05
كان من السهل على بريسا بعد أن دخلت أن تلاحظ التغيرات التي طرأت على المكان اثناء غيابهما.
تبدل الكثير من التفاصيل في عينيها تبعاً لتغير سريرتها.
جميع اجهزة الإنارة في البيت كانت تعمل فـرأت بريسا تفاصيل البيت بشكل أوضح كأنها تراه الآن لاول مرة.
الغرف أكثر وسعة والسقف أكثر علواً. بل صارت تراه أكبر من أن يسكنه ثلاثة أشخاص فقط.
عندما دخلته صباحاً بدا أشبه بحلم وأقرب لكابوس غير واقعيّ البتة لكنه الآن لامس دواخلها وبدا واضحاً ومتاحاً لجميع حواسها، الآن وقد هدأت حفيظتها صارت مستعدة لقبوله كمنزل دائم لها.
رائحة معطر الجو المفضل لدى أبيها داعبت أنفها وأضفت بعض الإلفة على أنحاء المنزل وأشعرتها بتلك العاطفة الرقيقة والارتياح الذي يرافق المكان الذي تنتمي إليه روحك.
التغيرات لم تقتصر فقط على طريقة تقبلها للمكان.
اصتدمت رجلها بشيء اثناء دخولها، بعض الصناديق التي تحوي مقتنياتهم وأشيائهم الخاصة قد وصلت عن طريق الشحن واحتلت المدخل وقسماً من الممر.
و في الداخل كان والدها يستلقي على أرضية غرفة الجلوس فوق الغبار والأوساخ لفرط تعبه بعد ان نقلها كما يبدو. المسكين يعاني من آلام الظهر لكن الانتقال فكرته لذا لاباس لو عانى قليلاً.
ابتسمت بريسا لمرآه على تلك الحال وتوجهّت لتتفقد شقيقتها والتي يدل صوت تذمرها القادم من اعلى الدرج على أنها استيقظت لتوها.
أما تشانيول فرمى ما اشترى على أقرب طاولة وخرج يهرول إلى منزل جديه ليحضر ما يلزم وبعض الأطباق الجانبية التي عرضتها جدته عليهم بكرم ولطف لن ترفضه أسرة بريسا أبداً.
عندما كانت تنزل الدرج حاملةً شقيقتها رأته يدخل المطبخ بهمّة عيناه الواسعتين تشع بالثقة كأنه ذاهب ليحارب، إثبات الجدارة والمهارة يعتبر حرباً على أي حال، لذا تقبلت بريسا تعابيره وموقفه الجاد بشأن إعداد العشاء وتمنت له التوفيق كي لا يُحرج، وكي لا تنام دون عشاء بعد كل هذا التعب.
أصرت بو على دخول المطبخ ولم تنفع محاولات بريسا في إقناعها باللعب بعيداً فتركتها وراحت تسعى خلف أعمالها الخاصة فلانفع منها في المطبخ بأي شكل كان.
حين دخلت غرفة الجلوس استقبلتها المكتبة الفارغة فاتحةً رفوفها المغبّرة بانتظار من ينظفها ويملأها بالكتب القيمة، فشمّرت بريسا عن ذراعيها وأقبلت عليها.
تنظف تصنّف كتبها وتصفّها الواحد تلوى الآخر والرف تلو أخيه. وبين الحين والآخر تبتعد عنها قليلاً تنظر إليها نظرة استحسان شاملة، تهزّ رأسها مثنيةً على عملها وكأنها تنقش تحفةً فنية ثم تكمل.
" رائعة ! رائعة ! أعظم من مكتبات لندن !! "
قالها والدها على علو صوته وهو ينهض وقد داق ذرعاً بها وبكتبها، سار إلى المطبخ حيث تشانيول يضحك بخفوت عليهما ومال نحوه يهمس للفتى ..
" إياك أن تظنها كتباً للقراءة، معظمها للزينة صدقني "
ضحك تشانيول شاداً جفنيه وتعابيره بقوة كي لاتفلت منه ضحكته على كامل صخبها وتنتبه بريسا لسخريتهم، والأب يزيد بمزاجٍ تهريجي ..
"صدقني إنها تحب شكل الكتب المصفوفة لا اكثر، أظنها سترتبط بأي فتى يشبه الكتاب أو الورق حين تكبر ! أو ربما قلم رصاص ! "
لم يستطع تشان كبحها بعد الكلمة الأخيرة فانفجر بضحكته الجهورة على علو صوته وبكامل بحّته والتفتت بريسا إليهم كالسهم تطلق عليهم رصاص نظراتها.
الظريف في الأمر أن تشانيول أنكص رأسه فوراً يخفي تعابيره عنها إلا أن جسده الممتد كعامود من خلف المسطبة الرخامية ظلّ يهتز بسبب الضحك المكبوت.
والدها تظاهر بالجهل التام والبراءة و قبل أن يسمع كلمة تذمّر منها قام بتشغيل جهاز الموسيقا لتصدح في البيت واحدة من أغانيه العفنة، ثم حمل بو التي تقف بجانبه وراح يراقصها ويرفعها في الهواء رغم ألم ظهره.
كان اللحن لأغنية كورية من أيام التسعينات شغلها رافعاً مستوى الصوت ليملأ بها أنحاء البيت وهو يرقص مستعيداً أيام مجده والصغيرة تضحك لجنون والدها.
إرتاح تشان للجو اللطيف وشعر بالتقرب منهم، بل إنه أحبهم بالفعل !!!
الأب ظريف يحب الموسيقا بل ويستمع إليها بصخب المراهقين والصغيرة لطيفة وجميلة وتنظر إليه بعيون محبة طوال الوقت وتدعوه لحملها وتناديه بتلك الكلمة العجيبة، أما بريسا فيبدو أن صداقتهما ستنشأ وتتعمق أسرع مما تخيل.
هذا أفضل بملايين المرات من قضاء أمسية فارغة في غرفته وحيداً. ملايين؟؟ بل لا مجال للمقارنة حتى.
أخيراً انتهت الأغنية التي يحبها ربّ الاسرة الصغيرة ومع بدء الاغنية التالية دلف إلى المطبخ يشمّر عن ساعديه ..
