ذكرى
قهوة
فراغ
ألم
تعب
ثِقل
جوع
ألم
استمر الهطول لأيام حتى صار جزءاً من أوركيسترا حيّ المحطة.

لا يهم البقعة التي يذهب إليها، المنطقة بأكملها يلفّها ذات اللحن الهادي: هدير قطار مُرهَق، أحاديث مسافرين خافتة، نبضات قلوبٍ حزينة وحبات مطرٍ بتول تنقر الأسطح، النوافذ، و أوراق الشجر.

يميل البشر للصمت حين تتكلم الطبيعة، يُصغون وينظرون حولهم بأعين أوسع ومنظور أبعد.

تجدهم مُسَمّرين على النوافذ والمداخل في جمود، يُطلون على المشهد بقلب عصفور يطير لأول مرة.

وبفطرةٍ متأصِّلة في قلب كل مخلوق، يستشعرون مكانتهم الصغيرة في عظمة الكون.

___________

إنها تمطر .. إنها تمطر .. منذ أيام والسماء تبكي.

___________

" بما أنك سبب المطر، هلا طلبت من السماء أن تتوقف؟ " مازحته وهي تأخذ عنه مظلته وابتسامته الباهتة.

يظهر عليه هدوءٌ مَرَضيّ حين يسوء الجو، كما لو أنه السبب. حالته تشبه الإكتئاب الموسمي باختلاف أنها تظهر في الأيام الماطرة.

في الجو العَكِر يجلس ذابل الأجفان، يزيح الستارة الرقيقة ويحدق عبر النافذة إلى السماء الداكنة. يبدو لها مُثقلاً بالهمّ كما تُثقل المُزن، لذا تتركه ولا تقربه حتى ينهي قهوته.

لكنها تراقبه.

تراقب كيف يذوب ككومة ثلج هشّة. يتسرب شارداً عبر شقوق لامرئية إلى حيث لا تستطيع اللحاق به أو انتشاله، إلى نفسه، إلى أخاديد روحه، إلى ذكريات عتيقة ربما أو ضباب مستقبل.

تتحسر لعجزها عن مساعدته، عن فهمه، عن حبّه كما يستحقّ.  

لذا - وعلى الأقل- حرصت على تشغيل لحن يناسب ذوقه ومزاجه، اختارت أغنية حديثة بعنوان (خلال المساء) الوقت ليس متأخراً، إلا أن لحن الغيتار و صوت المغنية (آيو) تناسبا مع المحيط المُعتم وصوت المطر.

_________

استرخى في مقعده الخشبي مع الموسيقا الهادئة ورائحة قهوته التي أحضرتها له، تحاوطه الهمساتُ الناعمة للأحاديث الصغيرة هنا وهناك.

وبإحساس عميق بالتعب رمى نظره عبر الزجاج المُغشّى.

في حديقة المقهى الصغيرة، التي تفصل النافذة عن الشارع العام، وقف صبي -شاب فتيّ يبدو في السادسة عشرة أو أصغر- يحفر الهطولُ الغزير في كتفيه.

ألطى جونغداي خده على كفه وأمعن النظر فيه.

له عينان مدورتان عنيدتان مثبّتتان على المقهى. عيناه لا تتزحزحان ولا هو يتحرك.

ثابتٌ متآلفٌ مع الزرع الأخضر حوله كأنه نبت من التربة ذاتها. يحتضنه غصن ويعترش قرب ساقه عود ملتف.

مبلل حتى أخمص قدميه وفمه مُطبق بإحكام.

يبكي الفتى؟ أو أن المطر على خديه يوحى بذلك.

ومن لا يبكي؟ حتى جونغداي يبكي، أو كان يفعل.

آخر مرة بكى فيها كانت .. في أواخر 1999، أول الشتاء، أيام شهر نوفمبر.

يذكر الحادثة كما لو أنها نسخة أقدم وأكثر سوءاً من فيلم " ترول"، مشؤومة بشعة، ومرعبة بشكل مقيت.

كان وأسرته في المدينة حين رنّ الهاتف السلكيّ رنينه الحاد الطويل حاملاً إليهم خبرَ موت عمّته. شقيقة أبيه الصغرى وصديقة جونغداي رغم فارق السن. من تجمع أسراره، تكفكف دموعه وتنثر حوله المرح كلما زار بيت جدّيه في الريف.


