01
العودة، الرجوع، الإنتماء ... كلماتّ أبهجتها عندما حدّثها أباها عنها. أوهمها أنها ستعود إلى التربة التي انتُزعت منها.
عاد هو، عاد إلى وطنه، إلى بلده وتربته. أما هي فتربة وطنه ِكانت بالنسبة لها تربة مالحة أخرى لا تناسبها ولا تصلح لتعيش بها.
ما إن حطّت طائرتهم في مطار سيئول واستنشقت هوائها الرّطب، حتى أدركت أنها لن تجد الراحة في هذا المكان.
لم تشأ بريسا ترك المطار والتعمق بتلك المدينة، ولم ترغب بالعودة، أرادت البقاء في المطار وحسب، ما بينَ بينْ.
يومها سجّلت في مدونتها هدفها المستقبليّ الجديد .. مُضيفة طيران.
عملٌ يناسب متعددي الجنسيات أو بالأصح الهجينين اللذين لا ينتمون لبلد معين ولايشبهون نمطاً واحداً من البشر.
للتوضيح أكثر، أشخاصاً مثلها.
لم تجد بريسا يوماً الراحة في أميركا لأنها تحمل شيئاً من ملامح والدها الكوريّ. ولم تكن متفائلةً بإيجادها هنا في كوريا لأنها تحمل الكثير من ملامح والدتها الأمريكية.
بل إن إحساساً قوياً بالشؤم ظلّ يعتصر قلبها طوال الرحلة. إحساس يخبرها أنها مُقبلة على أسوأ أيام حياتها.
الطريق من المطار إلى المنزل كانت طويلةً أيضاً و مشحونةً بإيجابية وحديث والدها اللذان لم يستطيعا إسعاد بريسا ولو بمقدار حبّةِ أرزّ .. وعلى ذكر الأرز، هي تكره الأرز الذي سيتوجب عليها أكله هنا بكثرة.
و الأغنية الكورية القديمة من زمن التسعينات التي كان والدها قد شغلها في السيارة، تلك بالذات، زادت من اكتئابها.
..............
..............
الهدوء والسكينة والأمان هي ما يطمح له الإنسان العاقل ويعمل لأجله .. لكن حين تنسلّ الوحدة إلى حياته تصبح السكينة والأمان والهدوء ثلاث مسميات لمعنى واحد .. الملل.
الملل ينتج عن الوحدة والوحدة تنتج عن عشرات الأسباب.
إنها كالعلقة، كالنبات المتسلق، تلتصق بك وتقتلك ببطء، تستنزفك مهما كنت شخصاً نشيطاً، اجتماعياً ومتفائلاً، كتشانيول مثلاً.
شابٌ في التاسعةِ عشر يعيش حياة عجائز السبعينات مُرغماً.
أحلامه، لهفته للاحتكاك بالناس، شوقه للاكتشاف، حاجته للحديث والمرح، كلها مدفونة في حيٍّ هادئ ومنزل لطيف، ذو حديقةٍ خضراء وشجرةٍ هفهافةٍ معمّرة تتوسطها.
قضاؤه عطلة الصيف في منزل جدّيه كانت فكرة أليفة و طيبة، لكن على أرض الواقع سببت له الاكتئاب.
روحه النشطة الباحثة عن النشوة باستمرار اصطدمت بغبار القبو، صور الأبيض والأسود والجيران العجائز الذين يتذمرون باستمرار من سماع أي أغنيةٍ رائجة، أو رؤيته يقوم بأي نشاطٍ شبابي ولو مع نفسه.
داخل المنزل لم يكن أفضل.
أقصى نشاطٍ كان يقوم به هو الاستماع لشخير جده حين يغفى على كرسيه أو تدليك كتفي جدته و صنع حساء فول الصويا معها.
لم يُقاوم تشانيول تلك الحالةَ كثيراً، بل استسلم لها وتركها تسحب منه همّته وتحفّزه و تركها تجمّد حركته حتى صار كأي قطعةِ أثاث عتيقةٍ في المنزل.
يأكل ببطء.
يسحب خطواته على الدرج على مهل.
ويُطيل المُكوث قرب النافذة بانتظار أن يحصل شيء ما.
.................
.
.
.
🐶
Коментарі