02
حين صعدت على متن الطائرة طمأنت بريسا نفسها أنها ستسكن وسط الأبنية العالية والمتطورة ولن يختلف أسلوب حياتها كثيراً.
فهذه كوريا. بلد التطور.
لكن المفاجآت تتوالى .. وها هو والدها ينعطف إلى طريقٍ فرعيّ مُريب، إلى ضاحية أو مهما كان اسمها ..
مالت بريسا برأسها الذي أثقله الانزعاج نحو والدها الذي يقود السيارة ..
" إلى أين ؟؟؟ "
كان والدها مركزاً على القيادة بعيون تلتمع فرحة وشوقاً ..
" إلى منزل جدك القديم ! .. (صاح متأثراً بنشوة الفرح التي تتدفق في جسده) آااه عندما تريه فقط سيزول كل التعب الذي تشعرين به "
أعادت بريسا نظرها إلى الشقق الأرضية المتوزعة على طول الطريق ..
" هذا سيريحك أنت فقط ! .. (أردفت بضيق) ألا يعمل المكيف؟ "
" بلى ! بلى ! " ..
أكد والدها بمزاجٍ رِواقيّ وهو يركن السيارة على جهة اليمين أمام محلّ بقالةٍ متواضع. نزل السيارة وهو يكمل ..
" ستعتادين الجو بسرعة لا تقلقي ".. يقصد بسرعة أي سنة أو اثنتين.
وصفق الباب.
أخرجت رأسها من النافذة ليسمعها وهو يلتّف حول السيارة ..
" إلى أين ؟؟ "
" سأبتاع بعض الطعام ! "
قال ذلك واصطدم مباشرةً بشابٍ طويل كان خارجاً من المحل.
اعتذر والدها لأنه كان السبب وتغاضى الشاب عن الموقف دون اكتراث.
" واااااه ! " ..كانت هذه ردة فعل بريسا حين رأت الشاب يمرّ قرب والدها.
كان يرتدي شورتاً ذو نقوشٍ ملوّنة صيفية الطابع لا يُغطي رُكبتيه وكنزةً قطنية بيضاء وااااسعة وقبعة تخفي وجهه عن أشعّة الشمس، يتمشّى على مهل كأن ليس لديه ما يفعل، والأهم أن طوله يزيد على طول أبيها بـ 30 سم على أقل تقدير.
تذكُر من طفولتها حين سألت والدها عن قِصر قامته الذي أورثها إياه، يومها قال أن كل الآسيويين قصار القامة وأنه يُعتبر طويلاً بينهم.
لكنها الآن عرفت أنه .. كان يكذب.
ظلت بريسا تراقبُ طويلَ القامة حتى اختفى في نهاية الشارع باهتمام. لكن اهتمامها تلاشى مع عودةِ والدها إلى السيارة.
" ألا تزال أختك نائمة ؟؟ "
التفتت بريسا إلى المقعد الخلفي لتتفقدها، كانت الصغيرة ذات العامين لا تزال تغطّ بنومٍ عميق فالرحلة الطويلة مرهقةٌ لفتاة في سنها، ومنشّطة لرجل في عمر والدها .. كما يبدو.
هتف الأب بنشاط وهمّة وهو يعيد تشغيل السيارة..
" لننطلق ! لم يبقى أمامنا الكثير ! "
تنهّدت بريسا بتأفف وتركت رأسها يرتخي للخلف بكسل.
كان الجو حار والرطوبة عالية والشوارع التي مروا بها مشمسة أرضها تشعّ بالوهج الساخن .. الوحيد السعيد بذلك الجو كان صراصير الصيف، صوت غنائها كان أقوى من هدير محرك السيارة !
فعلاً لم يمرّ الكثير من الوقت وسرعان ما أوقف والدها السيارة ثانيةً وقد وصلوا لوجهتهم ..
أعلن بنبرةٍ عالية وحنجرته تهتزّ فرحاً ..
" وصلنا يا بنات ! "
فتحت بريسا الباب وخرجت لتسند قفاها على السيارة وتتأمل المنزل التراثيّ الأصيل، المصنوع من الخشب المغبّر العتيق والمُثير للغثيان بكل تفاصيله.
" لا داعي لكلّ هذا الاكتئاب يا ابنتي! "
حدّثها من الطرف الآخر وهو ينظر نحوها من فوق سطح السيارة
بذل جهده ليحمل نبرته بعض الثقة :
" سأصلحه وسيعود جميلاً كما كان ! "
نبرته الحماسية لم تنفع، فتحت بريسا باب السيارة و عادت إليها بذراعين معقودتين و وجهٍ محتجّ.
والدها الذي توقّع ردّة فعلٍ مماثلة تجاهل الوضع وبدأ بإنزال الأغراض وحده إلى المنزل.
وهو يدمدم ويغني.
....................
دخل تشانيول إلى المنزل مُعلناً ..
" جدّتي ! لقد عدت ! "
خلع حذاءه و دخل إلى المطبخ ماراً بجدته التي كانت نائمة على الديوان بوضعية الجلوس، أفرغ ما ابتاعه في الثلاجة وأخذ منها علبة عصيرٍ بارد ثم صعد لغرفته وهو يشربها.
في الأعلى و بعد أن أمسك مقبض باب غرفته وكان على وشك أن يفتحه ويدخل أخيراً، عندها تماماً ناداه جدّه من الأسفل ..
" تشانيول يا بني !! .. هلّا سقيت نباتات الحديقة بدلاً عني؟ .. ساقاي تؤلماني اليوم ! "
نفخ تشانيول بتأفف وردّ بصوت يصل للأسف ..
" سأبدّل ثيابي وأنزل! "
دخل وصفق الباب خلفه.
....................
بعد أن انتهى والدها من نقل المهم من أمتعتهم بقليل و غاب في الداخل، بدأت الصغيرة تصحو وبدأت تُطالب بالطعام بإلحاحٍ حالما فتحت عيناها كما يُطالب صغار الطيور بطعامهم.
" نمنم؟! .. نمنم ؟!"
التفتت إليها بريسا بضجر و وجهٍ عبوس :
" ماذا الآن ؟؟! ها؟!"
زمّت الطفلة شفتيها وقوّستهما للأسفل واغرورقت عيناها مباشرةً بزعل .. وعادت لتطالب وهي تتلفّت حولها باحثة بعينيها الواسعتين عن أبيها كجائع يبحث عن النقانق ..
" بابا؟! .. بابا ؟؟!! "
تنهّدت بريسا باستسلام وغادرت مقعدها إلى العالم الخارجي لتنتشل أختها الصغيرة من البؤس الذي تعيشه في المقعد الخلفيّ.
كان خدّا الصغيرة لا يزالان متوردين و عيناها متنفختين من النوم الطويل وفي صوتها بحّةَ مَن استيقظ للتو ..
" بابا ؟ "
سألت برجاء بعينين ناعستين و وجه عبوس.
هزّت بريسا بالموافقة فاطمأنّت الصغيرة وأرخت رأسها على كتف أختها الكبرى بـهمةٍ فاترة.
توجهّت بريسا إلى بوابة المنزل وهي تحمل الصغيرة.
عقلها الفَطِن والذكي كان يحذّرها من تخطّي البوابة. خطوة باتجاه الداخل تعني أنها راضخة لفكرة العيش هنا.
واقعياً لم يكن أمامها خيار.
بتنهيدة مكتئبة أخرى دفعت البوابة الخشبية برجلها واقتحمت.
صحيح أن جوقة كاملة من الصراصير الطنانة كانت تغني، وأن الحديقة على وسعها باتت مليئة بأمتعتهم، وأن البيت والحديقة مهجورة منذ زمن ..
إلا أن ..
شجرة ضخمة بكل ما لأحرف كلمة ضخمة من معنى كانت تُلقي بـفيّها على مدخل الحديقة وظلال أوراقها تتراقص على الأرضية حيث وقفت بريسا وعلى بداية الممر الحجري الممتد إلى باب المنزل الداخلي.
و عصابة من الأشجار وأغصانها القوية تتحملق على محيط الفُسحةِ التي أمام البيت لتخلق في المنتصف بقعة باردة محمية من الحرّ وأشعة الشمس.
ولحسن حظّ مصمم المنزل، إن تيارات من النسيم البارد المنعش كانت دائمة المرور في تلك البقعة لذا كان الشجر والشجيرات دائم التراقص والاهتزاز.
لم يكن ينقص المكان سوى أن يتفجّر فيه نبع من زاوية ما ليتحول إلى جنّة !!
هذا ما كانت تفكّر فيه بريسا وتتخيله.
وفجأة وكأن أحدهم قرأ أفكارها، صعد للأعلى خطّ من الماء المتدفّق وهبط في منتصف رأس والدها الأصلع تماماً. ليحصل والدها على حمامٍ منعش وسط الحديقة.
" من تجرأ !! (زأر والدها من هول الصدمة) .. من الذي يرشّ الماء لهنا ؟؟؟ ها !! فل يجب أحد !! "
كان يوجّه كلامه عبر السياج إلى المنزل المجاور من حيث أتت المياه أو بالأصح تمّ رشّها ! كانت نبرته عدائية تنمّ عن انزعاج، انزعاجه أشعر بريسا .. بالشماتة.
" على من تصرخ ؟ (قالت بشيء من التشفيّ ويدها ترتاح على خصرها) .. ربما يعيش في المنزل المجاور صديق طفولة جدي (أضافت ساخرة ببرود) عليك أن تحترمه حسب تقاليد البلاد."
نظر والدها لها بحدة بطرف عينه. كان سيسكب غضبه عليها لولا صوت الغريب الذي اقتحم حوارهم العائلي الدافء ..
" آسف، لم أقصد ! "
هذه المرة التفت نحو الصوت الثلاثة معاً بريسا والصغيرة التي تحملها وأبيهما.
من فوق السياج الذي يزيد طوله عن طول رجلٍ عادي، تمسكت أصابع طويلة بالحافة وخرجت عينان دائريتان وواسعتان بحياء، لم يجرؤ الفتى على إظهار كامل وجهه أمام جاره الغاضب ..
تشانيول بارتباك طفيف ..
