...
قعد على الأرض ونظر إلى عروس المدينة هذه.
"لن يقتطفكِ الموت وأنتِ معي قبل أن يقتطفني، والحياة تنشب أظافرها في جلدي ولا تتركني.
لقد نمتُ في البراري أكثر مِما أستطيع أن أعُد وما زلتُ قطعة واحدة كما ترين، لن أجعلكِ تنامي في مكان يَحفُّه الخطر من الأصل، فلا تخافي ونامي!"
وأخيرًا هذا اللسان الذي بجوفه نطق جُملة كاملة وكافيّة لِتُشعرها ولو بالقليل من الآمان معه.
"أنا آمنة حقًا هُنا ومعك؟!"
أومئ لها فأومأت وهي تزدرئ جوفها وقالت.
"حسنًا، سأثق بكَ وأنام قُربك، لكن لا تُعطيني ظهرك من فضلك، أنتَ الظهر الوحيد الذي أستند عليه الآن"
تردَّد صوتٌ يألفه ويحبه جدًا في رأسه حينما سمع ذات الجُملة من صوتِها.
"أنتَ الظهر الوحيد الذي أستند عليه كريس"
نفض رأسه ينفض هذا الصوت عنه؛ الذي رغم أنَّهُ يُحبه وأشتاق له وأشتاق لمُلاقتِه إلا أنَّهُ يؤلمه، يؤلمه جدًا بطريقة لا يُطيقها.
إلتفت لينام على ظهره، وضع يده فوق عينيه وقال.
"نامي الآن"
"حسنًا"
تمدَّدت إيف بِقُربه وأحاطت نفسها بالفُستان جيدًا، لم تَكُن بعيدة عنه ولم تَكُن قريبة جدًا، لكنَّها قريبة بما فيه الكفاية لتقدِر أن تمد يدها وتقبض على طرفِ قميصه تتمسَّك به.
وفي خلال تلك الأثناء؛ لم ترى إيف ولم تلحظ الحال الذي هو عليه هذا الغريب، فما لحظت هذه الدمعة التي سارت على صدِغه ولم يلحظها هو حتى تمسَّكت بقميصه، فمسح دمعته ونظر لها مُستغربًا.
كانت قد طوت نفسها مثل الأجنة أسفل ذراعه التي يطويها، قريبة منه وتتمسَّك بقميصه، وإن كان ذلك يُشعرها في الأمان؛ فلتبقى... لن يُعارض.
وربما بسببِ هذهِ الفتاة الغريبة يشعر أنَّ هُناكَ أحد يحتاجه لأولِ مرة مُذُّ وقتٍ طويل؛ لذا قرَّر أن يكون مُفيدًا ويُساعد هذه الفتاة أيًا كانت هي.
...
في الصباح الباكِر جدًا؛ ضايقت خيوط الشمس السّاطعة ويفان، وفي العادة؛ هو يستيقظ في مثلِ هذا الوقت؛ فلا مُشكلة إذًا.
نهض وزفر أنفاسه بِعُمق وحرِّك مفاصل عُنقه، في هذا الحين تذكَّر أنه ليس لوحدِه، وأن بصحبته عروس المدينة الهاربة تلك.
إلتفت إلى حيث هي؛ فوجدها تنام بِعُمق، ورغم أنه نبهها بأنهم سينهضون باكرًا؛ لكنه تركها تنام؛ فيبدو عليها أنَّها لم تنم سوى مُذُّ وقتٍ قصير.
منح الفتاة ظهره، وجلس في مطلعِ الشمس؛ كي لا تُضايقها وينعكس عليها ظِل ظهره، ثم تناول حقيبته التي كان يحملها على ظهره.
أخرج الماء، غسل وجهه وأسنانه، ثم ها هو يجلس ويُدخن غليونًا آخر، ولأن ويفان من الصامتين فلا بأس به لو ضلَّ جالسًا هكذا حتى المساء، ينظر إلى القرية من أعلى التل ولا يفعل شيئًا آخر.
