ذكرى
قهوة
فراغ
ألم
تعب
ثِقل
جوع
جوع
لا يحمل المرء آثارَ كل الآلام التي يُحسّها في طفولته لكنه يحتفظ بالخِبرة؛ لا يذكر جونغداي أنه تعرض يوماً للبرد الشديد أو التجويع القاسي لكنه يكرههما كما تكره القطة البلل بالماء.

يُشفق على من يقاسيهما.

يؤمن أن وجبة مُشبِعة وجسداً دافئاً وحدهما يساويان نصف السعادة التي يحتاجها الشخص الواحد ليعيش مكتفياً.

الأطفال بالأخص.

المأكل والدفء ثم الحب؛ يحرص كل الحرص على توفيرها لابنته ليطمئن إلى أنه يؤمّن لها على الأقل نصف السعادة التي يتوجب أن تحصل عليها وأنه يقوم بالجزء اليسير من واجبه نحوها.

حتى لو بالغ بالأمر أحياناً.

إذ ها هو يبتسم لهيأتها وهو يراها تكافح لتستطيع المشي باستقامة إلى جانبه.

قبعتها تغمر كل رأسها الصغير وتزيد فتعيق لها الرؤية وكذلك الوشاح _الذي وحده الله يعلم كيف وجد جونغداي له مكاناً حول الرقبة الدقيقة ليلفّه كل هذه اللفات_  يطمر أنفها وشفتيها المنمنمتين تحت قماشه السميك.

ثم تأتي السترة الشتوية المصنوعة من فروٍ بنيّ اللون ليجعلها تبدو كصغار الدببة، لطيف ولا يزعج حركتها بقدر ما تفعل السراويل الثلاثة التي ألبسها إياها إذ تدفعها طبقات القماش المتراكم إلى المشي بخطوات واسعة فتميل إلى الجانبين كالبطاريق.

لا يبدو منها سوى عينين فضوليتين تعاين كل بقعة كساها الثلج الأبيض على طرفي الطريق. 

حتى الكف الرقيقة التي يمسك بها جونغداي محمية بقفازين جميلين تركها تختار لونهما بنفسها.

أحبها منذ سكنت رحم أمها.

وقد ينتهيي به الحال مستقبلاً إلى إفسادها دلالاً ورخاوة ولا مبرر له في ذلك سوى حبه لها وقدسيّة واجبه نحوها.

أبوّته _على صِغر سِنّه_ لا تُطاوعه على التخاذل والابتعاد عنها ولو لساعة إضافية بعد عمله بل إن وجهها لا يغيب عن قلبه حتى في ساعات العمل. فلا يكاد يحين انصرافه من شغله حتى يتوجه إلى الحضانة ليحضرها وهو يتصور _وقلبه يذوب حباً_ اليومَ الذي سيُقلها به من جامعتها.

بل إنه في كل مرة يمشي بجانب الجسد الضئيل ممسكاً بالذراع القصيرة يتراءى له اليوم الذي سيسلّم فيه هذه الكف المُباركة إلى زوجها أمام القس والرب.

لم يرغب بولدٍ صبيّ قط بل لطالما حلم بها ابنة.

فتاة ظريفة طيبة كثيرة الغنج تناديه "بابا" وتحتمي به. تراه البطل الأوسم على الأرض، تطلب منه ان يشتري لها الحلوى والفساتين الملونة وتوقظه صباحاً بقبلة ظريفة على خده، ترقص وتغني لتبهجه، تشكي له شغب اولاد الابتدائية ومضايقات شباب الثانوية المفتونين بغنجها وجمالها.

حَلُمَ جونغداي بعطف يعوضه ما فات وما فقد.
وهي الآن كل حياته ومستقبله.

فلا عجب أن تأخذه مشاعره ومخيلته بعيداً في دوّامات الزمن والأماني.

حتى الصفعة القاتلة التي وجهتها أمه له غلبتها أنجو بضحكاتها ومشاكساتها ومتطلباتها الصغيرة.