" أعتذر بشدة سيدي، اعتدت أن أسقي أشجار حديقتكم عن بُعد كي لا تموت كلما سقيت ما لدينا، ظننت البيت مهجوراً ! .. أُقسم ! "
نظر والدها حوله، بالطبع هناك من يعتني بالحديقة وإلا لكانت النباتات ميتة منذ زمن.
شعر فجأة بالامتنان ونسي تبلله بالماء .. تنهّد مُزيحاً الغضب عن صدره أمام النيّة الطيبة للفتى ..
" لا بأس بني ! .. لا تعتذر ! .. بل اجلب لي من عندك منشفة فالله وحده يعلم أين سأجد واحدةً وأنا في هذا الوضع "
" حاضر " ردّ فوراً بلهجة الجنود.
طبعاً البابا لا يملك وقتاً للانتظار حمل حقيبة ودخل بها المنزل.
ابتسمت عينا الفتى وأدار مقلتيه حتى رأى البنتـين.
كانت بريسا لا تزال تقف عند المدخل حاملةً أختها وتنظر إليه بحذر كما لو كان يعسوباً أو سنجاباً على غصن شجر.
كان لبريسا ملامح بارزة و خارجة عن المألوف.
شعرها بلونٍ خرنوبيّ فاتح. وعيناها كذلك عسليتين فاتحتين حدّ الصُفرة. وجهها فتيٌّ و نضر، قسماته مرسومة بوضوح ولا يخلو من بعض البثور الشبابية، لكن ليس بذلك السوء، فهي في العموم جميلة وجذابة.
لكن الأهم بالنسبة له أنها كانت شابة صغيرة مثله.
أظهر تشانيول كامل وجهه المُبتسم من خلف السياج ثم هبط.
اختفى ليطلّ بعد دقيقتين من باب منزلهم بقامته الطويلة وضحكته العريضة وهالةٍ متوهّجة من النشاط والإشراق المُقبل على الحياة.
دخل بحذر خشية ألا يكون وجوده مرغوباً به كما تقول تعابير بريسا ..
" مرحباً "
كان يرتدي قميصاً مفتوحاً فوق كنزة قطنية و شورتاً مزركش.
حين صار بقربها اضطرت لرفع رأسها لتستطيع النظر إليه.
كان فرق الطول بينهما كبير.
تجاهل الكبيرة بما أنها بطيئة الاستجابة ولوّح بحيوية للصغيرة التي تحدّق به بانبهار بين ذراعيي شقيقتها .
حقيقةً أربكه تحديق البنتين بوجهه..
" اسمي تشانيول. بما .. أستطيع مناداتك ؟؟ "
لم تجبه بريسا وبشكلٍ غير مريح استمرّت بالتحديق به. و كأن عليه أن يحذر الاسم وحده؟ أو أن هناك ما علق بوجهه؟
أخيراً قررت أن تجيب باقتضاب وهي تُدير وجهها عنه بألطف إجابةٍ توقعها ..
" ليس من شأنك "
" ها ! .. أنت هنا !! " هتف الأب وهو يخرج، فأسرع إليه الشاب ماداً نحو المنشفة التي أحضرها.
انحنى تشانيول له مبدياً أسفه الشديد وعرّف عن نفسه متجاهلاً جفاء بريسا وعادتها الغريبة بالتحديق. ثم عرض خدماته وألحّ بالعرض. طبعاً الجار الجديد ليس غبياً ليرفض فرصةً كهذه بما أن ابنته لن تساعده.
" حسناً إذاً " قالها السيد المحترم برخامةِ صوتٍ رجوليّة وهو يربّت على كتف تشانيول باستحسان ..
" سأعتمد عليك !! "
" أكيد !! .. سأكون عند حسن ظنّك ! "
بدا جوابه كشكله، في غاية الحماس و الاندفاع و كأنه شرب عشرات العبوات من مشروب الطاقة قبل قدومه .
" اسمع بُني !.. "
قربهُ والدها إليه بذراعٍ واحدة بينما يُشير بالأخرى للفتى الذي يعيش اللحظةَ بجانبه بكل تركيز ..
" انقل هذه الصناديق إلى الطابق العلوي ليست بتلك الثقل على أي حال، ثم أترى تلك الألواح الخشبية التي عند الزاوية، تحت شجرة الدردار ؟؟ "
" امم ! أراها ! "
" أريدك أن تأخذها للباحة الخلفية لتفريغ مساحة أكبر هنا. و سأكون شاكراً لو أكملت إنزال ما بقي في السيارة "
" بسيطة ! سأبدأ حالاً !! "
.. قالها بجدية مطلقة جعلت جاره يبتسم و يربت على ظهره بودّ
" آه كم أردت أن يكون لي ابناً مثلك !! لا تضغط على نفسك، ها؟ "
أكد بابتسامة وهو يتجه لبدء أعماله داخلاً.
بريسا في الناحية المقابلة كانت تطرح على نفسها مسائل عميقة وتتفكّر بمشاكل كونية وأمراض البشر النفسية، منها كيف يتقرب الرجال من بعضهم بهذا العمق وبهذه السهولة والانفتاحية المباشرة؟؟؟
تشانيول اختار أن يتركها لترتاح مبدئياً ويؤجل التقرب منها للأيام القادمة بما أن لديه ما يتسلى به الآن. وبهمّة وخطوات واسعة اتجه إلى صناديقِ المهمة الأولى.
ركّزت بريسا نظرتها تترقب رؤيته يعاني بحمل الصندوق ورؤية تعابير ندمه على المساعدة. لكنه و بسهولةٍ مُـطلقة حمله وحسب و مضى به إلى الداخل. ثم خرج بعد دقائق وحمل اثنان معاً! وعاد إلى الداخل. وبريسا تراقب بانبهار وفي خلفية المشهد صوت غناء حشرات الحديقة بـلحن صيفيّ أحاديّ الوتيرة يتماشى مع الجو تماماً.
مع الوقت أحست بـوزن شقيقتها يزداد بين ذراعيها اللتان تخدرتا من طول حمل الصغيرة، راحت تجوب بعينيها الحديقة بحثاً عن شيء تستطيع الجلوس عليه بينما تُـزيح عن وجهها خصلات شعرها التي تتلاعب بها النسمات كلما لزم الأمر.
لكن عبثاً ما من شيء، و بدا لها أن العودة لـجوّ السيارة الدبِق سيكون خسارة للجو العليل الذي هنا.
ازدادت حركة الصغيرة بين يديها فجأة.
كانت تحاول التملص للوصول إلى شيء ما.
رفعت بريسا عينيها إلى حيث يتركّز اهتمام اختها فـرأت حبلاً ملفوفاً ومعلقاً بجذع شجرة الدردار الضخم، بل مربوطاً كأرجوحة تقريباً. لكنها ملفوفة ومثبتة بالجذع.
" هل أحضرها لك ؟؟ "
جاءها السؤال بنبرةٍ توددية من حيث كان تشانيول يقف نصف محني نحو الصندوق وعيناه الواسعتان مرفوعتان إليها بلمعة.
كذبة أخرى !
.. ألم يؤكد والدها أن كل الآسيوين ذوي عيونٍ ضيقة وحادة؟؟ كيف يستطيع هذا التشانيول توسيع عينيه لهذه الدرجة إذاً ؟؟.. أهو بشر أم نوع من الجِراء الأليفة؟؟
" سأحضرها بنفسي ! "
أجابت و هي تشيح بوجهها. رفع تشانيول كتفيه بلا مبالاة و أكمل عمله.
حين اطمأنت لدخوله، أنزلت شقيقتها أرضاً واتجهت لغصن قريب و قرفته. ثم حاولت باستخدامه الوصول للحبل لكن عبثاً.
لا التمدد و لا القفز و لا الوقوف على أطراف الأصابع نفع بتحريره من عقدته.
وقفت تلتقط أنفاسها و عينيها ترتفعان نحو الحبل الذي يتدلّى بشكل مـُغيظ.
أحست بوجود أحدهم خلفها ..
" كل ما عليكي هو أن تطلبي مني إحضاره "
امتطّ تشانيول ماداً يده للأعلى و فعلاً استطاع الوصول إليه وسحبه ليهبط بين يديها بلطف.
صاحت الصغيرة بفرح و قفرَ هو راجعاً دون أن ينتظر منها شكراً.
هل الأمر بتلك البساطة هنا؟ يساعد ثم يمضي؟؟ إن كان هذا هو السبب الذي جعل والدها يعود إلى وطنه فهي مستعدة لتفهمه في الأيام المقبلة.
شدت الصغيرة طرف ملابس أختها فتنبهت بريسا من شرودها بـعريضِ الابتسامة وفردت الأرجوحة وتركتها تتوازن معلقةً في الهواء.
تفقّدت متانة الحبال و مسحت الغبار عن المقعد الخشبي ثم أجلست الصغيرة للتجربة و وقفت خلفها تؤرجحها على مهل.
سمع والدهما ضحكات صغيرته فأخرج رأسه من نافذة في الطابق الأرضي، وبأعلى صوته ..
" هل أعجبتكما الحديقة ؟"
ردت صغيرته بصراخ بهيج تلفت انتباهه للأُعجوبة التي تعيشها ..
" بابا !! " حماسها لشيء تافه وبسيط كهذا دفع بريسا للابتسام رغماً عنها.
نزل تشانيول الدرجات القلائل التي أمام البوابة بخفة. بالكاد يلمسها .. " أنهيت الصناديق، سأبدأ بالألواح "
كانت ابتسامته مفرودة فخورة وأسنانه ظاهرة رغم لهاثه.
فتح الأب النافذة أكثر وحدثه بدهشه ..
" بهذه السرعة؟ .. لا تتعب نفسك لسنا على عجلة "
" حاضر "
بينما يتحدثان أنزلت بريسا أختها برغبة ولهفة كبيرة لتجربة الأرجوحة بنفسها، ناسيةً أخذ وزنها و طول عمر الحبال بعين الاعتبار.
" آااخ !! "
.. صاحت بريسا حين انقطع الحبل وتسبب بوقوعها أرضاً فالتف إليها كلا الرجلين باستغراب.
لملمت بريسا نفسها على عجل و وقفت مُـرتبكة تنفض غبار الإحراج عن ملابسها والحبل المقطوع لا يزال بيدها.
علّق تشانيول بشكل طبيعي متجهاً نحوها ..