وهكذا فعلًا إنقضت عدة ساعات حسبما تُشير ساعة يده والعروس نائمة، ولم يشعر ويفان بالملل وهو ينتظرها أن تستيقظ وحدها؛ فهو ابن الأطلال؛ يُحبُّها وتُحبُّه.
وأخيرًا استيقظت حينما أصبحت الشمس حارَّة في وقتِ الظُّهر عليها، نهضت بإنزعاج تُتمتم.
"يبدو أنَّني سأحترم الرفاهية في الأيام القادمة"
قعدت على الأرض تنظر نحو ظهر الرجل الغريب، ثم تلفَّتت حولها تتفقد لو أن هناك حيوان بري يرغب بالإفطار عليها.
وبما أنَّ المكان نظيف من روح ثالثة فلم ترتاح، بل إقتربت من الغريب وجلست بِجواره تُتمتم.
"صباحُ الخير"
همهم لها، تناول حقيبته يُنقِّب عن شيء وهي رمقته بإمتعاض، أكان سيموت لو ردَّ عليها؟!
وجدته يُخرِج من حقيبته سخّان يحفظ الحرارة، وعُلبة بلاستيكة كما أخرج قطعتين خُبز لم ترى مثله في حياتها.
"ما هذا؟!"
"إفطارنا؟!"
أجابها بنبرةٍ هادئة وهي بلا تصديق قالت.
"ماذا؟!"
لم يَرُد بل بِغطاء السخّان سكب لها الشاي ومدَّ لها قطعة من الخبز عليها من ذلك الشيء الأبيض والذي يقول عنه إفطارنا.
أشاحت بوجهها ترفض أن تأكل ما يقدمه لها، هو وضع ما في يده جانبًا، وأخذ السخان يشرب منه ويأكل قطعة الخُبز مع كُرات اللَّبن التي حضَّرتها له الجدة وونغ.
"إن ما أكلتِ ما أقدمه لكِ قد تموتي جوعًا"
نظرت إلى الطعام الذي خصَّصهُ لها، ثم إليه وهو يأكل.
"هل هذا طعام يؤكل حقًا؟!"
نظر لها مُتنهدًا.
"عليكِ أن تحترمي الطعام هنا؛ لأنَّهُ قليل بالفعل"
برمت شفتيها وأمسكت ببطنها الذي يكاد يتمزَّق جوعًا، آخر مرَّة أكلت وهي في القصر قبل الزفاف.
وجدت أنَّها أصبحت بلا رفاهية إختيار ماذا ومتى تأكل، ومجبورة لتأكل ما يُقدَّم لها لتعيش، إمتدَّت يدها نحو الغطاء الذي تحول لكأس وإلى قطعة الخُبز التي تعلوه.
"اممم!"
نظر لها ويفان بملامح ساخرة.
"للتو كُنتِ تشعرين بالقرف!"
إقتربت منه حتى حاذته تقول بدهشة.
"هذا الشيء الأبيض لذيذ جدًا وهذا الشاي رغم أنه ما عاد ساخنًا لكنَّه شهي وطعمه غريب، ظننتُ أن طعام القُرى رديئ!"
"ليس رديئ... هو فقط قليل"
وبعدما إنتهيا من الطعام نهض يُضبضب أغراضه.
"لدينا طريق طويل علينا إكماله"
سار أمامها وهي خلفه، منظر ظهره جيّد، لكنَّها تُفضِّل أن تسير بجوارِه لا خلفه، فهرولت حتى أدركته، ولكنَّها ما إن أدركته حتى سقطت مُتعثِّرة بالفُستان.
إلتفت ناحيتها وتنهد بأستياء، ثم إقترب منها يُساعدها على النهوض، كان الدَّمعُ طفر في عينيها وهي تشكو له.
"الفُستان ثقيل يُشعرني أنَّني أحملُ جسدًا آخر، من الجيد أنني على الأقل بدَّلتُ الحذاء قبل أن تجدني، لكن ما عاد يسعني أن أسير هكذا"
نظر إلى الفُستان وهمس.