السفر ليلاً على الطريق الخالي، ظلال الأشجار المتلاحقة في العتمة وطيف عمته الذي يُخيل إليه أنه يحاول الركض خلفه عند كل منعطف ومنحدر، أسوأ الكوابيس تمسكّت به منذ ذلك اليوم.


حتى سفرهم العَجول ضاع سدىً.

تعمّدت العائلة أن تقيم واجب الحرق قبل أن يصل مع أسرته إلى حدود القرية.

لم يحظ حتى بلقاء أخير.

وعلى إثر تصرّفهم هذا نشب شجار بين والده وجدّه وتحوّل المأتم إلى ساحة معركة عائلية تنافرت بعدها القلوب، كُشفت حقيقة موتها انتحاراً وتقطّعت الصِلات إلى الأبد.

كان جونغداي في السابعة، بكى حتى ابتلّ فؤاده.

في الوداع جمعت أمه كل ألعابه التي سبق أن خبّأها في غرفة عمته الراحلة، طائرته الورقية، ودراجته وكذلك أعادت منامته التي كان يرتديها أيام المبيت، لكنها نسيت أن تلملم له ذكرياته: البطاطا الحلوة، والقطة ميمي ومياه النبع البارد وحبه الذي يكنّه لجديه ومنزلهم وكل عودٍ أخضر يحيط به.

أُُعيد إلى المدينة نائماً على المقعد الخلفي شبه محموم.

رفض الطبيب المختص أن يصدق: كيف لطفل في عمره أن يفهم معنى الهجر والموت وأن يكون أساه بهذا الهدوء والإضمار؟ أصرّ أن خللاً وظيفياً هو ما يحرم الطفل جونغداي حيويّته، فاستبقاه في المشفى.

نعم .. لم يكن يعي تماماً معنى الموت. لكنه كان على درجة من الرهافة والحس بحيث فُطر قلبه حين فهم من أحاديثهم كيف تألمت عمّته الحبيبة ونزفت حتى غرقت في الحمام بدمها.

مشهد كهذا كان كفيلاً بوَسم قلبه برَضّ يؤلم حد البكاء والمرض.

قضى أسابيع لا يُبارح السرير، مستلقٍ على خده كعصفور وقع عن غصنه قبل نمو جناحيه، يكفكف دموعه بأكفه الصغيرة كلما وبخته ماما وصاحت به : " لا تبكي!"  إذ ضاقت ذرعاً به وبنحيبه الصامت.


راودته الكوابيس، دماء وصراخ وضياع في الغابة وفي آخر الأحلام تراءى له عمته تطعمه كومة دبابيسَ صغيرة كانت سابقاً تستخدمها في الخياطة.

حين أفاق حكى لأبيه كيف ابتلعها وشكى من وجود الدبابيس في جسده. أقسم أنه يشعر بها تخز باطنه، أسفل صدره، فوق معدته تحديداً.

خاف الأب من إصرار ابنه على أقواله. لكن كذّبت صور الأشعة كل شكواه.

قال الأطباء أنه يتوهم.

وماذا يعلم الأطباء؟

أمطرت عيناه و السماء معاً مدرارتين الفصلَ بأكمله. بكى من الألم ومن الحزن ومن الخذلان، فهم لا يصدقونه. والده كذلك لم يصدق وجود الإبر لكنه على الأقل تفهم سبب الوجع.


كان والده أيضاً مغنٍ في الكورال كالسيدة بيون. رجل شهم، مؤمن وحساس.

انتظر حتى توقف المطر ودعاه للجلوس قرب النافذة. كان ذلك في نهاية يوم أحد بعد فترة العصر. كان الهواء قارساً يخترق صدره ويلامس موضع الألم من الداخل. وكانت السماء تموج بين الأزرق القطبي والرمادي ولا وجود لقرص الشمس.