" الحبال مهترئة؟"
أخفت بريسا الحبل خلفها بشكل طفولي كمن يمنعه من التدخل بوجهٍ متجهم وخديين متوردين خجلاً.
بسبب تلك الملامح توقف تشانيول للحظة يطالعها بعدم فهم ثم حرف خط سيره باتجاه ألواح الخشب المرصوفة عند زاوية السياج
لكن المشكلة لم تنتهي هنا.
الصغيرة التي أحبت الأرجوحة أصابتها صدمة عاطفية حين دمرت لها أختها لعبتها الجديدة.
تهدّلت شفتيها، اغرورقت عينيها، وصدح زمور الخطر بصراخها الباكي.
كانت تبكي وتشير بإصبعها الصغير إلى الأرجوحة المقطوعة التي لا يزال جزء منها يتدلى في الهواء يحركه النسيم وتمايل أغصان الشجر.
" لا تبكي يا عصفورة بابا ! سأصلحها لا حقاً لأجلك "
.. تنغّـم والدها بالجملة قبل أن يعاود انشغاله.
نظر تشانيول إلى بريسا فوجد الأخرى تُدير رأسها وتحاول سدّ أذنيها بعدم اكتراث.
رقّ قلبه للصغيرة وأزعجه عدم اهتمام عائلتها فـأقبل نحوها ومن فوره رفعها عالياً جداً فشهقت الصغيرة وسكتت بدهشة.
إنهوطويل والارتفاع عالي !!
" أعجبك ذلك؟ "
.. سألها وهو ينزلها إلى مستوى وجهه ثم عاد ورفعها عالياً بهتافٍ طفوليٍّ مرح فتراقص صوت الطفلة في حنجرتها و زغردت بضحكة هي مزيج من الخوف والاستمتاع ناسيةً سبب بكائها.
كرر تشانيول الحركة عددة مرات ثم حضنها بين ذراعيه برفق و كلمها ببطء و بعيون موسّـعة كأن عيناه ستترجم لها ما يقول ..
" اســ ـمي .. تشـ ـا نيـ ـو ل "
لم تكرر الصغيرة خلفه و انما ابتسمت له بـحب وامتنان.
" لا تستطيع نطق الأسماء الكورية "
وضّحت بريسا التي رضخت أخيراً للتعب وجلست على العشب قرب الجذع رغم تقززها من الوضع.
" توغو ..تات"
.. تمتمت الصغيرة بلكنة غير واضحة وهي تمسح على وجهه الأبيض بكفّ يدها الصغير. و تمرر رؤوس أصابعها على أنفه وشفتيه وخديه المرتفعين بضحكة واسعة.
" ظريفة ! "
.. نطق تشانيول بخفوت وهو ينزلها أرضاً.
قبّل رأسها ثم تركها واتجه إلى حيث تنتظره الألواح و العوارض الخشبية و عيون كلا الفتاتين تلاحقه وكأنه أُعجوبةٌ ما.
سحب اللوح الأول وبحركة واحدة رفعه.
بدا من ملامح وجهه أنه يعاني الأمرّين في حمل اللوح لكنه لم يشتكي. فقط شدّ ما بين حاجبيه وصار وجهه أكثر جدية وهو يبتعد متجهاً إلى الحديقة الخلفية.
مع نسمةٍ عليلةٍ أخرى اهتزّت الأغصان كلها معاً وعلا صوت حفيفها في هدوء المنطقة كموسيقة روحانية عذبة، و تهادت أمام الطفلة على الأرض ورقةً من شجرة الدردار غادرت غصنها قبل أخواتها.
رغم أنها لاتزال خضراء يافعة وجميلة.
قرفصت الطفلة وحملقت بها بفضول ثم حملتها بإصبعين اثنين وعادت بها إلى أختها متعثرةً بخطواتها الصغيرة.
استلمتها بريسا منها بابتسامة وأجلستها قربها بـمُداراة في ظلّ الشجرة الضخمة ثم رفعت عيناها للأعلى للغصن الذي سقطت منه الورقة، حيث تتمايل الأوراق وتترنح يتخللها خيوط من ضوء الشمس ويعطي لونها الأخضر ظلالاً وتدرّجات.
فكرت بعمق إن كانت الورقة تشعر مثلها بالضياع بعد سقوطها
و بعدم الانتماء
فكرت بكمية الحزن الذي ستعانيه الورقة بعد أن سقطت
من الغصن الذي ولدت فيه
إلى الأرض التي ستموت عليها
و تساءلت إن كانت بقية الأوراق فوق ستفتقدها أم لا.
وبينما هي غارقة لمحت عصفوراً يهبط إلى الأرض بخفة و هدوء ليحمل ورقةً مماثلة من الأرض ثم يبتعد طائراً بها بالهدوء ذاته.
فابتسمت بارتياح مع نفسٍ عميق.
وأصغت برضا إلى أصوات بقية العصافير الذين جعلوا من أشجار الحديقة مستعمرةً لهم يشدون فيها براحة و سعادة أزاحت عن صدرها قدراً كبيراً من الضيق الذي كانت تشعر به.
بعد لحظات عاد تشانيول.
عبر الممر الجانبي الضيق الذي يصل باحة المنزل بالحديقة الخلفية يحمل في يده قميصه الذي خلعه ليبقى بكنزة قطنية بيضاء بلا أكمام.
وبهذا بات ذراعيه البضّـين مكشوفين و قد زاد نور النهار الذي وصل أوجه من إشعاع اللون الأبيض لذراعيه و أعطاهما وهجاً يوحي بالهشاشة والطراوة.
صاحت الصغيرة عالياً حالما رأته وكأنها وجدت كنزاً ضائعاً ..
" توغوتات !! توغوتات !! "
كانت تفتح قبضتيها الرقيقتين في الهواء وتطبقها كأنها تدعوه ليأتي إليها ويحملها أو أنها تلمس وجهه عن بعد
كل ذلك ولسانها لا يقف عن الصياح اللطيف ..
" توغوتات ! توغوتات ! "..
أظهر تشانيول كامل أسنانه بابتسامة للصغيرة التي تُـشير إليه دون أن يفهم قصدها.
ضحك الأب الذي كان يُـخرج بعض الخردة من المنزل بشكل ساخر
" أي توغوتاتٍ وجدتها أختك هنا ؟؟"
أخفت بريسا ضحكتها خلف قبضتها وأجاب تشانيول الجاهل بـعنى الكلمة ..
" عمي ! تقصدني أنا ! أنا ! "
مشيراً لصدره بفخر ..
" إنها تناديني بذاك الاسم ، تــ وغوتات من تــ شانيول ، أليس ظريفاً ؟"
هزّ السيد رأسه ضاحكاً وعاد للداخل تاركاً تشانيول غارقاً في جهله وقد أحسّ أن في الأمر سرّاً.
بريسا استمرت بالضحك حتى تقطّعت أنفاسها، كان تشانيول سيسألها عن السبب لكنه لم يشأ مقاطعة أول ضحكة يراها تعلو وجهها.
ابتسم راضياً بـكونه سبباً لتلك القهقهات الناعمة وحمل اللوح الخشبيّ التالي بهمة مؤجلاً سؤاله لوقتٍ لاحق.
.....................
'توغوتات' .. كلمة لا تمس لأي معنى بأي صلة ولا تنحدر من أي اشتقاق لأي لهجةٍ أو صوت.
كلمة غريبة بحروفٍ ابتدعتها الصغيرة في بداية نطقها تُشير بها إلى كل ما هو زَغِـب، منفوش، زاهي اللون، لطيف، ناعم، طري، هشّ، أي كل ما يدغدغ حواسها و يبهجها كـالدمى المحشوة وحلوى القطن أو كـتشانيول مثلاً و ذراعيه وضحكته.
اللون الأبيض الصافي للبشرة لم يكن رائجاً في أميريكا. هناك يفضلون السُمرةَ الخفيفة، لكن لطالما أحب جزءٌ صغير من قلب بريسا اللون الأبيض للبشرة، وهي خصلة تتجاهلها لأنها موروثة من عرقها الآسيوي كما تقنع نفسها دائماً.
لكن الآن وبعد أن نبّهتها الشقيّة الصغيرة إلى شدّة بياض الفتى الذي سيصير جارها على ما يبدو، صار من الصعب على بريسا أن تُزيح عينيها الوقحة عن كل جزء أبيض اللون منه، وما أكثر تلك الأجزاء.
كل شيء فيه يبدو كـ 'توغوتات '
وجنتيه، جبينه، رقبته، والجزء العلوي من ساعديه
كلها : أبيض نضر و يوحي بالليـن و الطراوة كالهلام. نعومة طفل بجسد متطاول لم ينضج بعد و لم يقسو.
استيقظت بريسا من شرودها على تذمر والدها ..
"لقد تعبت " ..
تنهد الأب وهو يجلس على الدرجات الأمامية بانهاك، مرخياً جسده لدرجةٍ أبرزت انتفاخ بطنه الطبيعي بالنسبة لأي رجلٍ في الخمسين من عمره.
كانت السماء قد بدأت تفقد اشعاعها القويّ، و نورها بدأ يبهت ويميل للوهج الأحمر المهلل لغروب الشمس.
" وأنا انتهيت " أعلن تشانيول وهو يمسح جبيه بساعده.
كان يقف قرب المدخل وعند ساقيه تقف بضعة حقائب سفرية جلبها من السيارة ..
" هل أرفع الحقائب للطابق العلوي ؟؟"
أشاح الأب بيده في الهواء رافضاً ..
" لنأكل أولاً ! ألستما جائعين ؟؟ "
ردّ كلاهما معاً، كلٌّ من مكانه :
" بلى "
انتفض والدها واقفاً حين لمحت عيناه طفلته النائمة على ساق اختها .. عاتب بريسا وهو يتقدم نحوها على عجل ..
"لماذا تركتها تنام عندك ؟؟! "
كانت الصغيرة قد تكوّرت وألطَـت رأسها على فخذ أختها و غفت..
" لم أنتبه " تمتمت بريسا وهي تساعده على حملها، ثم وقفت تنفض ملابسها من التراب الذي علق بها.
أثناء مرور الأب من قرب تشانيول نظر له بطرف عينه و سأله من باب الفضول ..