" هات ناولني ماقد اساعدك به، لقد عزمت على تعلم الطبخ منك اليوم !! "
ضحك تشان ضحكة واسعة انعكست في تغضنات عينيه ولمعانها وهو يراقب الرجل يقترب لياخذ عنه البصل والسكين ..
"ألست متعباً سيدي ؟؟ أقصد من الرقص "
"وهل تراني عجوزاً يافتى !!"
ارتدّ رأس تشان للخلف لشدة ضحكه على نبرة والد بريسا المازحة الرفيعة و دون أن تزول الضحكة عن وجهه بدأ بطبق آخر.
في الطرف الآخر و عندما لم تعد تسمع أحاديثهم وضعت بريسا الكتاب من يدها على الرف والتفتت إليهم تتفقدهم ..
هناك كان تشان يقف محنياً نحو حوض الغسل ينظف بعض الخضروات بتركيز عالٍ والماء يتدفق على يديه البيضاوتين و يتناثر رذاذاً على قميصه، شفتيه مزمومتان قليلاً وحاجبيه معقودين لفرط اندماجه بما يفعل ورأسه يتحرك بخفة مع إيقاع الأغنية وأحياناً يدمدم بصوت ذي بحة إلا أن صوته لم يكن مسموعاً لبريسا للأسف.
لم تكن لتتخيل أن أول يوم لهم في كوريا سيكون دافئاً وبهيجاً هكذا.
كيف تحول اليوم الذي بدأته بالتذمر حين هبطت طائرتهم وانقلب إلى أمسية ظريفة ممتعة ؟؟ أليس كل هذا بسبب وجوده؟؟ أي طاقة لديه ليستطيع سحب الكآبة التي غطت على هذه الأسرة منذ سنة وحتى اليوم ويبدلها بمزاج المرح والإلفة رغم كل التعب الذي ينخر في أجسادهم.
إنها التوغوتات ولا شكّ، توغوتات روحه المُحِبّة، جمال روحه ونفسه ومعدنه الطيب هو ما جعل دخوله إلى هذا المنزل سلساً وسريعاً.
- عمي اجعلها قطعاً صغيرة !
تذمر تشان بشأن البصل الذي لايزال يقطعه والدها ويبكي بينما كان تشان يُضيف الأرز إلى آلة الطبخ.
وعلى ذكر الأرز، لقد انتشرت رائحته ذكية للغاية ولطيفة تثير شهية بريسا وتحرض جوعها اثناء عملها.
أما بو الصغيرة فكانت تأتي مسرعة بخطى قصيرة لتفقد بريسا للحظات كأنما لتطمئن وتشبع فضولها بمعرفة كل شيء ثم تعود إليهم بلهفة تشاهد وتضحك باستمتاع تام وبهجة رغم أنها لم تكن تفهم ما يحصل.
على الأغلب كانت تراقب توغوتات تشانيول وهو يتحرك ويتحدث - خمنت بريسا من نوعية الضحكات التي كانت تطلقها أختها.
وسرعان ما انتشرت رائحة البصل المُـحمّر وتلاه رائحة السجق الشهية والبهار وبقية الأطباق الجانبية.
جلست بريسا إلى المائدة وهي تتضور جوعاً وقد زادت رائحة الطعام من عذابها وأشعرتها بالوهن وإنعدام الطاقة.
كما جلس والدها و بو تاركين لتشان المسكين مهمة وضع الصحون الأخيرة ناسين أن الفتى متعب مثلهم وأكثر فهو يعمل منذ الصباح.
الفرق أنه لا يتذمر.
وزع صحون الأرز أمامهم و وضع واحداً يطفح بما فيه أمام بريسا مع ابتسامة رقيقة ونظرة خاطفة من عينيه المشاكستين تمنى لها بها وجبة هنيئة وشكرته بدورها بنظرة ممتنة وابتسامة حلوة.
راقب والدها كيف قبلت الصحن بدهشة كبيرة ..
" ستأكلين أرزاً ؟؟ "
اجابت بريسا ببراءة شديدة وكأنما لم تفهم ..
" أكيد "
جلس تشان قبالتها وهو لايفهم مايحصل بينهما ثم أعلن ..
" بالهناء والشفاء، أنت اولاً عمي ! "
نظرت البنات نحوه باستغراب لا يفهمن ما قصده ثم حملقت بريسا بوجه والدها الذي شرح باختصار ..
" إنها التقاليد يابنات ، كلا وحسب. "
أمسكت بريسا ملعقتها ثم رأت تشان ينتظر ليبدا الأب الكبير أولاً .. فأنزلتها وانتظرت مثله حتى بدأ والدها فـتشان ومن ثم بدأت هي.
ابتسم الأب بالخفاء لما رأى من تصرفات ابنته وأكمل حشو فمه بالطعام الشهي دون أن يُعلق كي لايحرجها.
لقد اطمأن باله، إذ أن الوحدة هي ماكان يجعلها تنفر من القدوم إلى كوريا وما إن وجدت صديقاً حتى عادت الحمل الوديع الذي يعرفه.
اااه كم شعر بالامتنان لوجود هذا الفتى معهم اليوم، في الحقيقة زاد إمتنانه خاصةً بعد أن تذوق طهوه الشهي، صحن السجق بالذات.
حسناً، العمل لن يقف عند هذا الحد، بداية حياة جديدة ليس سهلاً.
بعد العشاء تلاشت الموسيقا من الأجواء سامحة لـلليل بالحلول بسكينته وهدوءه على المنزل وعلى أرواحهم ايضاً. فـفترت همّة الأجساد و تفتح التعب وتباطأت حركتهم تحت تأثير النعاس والإنهاك.
تطوعت بريسا لتنظيف الصحون، بينما تساعدَ والدها مع تشان في نقل وإفراغ الصناديق التي استلموها بعد وصولهم.
صاح تشان فجأة عندما التقطت عينه شيئاً في غرفة الجلوس ..
" واه أهذا غيتار ؟؟ "
و ركض إلى صندوق الغيتار الذي رُكن جانباً، أكمل صياحه الذي اكتسب صدىً خفيف في فراغ الغرفة بسبب الهدوء الذي حل مع الليل في الخارج ..