لم يكن يدرك قبل ذلك كمَّ السعادة التي تجلبها متابعة تفاصيل حياة طفل لحظة بلحظة، إن عيناها الدامعة وثغرها الباسم نوافذ تأخذه إلى الفردوس الأعلى، تخدّر حزنه وتجرده منه بتأنٍ .. لكن للأبد.

تعثرت أنجو وكادت تفلت منه وتقع فتنبه جونغداي من أفكاره وبحركة سريعة استدرك ورفعها إليه يتمتم بإعتذارات مُهدّئة مُطمئنة.

ضمّها إليه.

قبّل جبينها قبلة طويلة وتأكد من أن القبعة لاتزال تغطي رقبتها من الخلف. وبعد تأمُّلِ نور عينيها المتعلق به أزاح بإصبعه طرف الوشاح وغاص فيه ليقبل الحمرة الدافئة على خدها المُخبأ.

ضحكت له وأخبرته عيناها انها تحبه.

وحرصاً على رائحة الفانيلا من الضياع دثّر خدها بالوشاح ثانيةً وشدّها إليه أعمق وأقوى ثم أكمل طريقه حاملاً إياها حملاً.

ندف الثلج يتهادى من حوله يتراكم فوق الذكريات وآلام الماضي. أكوام بيضاء تُبهر العين تراصت على حواف الطريق وأسوار البيوت والنوافذ.

أشرفت السنة على نهايتها.

مضت نصف سنة على موت زوجته وبالكاد شهر على سفر أمه. مذحينها وهو يدفن نفسه في بقعة صغيرة لا تتجاوز بيته والعالم النقيّ لهذه الروح الملائكية.

هذا إذا لم يقتحم عليه مُعتزله الفردوسيّ شاب أخرق أسمر بين الحين والآخر ..

"أيها الأحمق، سأشكيك لجونغداي !! " قرع صوت جونغ-إن في سكون الحي ساعة المغيب البارد وردّ عليه صوت يونغ-جاي متذمّراً من مكان ما لم يبدو بعيداً جداً ..
"وماذا في ذلك؟؟ حتى جونغداي-هيونغ يدخّن !!"

لم يكونا مرئيين له، فقط صوتهما يصله من زقاق قريب. يبدو أن جونغ-إن قد قبض على يونغجاي يدخن سرّاً. وبحكم فرق السنوات القليلة التي يزيد بها جونغ-إن فإنه يأخذ دور الناصح والمرشد، وكأنه في مستوى من النضوج والرزانة لينصح ويربي.

ابتسم جونغداي ساخراً وتابع طريقه.

ولم تمر الساعة إلا وهما في بيت جونغداي، كلاهما يناوشان ويلاعبان الصغيرة بانتظار أن ينتهي جونغداي من إعداد وجبة لهما.

"هيونغ، لنكن صريحين وجادين هنا: إذا طلبت يدها للزواج ألن توافق؟" رفع جونغ-إن بؤبؤتيه ليحملق بجمال وجه عروسته الصغيرة والتي كانت تجلس على كتفيه، كفاها الصغيران يحطّان على جبينه وتضحك له بحب دون أن تفهم ما يعنيه.

ابتسم جونغداي ابتسامة دافئة غارقة في الأحلام بينما يقلّب بعض البصل والخضار المفرومة مع الثوم والبهار الحار.

رائحة شهيّة جعلت من الشابين يتسكعان في المطبخ كضباع جائعة.

يونغ-جاي بدوره كان يحمل بين يديه كومة من من شرائح التفاح المقشرة ويستطيل بجسده الممتلئ قليلاً بين الحين والآخر في محاولة للوصول لثغرها وإطعامها قطعة تفاح.

ليونغ-جاي مشكلتان رئيسيتان في الحياة، طول قامة جونغ-إن المزعج وانجذاب الصغيرة لجونغ-إن وتفضيلها للأسمر عليه هو .. ما يدفعه للتذمر الدائم ..

"ألا تظن أن عمرك غير مناسب، ستكون عروسي أنا" تناول شريحة تفاح ووجهه يُبدي عدوانية حادة تجاه الطويل الأسمر.

تصرف الأسمر وكأن يونغ-جاي غير موجود. أكمل مخاطباً جونغداي ..