"قِفي بإعتدال"
فعلت كما قال، ثم ويفان إنحنى يجلس على قدميه أمامها، رمقته مُتفاجئة.
"ماذا تفعل؟!"
لم يجبها، ماذا كانت تتوقع؟!
دوَّرت عيناها بأستياء من إستمراره بتجاهلها، ولكن إستياءها لم يَطُل، فلقد شمَّر عن نصف ساقه وأخرج السكين التي يربطها بها.
لم تسأله فهو لن يجيب؛ لكنها إزدرئت رمقها بتوتر، وأما ويفان؛ فلقد أمسك بِقُماس الفُستان وأخذ يُمزِّقُه من حيث يخمن أن تكون رُكبتيها.
استمر في تمزيق الفُستان وهو يدور حولها مُنحنيًّا حتى إنتهى.
"كيف تفعل ذلك؟!"
أمسكت بالفُستان مُتفاجئة، فتقريبًا قد مزَّقه بخطِّ دائري إعوجاجه قليل.
"هيا!"
عادت تسير خلفه فيما تشعر أنها أخاف، هرولت إليه مُجدَّدًا حتى أصبحت بجواره ونبست مُبتسمة.
"القص بالسكين والحصول على هذه النتيجة الجيدة يستلزم مهارة! كيف أنتَ ماهر في كل شيء رأيتُك تفعله للآن؟!"
"إعتدتُ أن أُصمم الفساتين؟!"
"حقًا؟! لأي علامة تجارية؟!"
"للدُمى!"
تهرلا كتفيها ونبست.
"أنتَ أيضًا ماهر في تثبيط المعنويات!"
وبما إنَّ الغريب شحيح الكلام شديد البُخل في التعبير، وهي لا تعرفه كفايّة لتخلق معه حديثًا، ولو فعلت سيقتله فورًا؛ لذا كان لديها الوقت الكافي لتتسآل في جوفها.
ماذا حصل يا تُرى في المدينة؟!
....................................
في شنغهاي...
إنتزعَ الزَّفاف فالعروس هربت؛ لم يَكُ موقفًا عصيبًا وحسب بل وعنيفًا خصوصًا بالنِّسبة لوالد إيف؛ جاكسون كما الخطر كان يُحدِّق به.
إذ دخل والدها ليصطحبها ويسوقها ليد جاكسون؛ لكنَّهُ لم يجدها... حاول التَّستُّر عن إختفائها ريثما يجدها؛ لكن الأوان قد فات وجاكسون بحلولِ هذا الوقت أصبح يعلم ما حصل.
خرجوا الحضور رويدًا رويدًا وليس على إلسنتهم سوى العروس الهاربة والعريس الذي يكاد يشق الأرض للبحثِ عنها.
كان والد إيف بقصرِه، يجلس على إحدى الآرائك وجبينه حصر كفِّ يده، يُفكِّر ويخاف ثم يُفكِّر ويخاف؛ لأن فعلة إبنته لن تنعكس إلا عليه، جاكسون سيقلب حياته جحيم.
كانت عشيقته الثلاثينيّة تجلس على ذراع الأريكة وتُمسِّد كتفيه، لم تكن سعيدة بما حصل بل خائفة... وخائفة جدًا بالحقيقة؛ فلقاء ما فعلته إيف قد يخسروا ثروة ضخمة.
"أنا حقًا لا أفهم تلك الفتاة كي تُفكِّر! بفعلتِها هذه أنهتنا... ما السيء بجاك لترفضه؟!
إنَّهُ ثري، ووسيم، وشاب يافع أيضًا!"
نظر لها السيّد من فوق أهدابه ونبس ببرود ينتزع يديها عن كتفيه.
"وهذا العجوز الثري لم يُجبركِ عليه، أنتِ ركضتِ بقدميكِ إليه"
قضمت على شفاهها، ما كان عليها التحدُّث بما يُخالِجُها سِرًّا بين نفسها ونفسها.
"أنا لم أكن أعنيكَ بكلامي"
لكن قد فات الأوان؛ فهو يعلم أنَّهُ المعني بكلامها.