" لم يكن هنا في الصباح !! "
تغاضى والدها عن فرحة الفتى وتطاوله في لمس الغيتار وردّ ببرود متعب هو يفرغ صندوقاً ضخماً ..
" لقد وصل بالشحن "
اقتربت بريسا على صوته العالي و وقفت بالباب تتفقد ما يفعلانه وقد انتهت من عملها في المطبخ، سألها تشانيول متطلعاً بحماس لاحتمال أن مايفكر به صحيح ..
" أهو لك ؟؟ تجيدين العزف ؟؟ "
هزّت رأسها نفياً و ظلت صامتة عيناها تتعلق بما يحمل في يده.
اقتربت بو منه و وقفت بجانبه ترفع إليه عينيها التي تطفح بالفضول، فهي لاترى الغيتار عادة وليست معتادةً عليه.
استغرب تشانيول ردهما وسمح لنفسه بـفتح الصندوق و إخراج الغيتار وسط دهشة كاملة و إعجاب شديد بفخامته وحسن صنعه
وهو يبرر بحماس بصوته الفتيّ ..
" انا عندي واحد ، لا يضاهي هذا طبعاً، ماما لم تسمح لي بجلبه معي، قالت يجب ان أترك مسافة بيني وبينه لأني أصبح مهوساً به مؤخراً " .. أنهى ثرثرته بابتسامة بلهاء بريئة لـبريسا.
والأخيرة لم تقدر على التفاعل معه كما توقع منها بل حدّقت به بجدية مخالفة لما كانت عليه منذ قليل لكنه لم يحمّل الأمر أي معنى وعاد لتفحص الآلة الموسيقية كخبير مخضرم.
اعتدل الأب في وقفته وراح يراقب تلك النظرة في عيني الفتى ذلك الشغف المكبوت ذكره بأحدهم وحرك عليه مواجعه.
" لا اظنه يصلح للعزف بعد الآن "
قالها السيد بشيء من الحزن والاستسلام كما لو أنه سيرميه في القمامة في اليوم التالي ليتخلص منه.
تشان كان غارق في عالم أبعد من أن يستطيع رؤية الجو الكئيب الذي أثاره في المنزل بعد إخراجه لهذا الشيء.
و دون قصد منه ضربت أصابعه الأوتار الحساسة ضربة واحدة خرجت بصوت نشاذ بشع ففزع هو قبل أي احد آخر وكاد الغيتار يسقط منه لتصيح بريسا به ..
" هلا توقفت !! "
أسدلت يديها تحدجه بغضب ثم تركت الغرفة وصعدت لغرفتها.
أحس تشان اخيراً أن خطباً ما قد أصابهم. سأل وعينيه تتنقل بين المكان الذي كانت تقف فيه وبين أبيها بضياع ..
" ما الأمر ؟؟ "
ترك الأب ما بيده وتوجه إلى المطبخ وغاب لفترة ثم عاد مع علبة مشروب مبرّد وتشان لايزال يقف منقبض الصدر كمذنب حاملاً دليل إدانته.
جلس الأب على الأريكة مطلقاً تنهيدة طويلة وعميقة ..
" أظنني سأتوقف لهذا اليوم يمكنك الرحيل، لقد نال مني التعب "
كان السيد يطرده بوضوح ..
" سيدي هل أخطأت ؟؟ "
سأل تشان بغصة.
هو لم يقصد فعل شيء لكنه فجأة شعر بأنه هدم المنزل فوق رؤوس أصحابه.
تنهد الرجل ثم رفع مشروبه وابتلع جرعة كبيرة، لم يكن يحبذ فتح الموضوع لكن تشان يستحق تفسيراً كي لايشعر بالذنب.
" ما تحمله بيدك يابني كان يوماً ما ملكاً لزوجتي الراحلة "
شهق تشان شهقة صغيراً مدركاً فداحة ما فعل و وضع الغيتار من يده بهدوء وإجلال وهو يستمع لصوت جاره المجروح ..
" إنه الذكرى الوحيدة التي حملناها معنا، وكما ترى لقد فقد صلاحيته تماماً "
" اعتذر "
همس الفتى بصدق وتأثر وهزّ الرجل رأسه متقبلاً اعتذاره بابتسامة تخبره بأن لانفع من الاعتذار الآن.
صعدت عينا تشانيول الدرج إلى حيث الباب الذي أغلقته بريسا خلفها. لقد أحزنها بكل غباء وهو يعرف أنها لاتزال تعاني فقدان والدتها كما أخبرته، ماذا يفعل؟؟ ربما تكرهه على هذه الحال.
صعد إليها و دق الباب عدة مرات فلم تجبه، ألح ..
" بريسا أنا أعتذر ، لم أكن أقصد "
قالها بأسف حقيقي لكنها لم تفتح فنزل بيأس و وجه عابس. كان على وشك الذهاب عندما طرق بابه فكرة فعاد إلى أبيها وبصوت يملؤه الأدب طلب ..
" سيدي هل تأمن على تركه معي؟ ولو يوماً واحداً فقط !! "
_______
بعد الجلوس طويلاً في الزاوية المظلمة من الغرفة وقفت بريسا أمام نافذتها وشجرتها الهفهافة، كان القمر الناعس مسترخي في حضن السماء والنسيم رقيق منعش.
لقد مرّ اليوم دون أن تراه، لم يأتي لمساعدتهم كما فعل البارحة. فكان العمل والترتيب والتنظيف متعباً مملاً واليوم طويل بشكل لا يُحتمل.
لم تستطع فتح باب غرفتها له الليلة الماضية، لقد كانت تبكي ولم تشأ أن يراها تبكي ثانيةً حتى لا يظن أنه السبب. فهو ليس كذلك.
كانت ستبكي حتى لو لم يخرجه أو يعزف عليه، كانت ستبكي في أي وقت سترى فيه الغيتار دون أن ترافقه أنامل والدتها وعزفها الجميل، كيف لا والجرح لايزال مفتوحاً في قلبها؟
لكن ردة فعلها ورفضها لاعتذاره أبعده اليوم بكامله.
هبت نسمة عليلة تحركت معها الشجرة على مهل وبخفة ناشرة عطراً جميلاً شافياً في أنحاء غرفتها.