قال له فجأة أنه سيعلمه أغنية، وأنشد على مهل بأكثر الأصوات دفئاً وروحانية :

صمتت الريح، وما زال المساء كئيباً
لا أحد يتجول في البساتين
بينما أعود لأراقب قبرك مارجريت
وأنثر الزهور على التراب الحبيب

داخل هذه الزنزانة الضيقة ينام نعشك
هذا الجسد الذي كان يوماً مرحاً طريب
مَلكُ الفظائع أرادك فريسةً له وهيهات
لا الثروات تعيد حياتك ولاجمالك الرغيد

أواه أليس في قلبه رحمة؟
ألا تردّ السماء عنك يدَ القدر؟
خرير الجدول ألا يشفع؟
فضائل حياتك القصيرة ألا تُسليه؟

أواه ولم أبكي؟ طيري بعيداً ياعمري
طيري أبعد من قرص النهار الحارق
حلّقي تقودك الملائكة إلى الجنان
إلى حيث الفضيلة، حيث لا أسى، لا أحزان

وتذكريني عزيزتي ماري، تذكري فضائلي
كما سأذكر الوجه الجميل، عيناك وثغرك
أما دموعي وعاطفتي فلن تبارحني
ستبقى نائمة ،مارغريت، في مكانها المعتاد.

علّمه اللحن التعيس وغنّاه جونغداي بدوره لسنوات طوال.

كبر على معتقده الخاص بأن الأسى الأعظم يتجسد في وفاة امرأة شابة. وكان منكوداً ما يكفي ليشهد هذا النوع من الفقدان أكثر من مرة.

المحنة لم تتوقف عنده.

تلك الأيام كان العالم كله يتخبط في جنون غير مسبوق، شتاء عام 1999 آخر أشهر الألفيّة الثانية، كان غزيراً و صاخباً كالصواعق.


ظنت البشرية أنها أشرفت على الفناء، نهضت نظريات نهاية العالم. احتراس و ترقب وعدّ للأيام المتبقّية. دعوات مجنونة للهجرة إلى الفضاء وتنبؤات بكوارث طبيعية.


رجال الدين وصلواتهم غزوا الشاشات والإذاعات والصحف.
حتى الطفل جونغداي _حبيس المشفى_ أُخذ بالهلع المحيط والهيجان البشريّ الأرعن.


قالوا في التلفاز أن الحياة ستنتهي في ظرف أيام. ولن يبقى سماء أو طيور أو جِراء أو أرز، سننام ولن نستيقظ، فكيف لا يهلع؟


عكف يُصلي ويغني ما علمه إياه أبيه.


وكفرقعة بالون رقيق بدأت الألفيّة الجديدة بالألعاب النارية وتناسى الناس كل ما حصل .. كأن شيئاً لم يكن.

هكذا هي طبيعتهم.

خرج جونغداي الصغير من المشفى قرابة الشهر الثاني من السنة الأولى من الألفية الثالثة. ليس لأن الأشواك والكوابيس اختفت بل لأنه قرر ألا يتحدث عنها بعد الآن.


لم يعد يبكي، بات يدمدم ويغني.


لقد بدأ يفهم كيف يفكر الناس ويتعاملون مع الخوف والألم.

خرج أنضج، أقل مرحاً وكذلك أكثر وعياً لأنواع الروابط التي تجمعه مع الأشخاص القلائل المحيطين به. قرر أن يُسخر كل قواه فلا يسمح للألم بأن يصل إليهم، وكأحلام الأطفال ضاع قراره في الزمن.


بقي الألم.


الكتلة الشوكية استقرت في الوسط بين أضلعه، أقرب قليلاً إلى معدته وازداد حجمها مع مرور الأيام. يعاوده إحساسه بوجودها من حين لآخر، تتفاقم وتتضخم مع كل صفعة يتلقاها.

امتد الوجع إلى رأسه يوم وفاة أبيه، وشمل معدته في جنازة الخالة بيون وإجتاح صدره عند فقدانه لزوجته.


لم يبكي في عزاء أيّ منهم، ردد أغنيته فقط.


لكن وحده الله يعلم كم تألم وكم ترضرضت روحه.


أحياناً يراوده الألم فجأة دون أي سبب. يباغته بنوبة مُميتة بينما يكون هادئاً ومسالماً. وأحياناً يضربه حين يهطل المطر مشابهاً لأمطار تلك السنة.

قال له الأطباء أن الألم مجرد تشنج عصبيّ خفيف.

وماذا يعلم الأطباء؟


____



"هيونغ أنت السبب، أكاد أقع من التعب لم أعد أشعر بساقاي" جلس جونغإن أمامه يتذمر. توَسّد كفّيه وأنام رأسه على الطاولة. إنه يومه العاشر في العمل هنا، وهذه المرة يحق له التذمّر.