تجاهلها السيّد متوجِّهًا نحو السُّلم الذي يقود لغرفته في الأعلى؛ لكن أحدهم إقتحم المنزل، قبض السيّد بيده على الدرابزون ودون أن يلتفت ويرى ضيفه المتهجِّم يعرفه؛ جاكسون ومن قد يكون غيره؟!
"أين ابنتك؟!"
صرخ جاكسون والغيظ يأكله، إلتفت إليه العجوز ينبس.
"لو كنتُ أعرف مكانها لكانت الآن أمامك، بالتأكيد هي لن تخبرني أنها هربت وأنا من أجبرها عليك"
إمتلئ ثغر جاكسون بإبتسامة غاضبة واستنكر.
"تجبرها علي؟!"
ثم أومئ جاكسون برأسه، هو يعلم أنَّها مجبورة عليه... لا شك في ذلك.
لكن...
إقترب من والدها يُهدِّد، وجاكسون إن هدَّدَ واستوفى شروط الإيذاء سيؤذي وبكل جسارة وبكل نذالة.
"اسمع أيها العجوز الهرم ما أقوله جيدًا، إن لم تظهر إبنتك ستخسر ثروة بقدرِ ما توقعت أن تكسب مني"
ثم خرج دون أن يزيد حرف، أخذت نايا -عشيقة السيد- بالنواح والتقرُّب منه باكية.
"ماذا سنفعل الآن عزيزي؟!
إيف ستُلقي بنا للتهلُكة بلا شك!"
السيد لا يجد ما يفعله، أين سيبحث؟!
يدري أنها لن تهرب إلى مكان متوقع، هي لا تُخطئ ذات الخطأ مرَّتين.
تنهَّد والعجز يأكله، سينتهي إذًا فلينتهي... سينام أولًا.
.....
وأمّا جاكسون؛ ففورما صعد في سيّارته مدَّ له ساعده الأيمن في العمل -تاو- مُغلَّفًا يحوي بعض الصور.
"هذه الفتاة تُدعى لورين، وهي من هرَّبت الآنسة إيف"
تمعَّن جاكسون في خِلقتها، تلك الملامح ليست غريبة عليه.
"أليس والدها إحدى رجال الأعمال الصّاعدين الذي تقدَّم للعمل في المُناقصة التي تُقدِّمها الشركة؟"
"بلى سيدي، إنَّهُ رجل أعمال كوري ناشئ لدينا"
"رائع! احضر لي رقم هاتفه فورًا"
إستغرق تاو البحث دقائق ثم ها هو يمد الهاتف لسيده.
"ها هو سيدي!"
"نظِّم لهم عشاء في بيتي الليلة"
"أمرُكَ سيّدي"
...
حينما سمع السيد كيم -والد لورين- بالأخبار الجيدة إمتلأ فرحًا واذبهل، وأخبر عائلته أن تتجهَّز سريعًا؛ فهُم الليلة سيدخلون إحدى أكثر القصور بغددة في شنغهاي بأكملِها.
لكن لورين حينما سمعت بالأخبار راودها الخوف، أرادت أن ترفض الدعوة، لكنَّها تعلم أنَّ رفضها لن يأتي بنتيجة، فكما كان يجبرها والدها على التَّودُّد لإيف سيجبرها الآن للقاء جاكسون، ورُبَّما التودُّد له أيضًا... ترجو ألا تصل بها الأمور إلى هذا الحد.
تجهَّزت كما تفعل حينما يأخذها والدها إلى أي عشاء عمل عادي، ستتظاهر أنَّها لا تعرفه ولا تدري عنه شيء.
إرتدت قميص أبيض يعلوه سُترة سوداء وتنوّرة خمريّة اللون تصل ركبتيها، وضعت ساعة في معصميها، وقرطين ناعمين، حقيبتها الصغيرة وكعب عالي في قدمها... وها هي ذا؛ جاهزة.
لم يصمت والدها طول الطريق يتحدَّث عن فرط حماسه للقاء السيد وأمها وهي تسمعانه بعجز؛ أُمها أيضًا لا تُطيق سلوكه المُنفِر حينما يتعلَّق الأمر بالجشع.