" ألن يُناديك جديك للعشاء؟ "
.. كانت نظرات بريسا التي تتبع أباها كذلك تشعّ بالفضول وتتركز على وجهه بشكلٍ غير مُريح كأن وجوده يضايقها أو شيء من هذا القبيل.
"بلى " ردّ تشانيول ببعض الاحراج .. " هم يتعشّون باكراً بما أنهم كبارٌ في السنّ، لكني كنت أعمل، هل أرفع الحقائب ؟؟ "
حاول تغير الموضوع بسؤاله.
وأثناء كلامه رفع حقيبةً حمراء اللون بقوةٍ زائدة عن المطلوب فتعثّر وكاد يُـسقطها أرضاً.
" حاذر !! " صاحت به بريسا وهي تُسرع لإنقاذ حقيبتها.
سحبتها بشكلٍ دفاعيّ موجهةً إليه نظراتٍ غاضبة و حادة.
" كنت سأرفعها للطابق العلوي " برر تشانيول كمن قُبض عليه بجرمٍ ما.
رنا إليهم الأب بنظرة وهو يعبر الباب داخلاً بشيء من العتب لابنته ..
" دعيه يساعدك بحملها بريسا " نصف جملته وصلتهم خافتة من جوف المنزل بنغمة متململة.
أفرج تشانيول عن نسخةٍ جديدة من ابتساماته، ابتسامة مع نظرة ماكرة ..
" اسمك بريسا إذاً ؟؟ " أضاف وهو يهمّ بسحب الحقيبة من يديها كرجل نبيل " سأحملها لأجلك ! "
ارتدّت بها للخلف خطوة .. " أبداً " خرج صوتها مخنوقاً ولئيماً بعض الشيء.
بدايةً تجعّدت ملامحهُ بعدم فهم ثم بدأ عقله النابغة بطرح فكرة لاستغلال الموقف..عدل وجهه و أظهر ملامح الامتعاض ..
" حسناً .. أعتذر على لمس ما يخصك" .. رمقها بنظرة عتب وشقلَ حقيبةً غيرها وسارع إلى الدرج بخطوات غاضبة.. تقدمها داخلاً.
عضّت المسكينة شفتها السفلى وأنّـبها ضميرها البريء لما فعلت. لماذا تتصرف معه بلؤم بينما هو لطيف؟؟؟
لا مبرر لأفعالها.. سوا أنه يبدو متعجرفاً أرعناً بمجرد النظر إليه !
ولا !! .. هي لا تأتمنه على حقيبتها أو أي شيء !!
تنهّدت المسكينة بعجزٍ وقلة حيلة ثم راحت تجرّ حقيبتها الخاصة نحو البيت.
استقبلتها في الداخل رائحة الرطوبة الباردة ممتزجة برائحة الخشب الذي صُـنع منه المنزل وقليل من رائحة لحاء الشجر الأخضر الذي يعبر الصالة مع البصيص الأخير لنور السماء عبر النوافذ المفتوحة من كلا الجهتين.
بعض الستائر المخرّمة من طرازٍ عتيق كانت ترفرف دون أن يُعيرها أحد أي اهتمام أمام نافذة المطبخ في الجهة اليُسرى متلاعبةً بالضوء الوالج وراسمةً أشكال وهمية من الظلال.
أمامها مباشرةً تمتد الصالة و تنتهي بدرجٍ يعلو نحو الطابق الثاني يبدو كأنه سينهار حالما يطأه أحدهم.
وإلى اليمين غرفة جلوس كان أثاثها في أيامه الخوالي يوحي بالفخامة أما الآن فسيتناسب مع مكبات القمامة أكثر.
شيء واحد لفت انتباه بريسا في الصالة الواسعة. مكتبةٌ جدارية ضخمة ستغدو جميلة حين سترصف كتبها الكثيرة عليها.
لكن الأولوية الآن هي لرفع الحقيبة وإيوائها في غرفتها في مكان لا تصله أيدي المتطفلين و المهرّجين.
تمسّكت بمقبض الحقيبة بكلا يديها ورفعتها بصعوبة حتى الدرجة الأولى من السلّم عندها سمعت وقع خطواته النازلة على الدرج بسرعة.
"لو سمحتي "
متجنبةً النظر في وجهه، عدّلت وقفتها مُخليةً له مساحةً كافية ليستطيع المرور، فأسرع إيقاع نزوله أكثر ومرّ متجاهلاً وجودها.
لكنها لم تستطع تجاهل مروره
لأنه ابتعد تاركاً خلفه شذاً خفيفاً من عطر غريب.
قررت رفع الحقيبة بحيث تُريحها على كل درجة ثم ترفعها إلى التالية.
سيأخذ ذلك وقتاً لكنه أسهل وأكثر راحة بالنسبة لجسد متعب من السفر و عضلات ضامرة لم يسبق وأن أُستخدمت لعملٍ مشابه.
ما كادت توصلها للدرجة الرابعة حتى عاد تشانيول يحمل حقيبةً ضخمة.
أحست بوصوله من الوقع الثقيل لخطواته فكررت حركتها السابقة مفسحةً له ممراً ليعبره.
عبر على مهل لأنه يحمل وزناً فاستطاعت تمييز رائحته هذه المرة
لم يكن عطره لعلامةٍ تجارية معينة وإنما ينتمي للطبيعة بالأحرى للحديقة. كما لو أنه اكتسبها من التمرغ على العشب الندي أو أنه نافس السناجب في تسلق الشجر حتى تعشّقت ملابسه وجسده برائحة الورق الأخضر.
شعرت بريسا بالرائحة أليفةً إلى قلبها ومريحة.
وكما الإحساس الذي يغمرك حين تضم بين ذراعيك طفلاً، أحست بريسا بهالة لطيفة ودافئة تحيط به حين مرّ بجانبها هابطاً.
بعد ذلك الاستنتاج عادت بريسا تركز على عملها وحقيبتها وتشانيول يعبر صاعداً هابطاً بين اللحظة وأختها كأنه يتعمّد تعذيبها وتأخير عملها. حتى أنه صار أسرع ! لا يكاد يصعد حتى يهبط ولا يكاد يهبط حتى يعود مطالباً بالمرور .
صبرت بريسا عليه حتى حدود الدرجة الأخيرة و مع التقاطها لأنفاسها فوق انتبهت أخيراً للوضع بينما كان يقترب صاعداً بخفة ..
" يا !! أنت لا تحمل أي حقيبة ؟! .. انتهيت ؟؟؟"
توقف تشانيول أدنى منها بدرجتين بحيث تقابل وجههما في مستوٍ واحد. عيناه المتوسعة التي تشعّ ببريق الشغب و حاجبيه المرفوعين بهالة مكرٍ مصطنع. وجنتيه المرتفعتين بابتسامة مشاكسة كاملة الأسنان. كلها كانت دلائل على أن تعذيبه لها كان مقصوداً فعلاً.
والبليدة الواقفة أمامه استغرقها الأمر دهراً لتلاحظ.
"أساعدك بحمل الحقيبة ؟؟"
سأل من باب الإغاظة وهو يقبض على ضحكته خلف أسنانه وكتفاه يهتزّان إثر الضحكة المكبوتة.
ابتسمت شفتا بريسا رغماً عنها باستسلام أمام ذلك الوجه الضاحك رُغم نظرتها التأنيبية المعاتبة وشعرت بالراحة والقرب الكافي لتضرب ذراعه المكشوفة ضربةً ودودة ..
" سأردها لك قريباً ! "
سعد تشانيول بتقبلها لمزحته وعرضت ابتسامته حتى ظهرت تجاعيد لطيفة قرب أجفانه.
نادى عليه والدها من مكان ما في الأسفل ..
" تشانيول ! هلا ساعدتني هنا للحظات !! "
هبط تشانيول حالاً تلبيةً للنداء واتجهت بريسا جارّةً حقيبتها نحو غرفةٍ كان بابها مفتوحاً يتدفق منه ضوء ربّانيّ دلالة وجود نافذة فيها وهو كل ما يلزم بريسا لتعلن استملاكها وعشقها للغرفة.
كانت الغرفة متوسطة الحجم وفارغة تماماً من الأثاث.
مشكلة جديدة عليها تحملها بضعة أيامٍ على الأقل.
توجهت بشوق إلى النافذة و فتحتها على وسعها.
العيون التي اعتادت رؤية الأبنية فقط فُتحت على أكبر اتساعٍ لها وهي تسبر بنظرةٍ شاملة الإطلالة اللطيفة للغرفة.
معظم بيوت الضاحية من النوع الأرضيّ لا تتجاوز الطابقين علواً، بسقوفٍ قرميدية مائلة، بطابع قديم.
ولجميعها حدائق وأشجار ضخمة تجعل من كل نسمة تمرّ في المكان شيئاً مميزاً يستحق العيش للاستمتاع به.
أما المحيط القريب من النافذة قكان حديقةَ المنزل الخلفية مع شجرة متوسطة الحجم لا تكاد تصل إلى نافذتها لكنها كان مكتنزة بالأغصان والأوراق. بدت عجوزاً نوعاً ما، لكنها لم تتعرف نوعها.
وزاد من مظهرها الممتلئ وقوف عشرات العصافير الملونة عليها و كأنها مجمع سكنيّ، أو مركز تجاريّ خاص بالطيور.
تقريباً، ما من غصن بها إلا ويحمل عصفوراً. أو هذا ما ظنّته بريسا. و الجميل في الأمر أن أصوات نقاشاتهم وأحاديثهم قد وصلت حدتها و كأن الكل يتشاجر، وكلٌّ يُغرّدُ على ليلاه !
كان غروب الشمس قد بدأ فعلاً لكن زقزقة تلك المخلوقات الظريفة لم تبدو ناعسة ولا متعبةً أبداً وكأنها لن تخلد للنوم بعد قليل.
خلف الشجرة و خلف سياج المنزل علا منزل جارها الطويل، منزل جده بالأحرى.
فكّرت بريسا بلونٍ من السخرية أن الدراما التي تعيشها بقدومها إلى كوريا ستكتمل حقاً إن كانت غرفةُ تشانيول مقابلةً لغرفتها.
وفي غفلةٍ منها طفت على شفتيها ابتسامة للفكرة. ثم راحت تتأمل منزله بجديّة. فماذا لو حصل ذلك فعلاً ؟؟
ربما لن تكون رؤية وجهه وابتسامته و توغوتاته يومياً بذلك السوء.