"هيونغ أنا جاد، حتى مقارنة بالفتيات الشابات، ابنتك هي أجمل فتاة سبق وأن رأيتها في حياتي"

ضحك جونغداي ضحكة خفيفة مكتومة وامتنع عن التعليق. استرسل جونغ وهو يلحق جونغداي كيفما تحرك، الصغيرة على كتفيه في الأعلى ويونغ-جاي يتبعه ليطعمها ويسليها ..

" إنها نظريتي الخاصة، جمال الفتيات نوعان: نوع ساحر جذاب جداً جداً حد الإبهار وهو إما غبي وإما يخدعك ويخذلك ونوع عادي يشعرك بالطمأنينة والراحة، والعجيب أن صغيرتك تملك كليهما، خليط من النوعين، تملك جاذبية تدعو للثقة، وهو شيء لاحظته مؤخراً، ربما لأن فيها شيء منك. من النادر أن تجد فتاة لها هذا النوع من الجمال"

توقف جونغداي واستدار ليستند إلى المسطبة خلفه، يصغي للمتحدث .. كان جونغ-إن يتحدث بجدية تامة وهو يتمايل في حركته بطريقة تسلي الصغيرة وتضحكها.

تأمل جونغداي مبسم صغيرته وعينيها. أصغى لصوت كركرتها الظريف.

صغيرته جميلة كأمها حقاً.

جمال دافئ رقيق.

"سونغ-وان نونا لها هذا النوع من الجمال أيضاً لذا أعجبتني حالما وقعت عيناي عليها .. " أضاف الأسمر فجأة واسترسل في وصفها.

هذه الملاحظة دفعت جونغداي لاستدعاء صورة جارته من ذاكرته، لم يلتقي بها منذ زمن لكنه يذكر بوضوح كيف أن لها هذا النوع من الهيئة بالفعل.

شخص يمكنك البوح له بأسرار حياتك من اللقاء الأول وكلك ثقة أنه سيتفهم.

"أرجو أنك لم تعد تزعجها" قاطعه جونغداي وقد جلسا إلى طاولة صغيرة في المطبخ نفسه. أنجو في حضنه وجونغ-إن ويونغ-جاي قد شرعا بالأكل بالفعل.

تلكأ جونغ-إن في رفع ملعقته للحظة، لكنه تعافى من سُمّ السؤال بسرعة "نحن أصدقاء الآن" نظر إلى عيني جونغداي بابسامة متوترة "هيونغ، هي لا تنزعج من زيارتي لها"

أومأ جونغداي له إيماءة متفهمة ودودة أزاحت الانقباض عن تفاصيل الوجه الأسمر وتركت فيه علائم الارتياح.

عندها فقط انتبه جونغ-إن : "هيونغ أنت لا تأكل"

كان جونغداي يطعم أنجو وحسب.

"لا أحب أن آكل طعاماً أطهوه بنفسي" رد.

"أنت تحرم بطنك من طعام شهيّ" اعترض يونغ-جاي وهو يحشر فمه بملعقة أرز ضخمة "لو أن أخي جون-ميون ماهر بالطبخ مثلك لكان وزني ضعف ما أنا عليه"

قرّب له جونغداي صحناً من المُشهّيات ولم يعلّق. ثم تابع تلقيم الثغر المنمنم لقيماته البالغة الصِغر متجاهلاً حملقة الشابين القلقة بوجهه.

____________

بعض العيادات والمشافي، الخاصة على وجه التحديد، تميل هذه الأيام لإدخال لون حيوي إلى الستائر والأغطية والتنسيق العام للغرف، وهذا أكثر راحة للنفس من الأبيض الفارغ الذي تبنتّه المستشفيات على مرّ السنين. فالأببض الكامل يترك إحساساً بالإنفصال عن الواقع والعزلة التامة في نفوس من يقيمون أو سبق أن أقاموا فيها لمدة طويلة.

كجونغداي.

بكل الأحوال، اللون الأحمر المُوزّع بين الستائر وأغطية السرير حتماً ليس الاختيار الصحيح فهو لا يبدو متجانساً مع المفهوم العام للشفاء، وليس فيه الهدوء الذي تتطلبه عيادة عصبيّة.