وصلت سيارة رولز رويس فانتون، كان قد إشتراها والدها العام الفائت فحسب ويتباهى بها كلما ذهب للقاءٍ مهم، حتى أنَّهُ في أحد المرات عرض عليها أن تتباهى بها أمام إيف؛ ولكن كيف ستتباهى حقًا؟!
فإيف تملك تشكلية من السيارات من أغلى الأنواع في العالم... رولز رويس فانتون، مرسيدي مايباخ، بواغاتي، لامبور غيني وجي كلاس الفاخرة.
يخت شديد الفخامة، وطائرة خاصة، وشاحنة بيت مُتنقِّل فاخرة جدًّا، بخلاف الشقق الفاخرة التي تملكها بأكثر من دولة والقصر في بيكّين الذي باسمها... لورين وكل عائلتها بجانب إيف لا شيء حقًا.
لورين لم تك غيورة بشأن المال إطلاقًا، ولم تتمنى حياة إيف لأنها فاخشة الثراء، هي لم تتمنّاها على الإطلاق؛ فرُغم الثراء الفاحش لم تَكُ إيف سعيدة أبدًا، دفعت ثمن الرفاهية حياة أمها والآن حياتها هي.
"انظروا إلى هذا!"
لم يكن قصرًا بل قلعة وأشد فخامة من القِلاع حتّى، فُغِر ثغر لورين من الدهشة لكنَّها سيطرت على إنفعالها وتصرَّفت بلباقة وتهذيب حينما ولجت القصر بقدميها، وكان بإستقبالهم كهلان، خمَّنت لورين أنهما أبوي جاكسون.
إنخرط الكِبار في الأحاديث ولورين تجلس قُرب أمها ولا تُشارك بالحديث إطلاقًا، فقط كفّيها في حِجرها وتنظر نحو الأرض بشرود.
حتى سمعت صوت شاب يقترب، كان يبتسم فيما يلج ساحة الجلوس، يرتدي بنطال أسود وقميص خمرّي فتَّق أزراره إلى منتصفِ صدرِه؛ لتظهر معالم صدره المُتخمة بالرجولة.
شعره مرفوع عن جبهته ومُصفَّف بعناية، شفتاه تبتسم من زاوية واحدة، وعيناه عليها.
"يبدو أن ضيوفنا وصلوا أخيرًا"
سُرعان ما نهض والدها للترحيب به، فعلت والدتها، وحينما حان دورها لم تقترب منه كما فعلا أبويها، حينها إتسعت إبتسامته واقترب منها بنفسها يمد لها يده وصافحته.
"هذه هي الآنسة الصغيرة، لقد سمعتُ عنها الكثير"
غمز للفتاة التي شعرت بالإرتباك الشديد وحاولت سحب يدها منه لكن عبثًا؛ بدلُا من ذلك شد بيده على يدها حتى آلمها وأخذ يُربِّت على يدها بيده الأخرى.
وهذا قاد لورين إلى نتيجة واحدة... هو يعلم كل شيء بالفعل.
أتت إحدى العاملات تُعلن أنَّ طعام العشاء جاهز، ثم الجميع إجتمعوا على الطاولة، السيد وانغ على رأس الطاولة زوجته على يمينه وجاكسون على يساره.
بجانب السيدة وانغ السيدة كيم ثم لورين، وبجانب جاكسون السيد كيم، أحاديث العمل لم تخلو عن الطاولة؛ فالسيد كيم تحدَّث كثيرًا عن المُناقصة التي يريد أن يعمل عليها لصالحهم.
وتلك كانت اللحظة التي يضع فيها جاكسون الحروف على النِّقاط، إذ وضع سكيّنه وشوكته بلباقة، ثم شبك أصابعه فوق الطاولة يُحدِّث السيد بجانبه رُغم أن بصره على الصبيّة التي تجلس بعيدًا.