...................
.
.
.
.
🐶
فهذه كوريا. بلد التطور.
لكن المفاجآت تتوالى .. وها هو والدها ينعطف إلى طريقٍ فرعيّ مُريب، إلى ضاحية أو مهما كان اسمها ..
مالت بريسا برأسها الذي أثقله الانزعاج نحو والدها الذي يقود السيارة ..
" إلى أين ؟؟؟ "
كان والدها مركزاً على القيادة بعيون تلتمع فرحة وشوقاً ..
" إلى منزل جدك القديم ! .. (صاح متأثراً بنشوة الفرح التي تتدفق في جسده) آااه عندما تريه فقط سيزول كل التعب الذي تشعرين به "
أعادت بريسا نظرها إلى الشقق الأرضية المتوزعة على طول الطريق ..
" هذا سيريحك أنت فقط ! .. (أردفت بضيق) ألا يعمل المكيف؟ "
" بلى ! بلى ! " ..
أكد والدها بمزاجٍ رِواقيّ وهو يركن السيارة على جهة اليمين أمام محلّ بقالةٍ متواضع. نزل السيارة وهو يكمل ..
" ستعتادين الجو بسرعة لا تقلقي ".. يقصد بسرعة أي سنة أو اثنتين.
وصفق الباب.
أخرجت رأسها من النافذة ليسمعها وهو يلتّف حول السيارة ..
" إلى أين ؟؟ "
" سأبتاع بعض الطعام ! "
قال ذلك واصطدم مباشرةً بشابٍ طويل كان خارجاً من المحل.
اعتذر والدها لأنه كان السبب وتغاضى الشاب عن الموقف دون اكتراث.
" واااااه ! " ..كانت هذه ردة فعل بريسا حين رأت الشاب يمرّ قرب والدها.
كان يرتدي شورتاً ذو نقوشٍ ملوّنة صيفية الطابع لا يُغطي رُكبتيه وكنزةً قطنية بيضاء وااااسعة وقبعة تخفي وجهه عن أشعّة الشمس، يتمشّى على مهل كأن ليس لديه ما يفعل، والأهم أن طوله يزيد على طول أبيها بـ 30 سم على أقل تقدير.
تذكُر من طفولتها حين سألت والدها عن قِصر قامته الذي أورثها إياه، يومها قال أن كل الآسيويين قصار القامة وأنه يُعتبر طويلاً بينهم.
لكنها الآن عرفت أنه .. كان يكذب.
ظلت بريسا تراقبُ طويلَ القامة حتى اختفى في نهاية الشارع باهتمام. لكن اهتمامها تلاشى مع عودةِ والدها إلى السيارة.
" ألا تزال أختك نائمة ؟؟ "
التفتت بريسا إلى المقعد الخلفي لتتفقدها، كانت الصغيرة ذات العامين لا تزال تغطّ بنومٍ عميق فالرحلة الطويلة مرهقةٌ لفتاة في سنها، ومنشّطة لرجل في عمر والدها .. كما يبدو.
هتف الأب بنشاط وهمّة وهو يعيد تشغيل السيارة..
" لننطلق ! لم يبقى أمامنا الكثير ! "
تنهّدت بريسا بتأفف وتركت رأسها يرتخي للخلف بكسل.
كان الجو حار والرطوبة عالية والشوارع التي مروا بها مشمسة أرضها تشعّ بالوهج الساخن .. الوحيد السعيد بذلك الجو كان صراصير الصيف، صوت غنائها كان أقوى من هدير محرك السيارة !
فعلاً لم يمرّ الكثير من الوقت وسرعان ما أوقف والدها السيارة ثانيةً وقد وصلوا لوجهتهم ..
أعلن بنبرةٍ عالية وحنجرته تهتزّ فرحاً ..
" وصلنا يا بنات ! "
فتحت بريسا الباب وخرجت لتسند قفاها على السيارة وتتأمل المنزل التراثيّ الأصيل، المصنوع من الخشب المغبّر العتيق والمُثير للغثيان بكل تفاصيله.
" لا داعي لكلّ هذا الاكتئاب يا ابنتي! "
حدّثها من الطرف الآخر وهو ينظر نحوها من فوق سطح السيارة
بذل جهده ليحمل نبرته بعض الثقة :
" سأصلحه وسيعود جميلاً كما كان ! "
نبرته الحماسية لم تنفع، فتحت بريسا باب السيارة و عادت إليها بذراعين معقودتين و وجهٍ محتجّ.
والدها الذي توقّع ردّة فعلٍ مماثلة تجاهل الوضع وبدأ بإنزال الأغراض وحده إلى المنزل.
وهو يدمدم ويغني.
....................
دخل تشانيول إلى المنزل مُعلناً ..
" جدّتي ! لقد عدت ! "
خلع حذاءه و دخل إلى المطبخ ماراً بجدته التي كانت نائمة على الديوان بوضعية الجلوس، أفرغ ما ابتاعه في الثلاجة وأخذ منها علبة عصيرٍ بارد ثم صعد لغرفته وهو يشربها.
في الأعلى و بعد أن أمسك مقبض باب غرفته وكان على وشك أن يفتحه ويدخل أخيراً، عندها تماماً ناداه جدّه من الأسفل ..
" تشانيول يا بني !! .. هلّا سقيت نباتات الحديقة بدلاً عني؟ .. ساقاي تؤلماني اليوم ! "
نفخ تشانيول بتأفف وردّ بصوت يصل للأسف ..
" سأبدّل ثيابي وأنزل! "
دخل وصفق الباب خلفه.
....................
بعد أن انتهى والدها من نقل المهم من أمتعتهم بقليل و غاب في الداخل، بدأت الصغيرة تصحو وبدأت تُطالب بالطعام بإلحاحٍ حالما فتحت عيناها كما يُطالب صغار الطيور بطعامهم.
" نمنم؟! .. نمنم ؟!"
التفتت إليها بريسا بضجر و وجهٍ عبوس :
" ماذا الآن ؟؟! ها؟!"
زمّت الطفلة شفتيها وقوّستهما للأسفل واغرورقت عيناها مباشرةً بزعل .. وعادت لتطالب وهي تتلفّت حولها باحثة بعينيها الواسعتين عن أبيها كجائع يبحث عن النقانق ..
" بابا؟! .. بابا ؟؟!! "
تنهّدت بريسا باستسلام وغادرت مقعدها إلى العالم الخارجي لتنتشل أختها الصغيرة من البؤس الذي تعيشه في المقعد الخلفيّ.
كان خدّا الصغيرة لا يزالان متوردين و عيناها متنفختين من النوم الطويل وفي صوتها بحّةَ مَن استيقظ للتو ..
" بابا ؟ "
سألت برجاء بعينين ناعستين و وجه عبوس.
هزّت بريسا بالموافقة فاطمأنّت الصغيرة وأرخت رأسها على كتف أختها الكبرى بـهمةٍ فاترة.
توجهّت بريسا إلى بوابة المنزل وهي تحمل الصغيرة.
عقلها الفَطِن والذكي كان يحذّرها من تخطّي البوابة. خطوة باتجاه الداخل تعني أنها راضخة لفكرة العيش هنا.
واقعياً لم يكن أمامها خيار.
بتنهيدة مكتئبة أخرى دفعت البوابة الخشبية برجلها واقتحمت.
صحيح أن جوقة كاملة من الصراصير الطنانة كانت تغني، وأن الحديقة على وسعها باتت مليئة بأمتعتهم، وأن البيت والحديقة مهجورة منذ زمن ..
إلا أن ..
شجرة ضخمة بكل ما لأحرف كلمة ضخمة من معنى كانت تُلقي بـفيّها على مدخل الحديقة وظلال أوراقها تتراقص على الأرضية حيث وقفت بريسا وعلى بداية الممر الحجري الممتد إلى باب المنزل الداخلي.
و عصابة من الأشجار وأغصانها القوية تتحملق على محيط الفُسحةِ التي أمام البيت لتخلق في المنتصف بقعة باردة محمية من الحرّ وأشعة الشمس.
ولحسن حظّ مصمم المنزل، إن تيارات من النسيم البارد المنعش كانت دائمة المرور في تلك البقعة لذا كان الشجر والشجيرات دائم التراقص والاهتزاز.
لم يكن ينقص المكان سوى أن يتفجّر فيه نبع من زاوية ما ليتحول إلى جنّة !!
هذا ما كانت تفكّر فيه بريسا وتتخيله.
وفجأة وكأن أحدهم قرأ أفكارها، صعد للأعلى خطّ من الماء المتدفّق وهبط في منتصف رأس والدها الأصلع تماماً. ليحصل والدها على حمامٍ منعش وسط الحديقة.
" من تجرأ !! (زأر والدها من هول الصدمة) .. من الذي يرشّ الماء لهنا ؟؟؟ ها !! فل يجب أحد !! "
كان يوجّه كلامه عبر السياج إلى المنزل المجاور من حيث أتت المياه أو بالأصح تمّ رشّها ! كانت نبرته عدائية تنمّ عن انزعاج، انزعاجه أشعر بريسا .. بالشماتة.
" على من تصرخ ؟ (قالت بشيء من التشفيّ ويدها ترتاح على خصرها) .. ربما يعيش في المنزل المجاور صديق طفولة جدي (أضافت ساخرة ببرود) عليك أن تحترمه حسب تقاليد البلاد."
نظر والدها لها بحدة بطرف عينه. كان سيسكب غضبه عليها لولا صوت الغريب الذي اقتحم حوارهم العائلي الدافء ..
" آسف، لم أقصد ! "
هذه المرة التفت نحو الصوت الثلاثة معاً بريسا والصغيرة التي تحملها وأبيهما.
من فوق السياج الذي يزيد طوله عن طول رجلٍ عادي، تمسكت أصابع طويلة بالحافة وخرجت عينان دائريتان وواسعتان بحياء، لم يجرؤ الفتى على إظهار كامل وجهه أمام جاره الغاضب ..
تشانيول بارتباك طفيف ..
" أعتذر بشدة سيدي، اعتدت أن أسقي أشجار حديقتكم عن بُعد كي لا تموت كلما سقيت ما لدينا، ظننت البيت مهجوراً ! .. أُقسم ! "
نظر والدها حوله، بالطبع هناك من يعتني بالحديقة وإلا لكانت النباتات ميتة منذ زمن.