إنما يطابق حتماً الذوق الغريب وشخصية الطبيب المقيم فيها : أوه سيهون.

"ما من شفاءٍ تام لكن وضعك أفضل بمئة مرة، هل أخفض عيار المهدئ؟" اقتراح سيّء.

أجل جونغداي أفضل قليلاً الآن لكن ..

"السؤال موجه لي؟ " سأل جونغداي بنبرة ساخرة محدقاً بالوجه الوسيم القريب منه.

أمسك الطبيب الشاب زند جونغداي يقيس له نبضه بحرص..

"ألست الأكبر هنا؟" رمقه الطبيب بابتسامة استفزازية لكن ابتسامته تضاءلت وعُقد حاجباه الحادين حين شرع يُعاين الهالات السوداء حول عيني جونغداي والتي لم تختفي بعد رغم ادعاء الأخير أنه يحظى بنوم هادئ هذه الأيام.

"ألست الطبيب هنا؟" بتململ سمح جونغداي لسيهون بأن يعاين وجهه من كل الجوانب مع أن هذا النوع من الفحص لم يبدو له ذو معنى أو صلة بحالته.

"بلى، أنا الطبيب" ناظر الطبيب جونغداي نظرات ساهمة، يفكّر بأمر ما.

حين لجأ جونغداي إليه قبل شهر كان في حالة يرثى لها، مُعتل ومُنهك يتوسّل الخلاص.

مشكلته أن جهازه العصبيّ شديد الحساسية، تغذيته سيئة، حياته كثيرة المصائب وطبعه الكتوم يتسبب بضغطٍ مضاعف.

لو أن أعصابه من الصخر لتفتت.

والمزعج في هذا أن الخلل ليس حديث العهد. جذوره تمتد لسنوات طويلة زحف خلالها في جسده وروحه وعاث خراباً تحت السطح.

هو الآن أفضل

تحت السيطرة

إنما لن يبرأ من علّته أبداً.

ردّ سيهون شعره الأسود الجميل للخلف مُظهراً جبهة عريضة تنم عن ذكاء مِهنيّ غارقاً في تفكير عميق يسبر من خلاله الحلول الأفضل ثم تراجع ليرمي جسده على الكرسي وللمرة الثالثة قلّب أوراق نتائج فحوصات جونغداي ثم وكأنه أتمّ حفظها في ذاكرته تركها من يده.

أسند منكبيه إلى الخلف وبشيء من التعاطف والأسى راقب كيف يرتدي جونغداي قميصه..

هادئ جداً .. إلا أنه أكثر تركيزاً الآن.

يبدو كمن خرج من الغابة للتو بعد ضياع أشهر، لا يزال مبعثراً بعض الشيء، مكدّراً ومتعب، لكنه على الأقل خرج.

عاد.

"هيونغ، سنوقف المهدئ ونستمر بالمسكنات فقط"

أغلق جونغداي الزر الأخير لقميصه ولم ينزل عن سرير الفحص.

أكمل صاحبه ..

"طالما أنك وجدت طريقة لتخفيف الصداع النصفي وأعراضه إذاً فلتحاول أن تقلل من استخدام المهدئ، بل لا تستخدمه سوى في حاجة قصوى، لا أريدك أن تدمنه ثم تأتي لتلومني"

تراخت يدا جونغداي حتى حطّت إلى جانبه ..

الإنارة الكهربائية في الغرفة شديدة السطوع واللون الأحمر حاد ومُنفر. إضافة إلى أن العيادة قد افتُتِحت حديثاً ورائحة الطلاء تعبأ في الجو.

لو أنه لم يتناول حبة المهدئ اليوم لشق الصداع رأسه لهذه الأسباب وحدها، لكن الدواء الذي وصفه صاحبه أبلى حسناً في الإطاحة بعوارض الصداع النصفي الذي كان يعانيه لأشهر ..

ربما العيش من دون المهدئات لم يعد ممكناً.

"ماذا سأفعل من دونه؟" طفت على وجهه نظرة ضيق وعجز.

أسند صاحبه ذراعيه على الطاولة وكرجل ذو سلطة وخبرة وباستخدام عيدان طعام يلوّح بها، أمره ..

