ذكرى
قهوة
فراغ
ألم
تعب
ثِقل
جوع
فراغ

فصلُ الجسد عن محيطهِ و عزلهُ لم يكن يوماً تعريفاً للوحدة، لكنه مَدعى للتفكير بها.

كُلما أغلقَ البابَ خلفه وحبسَ جسدهُ في الغرفة الصغيرة العازلة للصوت .. إنهارَ العالمُ الخارجي صريعاً سخيفاً و توهجّت هواجسُ روحهِ جهنّماً لا مفرّ منها.

ها أنت وحدك جونغداي، يهمسُ خوفه.

لطالما كنت وحدك، يذكّرهُ حزنه.

وستظل للأبد .. وحدك، يختتمُ قلقه.

باعتياد اتجه إلى الكرسيّ المتعب والطاولة المُحتضرة.

رائحة العزلة مُحتبسة بين الجُدران السميكة، مقيتة، ضاغطة، ناعسة كصدر إنسان مكتئب.

الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. ينعم أغلب موظفي المحطّة بالنوم الهانئ في بيوتهم، بينما موظفين اثنين استبقاهما العمل. يجلسان خلف الزجاج ليضبطا التسجيل الإذاعيّ لمشروع جونغداي.

البث لايكون مباشراً لكن لا وقت للتسجيل في ساعات النهار. والحل في الواحدة ليلاً، موعد يُسعده لولا أن ضحيتين اضطرتا لمرافقته في التسجيل.

النعاسُ يطفو كالأشباح أمام وجهيهما. عيونهم زائغة، يشربان القهوة برشفاتٍ متتالية من كؤوس كبيرة.

وخزَ الأسى قلبَهُ لحالهما.

"سامحاني .. " همس لهما عبر لاقط الصوت و أرسل نحوهما ابتسامة اعتذار.

أحرجهما.

كباقي موظفي المحطة يكنّان له احتراماً عظيماً، احترام فتيانٍ لرجل. رغم أن الفارق بينهم وبينه ليس سنين كثيرة.

بررا تعبهما ومظهرهما المُحطّم بإشراتٍ تعبيرية من خلف الزجاج وتوسّلاه ألا يكترث لهما.

و كأن القلق شيء يستطيع المرء التحكم به.

أعطاه تشاسونغ _حليق الرأس_ إشارة البدء و افتتح صوت جونغداي التسجيلَ همساً، تماشياً مع رقّة ما بعد منتصف الليل ..

" طعام .. صلاة .. حبّ .. امرأة تبحث عن كل شيء. لمؤلفته إليزابيث جيلبرت، نقرأه لكم بصوت كيم جونغ داي .. الحلقة الأولى "

على شرفة منزله، حيث قرأ هذه الرواية أول مرة فكّر أنها تناسب البث الإذاعيّ، ثلاث أجزاء و كل جزء 36 حكاية. مقاطع قصيرة.
يمكنها أن تشكل مسلسلاً إذاعياً من 108 حلقات، رائجةُ المحتوى بسيطة اللغة.

فكرة نالت رضى مدير قسم الإذاعة لسد ثغرة البرامج المسائية، و نفخت الروح في وظيفة جونغداي قُبيل انطفاء الشعلة.

بعد العمل لسنوات كمُعِدّ لنشرة الأرصاد الجوية ومُقدمٍ لها، المطر والرعد و الغيوم و الشمس الحارقة التي اعتاد الحديث عن تقلباتها تستحيل أخيراً إلى رغبة وطالع وإحساس ومشاعر وطموح وأفكار صارخة تتفجر بين أسطر الكتب.

ها هو يبدأ مجالاً أقرب لقلبه، الإلقاء.

في شبابه و أيامه الأولى مع الأعمال الجزئية والأعمال الحُرّة، قضى بضع سنوات يقرأ الكتب لسيدة ضريرة مُقابل أجر، و كانت دائماً تُثني عليه وترفض سماع القصص سوى منه..

"لها إحساسٌ آخر بصوتك" تقول باسمة وهي تتلمس سعياً للتربيت على كتفه و المسح على شعره.

علّمته المخارج الصحيحة للحروف إذ كانت قبل فقدانها لبصرها مُدرّسة أدب كوريّ ومُغنية في الكورال، و صبرت على قراءته المُتعثرة حتى أتقن القراءة المُعبرة واللفظ السليم.

وأضاف لقراءته من حلاوةِ صوته ما سرَّ خاطرها.