شعر فجأة بالامتنان ونسي تبلله بالماء .. تنهّد مُزيحاً الغضب عن صدره أمام النيّة الطيبة للفتى ..
" لا بأس بني ! .. لا تعتذر ! .. بل اجلب لي من عندك منشفة فالله وحده يعلم أين سأجد واحدةً وأنا في هذا الوضع "
" حاضر " ردّ فوراً بلهجة الجنود.
طبعاً البابا لا يملك وقتاً للانتظار حمل حقيبة ودخل بها المنزل.
ابتسمت عينا الفتى وأدار مقلتيه حتى رأى البنتـين.
كانت بريسا لا تزال تقف عند المدخل حاملةً أختها وتنظر إليه بحذر كما لو كان يعسوباً أو سنجاباً على غصن شجر.
كان لبريسا ملامح بارزة و خارجة عن المألوف.
شعرها بلونٍ خرنوبيّ فاتح. وعيناها كذلك عسليتين فاتحتين حدّ الصُفرة. وجهها فتيٌّ و نضر، قسماته مرسومة بوضوح ولا يخلو من بعض البثور الشبابية، لكن ليس بذلك السوء، فهي في العموم جميلة وجذابة.
لكن الأهم بالنسبة له أنها كانت شابة صغيرة مثله.
أظهر تشانيول كامل وجهه المُبتسم من خلف السياج ثم هبط.
اختفى ليطلّ بعد دقيقتين من باب منزلهم بقامته الطويلة وضحكته العريضة وهالةٍ متوهّجة من النشاط والإشراق المُقبل على الحياة.
دخل بحذر خشية ألا يكون وجوده مرغوباً به كما تقول تعابير بريسا ..
" مرحباً "
كان يرتدي قميصاً مفتوحاً فوق كنزة قطنية و شورتاً مزركش.
حين صار بقربها اضطرت لرفع رأسها لتستطيع النظر إليه.
كان فرق الطول بينهما كبير.
تجاهل الكبيرة بما أنها بطيئة الاستجابة ولوّح بحيوية للصغيرة التي تحدّق به بانبهار بين ذراعيي شقيقتها .
حقيقةً أربكه تحديق البنتين بوجهه..
" اسمي تشانيول. بما .. أستطيع مناداتك ؟؟ "
لم تجبه بريسا وبشكلٍ غير مريح استمرّت بالتحديق به. و كأن عليه أن يحذر الاسم وحده؟ أو أن هناك ما علق بوجهه؟
أخيراً قررت أن تجيب باقتضاب وهي تُدير وجهها عنه بألطف إجابةٍ توقعها ..
" ليس من شأنك "
" ها ! .. أنت هنا !! " هتف الأب وهو يخرج، فأسرع إليه الشاب ماداً نحو المنشفة التي أحضرها.
انحنى تشانيول له مبدياً أسفه الشديد وعرّف عن نفسه متجاهلاً جفاء بريسا وعادتها الغريبة بالتحديق. ثم عرض خدماته وألحّ بالعرض. طبعاً الجار الجديد ليس غبياً ليرفض فرصةً كهذه بما أن ابنته لن تساعده.
" حسناً إذاً " قالها السيد المحترم برخامةِ صوتٍ رجوليّة وهو يربّت على كتف تشانيول باستحسان ..
" سأعتمد عليك !! "
" أكيد !! .. سأكون عند حسن ظنّك ! "
بدا جوابه كشكله، في غاية الحماس و الاندفاع و كأنه شرب عشرات العبوات من مشروب الطاقة قبل قدومه .
" اسمع بُني !.. "
قربهُ والدها إليه بذراعٍ واحدة بينما يُشير بالأخرى للفتى الذي يعيش اللحظةَ بجانبه بكل تركيز ..
" انقل هذه الصناديق إلى الطابق العلوي ليست بتلك الثقل على أي حال، ثم أترى تلك الألواح الخشبية التي عند الزاوية، تحت شجرة الدردار ؟؟ "
" امم ! أراها ! "
" أريدك أن تأخذها للباحة الخلفية لتفريغ مساحة أكبر هنا. و سأكون شاكراً لو أكملت إنزال ما بقي في السيارة "
" بسيطة ! سأبدأ حالاً !! "
.. قالها بجدية مطلقة جعلت جاره يبتسم و يربت على ظهره بودّ
" آه كم أردت أن يكون لي ابناً مثلك !! لا تضغط على نفسك، ها؟ "
أكد بابتسامة وهو يتجه لبدء أعماله داخلاً.
بريسا في الناحية المقابلة كانت تطرح على نفسها مسائل عميقة وتتفكّر بمشاكل كونية وأمراض البشر النفسية، منها كيف يتقرب الرجال من بعضهم بهذا العمق وبهذه السهولة والانفتاحية المباشرة؟؟؟
تشانيول اختار أن يتركها لترتاح مبدئياً ويؤجل التقرب منها للأيام القادمة بما أن لديه ما يتسلى به الآن. وبهمّة وخطوات واسعة اتجه إلى صناديقِ المهمة الأولى.
ركّزت بريسا نظرتها تترقب رؤيته يعاني بحمل الصندوق ورؤية تعابير ندمه على المساعدة. لكنه و بسهولةٍ مُـطلقة حمله وحسب و مضى به إلى الداخل. ثم خرج بعد دقائق وحمل اثنان معاً! وعاد إلى الداخل. وبريسا تراقب بانبهار وفي خلفية المشهد صوت غناء حشرات الحديقة بـلحن صيفيّ أحاديّ الوتيرة يتماشى مع الجو تماماً.
مع الوقت أحست بـوزن شقيقتها يزداد بين ذراعيها اللتان تخدرتا من طول حمل الصغيرة، راحت تجوب بعينيها الحديقة بحثاً عن شيء تستطيع الجلوس عليه بينما تُـزيح عن وجهها خصلات شعرها التي تتلاعب بها النسمات كلما لزم الأمر.
لكن عبثاً ما من شيء، و بدا لها أن العودة لـجوّ السيارة الدبِق سيكون خسارة للجو العليل الذي هنا.
ازدادت حركة الصغيرة بين يديها فجأة.
كانت تحاول التملص للوصول إلى شيء ما.
رفعت بريسا عينيها إلى حيث يتركّز اهتمام اختها فـرأت حبلاً ملفوفاً ومعلقاً بجذع شجرة الدردار الضخم، بل مربوطاً كأرجوحة تقريباً. لكنها ملفوفة ومثبتة بالجذع.
" هل أحضرها لك ؟؟ "
جاءها السؤال بنبرةٍ توددية من حيث كان تشانيول يقف نصف محني نحو الصندوق وعيناه الواسعتان مرفوعتان إليها بلمعة.
كذبة أخرى !
.. ألم يؤكد والدها أن كل الآسيوين ذوي عيونٍ ضيقة وحادة؟؟ كيف يستطيع هذا التشانيول توسيع عينيه لهذه الدرجة إذاً ؟؟.. أهو بشر أم نوع من الجِراء الأليفة؟؟
" سأحضرها بنفسي ! "
أجابت و هي تشيح بوجهها. رفع تشانيول كتفيه بلا مبالاة و أكمل عمله.
حين اطمأنت لدخوله، أنزلت شقيقتها أرضاً واتجهت لغصن قريب و قرفته. ثم حاولت باستخدامه الوصول للحبل لكن عبثاً.
لا التمدد و لا القفز و لا الوقوف على أطراف الأصابع نفع بتحريره من عقدته.
وقفت تلتقط أنفاسها و عينيها ترتفعان نحو الحبل الذي يتدلّى بشكل مـُغيظ.
أحست بوجود أحدهم خلفها ..
" كل ما عليكي هو أن تطلبي مني إحضاره "
امتطّ تشانيول ماداً يده للأعلى و فعلاً استطاع الوصول إليه وسحبه ليهبط بين يديها بلطف.
صاحت الصغيرة بفرح و قفرَ هو راجعاً دون أن ينتظر منها شكراً.
هل الأمر بتلك البساطة هنا؟ يساعد ثم يمضي؟؟ إن كان هذا هو السبب الذي جعل والدها يعود إلى وطنه فهي مستعدة لتفهمه في الأيام المقبلة.
شدت الصغيرة طرف ملابس أختها فتنبهت بريسا من شرودها بـعريضِ الابتسامة وفردت الأرجوحة وتركتها تتوازن معلقةً في الهواء.
تفقّدت متانة الحبال و مسحت الغبار عن المقعد الخشبي ثم أجلست الصغيرة للتجربة و وقفت خلفها تؤرجحها على مهل.
سمع والدهما ضحكات صغيرته فأخرج رأسه من نافذة في الطابق الأرضي، وبأعلى صوته ..
" هل أعجبتكما الحديقة ؟"
ردت صغيرته بصراخ بهيج تلفت انتباهه للأُعجوبة التي تعيشها ..
" بابا !! " حماسها لشيء تافه وبسيط كهذا دفع بريسا للابتسام رغماً عنها.
نزل تشانيول الدرجات القلائل التي أمام البوابة بخفة. بالكاد يلمسها .. " أنهيت الصناديق، سأبدأ بالألواح "
كانت ابتسامته مفرودة فخورة وأسنانه ظاهرة رغم لهاثه.
فتح الأب النافذة أكثر وحدثه بدهشه ..
" بهذه السرعة؟ .. لا تتعب نفسك لسنا على عجلة "
" حاضر "
بينما يتحدثان أنزلت بريسا أختها برغبة ولهفة كبيرة لتجربة الأرجوحة بنفسها، ناسيةً أخذ وزنها و طول عمر الحبال بعين الاعتبار.
" آااخ !! "
.. صاحت بريسا حين انقطع الحبل وتسبب بوقوعها أرضاً فالتف إليها كلا الرجلين باستغراب.
لملمت بريسا نفسها على عجل و وقفت مُـرتبكة تنفض غبار الإحراج عن ملابسها والحبل المقطوع لا يزال بيدها.
علّق تشانيول بشكل طبيعي متجهاً نحوها ..
" الحبال مهترئة؟"
أخفت بريسا الحبل خلفها بشكل طفولي كمن يمنعه من التدخل بوجهٍ متجهم وخديين متوردين خجلاً.