"عليك أن تخرج من هنا وتتجه إلى أقرب صالون حلاقة، غيّر هيأتك، اشتري ملابس جديدة، احظى بوجبةٍ دسمة وبكأس عصير في مكان لطيف، اغمز لفتاة جميلة في الحديقة العامة، من المهم جداً أن تكون جميلة، ولن تحتاج المهدئ بعد الآن"

رغماً عنه، انزوت ابتسامة جونغداي جانباً باردة ساخرة "أتدفعني لتهزئتك؟ تحسبني سندريلا؟"

أكمل سيهون بذات الثقة وبلدغة طفيفة ترافق نطقه في العادة "جرب ولن تندم"

ثم أزاح سيهون أوراق الفحوصات من أمامه مُعلناً انتهاء الوقت المحدد للمشورة الطبية، قرّب صحن نودلز باردة _ أحضرها جونغداي له مع وجبات كثيرة أخرى أعدها بنفسه منزلياً_ وباستخدام العيدان التي كان يلوح بها وبراحة تامّة حشا فمه بنصف محتوى الصحن تقريباً.

افتتح سيهون عيادته هذه في حيّ فقير. ما من مرضى أو مراجعين هنا، لا شيء سوى ندف الثلج في الخارج والأغطية الحمراء على السرير.

يقضي هذا الشاب اللطيف حياته هنا..

مُهمل.

يأكل وجباته وينام ويشاهد مباريات البيسبول في عيادة للأمراض العصبية. شخص بهذا الطول والوسامة والكفاءة يحيا حياة فارغة منعزلة سائبة

ينقصها الحب والعائلة، وينخرها الجوع.

لذا يدفع له جونغداي بالوجبات والصداقة بدل المال الذي لا ينفع أمثاله.

وقف جونغداي مستعداً للمغادرة أمام طاولة الطبيب، التي تحولت لمائدة عارمة بالفوضى ..

"أعطني دوائي"

"قل رجاءً" أغاظه رافعاً نحوه عينين مشاكستين وفماً لوّثته الصلصة.

"اخرس" هدّده جونغداي بقبضته وحاجبيه وتمتم بشتائم كثيرة بسلاسةٍ يبرع بها وحده أضحكت صاحبه ضحكة استمتاع خالص، كادت تخنقه بما في فمه من طعام.

ثم فتح درجاً سحب منه كيساً صغيراً فيه بضعة حبوب قليلة، وأكدّ بفم ممتلئ ..

"عند اللزوم فقط! "

"عند اللزوم فقط" ردد جونغداي مومئاً طائعاً وهو يسحبها من يد طبيبه سحباً كاد يكون قسرياً.

يعرفه جونغداي منذ زمن بعيد، قبل أن يصبح طبيباً. لذا فإن بينهما تلك الثقة والراحة التي تنشأ مع الزمن الطويل والتجارب.

مع هذا لم يخبر جونغداي طبيبه المتواضع هذا بالحل الذي سيلجأ له للتخلص من الصداع، وسيهون لم يسأل.

كما لم يسأل عن مسببات الوجع حين لجأ له جونغداي أول مرة. ولا عن المسببات الكثيرة التي تراكمت في ماضيه.

ليس لقلة خبرته وإنما احتراماً لصمت جونغداي.

 
"أترغب ببعض منها؟ لا؟ أفضل! إلى بيتك! إلى بيتك" سأل سيهون وأجاب بنفسه وهو يشير لجونغداي بيده أن يعجّل رحيله كمن يهش عنه حيواناً أو ذبابة. دون أن يكلف نفسه عناء رفع رأسه عن العُلب الكثيرة التي أحضرها جونغداي له، يتذوقها الواحدة تلو الأخرى بنهم واستمتاع طفل جائع.

ناكر للجميل.

"انا ذاهب، فأمثالي لا يأكلون مع أمثالك" ردّ جونغداي متقززاً وخرج.

ضحك الطبيب _غير_ المحترم وأكمل أكله بغير اكتراث.