قرأ لها كُتب في علم النفس، و الفن، والأدب وقرأ الشعر و استجرّته للغناء أحياناً. أغاني تقليدية و شعبية و عصرية. وعرّفته مُغنين قُدامى لم يسمع بهم قط، بل شكّ أن أحداً غيرها يعرفهم.

اكتسب منها عادات تُخالف عُمره و أبناء جيله.

قرأ لها كُتب مترجمة من كل اللغات علّمته كيف يستشف المعاني من النصوص و يتذوّق الجمالَ المكتوب.

و ربط جونغداي المحتوى باللغة الأصل وبلون البلد.

فكانت الكتب الفرنسية بالنسبة له سوداء بائسة، مهما كان موضوعها و أحداثها. تذكره بانحلال أخلاق ذاك البلد، تتحدث في الغالب عن انفلات العلاقات بين الرجل والمرأة، الثورات الجنسية، التمرد على القيود الاجتماعية باسم الإنسانية. تمردات كاذبة.

الإسبانيّة خضراء نابضة، موسيقى و رقص، ذهب و خطف وقراصنة حتى لو دارت أحداثها في عصر الحداثة والسرعة، يظل وقع الكلمات الإسبانية غجريّ و تظل أحداثها كرٌّ و فرّ و دوران حول الحقيقة الواضحة.

الأدب الروسي أبيض لاسع، بارد وقاسي و مُسلّح بالسلطة والانصياع.
الأمريكي برتقالي، طفل وقح حامض المذاق شهيّ و سهل و وسخ.

الألمانيّ أزرق وحشيّ ذكي ينفذ لداخلك دون إذن منك، يفرض نفسه بقوة إجراميّة لا يحتملها جونغداي، ولطالما أغلق كتب الألمان واعتذر عن اكمالها.

كان حينها فتيّاً و أكثر رقّة.

الإفريقي أحمر مُتعجّل واضح بريء غبيّ صادق. اللاتيني أصفر يُشع و يضجّ ثم يخبو دون ترك أثر. الإيطالي مغناج سطحيّ لا يغوص للعمق مهما بدا نافذاً. و العربي ساحر مشعوذ شَبِق ضائع يجول ويعود لنقطة البداية، دائماً يملك البوصلة.

امتنعت السيدة عن سماع الكتب اليابانية بسبب اتجاهاتها السياسية، وتقول أن الصينية تفقد روحها بالترجمة، لذا كان شاب غير جونغداي يقرأها لها. وبالتالي فات جونغداي الاطلاع عليها.

أما الأدب الكوري، لغته الأم، فكان مصبوغاً بألوان الهينبوك الأصيلة وينبض بموسيقى التروت بتروٍ طريب، قرأ منه كل الألوان والروائح والأحاسيس.

كان فيه منطق خفيّ وارتباط مُثير، الكثير من الألفاظ يولّد المعنى الواحد. كل شيء فيه مرصوف مُشوّق مفهوم يصبّ نحو النهاية بحتميّة وإنسجام.

حتى المصائب، تقبلها كجزء من القدر و كخطواتٍ واعدة بنهاية مُستحَقّة.. هكذا علّمته الخالة، كما كان يُناديها.

السيدة بيون كانت ضريرة ذات بصيرة، و ذات حكمة.

و كانت مؤمنة بالرب إيماناً عميقاً ترك آثاره في قلب جونغداي.

كما أنها كانت مرحة لا تُفارقها النكتة، والشتيمة على لسانها أسلس من غناء الكروان.

كانت كائناً عجيباً لا يمل جونغداي الجلوسَ بقربه و لا يتردد بالهرب إليه.

كانت صادقة معه وكان حقيقياً معها.

كانت تعطيه من كل ما تملك، روحاً و مادّة. وكان يدفع لها بالإخلاص والحب والقرب.

كانت فردوسه الثابتة في فترة التقلبات الجحيمية من شبابه، كل شيء في حياته عداها كان يمرّ عشوائياً، تعسفياً اعتباطياً، وأجوف.

وفاة أبيه، زواج أمه، انتقاله من البيت والنضوج قبل الأوان.

وحده وجودها صنع التوازن، و وحده رحيلها أرجح كفّة التعاسة.

لكن الرب العادل يرى .. و هو قادر على احقاق التوازن متى أذِن بذلك.

قرأ من الصفحات أمامه :

" مرت الشهور وحياتي متوقفة وأنا أنتظر إطلاق سراحي"

في حالة جونغداي، وعلى عكس بطلة الكتاب، استمر الأمر بضع سنوات من غير السيدة بيون، و من غير عائلة تحتضن شبابه الغض.

صبر على المرّ ساخراً في العلن مطعوناً في الخفاء.