بسبب تلك الملامح توقف تشانيول للحظة يطالعها بعدم فهم ثم حرف خط سيره باتجاه ألواح الخشب المرصوفة عند زاوية السياج
لكن المشكلة لم تنتهي هنا.
الصغيرة التي أحبت الأرجوحة أصابتها صدمة عاطفية حين دمرت لها أختها لعبتها الجديدة.
تهدّلت شفتيها، اغرورقت عينيها، وصدح زمور الخطر بصراخها الباكي.
كانت تبكي وتشير بإصبعها الصغير إلى الأرجوحة المقطوعة التي لا يزال جزء منها يتدلى في الهواء يحركه النسيم وتمايل أغصان الشجر.
" لا تبكي يا عصفورة بابا ! سأصلحها لا حقاً لأجلك "
.. تنغّـم والدها بالجملة قبل أن يعاود انشغاله.
نظر تشانيول إلى بريسا فوجد الأخرى تُدير رأسها وتحاول سدّ أذنيها بعدم اكتراث.
رقّ قلبه للصغيرة وأزعجه عدم اهتمام عائلتها فـأقبل نحوها ومن فوره رفعها عالياً جداً فشهقت الصغيرة وسكتت بدهشة.
إنهوطويل والارتفاع عالي !!
" أعجبك ذلك؟ "
.. سألها وهو ينزلها إلى مستوى وجهه ثم عاد ورفعها عالياً بهتافٍ طفوليٍّ مرح فتراقص صوت الطفلة في حنجرتها و زغردت بضحكة هي مزيج من الخوف والاستمتاع ناسيةً سبب بكائها.
كرر تشانيول الحركة عددة مرات ثم حضنها بين ذراعيه برفق و كلمها ببطء و بعيون موسّـعة كأن عيناه ستترجم لها ما يقول ..
" اســ ـمي .. تشـ ـا نيـ ـو ل "
لم تكرر الصغيرة خلفه و انما ابتسمت له بـحب وامتنان.
" لا تستطيع نطق الأسماء الكورية "
وضّحت بريسا التي رضخت أخيراً للتعب وجلست على العشب قرب الجذع رغم تقززها من الوضع.
" توغو ..تات"
.. تمتمت الصغيرة بلكنة غير واضحة وهي تمسح على وجهه الأبيض بكفّ يدها الصغير. و تمرر رؤوس أصابعها على أنفه وشفتيه وخديه المرتفعين بضحكة واسعة.
" ظريفة ! "
.. نطق تشانيول بخفوت وهو ينزلها أرضاً.
قبّل رأسها ثم تركها واتجه إلى حيث تنتظره الألواح و العوارض الخشبية و عيون كلا الفتاتين تلاحقه وكأنه أُعجوبةٌ ما.
سحب اللوح الأول وبحركة واحدة رفعه.
بدا من ملامح وجهه أنه يعاني الأمرّين في حمل اللوح لكنه لم يشتكي. فقط شدّ ما بين حاجبيه وصار وجهه أكثر جدية وهو يبتعد متجهاً إلى الحديقة الخلفية.
مع نسمةٍ عليلةٍ أخرى اهتزّت الأغصان كلها معاً وعلا صوت حفيفها في هدوء المنطقة كموسيقة روحانية عذبة، و تهادت أمام الطفلة على الأرض ورقةً من شجرة الدردار غادرت غصنها قبل أخواتها.
رغم أنها لاتزال خضراء يافعة وجميلة.
قرفصت الطفلة وحملقت بها بفضول ثم حملتها بإصبعين اثنين وعادت بها إلى أختها متعثرةً بخطواتها الصغيرة.
استلمتها بريسا منها بابتسامة وأجلستها قربها بـمُداراة في ظلّ الشجرة الضخمة ثم رفعت عيناها للأعلى للغصن الذي سقطت منه الورقة، حيث تتمايل الأوراق وتترنح يتخللها خيوط من ضوء الشمس ويعطي لونها الأخضر ظلالاً وتدرّجات.
فكرت بعمق إن كانت الورقة تشعر مثلها بالضياع بعد سقوطها
و بعدم الانتماء
فكرت بكمية الحزن الذي ستعانيه الورقة بعد أن سقطت
من الغصن الذي ولدت فيه
إلى الأرض التي ستموت عليها
و تساءلت إن كانت بقية الأوراق فوق ستفتقدها أم لا.
وبينما هي غارقة لمحت عصفوراً يهبط إلى الأرض بخفة و هدوء ليحمل ورقةً مماثلة من الأرض ثم يبتعد طائراً بها بالهدوء ذاته.
فابتسمت بارتياح مع نفسٍ عميق.
وأصغت برضا إلى أصوات بقية العصافير الذين جعلوا من أشجار الحديقة مستعمرةً لهم يشدون فيها براحة و سعادة أزاحت عن صدرها قدراً كبيراً من الضيق الذي كانت تشعر به.
بعد لحظات عاد تشانيول.
عبر الممر الجانبي الضيق الذي يصل باحة المنزل بالحديقة الخلفية يحمل في يده قميصه الذي خلعه ليبقى بكنزة قطنية بيضاء بلا أكمام.
وبهذا بات ذراعيه البضّـين مكشوفين و قد زاد نور النهار الذي وصل أوجه من إشعاع اللون الأبيض لذراعيه و أعطاهما وهجاً يوحي بالهشاشة والطراوة.
صاحت الصغيرة عالياً حالما رأته وكأنها وجدت كنزاً ضائعاً ..
" توغوتات !! توغوتات !! "
كانت تفتح قبضتيها الرقيقتين في الهواء وتطبقها كأنها تدعوه ليأتي إليها ويحملها أو أنها تلمس وجهه عن بعد
كل ذلك ولسانها لا يقف عن الصياح اللطيف ..
" توغوتات ! توغوتات ! "..
أظهر تشانيول كامل أسنانه بابتسامة للصغيرة التي تُـشير إليه دون أن يفهم قصدها.
ضحك الأب الذي كان يُـخرج بعض الخردة من المنزل بشكل ساخر
" أي توغوتاتٍ وجدتها أختك هنا ؟؟"
أخفت بريسا ضحكتها خلف قبضتها وأجاب تشانيول الجاهل بـعنى الكلمة ..
" عمي ! تقصدني أنا ! أنا ! "
مشيراً لصدره بفخر ..
" إنها تناديني بذاك الاسم ، تــ وغوتات من تــ شانيول ، أليس ظريفاً ؟"
هزّ السيد رأسه ضاحكاً وعاد للداخل تاركاً تشانيول غارقاً في جهله وقد أحسّ أن في الأمر سرّاً.
بريسا استمرت بالضحك حتى تقطّعت أنفاسها، كان تشانيول سيسألها عن السبب لكنه لم يشأ مقاطعة أول ضحكة يراها تعلو وجهها.
ابتسم راضياً بـكونه سبباً لتلك القهقهات الناعمة وحمل اللوح الخشبيّ التالي بهمة مؤجلاً سؤاله لوقتٍ لاحق.
.....................
'توغوتات' .. كلمة لا تمس لأي معنى بأي صلة ولا تنحدر من أي اشتقاق لأي لهجةٍ أو صوت.
كلمة غريبة بحروفٍ ابتدعتها الصغيرة في بداية نطقها تُشير بها إلى كل ما هو زَغِـب، منفوش، زاهي اللون، لطيف، ناعم، طري، هشّ، أي كل ما يدغدغ حواسها و يبهجها كـالدمى المحشوة وحلوى القطن أو كـتشانيول مثلاً و ذراعيه وضحكته.
اللون الأبيض الصافي للبشرة لم يكن رائجاً في أميريكا. هناك يفضلون السُمرةَ الخفيفة، لكن لطالما أحب جزءٌ صغير من قلب بريسا اللون الأبيض للبشرة، وهي خصلة تتجاهلها لأنها موروثة من عرقها الآسيوي كما تقنع نفسها دائماً.
لكن الآن وبعد أن نبّهتها الشقيّة الصغيرة إلى شدّة بياض الفتى الذي سيصير جارها على ما يبدو، صار من الصعب على بريسا أن تُزيح عينيها الوقحة عن كل جزء أبيض اللون منه، وما أكثر تلك الأجزاء.
كل شيء فيه يبدو كـ 'توغوتات '
وجنتيه، جبينه، رقبته، والجزء العلوي من ساعديه
كلها : أبيض نضر و يوحي بالليـن و الطراوة كالهلام. نعومة طفل بجسد متطاول لم ينضج بعد و لم يقسو.
استيقظت بريسا من شرودها على تذمر والدها ..
"لقد تعبت " ..
تنهد الأب وهو يجلس على الدرجات الأمامية بانهاك، مرخياً جسده لدرجةٍ أبرزت انتفاخ بطنه الطبيعي بالنسبة لأي رجلٍ في الخمسين من عمره.
كانت السماء قد بدأت تفقد اشعاعها القويّ، و نورها بدأ يبهت ويميل للوهج الأحمر المهلل لغروب الشمس.
" وأنا انتهيت " أعلن تشانيول وهو يمسح جبيه بساعده.
كان يقف قرب المدخل وعند ساقيه تقف بضعة حقائب سفرية جلبها من السيارة ..
" هل أرفع الحقائب للطابق العلوي ؟؟"
أشاح الأب بيده في الهواء رافضاً ..
" لنأكل أولاً ! ألستما جائعين ؟؟ "
ردّ كلاهما معاً، كلٌّ من مكانه :
" بلى "
انتفض والدها واقفاً حين لمحت عيناه طفلته النائمة على ساق اختها .. عاتب بريسا وهو يتقدم نحوها على عجل ..
"لماذا تركتها تنام عندك ؟؟! "
كانت الصغيرة قد تكوّرت وألطَـت رأسها على فخذ أختها و غفت..
" لم أنتبه " تمتمت بريسا وهي تساعده على حملها، ثم وقفت تنفض ملابسها من التراب الذي علق بها.
أثناء مرور الأب من قرب تشانيول نظر له بطرف عينه و سأله من باب الفضول ..
" ألن يُناديك جديك للعشاء؟ "
.. كانت نظرات بريسا التي تتبع أباها كذلك تشعّ بالفضول وتتركز على وجهه بشكلٍ غير مُريح كأن وجوده يضايقها أو شيء من هذا القبيل.