"اسمع سيد كيم؛ أنا بجديّة أُفكِّر بمنحِكَ المُناقصة، لكنني أيضًا أُريد شيئًا في المُقابل"
بإرتباكٍ وتوَّتُّر قبضت لورين على تنورتها، وأخفضت رأسها كي لا تلتحم نظراتها المُرتبكة معه.
"أي شيء تطلبه لك سيد جاكسون"
السيد كيم وافق دون أن يدري ما يُريد جاكسون؛ فهو على إستعداد أن يدفع أي ثمن ليأخذ هذه الصفقة التي ستحوله من غني لثري.
والآن نظر جاكسون نحو لورين بِجُرءة ووضوح قائلًا.
"ابنتُك"
سُرعان ما رفعت لورين نظرها إليه وقد إتسعت عيناها وشحب لونها لشدة الخوف، وأما السيد فأزدرئ رمقه ولم يدري ما يقول.
لكن جاكسون إبتسم يُربِّت على كتف كيم.
"أُريد أن أختطفها لبضعِ دقائق فحسب؛ لا تقلق!"
أومئ السيد كيم وتبسَّم بحرج، حينها نهض جاكسون يُقدِّم يده بلباقة نحو لورين؛ وحدها من تعلم أنَّ هذه اللباقة مُصطنعة.
"هل ستكوني بخير؟!"
همست لها السيدة كيم فيما تُمسِك بكتفيها، أومأت لها لورين ووضعت يدها بيد جاكسون... حسنًا؛ هي تتمنَّى أن تبقى بخير.
"نذهب معًا لنحضر بعض زُجاجات النبيذ من القبو"
حسنًا؛ هي ترى زُجاجات النبيذ بالفعل على بار المشروبات في صالة الجلوس.
حاولت سحب يدها منه تقول.
"لكن ها هو النبيذ، لِمَ علي أن أذهب معك إلى القبو؟!"
"حسنًا، لن نذهب إلى القبو، غُرفتي أفضل"
إزدادت مقاومتها له تحاول الإفلات لكن عبثًا لا تنجح.
"عفوًا سيدي؛ لكنَّني لا أريد أن أذهب معك إلى أي مكان، من فضلك اتركني!"
يُحب جاكسون الإستبداد رغم أنَّ ذلك ليس ظاهرًا عليه؛ لذا توسلات الناس إليه تُشبع رغباته المريضة بالهوس والسيطرة.
دفع بها إلى داخل غرفته، وهي توازنت سريعًا قبل أن تسقط أرضًا وإلتفتت له بمعالم واجلة خائفة.
كان قد أغلق الباب عليهما، وأخذ يسير نحوها فيما يضع كفّيه في جيوب بنطاله.
"والآن أيَّتُها الفتاة اللطيفة والبريئة؛ أين إيف؟"
إزدرئت جوفها، ولكنها إستجمعت شجاعتها وأجابته فيما تنظر في عينيه.
"لا أدري، لم أراها من قبل الزفاف، أنا لا أعلم!"
رفع حاجبًا يستنكر.
"حقًا؟!"
أومأت له، فاقترب منها حتى أمسك بيدها واجتذبها لتجلس على الأريكة قبالة التلفاز، حمل جهاز التحكم ووقف خلفها مُتَّكئًا على ظهر الأريكة حيثُ تستند.
ظهرت على التلفاز صور للرجل، الذي وكلته بمهمة مساعدة إيف للهرب وهو يُهرِّبُها، قضمت على شفتيها وقبضت على تنورتها بخوف، وجاكسون تحدَّث.
"كما ترين أنا رجل مسالم، بعثت بعض رجالي إلى هذا الرجل، ضربوه لكمتين فاعترف عليكِ، أنتِ ما رأيك؟ ما زِلتِ لم تَري إيف قبل الزفاف؟!"
مررت يدها على قفا عنقها تمسح العرق وقالت.
"لم تُسبق لي رؤيته، لا أعرفه، لم أراه مُسبقًا، ويبدو أن أحدهم يرغب أن أقع في مُشكلة، أنا لستُ شجاعة كفايّة لأقوم بتهريب أحد أيُّها السيد!"
"كذب... كذب... كذب!"