جمع ماله قطعة فوق قطعة، امتهن أكثر من حرفة، جرب سوق العمل و تحصّل الخبرة. و أتم دراسةً عجيبة. مجنون من يدرس الأرصاد الجوية، والجنون هو مسعاه في اختيارها.

في قنوطه و يأسه من استعادة توازن حياته، سرحت خيالاته لرسم كوخ منعزل. في قمة جبل. لا تصله سيارة و لايقربه بشر .. قرأ عن شبيهه في كتاب ما.

حلم أن يعيش فيه وحيداً للرصد، مع بعض أجهزة القياس وأعمدة الاستقبال. بعيداً عن كل الناس والمدن. تُشرق الشمس فيخرج إلى الغابة المعشوبة ليغني بين الشجر، تمطر فيشرب قهوته قرب مدفأة وكتاب.

حياة بسيطة، هادئة، هانئة .. فارغة ربما .. لكنها متوازنة لا سعادة فيها وفي المقابل لا بؤس ولا إزعاج.

.
.

رفع تشاسونغ صوت موسيقى الخلفية، يساعد جونغداي على التركيز، جاز ناعس يُعزف على أربع أو خمس آلات يترأسها التشيلو بأسلوب البارات العتيقة تصبّ في أذنيه، تزيد انغماسه في أعماق ذاته وذكرياته.
.
.

وتدخلت الحياة.

في أشد الفصول اكتئاباً قابلها. سان يونغ.

كان في بدايات العشرين وقد اكتسب بالفعل حكمةَ خمسينيّ وحدسَهُ النافذَ في الأمور والناس. وعرف من اللحظة الأولى أن سانيونغ قادرة على ملء الفراغ.

إلتقاها في اجتماع نظمه رفاقه في المتنزه الوطني، حيث خرج أكثر من عشرين شاب وصبية من طلاب الجامعة لإمضاء يوم عطلتهم فوق أوراق الخريف التي تغطي أرضية المتنزه.

لم تكن سانيونغ باهرة الجمال، بل دائمة البسمة.

كانت في عمر مماثل له إلا أنها أكثر فتوّة و نضارة. تتفجر حماساً و تتوهج شباباً. يتدفّق منها الحب لكل عناصر الحياة، للبشر والحجر والحيوانات والأحاديث والموسيقا. تضجّ بالرغبات تبهجها أتفه الأمور ولا تتوقف عينيها عن الحركة واللمعان.

كانت عاصفة بشريّة في جسد ضئيل ناعم.

كانت تشع بالقدر الذي يمكن أن يوازن حياةً منكسرة كحياته. ومع ذلك وجد أنه من الظلم جرّها إليه وإلى طموحاته الانعزالية.

فتراجع مبتعداً عنها خطوة.

إلا أنه لم يقدر على منع قلبه من معانقتها حين اقتربت منه هي وهمست باعترافها بعد لقائهما الثالث.

هاجمه الشتاء بعد عدة أسابيع من بدء مواعدتهما فأدرك كم يشعر بالبرد وحده وكم يحتاج لامرأة بجانبه.

تزوج صغيراً.

و دون أن يدرك استسلم للسعادة معها للحد الذي أنساه كل ماضيه.

غاب عن ذهنه القانون المُطلق، لكل سعادةٍ ثمن.

.
.

قرأ بابتسامة طفيفة على محياه :

" كان الصيف الأول لليز و ديفيد شبيهاً بمونتاج الوقوع في الحب لجميع الأفلام الرومانسية التي سبق ورأيتها، بدءاً من رشّ بعضهما بالماء على الشاطئ وحتى ركضهما يداً بيد فجراً عبر المروج الذهبية "
.
.

أحب سانيونغ و أدمنها ..

امتلأ؟ أجل امتلأ الفراغ وامتلأ قلبه وامتلأت أيامه، امتلأ بها حتى فاضَ حياةً. و أقبل يعمل و يجمع و يدّخر. سانده زوج أمه و أقرضه مبلغاً صغيراً أضافه إلى ما يملك واستخدمه لتغطية تكاليف الزواج.

وما إن تخرج حتى تم قبوله للعمل كمتدرب في إذاعة محترمة في حملة لتوظيف الخريجين الشباب، لم يصعب عليه إثبات جدارته وإقباله الدؤوب على الوظيفة ضمن له التثبيت كموظف دائم.

عاش محظوظاً تلك السنوات.

لم يفكر سوى في برج السعادة الذي يبنيه، صار يحلم ويخطط للتوسع! خطط لإيجاد منزل أكبر ولإنجاب الأطفال واختار أسماءهم. كان مطمئناً وثابتاً لدرجة أعمته عن رؤية الصورة الكاملة للمشهد.