"بلى " ردّ تشانيول ببعض الاحراج .. " هم يتعشّون باكراً بما أنهم كبارٌ في السنّ، لكني كنت أعمل، هل أرفع الحقائب ؟؟ "
حاول تغير الموضوع بسؤاله.
وأثناء كلامه رفع حقيبةً حمراء اللون بقوةٍ زائدة عن المطلوب فتعثّر وكاد يُـسقطها أرضاً.
" حاذر !! " صاحت به بريسا وهي تُسرع لإنقاذ حقيبتها.
سحبتها بشكلٍ دفاعيّ موجهةً إليه نظراتٍ غاضبة و حادة.
" كنت سأرفعها للطابق العلوي " برر تشانيول كمن قُبض عليه بجرمٍ ما.
رنا إليهم الأب بنظرة وهو يعبر الباب داخلاً بشيء من العتب لابنته ..
" دعيه يساعدك بحملها بريسا " نصف جملته وصلتهم خافتة من جوف المنزل بنغمة متململة.
أفرج تشانيول عن نسخةٍ جديدة من ابتساماته، ابتسامة مع نظرة ماكرة ..
" اسمك بريسا إذاً ؟؟ " أضاف وهو يهمّ بسحب الحقيبة من يديها كرجل نبيل " سأحملها لأجلك ! "
ارتدّت بها للخلف خطوة .. " أبداً " خرج صوتها مخنوقاً ولئيماً بعض الشيء.
بدايةً تجعّدت ملامحهُ بعدم فهم ثم بدأ عقله النابغة بطرح فكرة لاستغلال الموقف..عدل وجهه و أظهر ملامح الامتعاض ..
" حسناً .. أعتذر على لمس ما يخصك" .. رمقها بنظرة عتب وشقلَ حقيبةً غيرها وسارع إلى الدرج بخطوات غاضبة.. تقدمها داخلاً.
عضّت المسكينة شفتها السفلى وأنّـبها ضميرها البريء لما فعلت. لماذا تتصرف معه بلؤم بينما هو لطيف؟؟؟
لا مبرر لأفعالها.. سوا أنه يبدو متعجرفاً أرعناً بمجرد النظر إليه !
ولا !! .. هي لا تأتمنه على حقيبتها أو أي شيء !!
تنهّدت المسكينة بعجزٍ وقلة حيلة ثم راحت تجرّ حقيبتها الخاصة نحو البيت.
استقبلتها في الداخل رائحة الرطوبة الباردة ممتزجة برائحة الخشب الذي صُـنع منه المنزل وقليل من رائحة لحاء الشجر الأخضر الذي يعبر الصالة مع البصيص الأخير لنور السماء عبر النوافذ المفتوحة من كلا الجهتين.
بعض الستائر المخرّمة من طرازٍ عتيق كانت ترفرف دون أن يُعيرها أحد أي اهتمام أمام نافذة المطبخ في الجهة اليُسرى متلاعبةً بالضوء الوالج وراسمةً أشكال وهمية من الظلال.
أمامها مباشرةً تمتد الصالة و تنتهي بدرجٍ يعلو نحو الطابق الثاني يبدو كأنه سينهار حالما يطأه أحدهم.
وإلى اليمين غرفة جلوس كان أثاثها في أيامه الخوالي يوحي بالفخامة أما الآن فسيتناسب مع مكبات القمامة أكثر.
شيء واحد لفت انتباه بريسا في الصالة الواسعة. مكتبةٌ جدارية ضخمة ستغدو جميلة حين سترصف كتبها الكثيرة عليها.
لكن الأولوية الآن هي لرفع الحقيبة وإيوائها في غرفتها في مكان لا تصله أيدي المتطفلين و المهرّجين.
تمسّكت بمقبض الحقيبة بكلا يديها ورفعتها بصعوبة حتى الدرجة الأولى من السلّم عندها سمعت وقع خطواته النازلة على الدرج بسرعة.
"لو سمحتي "
متجنبةً النظر في وجهه، عدّلت وقفتها مُخليةً له مساحةً كافية ليستطيع المرور، فأسرع إيقاع نزوله أكثر ومرّ متجاهلاً وجودها.
لكنها لم تستطع تجاهل مروره
لأنه ابتعد تاركاً خلفه شذاً خفيفاً من عطر غريب.
قررت رفع الحقيبة بحيث تُريحها على كل درجة ثم ترفعها إلى التالية.
سيأخذ ذلك وقتاً لكنه أسهل وأكثر راحة بالنسبة لجسد متعب من السفر و عضلات ضامرة لم يسبق وأن أُستخدمت لعملٍ مشابه.
ما كادت توصلها للدرجة الرابعة حتى عاد تشانيول يحمل حقيبةً ضخمة.
أحست بوصوله من الوقع الثقيل لخطواته فكررت حركتها السابقة مفسحةً له ممراً ليعبره.
عبر على مهل لأنه يحمل وزناً فاستطاعت تمييز رائحته هذه المرة
لم يكن عطره لعلامةٍ تجارية معينة وإنما ينتمي للطبيعة بالأحرى للحديقة. كما لو أنه اكتسبها من التمرغ على العشب الندي أو أنه نافس السناجب في تسلق الشجر حتى تعشّقت ملابسه وجسده برائحة الورق الأخضر.
شعرت بريسا بالرائحة أليفةً إلى قلبها ومريحة.
وكما الإحساس الذي يغمرك حين تضم بين ذراعيك طفلاً، أحست بريسا بهالة لطيفة ودافئة تحيط به حين مرّ بجانبها هابطاً.
بعد ذلك الاستنتاج عادت بريسا تركز على عملها وحقيبتها وتشانيول يعبر صاعداً هابطاً بين اللحظة وأختها كأنه يتعمّد تعذيبها وتأخير عملها. حتى أنه صار أسرع ! لا يكاد يصعد حتى يهبط ولا يكاد يهبط حتى يعود مطالباً بالمرور .
صبرت بريسا عليه حتى حدود الدرجة الأخيرة و مع التقاطها لأنفاسها فوق انتبهت أخيراً للوضع بينما كان يقترب صاعداً بخفة ..
" يا !! أنت لا تحمل أي حقيبة ؟! .. انتهيت ؟؟؟"
توقف تشانيول أدنى منها بدرجتين بحيث تقابل وجههما في مستوٍ واحد. عيناه المتوسعة التي تشعّ ببريق الشغب و حاجبيه المرفوعين بهالة مكرٍ مصطنع. وجنتيه المرتفعتين بابتسامة مشاكسة كاملة الأسنان. كلها كانت دلائل على أن تعذيبه لها كان مقصوداً فعلاً.
والبليدة الواقفة أمامه استغرقها الأمر دهراً لتلاحظ.
"أساعدك بحمل الحقيبة ؟؟"
سأل من باب الإغاظة وهو يقبض على ضحكته خلف أسنانه وكتفاه يهتزّان إثر الضحكة المكبوتة.
ابتسمت شفتا بريسا رغماً عنها باستسلام أمام ذلك الوجه الضاحك رُغم نظرتها التأنيبية المعاتبة وشعرت بالراحة والقرب الكافي لتضرب ذراعه المكشوفة ضربةً ودودة ..
" سأردها لك قريباً ! "
سعد تشانيول بتقبلها لمزحته وعرضت ابتسامته حتى ظهرت تجاعيد لطيفة قرب أجفانه.
نادى عليه والدها من مكان ما في الأسفل ..
" تشانيول ! هلا ساعدتني هنا للحظات !! "
هبط تشانيول حالاً تلبيةً للنداء واتجهت بريسا جارّةً حقيبتها نحو غرفةٍ كان بابها مفتوحاً يتدفق منه ضوء ربّانيّ دلالة وجود نافذة فيها وهو كل ما يلزم بريسا لتعلن استملاكها وعشقها للغرفة.
كانت الغرفة متوسطة الحجم وفارغة تماماً من الأثاث.
مشكلة جديدة عليها تحملها بضعة أيامٍ على الأقل.
توجهت بشوق إلى النافذة و فتحتها على وسعها.
العيون التي اعتادت رؤية الأبنية فقط فُتحت على أكبر اتساعٍ لها وهي تسبر بنظرةٍ شاملة الإطلالة اللطيفة للغرفة.
معظم بيوت الضاحية من النوع الأرضيّ لا تتجاوز الطابقين علواً، بسقوفٍ قرميدية مائلة، بطابع قديم.
ولجميعها حدائق وأشجار ضخمة تجعل من كل نسمة تمرّ في المكان شيئاً مميزاً يستحق العيش للاستمتاع به.
أما المحيط القريب من النافذة قكان حديقةَ المنزل الخلفية مع شجرة متوسطة الحجم لا تكاد تصل إلى نافذتها لكنها كان مكتنزة بالأغصان والأوراق. بدت عجوزاً نوعاً ما، لكنها لم تتعرف نوعها.
وزاد من مظهرها الممتلئ وقوف عشرات العصافير الملونة عليها و كأنها مجمع سكنيّ، أو مركز تجاريّ خاص بالطيور.
تقريباً، ما من غصن بها إلا ويحمل عصفوراً. أو هذا ما ظنّته بريسا. و الجميل في الأمر أن أصوات نقاشاتهم وأحاديثهم قد وصلت حدتها و كأن الكل يتشاجر، وكلٌّ يُغرّدُ على ليلاه !
كان غروب الشمس قد بدأ فعلاً لكن زقزقة تلك المخلوقات الظريفة لم تبدو ناعسة ولا متعبةً أبداً وكأنها لن تخلد للنوم بعد قليل.
خلف الشجرة و خلف سياج المنزل علا منزل جارها الطويل، منزل جده بالأحرى.
فكّرت بريسا بلونٍ من السخرية أن الدراما التي تعيشها بقدومها إلى كوريا ستكتمل حقاً إن كانت غرفةُ تشانيول مقابلةً لغرفتها.
وفي غفلةٍ منها طفت على شفتيها ابتسامة للفكرة. ثم راحت تتأمل منزله بجديّة. فماذا لو حصل ذلك فعلاً ؟؟
ربما لن تكون رؤية وجهه وابتسامته و توغوتاته يومياً بذلك السوء.
...................
.
.
.
.
🐶
Коментарі