القمر كان في السماء الصافية بلا غيوم والنجوم ظاهرة، وفي الطابق الثاني للمنزل المقابل غرفة واحدة مضاءة بنور ساهر.
إنها غرفة تشانيول، هو ليس مجبراً على مساعدتهم أو الطهو لهم أو حتى اصطحابها لأي مكان، لكن ألا يحبون في كوريا إلقاء التحية؟؟ لماذا لم يريها وجهه اليوم أبداً ؟؟!
عبست ملامحها وكانت على وشك إغلاق نافذتها عندما انفتحت نافذته و كأنما سمع صوت أفكارها و شعر بها تراقب بيته، نظر في وجهها حالما أطل رأسه ولوّح لها بمرح.
حسناً .. هذه ليست التحية التي أرادتها لكن ابتسامتها اعترفت بظرافته.
دققت بريسا النظر لتراه يجلس على حافة النافذة وعلى ساقه يرتاح غيتار وبمساعدة نور غرفته ميزت فيه غيتار والدتها ذاته.
و معى إنسياب هواء الليل الحالم ترقرقت ألحان عذبة من تلك النافذة.
أقسمت الدموع على التدخل ثانيةً لكن بريسا كفكفتها ورسمت عوضاً عنها ابتسامة. كيف لا والغيتار عاد يعمل من جديد ؟؟؟
كيف لا وهي تراه يتموضع بمثالية بين ذراعي الأحمق ذو التوغوتات الهشة والروح المرحة؟؟؟
يتموضع هناك على ساقيه الطويلتين مضموماً بذراعين يكشفهما قميصه القطنيّ المريح. يتموضع في حضن الشاب الفتي النضر ذو الوجه المبتهج وقد تدلت خصلات شعره لتهتز برقة إثر حركاته المندمجة وروحه المتوحدة مع اللحن.
كان لحنه لا يطابق مافي ذاكرتها عن ألحان الغيتار. لم يكن اللحن حزيناً باكياً ولا مهدهداً ناعساً بل منعشاً و منطلق بحب الحياة والأمل.
مرح وسعيد وإيجابي.
كان تشانيول يعزف ويرفع بين الحين والآخر رأسه إليها بأوسع ابتسامة يمكن أن يحتويها وجهه. عيونه الواسعة تبشرها بأنه أصلح الخلل.
وما الذي لايستطيع فعله هذا التشانيول ؟؟؟
أسندت بريسا ساعديها على حافة النافذة واستمعت إلى اللحن الذي تدفق بسلاسة من غيتار والدتها وكم أسعدها انعكاس نور القمر على توغوتات وجه وساعدي تشانيول الذي كان يعزف.
بدا جميلاً للغاية في تلك اللحظة يعدُ بحياة هانئة ومريحة في هذا الحي وبداية مشوارٍ جديد.
وعلاقة جديدة؟
فكرت وهي تضع رأسها على الوسادة لتنام يومها أن البقاء في كوريا وفي هذا الحيّ بالذات ربما ليس بالسوء الذي تخيلته، بل سيكون لطيفاً لواستطاعت العيش هنا بقية حياتها.
.........
.
.
.
.
.
🐶
النهاية.
.
.
.
هكذا تنتهي توغوتات
رايكم ؟؟؟
قصيرة وكيوت ورايقة وما فيها أكشن .. هكذا اردتها.
شكراً للقراءة 😊
__________
BOUNCE !!!!
جلست بريسا حيث كوّم تشان كمية كبيرة من الوسادات ارضاً ليجلسا عليها أمام شاشة وجهاز ألعاب في غرفته وراحت تقرمش من الوجبات الخفيفة التي حضرها قبل بدء اللعبة ..
"هل غضب لأني تكلمت عن والدتي ؟؟ أنا لم اقصد !! "
تكلم بعبوس وهو يدخل محمّلاً بالمشروبات مِلء ذراعيه .. أجابته ساخرة وهي تجلس على الأرضية بارتياح ..
" أبي ؟؟ .. تشه ! أبي نسي كل شيء ما إن حطت قدميه أرض سيئول، أراهن أنه لم يكن يستمع إليك حتى !! "
قالتها ثم وضعت ثلاث حبات بطاطس في فمها دفعة واحدة و بحنق !
سأل وهو يجلس والعلب تتساقط منه ..
" وبو ؟؟ "
" بو ؟؟.. حسناً بو لاتهتم سوى للتوغوتات "
التفتت إليه بنظرة تتفحص وجهه وبابتسامة مشاكسة .. فسأل بانزعاج ..
" نقرتم رأسي بتلك الكلمة، ما هي؟؟ "
" هذه ! "
وقرصت قطعةً هشة و بضّة من الجانب الداخلي لذراعه المكشوفة.
صاح و تأوّه وانقلب للخلف يعاني بدرامية مضحكة
تاركاً بريسا تتلذذ بالإحساس الظريف العالق على أصابعها جراء لمسها لتوغوتاته. تمتمت بتشفّي ..
" واااه أردت فعلاً لمسها "
توقف عن المبالغة ورفع وجهه الذي احمرّ من الخجل وفرط الحركة صارخاً ..
" اصمتي هذا محرج !! "
رمته بوسادة ..
" أحمق !! وهل كان البكاء امام فتى غريب تعرفت عليه للتو واحتضانه لي ليس محرجاً ؟؟ "
انتفض واقفاً واحتج فوراً موجهاً إليها إصبعه ..
" هذا مختلف "
بريسا بصوت أخفت وعيون معاتبة ..
" كان عليك تجاهلي و إدارة وجهك "
تنهد وجلس بجانبها وهو يستذكر ذاك اليوم منذ ثلاث اسابيع. الأيام تمر بسرعة بوجود رفيقة مثلها لو لا أنها اكثر شغباً منه ومن أي فتىً يعرفه.
شعر بيدها تقرص طرف خده، انتفض وأبعد وجهه ..
" لا تلمسيني !!! "
اقتربت منه وهي تترجى بطريقة تعمدت فيها إخافته ..
" مرة واحدة فقط رجاءً، ها ؟ فقط مرة أخرى !! "
" ابتعدي !! "
صاح هارباً قبل أن تنهض بهمة وتلحق به بنيّة خالصة لـللعب والمرح.