كان كلاهما، جونغداي و سانيونغ، يحفلان بحياة صاخبة وأحياناً كانت صاخبة أكثر مما يستطيع مواطن عادي إدارته، كمعركة متعددة الجبهات. كل يوم هو يوم محموم، عمل وعائلة ومغامرات رومانسية ورحلات تستهلك شبابهما للحد الأقصى .. هو قوي معتاد وهي تجاريه وتتخطاه أحياناً.

سانيونغ ..

أضاءت أكثر من غيرها وأكثر من حدود البشر فانطفأت أسرع.

.
.

تحدب كتفيه و انخفضت نبرة صوته :

" .. اعتقدت بأني قد انهرت من قبل، ولكن في تلك الفترة تحولت حياتي فعلاً إلى حُطام .. "

.
.

حقّ العدل.

عند وفاتها فقط هدأت العاصفة التي كانت تتأجج حوله، هدأ كل شيء و خمد حين استلقت في نعشها المُزيّن.

تلاشى سراب السعادة من أمامه وعاد يرى الحياة كما كانت، بل كما هي إذ لم تتغير إنما نسيها لفترة. بمقتها وظلمتها والنُواح الذي يصم الآذان .. المكوث في المآتم لطالما كان أصعب مرحلة.

بين كل التجارب التي مر بها، ظلّ الدخول بكامل إرادته إلى بيت العزاء هو أكثر ما يخشاه .. لأنه لا يعلم كيف يخرج منه.

كل أفراد أسرتها حضروا، أصدقاؤها كثر، كانت محبوبة بشدة وجميعهم بكوا لوفاتها بشدّة، وواسوه .. بشدة.

ترك المعزّون الكثيرَ من المال في الصندوق الصغير عند باب المأتم. لكن المبلغ لم يساوي شيئاً أمام الثمن الذي توجب على جونغداي أن يدفعه لاحقاً.

ثمن سعادتهما معاً.

سانيونغ رحلت و تركته يدفع الثمن وحده و سط الفراغ من جديد.

.
.

توقف جونغداي عن القراءة و دفع الأوراق بعيداً عنه.

في اللحظة التي تلاقت عيناه مع عيني تشاسونغ فهم الأخير أن الأمر انتهى لهذا اليوم وأخفض الموسيقا المُصاحبة حتى تلاشت.

أرخى جونغداي رأسه للخلف وترك عينيه تضيع في ظلمة السقف.

سأل نفسه : كم مرّ على وفاتها بالضبط؟ .. لم يعد يحسب.

.
.

فتح الآخر باب غرفة التسجيل ..

" هيونغ، أحسنت العمل، استرح سنتوقف هنا الليلة "

عبر الباب المفتوح تسرب إلى غرفة الاستوديو صوت مطر ناعم وغزير.

وبعد لملمة أوراقه خرج جونغداي إلى المساحة الأكثر إضاءة، تلك القابعة خلف الزجاج، غرفة هندسة الصوت.

كان الشابان قد تركاها تختنق بما كانا يدخّناه وفتحا نافذةً للتهوية.

أزاح جونغداي طرف الستارة وأطل منها على العالم الخارجي. كان المطر ينسكب مدراراً و الساعة قاربت على الثالثة فجراً. ومن شارع فرعي ما يتردد صوت مخمور يدمدم وتختلط أغنيته مع الجو وتضيع الكلمات سكرى في الأزقة :

حتى النجوم تغط في النوم .. القمر لوحده في السماء ..

في ذلك المكان .. تبتسمين لي .. بخجل تأتين إليّ ..

إنها تحلم .. إنها تحلم .. إنها نائمة في داخلي.

انهمر المطر كأنه لن يتوقف أبداً وضرب الهطول أرضية الشوارع وسط سكون المدينة.

أشعل سيجارة و نفث دخانها ببطء شديد ..

تلك الليلة بدت السماء مزدحمة .. لكن الفراغ، الفراغ ذاته كان يعمّ الكون بأكمله.

__________

يُتبع ..

.
.
.
.
.
.



(بصوت تشين) هل شعرتم بالنعاس؟؟ كيف كانت قراءتي؟

الأسطر الغامقة هي أسطر مقتبسة من رواية : طعام صلاة حب.

شكراً للقراءة ❤

🐱

© Syram ,
книга «Moon Agony || EXO CHEN».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (1)
توتو التفاحة
فراغ
أحببت وصفك للأدب في هيئة ألوان، أحسنت صنعا!
Відповісти
2020-10-05 08:11:32
1