كان يهمس وصار يصرخ غاضًبا في كل مرة يكرر الكلمة، نشزا كتفي لورين لحدة صُراخه وأغلقت عيناها.
ثم فجأة شعرت به يُمسك بشعرها؛ يجعلها تنهض، ثم يدفعها نحو الحائط وهو يصرخ بها بشراسة.
"دور الفتاة اللطيفة والمسكينة مُقرف عليكِ!"
أشاحت بوجهه عنها وهي تُغمض عيناها بِشدَّة.
"ابتعد عني!"
أمسك ذقنها يجعلها تنظر إليه، وأنفاسه مثل اللهيب على وجهها وعيناه تشتعل غضبًا.
"اسمعي أيَّتُها الحمقاء جيّدًا؛ إن ما عادت إيف وتزوَّجتها سأتزوجكِ أنتِ، والحياة المُرَّة التي كان من المفترض أن تعيشها هي ستعشينها أنتِ؛ بل وأمَر!"
"بماذا تهذي أنت؟!"
صاحت بلا تصديق، ثم شهقت حينما رفع بوجهها سبّابته يُهدِّد.
"خلال شهر واحد فقط، إن لم تَعُد ستكوني مكانها"
دفعت به عنها بِكُلِّ قوَّتِها من صدرِه.
"من تظن نفسكَ أنت؟!
العالم لا يسير تِبعًا لِهواك، وأنا لستُ دُمية بين يديك!"
إرتفع حاجبه يستنكر هذه الشجاعة، واقترب منها مجدَّدًا يوخز صِدغها بطرفِ سبّابته.
"سأشتريكِ كما اشتريتها، الذي يملك المال يملك العالم، وأبوكِ سيكون على إستعداد لبيعكِ لي مُقابل صفقة مُربحة أيَّتُها الآنسة الصغيرة!"
دفعت به عنها بقوة والدموع ظفرت بعينيها، تخشى أنَّ ما يقوله صحيح، تخشى أن يبيعها والدها حقًا؛ لكنَّها واجهتهُ بجُرءة رُغم تذبذب الثقة داخلها.
"قد يحدُث ذلك في أحلامك فقط!"
ثم خرجت سريعًا وتركته خلفها يعض على قبضتيه بأصابعه.
"سنرى إن كانت أحلام!"
.........................
عودةً إلى البرّيّة؛ فبعدما قطع ويفان وإيف مشيًا على الأقدام مسافة طويلة من التَّل حتى السَّهل؛ أخيرًا ها هُما يلجا القرية.
بيوت من طين وقش تنتشر هُنا وهُناك تلتف حولها أسيجة من خشب وأخرى من طين... الأطفال يركضون هُنا وهُناك وضحكاتهم تعلو في السماء رغم وجوههم المُغبرَّة وثيابهم المُمزَّقة.
النِّساء يخبزن كالخُبز الذي قدمه لها الغريب ويطهون الطعام في قدور كبيرة مصنوعة من الفُخّار، وأما الرِّجال؛ فلا ترى سوى المسنون الذين يجلسون على عتبات بيوتهم.
بدى نمط الحياة الذي تراه بعينيها شديد الغرابة، ولم تعلم أن مثل هذه القُرى وهؤلاء الناس ما زالوا موجودين حقًا.
وهي كانت محط أنظار الجميع، فهي فتاة ترتدي فُستان مُتلألئ غريب وثقيل، لها هالة مُختلفة عنهم، يفوح من مظهرها الترف والغِنى رُغمَّ أنَّها في أسوء حالاتها على الإطلاق.
الأطفال ركضوا ناحية ويفان يرحبون به فيما يتلصصون النظر على الفتاة الغريبة عنهم، شأنها شأنه.
"مُعلِّم من هذه الفتاة التي تُرافقك؟!"
ربَّتَ على رؤوس الأطفال يُجيبهم.
"زوجتي"
...................................
يُتبَع...
"الرَّجُل الذي لا يخاف"
"العندليب والبرّيّة"
7th/Jun/2021
........................................
Коментарі