........
🐶🐶🐶🐶🐶🐶
تبدل الكثير من التفاصيل في عينيها تبعاً لتغير سريرتها.
جميع اجهزة الإنارة في البيت كانت تعمل فـرأت بريسا تفاصيل البيت بشكل أوضح كأنها تراه الآن لاول مرة.
الغرف أكثر وسعة والسقف أكثر علواً. بل صارت تراه أكبر من أن يسكنه ثلاثة أشخاص فقط.
عندما دخلته صباحاً بدا أشبه بحلم وأقرب لكابوس غير واقعيّ البتة لكنه الآن لامس دواخلها وبدا واضحاً ومتاحاً لجميع حواسها، الآن وقد هدأت حفيظتها صارت مستعدة لقبوله كمنزل دائم لها.
رائحة معطر الجو المفضل لدى أبيها داعبت أنفها وأضفت بعض الإلفة على أنحاء المنزل وأشعرتها بتلك العاطفة الرقيقة والارتياح الذي يرافق المكان الذي تنتمي إليه روحك.
التغيرات لم تقتصر فقط على طريقة تقبلها للمكان.
اصتدمت رجلها بشيء اثناء دخولها، بعض الصناديق التي تحوي مقتنياتهم وأشيائهم الخاصة قد وصلت عن طريق الشحن واحتلت المدخل وقسماً من الممر.
و في الداخل كان والدها يستلقي على أرضية غرفة الجلوس فوق الغبار والأوساخ لفرط تعبه بعد ان نقلها كما يبدو. المسكين يعاني من آلام الظهر لكن الانتقال فكرته لذا لاباس لو عانى قليلاً.
ابتسمت بريسا لمرآه على تلك الحال وتوجهّت لتتفقد شقيقتها والتي يدل صوت تذمرها القادم من اعلى الدرج على أنها استيقظت لتوها.
أما تشانيول فرمى ما اشترى على أقرب طاولة وخرج يهرول إلى منزل جديه ليحضر ما يلزم وبعض الأطباق الجانبية التي عرضتها جدته عليهم بكرم ولطف لن ترفضه أسرة بريسا أبداً.
عندما كانت تنزل الدرج حاملةً شقيقتها رأته يدخل المطبخ بهمّة عيناه الواسعتين تشع بالثقة كأنه ذاهب ليحارب، إثبات الجدارة والمهارة يعتبر حرباً على أي حال، لذا تقبلت بريسا تعابيره وموقفه الجاد بشأن إعداد العشاء وتمنت له التوفيق كي لا يُحرج، وكي لا تنام دون عشاء بعد كل هذا التعب.
أصرت بو على دخول المطبخ ولم تنفع محاولات بريسا في إقناعها باللعب بعيداً فتركتها وراحت تسعى خلف أعمالها الخاصة فلانفع منها في المطبخ بأي شكل كان.
حين دخلت غرفة الجلوس استقبلتها المكتبة الفارغة فاتحةً رفوفها المغبّرة بانتظار من ينظفها ويملأها بالكتب القيمة، فشمّرت بريسا عن ذراعيها وأقبلت عليها.
تنظف تصنّف كتبها وتصفّها الواحد تلوى الآخر والرف تلو أخيه. وبين الحين والآخر تبتعد عنها قليلاً تنظر إليها نظرة استحسان شاملة، تهزّ رأسها مثنيةً على عملها وكأنها تنقش تحفةً فنية ثم تكمل.
" رائعة ! رائعة ! أعظم من مكتبات لندن !! "
قالها والدها على علو صوته وهو ينهض وقد داق ذرعاً بها وبكتبها، سار إلى المطبخ حيث تشانيول يضحك بخفوت عليهما ومال نحوه يهمس للفتى ..
" إياك أن تظنها كتباً للقراءة، معظمها للزينة صدقني "
ضحك تشانيول شاداً جفنيه وتعابيره بقوة كي لاتفلت منه ضحكته على كامل صخبها وتنتبه بريسا لسخريتهم، والأب يزيد بمزاجٍ تهريجي ..
"صدقني إنها تحب شكل الكتب المصفوفة لا اكثر، أظنها سترتبط بأي فتى يشبه الكتاب أو الورق حين تكبر ! أو ربما قلم رصاص ! "
لم يستطع تشان كبحها بعد الكلمة الأخيرة فانفجر بضحكته الجهورة على علو صوته وبكامل بحّته والتفتت بريسا إليهم كالسهم تطلق عليهم رصاص نظراتها.
الظريف في الأمر أن تشانيول أنكص رأسه فوراً يخفي تعابيره عنها إلا أن جسده الممتد كعامود من خلف المسطبة الرخامية ظلّ يهتز بسبب الضحك المكبوت.
والدها تظاهر بالجهل التام والبراءة و قبل أن يسمع كلمة تذمّر منها قام بتشغيل جهاز الموسيقا لتصدح في البيت واحدة من أغانيه العفنة، ثم حمل بو التي تقف بجانبه وراح يراقصها ويرفعها في الهواء رغم ألم ظهره.
كان اللحن لأغنية كورية من أيام التسعينات شغلها رافعاً مستوى الصوت ليملأ بها أنحاء البيت وهو يرقص مستعيداً أيام مجده والصغيرة تضحك لجنون والدها.
إرتاح تشان للجو اللطيف وشعر بالتقرب منهم، بل إنه أحبهم بالفعل !!!
الأب ظريف يحب الموسيقا بل ويستمع إليها بصخب المراهقين والصغيرة لطيفة وجميلة وتنظر إليه بعيون محبة طوال الوقت وتدعوه لحملها وتناديه بتلك الكلمة العجيبة، أما بريسا فيبدو أن صداقتهما ستنشأ وتتعمق أسرع مما تخيل.
هذا أفضل بملايين المرات من قضاء أمسية فارغة في غرفته وحيداً. ملايين؟؟ بل لا مجال للمقارنة حتى.
أخيراً انتهت الأغنية التي يحبها ربّ الاسرة الصغيرة ومع بدء الاغنية التالية دلف إلى المطبخ يشمّر عن ساعديه ..