المكان مزدحم.


تنحنح جونغداي منتشلاً نفسه من أفكاره، نقر على الطاولة مازحاً ومهدداً .."يمكنك الوقوع من التعب، المهم ألا تقع بحب جوهيون، أتفهم؟"

أدار مقلتيه إلى حيث كانت جوهيون ،مالكة المقهى، تضحك وتحادث  زبونتين شابتين. صارت أكثر استرخاءً منذ بدأ جونغ-إن العمل هنا. حتى أنها ارتدت كنزةً خضراء اليوم بعد إلتزامٍ طويل بالألوان الداكنة.


"بحب من سأقع؟ " فهم جونغ الجملة متأخراً ورفع عينيه ليتأكدّ.

"رئيسة عملك! " إلتوت شفتا داي ساخرة ببرود. يذكره أن لديه تاريخاً أسود بالإعجاب بنساءٍ أكبر منه.

داي يعرف جيداً، جونغ ليس سيئاً إنما رومانسي متهور وشاب طائش وحسب.

تأفف جونغ وأدار وجهه ملقياً نظرهُ خارج النافذة وكتنهيدة همس لنفسه "هناك من وقع في حبها قبلي، لا شأن لي هذه المرة" أغمض عينيه ينوي النوم وتمتم بصوت ناعس ..

"هيونغ، نسيت سترتي في منزلك أمس"

"مرّ لأخذها " عبث بفنجانه، بقي فيه القليل.

غمغم الأصغر بصعوبة وتخافتت كلماته حتى ما عادت تُفهم : اعذرني، لا أود أن ألتقي بأمك .. هي ..لا.. أنا .. .


"ستسافر في ظرف أيام، ستسافر وتتركني وحدي مع الصغيرة" رشف من فنجانه ما تبقى وسرح يفكر مغموماً أكثر.

غفا جونغ-إن.

شارفت الأغنية على الإنتهاء.

اشتدّ أزيز المطر، إنحنت أغصان الزرع تحت وطأته، وظلّ الفتى في الخارج واقفاً.

وجوده كان مزعجاً، فهو ليس في مكانه.

لا يتوجب أن يقف فتى في عمره في تلك البقعة بلا هدف. ليس من العدل أن يحتمي الناس في الدفء هنا ويُنقع هو في المطر.

شعر جونغداي بوجعٍ حاد ينغرز داخله، كره النظر إليه.

تضخّم إحساسه بضوضاء الطاولات المجاورة، صَخبُ قلبه، تصادمُ الكؤوس وحتى أنفاسه، كلها تعاظمت حتى باتت لا تُطاق.

فجأة شقّ الصداع رأسه.

ودون أن يشعر به أحد، إنكمش وانحنى تحت تأثير الوجع حتى ضربت جبهتهُ سطح الطاولة، أحسّ بآلاف الأشواك الصغيرة تتدافع وتتكتل وسط صدره.

سحب نفساً عميقاً وسكن بانتظار أن يختفي الألم.

لقد اعتاد وتعايش معه.

أدار وجهه نحو النافذة ينتظر أن تزول المِحنة وظل المطر يهطل.

_________

يُتبع .. 🌚

.
.
.
.
.
.



● أغنية آيو 》》》 تشين عامل لها كوفر اسمعوها 🙂

● فلم ترول بجزئه الثاني هو أحد أسوأ أفلام الرعب في التاريخ لا تبحثوا عنه ☹😐

● وأغنية والده》》 أخذتها من قصيدة قديمة لشاعر اسمه لورد بايرون لكن عدلت عليها وحرّفتها تماماً. فقط أول أربع أسطر تشبه القصيدة الأصلية شبه طفيف.

في النهاية :

شكراً للقراء و الصمود فهالجو العكر 😂☘

.
.
.
.
.
.


© Syram ,
книга «Moon Agony || EXO CHEN».
Коментарі
Упорядкувати
  • За популярністю
  • Спочатку нові
  • По порядку
Показати всі коментарі (1)
توتو التفاحة
ألم
أحببت الفصل حقا T^T أنتِ مبدعة بالفعل T^T
Відповісти
2020-10-06 16:29:16
1