" هات ناولني ماقد اساعدك به، لقد عزمت على تعلم الطبخ منك اليوم !! "
ضحك تشان ضحكة واسعة انعكست في تغضنات عينيه ولمعانها وهو يراقب الرجل يقترب لياخذ عنه البصل والسكين ..
"ألست متعباً سيدي ؟؟ أقصد من الرقص "
"وهل تراني عجوزاً يافتى !!"
ارتدّ رأس تشان للخلف لشدة ضحكه على نبرة والد بريسا المازحة الرفيعة و دون أن تزول الضحكة عن وجهه بدأ بطبق آخر.
في الطرف الآخر و عندما لم تعد تسمع أحاديثهم وضعت بريسا الكتاب من يدها على الرف والتفتت إليهم تتفقدهم ..
هناك كان تشان يقف محنياً نحو حوض الغسل ينظف بعض الخضروات بتركيز عالٍ والماء يتدفق على يديه البيضاوتين و يتناثر رذاذاً على قميصه، شفتيه مزمومتان قليلاً وحاجبيه معقودين لفرط اندماجه بما يفعل ورأسه يتحرك بخفة مع إيقاع الأغنية وأحياناً يدمدم بصوت ذي بحة إلا أن صوته لم يكن مسموعاً لبريسا للأسف.
لم تكن لتتخيل أن أول يوم لهم في كوريا سيكون دافئاً وبهيجاً هكذا.
كيف تحول اليوم الذي بدأته بالتذمر حين هبطت طائرتهم وانقلب إلى أمسية ظريفة ممتعة ؟؟ أليس كل هذا بسبب وجوده؟؟ أي طاقة لديه ليستطيع سحب الكآبة التي غطت على هذه الأسرة منذ سنة وحتى اليوم ويبدلها بمزاج المرح والإلفة رغم كل التعب الذي ينخر في أجسادهم.
إنها التوغوتات ولا شكّ، توغوتات روحه المُحِبّة، جمال روحه ونفسه ومعدنه الطيب هو ما جعل دخوله إلى هذا المنزل سلساً وسريعاً.
- عمي اجعلها قطعاً صغيرة !
تذمر تشان بشأن البصل الذي لايزال يقطعه والدها ويبكي بينما كان تشان يُضيف الأرز إلى آلة الطبخ.
وعلى ذكر الأرز، لقد انتشرت رائحته ذكية للغاية ولطيفة تثير شهية بريسا وتحرض جوعها اثناء عملها.
أما بو الصغيرة فكانت تأتي مسرعة بخطى قصيرة لتفقد بريسا للحظات كأنما لتطمئن وتشبع فضولها بمعرفة كل شيء ثم تعود إليهم بلهفة تشاهد وتضحك باستمتاع تام وبهجة رغم أنها لم تكن تفهم ما يحصل.
على الأغلب كانت تراقب توغوتات تشانيول وهو يتحرك ويتحدث - خمنت بريسا من نوعية الضحكات التي كانت تطلقها أختها.
وسرعان ما انتشرت رائحة البصل المُـحمّر وتلاه رائحة السجق الشهية والبهار وبقية الأطباق الجانبية.
جلست بريسا إلى المائدة وهي تتضور جوعاً وقد زادت رائحة الطعام من عذابها وأشعرتها بالوهن وإنعدام الطاقة.
كما جلس والدها و بو تاركين لتشان المسكين مهمة وضع الصحون الأخيرة ناسين أن الفتى متعب مثلهم وأكثر فهو يعمل منذ الصباح.
الفرق أنه لا يتذمر.
وزع صحون الأرز أمامهم و وضع واحداً يطفح بما فيه أمام بريسا مع ابتسامة رقيقة ونظرة خاطفة من عينيه المشاكستين تمنى لها بها وجبة هنيئة وشكرته بدورها بنظرة ممتنة وابتسامة حلوة.
راقب والدها كيف قبلت الصحن بدهشة كبيرة ..
" ستأكلين أرزاً ؟؟ "
اجابت بريسا ببراءة شديدة وكأنما لم تفهم ..
" أكيد "
جلس تشان قبالتها وهو لايفهم مايحصل بينهما ثم أعلن ..
" بالهناء والشفاء، أنت اولاً عمي ! "
نظرت البنات نحوه باستغراب لا يفهمن ما قصده ثم حملقت بريسا بوجه والدها الذي شرح باختصار ..
" إنها التقاليد يابنات ، كلا وحسب. "
أمسكت بريسا ملعقتها ثم رأت تشان ينتظر ليبدا الأب الكبير أولاً .. فأنزلتها وانتظرت مثله حتى بدأ والدها فـتشان ومن ثم بدأت هي.
ابتسم الأب بالخفاء لما رأى من تصرفات ابنته وأكمل حشو فمه بالطعام الشهي دون أن يُعلق كي لايحرجها.
لقد اطمأن باله، إذ أن الوحدة هي ماكان يجعلها تنفر من القدوم إلى كوريا وما إن وجدت صديقاً حتى عادت الحمل الوديع الذي يعرفه.
اااه كم شعر بالامتنان لوجود هذا الفتى معهم اليوم، في الحقيقة زاد إمتنانه خاصةً بعد أن تذوق طهوه الشهي، صحن السجق بالذات.
حسناً، العمل لن يقف عند هذا الحد، بداية حياة جديدة ليس سهلاً.
بعد العشاء تلاشت الموسيقا من الأجواء سامحة لـلليل بالحلول بسكينته وهدوءه على المنزل وعلى أرواحهم ايضاً. فـفترت همّة الأجساد و تفتح التعب وتباطأت حركتهم تحت تأثير النعاس والإنهاك.
تطوعت بريسا لتنظيف الصحون، بينما تساعدَ والدها مع تشان في نقل وإفراغ الصناديق التي استلموها بعد وصولهم.
صاح تشان فجأة عندما التقطت عينه شيئاً في غرفة الجلوس ..
" واه أهذا غيتار ؟؟ "
و ركض إلى صندوق الغيتار الذي رُكن جانباً، أكمل صياحه الذي اكتسب صدىً خفيف في فراغ الغرفة بسبب الهدوء الذي حل مع الليل في الخارج ..
" لم يكن هنا في الصباح !! "
تغاضى والدها عن فرحة الفتى وتطاوله في لمس الغيتار وردّ ببرود متعب هو يفرغ صندوقاً ضخماً ..
" لقد وصل بالشحن "
اقتربت بريسا على صوته العالي و وقفت بالباب تتفقد ما يفعلانه وقد انتهت من عملها في المطبخ، سألها تشانيول متطلعاً بحماس لاحتمال أن مايفكر به صحيح ..
" أهو لك ؟؟ تجيدين العزف ؟؟ "
هزّت رأسها نفياً و ظلت صامتة عيناها تتعلق بما يحمل في يده.
اقتربت بو منه و وقفت بجانبه ترفع إليه عينيها التي تطفح بالفضول، فهي لاترى الغيتار عادة وليست معتادةً عليه.
استغرب تشانيول ردهما وسمح لنفسه بـفتح الصندوق و إخراج الغيتار وسط دهشة كاملة و إعجاب شديد بفخامته وحسن صنعه
وهو يبرر بحماس بصوته الفتيّ ..
" انا عندي واحد ، لا يضاهي هذا طبعاً، ماما لم تسمح لي بجلبه معي، قالت يجب ان أترك مسافة بيني وبينه لأني أصبح مهوساً به مؤخراً " .. أنهى ثرثرته بابتسامة بلهاء بريئة لـبريسا.
والأخيرة لم تقدر على التفاعل معه كما توقع منها بل حدّقت به بجدية مخالفة لما كانت عليه منذ قليل لكنه لم يحمّل الأمر أي معنى وعاد لتفحص الآلة الموسيقية كخبير مخضرم.
اعتدل الأب في وقفته وراح يراقب تلك النظرة في عيني الفتى ذلك الشغف المكبوت ذكره بأحدهم وحرك عليه مواجعه.
" لا اظنه يصلح للعزف بعد الآن "
قالها السيد بشيء من الحزن والاستسلام كما لو أنه سيرميه في القمامة في اليوم التالي ليتخلص منه.
تشان كان غارق في عالم أبعد من أن يستطيع رؤية الجو الكئيب الذي أثاره في المنزل بعد إخراجه لهذا الشيء.
و دون قصد منه ضربت أصابعه الأوتار الحساسة ضربة واحدة خرجت بصوت نشاذ بشع ففزع هو قبل أي احد آخر وكاد الغيتار يسقط منه لتصيح بريسا به ..
" هلا توقفت !! "
أسدلت يديها تحدجه بغضب ثم تركت الغرفة وصعدت لغرفتها.
أحس تشان اخيراً أن خطباً ما قد أصابهم. سأل وعينيه تتنقل بين المكان الذي كانت تقف فيه وبين أبيها بضياع ..
" ما الأمر ؟؟ "
ترك الأب ما بيده وتوجه إلى المطبخ وغاب لفترة ثم عاد مع علبة مشروب مبرّد وتشان لايزال يقف منقبض الصدر كمذنب حاملاً دليل إدانته.
جلس الأب على الأريكة مطلقاً تنهيدة طويلة وعميقة ..
" أظنني سأتوقف لهذا اليوم يمكنك الرحيل، لقد نال مني التعب "
كان السيد يطرده بوضوح ..
" سيدي هل أخطأت ؟؟ "
سأل تشان بغصة.
هو لم يقصد فعل شيء لكنه فجأة شعر بأنه هدم المنزل فوق رؤوس أصحابه.
تنهد الرجل ثم رفع مشروبه وابتلع جرعة كبيرة، لم يكن يحبذ فتح الموضوع لكن تشان يستحق تفسيراً كي لايشعر بالذنب.
" ما تحمله بيدك يابني كان يوماً ما ملكاً لزوجتي الراحلة "
شهق تشان شهقة صغيراً مدركاً فداحة ما فعل و وضع الغيتار من يده بهدوء وإجلال وهو يستمع لصوت جاره المجروح ..
" إنه الذكرى الوحيدة التي حملناها معنا، وكما ترى لقد فقد صلاحيته تماماً "
" اعتذر "
همس الفتى بصدق وتأثر وهزّ الرجل رأسه متقبلاً اعتذاره بابتسامة تخبره بأن لانفع من الاعتذار الآن.
صعدت عينا تشانيول الدرج إلى حيث الباب الذي أغلقته بريسا خلفها. لقد أحزنها بكل غباء وهو يعرف أنها لاتزال تعاني فقدان والدتها كما أخبرته، ماذا يفعل؟؟ ربما تكرهه على هذه الحال.
صعد إليها و دق الباب عدة مرات فلم تجبه، ألح ..
" بريسا أنا أعتذر ، لم أكن أقصد "
قالها بأسف حقيقي لكنها لم تفتح فنزل بيأس و وجه عابس. كان على وشك الذهاب عندما طرق بابه فكرة فعاد إلى أبيها وبصوت يملؤه الأدب طلب ..
" سيدي هل تأمن على تركه معي؟ ولو يوماً واحداً فقط !! "
_______
بعد الجلوس طويلاً في الزاوية المظلمة من الغرفة وقفت بريسا أمام نافذتها وشجرتها الهفهافة، كان القمر الناعس مسترخي في حضن السماء والنسيم رقيق منعش.
لقد مرّ اليوم دون أن تراه، لم يأتي لمساعدتهم كما فعل البارحة. فكان العمل والترتيب والتنظيف متعباً مملاً واليوم طويل بشكل لا يُحتمل.
لم تستطع فتح باب غرفتها له الليلة الماضية، لقد كانت تبكي ولم تشأ أن يراها تبكي ثانيةً حتى لا يظن أنه السبب. فهو ليس كذلك.
كانت ستبكي حتى لو لم يخرجه أو يعزف عليه، كانت ستبكي في أي وقت سترى فيه الغيتار دون أن ترافقه أنامل والدتها وعزفها الجميل، كيف لا والجرح لايزال مفتوحاً في قلبها؟
لكن ردة فعلها ورفضها لاعتذاره أبعده اليوم بكامله.
هبت نسمة عليلة تحركت معها الشجرة على مهل وبخفة ناشرة عطراً جميلاً شافياً في أنحاء غرفتها.
القمر كان في السماء الصافية بلا غيوم والنجوم ظاهرة، وفي الطابق الثاني للمنزل المقابل غرفة واحدة مضاءة بنور ساهر.
إنها غرفة تشانيول، هو ليس مجبراً على مساعدتهم أو الطهو لهم أو حتى اصطحابها لأي مكان، لكن ألا يحبون في كوريا إلقاء التحية؟؟ لماذا لم يريها وجهه اليوم أبداً ؟؟!
عبست ملامحها وكانت على وشك إغلاق نافذتها عندما انفتحت نافذته و كأنما سمع صوت أفكارها و شعر بها تراقب بيته، نظر في وجهها حالما أطل رأسه ولوّح لها بمرح.
حسناً .. هذه ليست التحية التي أرادتها لكن ابتسامتها اعترفت بظرافته.
دققت بريسا النظر لتراه يجلس على حافة النافذة وعلى ساقه يرتاح غيتار وبمساعدة نور غرفته ميزت فيه غيتار والدتها ذاته.
و معى إنسياب هواء الليل الحالم ترقرقت ألحان عذبة من تلك النافذة.
أقسمت الدموع على التدخل ثانيةً لكن بريسا كفكفتها ورسمت عوضاً عنها ابتسامة. كيف لا والغيتار عاد يعمل من جديد ؟؟؟
كيف لا وهي تراه يتموضع بمثالية بين ذراعي الأحمق ذو التوغوتات الهشة والروح المرحة؟؟؟
يتموضع هناك على ساقيه الطويلتين مضموماً بذراعين يكشفهما قميصه القطنيّ المريح. يتموضع في حضن الشاب الفتي النضر ذو الوجه المبتهج وقد تدلت خصلات شعره لتهتز برقة إثر حركاته المندمجة وروحه المتوحدة مع اللحن.
كان لحنه لا يطابق مافي ذاكرتها عن ألحان الغيتار. لم يكن اللحن حزيناً باكياً ولا مهدهداً ناعساً بل منعشاً و منطلق بحب الحياة والأمل.
مرح وسعيد وإيجابي.
كان تشانيول يعزف ويرفع بين الحين والآخر رأسه إليها بأوسع ابتسامة يمكن أن يحتويها وجهه. عيونه الواسعة تبشرها بأنه أصلح الخلل.
وما الذي لايستطيع فعله هذا التشانيول ؟؟؟
أسندت بريسا ساعديها على حافة النافذة واستمعت إلى اللحن الذي تدفق بسلاسة من غيتار والدتها وكم أسعدها انعكاس نور القمر على توغوتات وجه وساعدي تشانيول الذي كان يعزف.
بدا جميلاً للغاية في تلك اللحظة يعدُ بحياة هانئة ومريحة في هذا الحي وبداية مشوارٍ جديد.
وعلاقة جديدة؟
فكرت وهي تضع رأسها على الوسادة لتنام يومها أن البقاء في كوريا وفي هذا الحيّ بالذات ربما ليس بالسوء الذي تخيلته، بل سيكون لطيفاً لواستطاعت العيش هنا بقية حياتها.
.........
.
.
.
.
.
🐶
النهاية.
.
.
.
هكذا تنتهي توغوتات
رايكم ؟؟؟
قصيرة وكيوت ورايقة وما فيها أكشن .. هكذا اردتها.
شكراً للقراءة 😊
__________
BOUNCE !!!!
جلست بريسا حيث كوّم تشان كمية كبيرة من الوسادات ارضاً ليجلسا عليها أمام شاشة وجهاز ألعاب في غرفته وراحت تقرمش من الوجبات الخفيفة التي حضرها قبل بدء اللعبة ..
"هل غضب لأني تكلمت عن والدتي ؟؟ أنا لم اقصد !! "
تكلم بعبوس وهو يدخل محمّلاً بالمشروبات مِلء ذراعيه .. أجابته ساخرة وهي تجلس على الأرضية بارتياح ..
" أبي ؟؟ .. تشه ! أبي نسي كل شيء ما إن حطت قدميه أرض سيئول، أراهن أنه لم يكن يستمع إليك حتى !! "
قالتها ثم وضعت ثلاث حبات بطاطس في فمها دفعة واحدة و بحنق !
سأل وهو يجلس والعلب تتساقط منه ..
" وبو ؟؟ "
" بو ؟؟.. حسناً بو لاتهتم سوى للتوغوتات "
التفتت إليه بنظرة تتفحص وجهه وبابتسامة مشاكسة .. فسأل بانزعاج ..
" نقرتم رأسي بتلك الكلمة، ما هي؟؟ "
" هذه ! "
وقرصت قطعةً هشة و بضّة من الجانب الداخلي لذراعه المكشوفة.
صاح و تأوّه وانقلب للخلف يعاني بدرامية مضحكة
تاركاً بريسا تتلذذ بالإحساس الظريف العالق على أصابعها جراء لمسها لتوغوتاته. تمتمت بتشفّي ..
" واااه أردت فعلاً لمسها "
توقف عن المبالغة ورفع وجهه الذي احمرّ من الخجل وفرط الحركة صارخاً ..
" اصمتي هذا محرج !! "
رمته بوسادة ..
" أحمق !! وهل كان البكاء امام فتى غريب تعرفت عليه للتو واحتضانه لي ليس محرجاً ؟؟ "
انتفض واقفاً واحتج فوراً موجهاً إليها إصبعه ..
" هذا مختلف "
بريسا بصوت أخفت وعيون معاتبة ..
" كان عليك تجاهلي و إدارة وجهك "
تنهد وجلس بجانبها وهو يستذكر ذاك اليوم منذ ثلاث اسابيع. الأيام تمر بسرعة بوجود رفيقة مثلها لو لا أنها اكثر شغباً منه ومن أي فتىً يعرفه.
شعر بيدها تقرص طرف خده، انتفض وأبعد وجهه ..
" لا تلمسيني !!! "
اقتربت منه وهي تترجى بطريقة تعمدت فيها إخافته ..
" مرة واحدة فقط رجاءً، ها ؟ فقط مرة أخرى !! "
" ابتعدي !! "
صاح هارباً قبل أن تنهض بهمة وتلحق به بنيّة خالصة لـللعب والمرح.
........
🐶🐶🐶🐶🐶🐶
Коментарі