______________

"عزيزي الله،

أنا في الرابعة عشرة من عمري، أنا فتاة صالحة، لطالما كنت فتاة صالحة، فهلّا أرسلت إليّ إشارة تفسّر ما ألمّ بي! .. "

أغلق جونغداي الكتاب من فوره ضَجِراً مُتأففاً وألقاه على الطاولة.

كان يجلس أسفل مصباح يتيم تطوقه عتمة البيت. يلوح على وجهه الذبول والقرف ممتزجاً بيأس مُطلق. عقارب الساعة توشك أن تصل الرابعة والنصف صباحاً .. لا يزال مستيقظاً.

إنه اليوم الخامس من دون حبوب المهدئ.

حين اختار جونغداي كتاب "اللون الأرجواني" اختاره آملاً ان يجلب له الكتاب بعض السكينة أو الرغبة في النوم على الأقل. خمّن من العنوان أنه ربما سيحكي عن الأرجوان، عن وجع، عن جمال، وربما عن العظمة المُطلقة.

لم يخطر له أن تغدر به الأسطر الأولى بمناشدة الرب الأعلى.

أرخى جسده للخلف على الكرسي، أرخاه كما يسترخي المرء على فراش وثير متجاهلاً الاحساس الواخذ بعدم الراحة الذي يرافق صلابة معدنه.

ترك عيناه التي أرهقها السهاد واحمرّت جفونها تضيع في سقف الغرفة، حيث لا يصل الضوء الشحيح للمصباح. ملامحه الطيبة يكتسيها حزن عميق راسخ ..

همس ..

"عزيزي الله .."

أحس بأن العبارة لم تغادر حنجرته رغم نطقه الواضح لها. أو أنها ارتطمت بسقف الغرفة وارتدّت إليه متناثرة عديمة النفع.

شدّ حاجبيه

من جديد، صدره مترع بالقلق والاضطراب للحد الأقصى، لحد الإعياء والمرض. الأرق يتحول في خلاياه إلى مضٍّ موجع.

وما من حل .. لا حبوب مهدئة من غير ألم حاد يبرر استخدامها. ولا مشروبات تُسكرهُ طالما هو المسؤول الوحيد عن رعاية أنجو. ولا حِضنُ زوجة يسكن إلى دفئه لينسى ويغفو.

رفع ذراعه وغطّى بها عينيه ..

يضاف لكل هذا ما شهده في مقهى الحي البارحة.

كانت تبكي.

عرج على المقهى بعد غياب طويل ليلقي التحية فرآها تسند جبهتها على كتف الآنسة سونغوان، تذرف دموع ذلّ وظلم.

وقف يرمقها بغضب. لم يقل شيئاً.

جونغ-إن حكى له لاحقاً، أن السيدة دو. افتعلت مشكلة وفضيحة كبيرة أمام روّاد المقهى ونعتتها بصفات مُشينة على الملأ.

أوشك الشاب الفتيّ على البكاء قهراً بينما يشكي له ما حصل.

جونغ-إن وجونغداي كلاهما عاجزان عن التصرف كما يودّان، ماذا يفعلان مع امرأة في منتصف العمر كالسيدة دو.؟ لو أنها رجل لضرباه، لو أنها طفل لأخافاه، لو أن لها زوج لتوجها له وواجهاه. لكنها امرأة، أرملة، وكل ما يستطيعانه هو مشاهدة جوهيون تعمل بكل جد وجهد لتجني قوتها وقوت ابنها ثم تُهان بلا سبب واضح مُقنع وينتهي بها الحال فوضى من الحزن والدموع والإرهاق.

مُكبل

مُقيّد

مخنوق

ليس غياب المهدئات .. العَجزُ هو الذي يبقيه يقظاً هذه الليلة ..

والقنوط.

إن أيقونة صليب _بحجم لوحة_ معلقة على الجدار، وهناك أخرى أصغر تُبارك الواصلين عند مدخل البيت.

الكتاب المُقدس يتربع على أعلى رف في المكتبة.

مع هذا لا وجود للرب حوله.

لا يحس بوجوده في أي زاوية من الزوايا، ولا حتى في قلبه.

الخامسة .. فرك رقبته بخشونة ونهض. تفقد أنجو. دثّرها جيداً وقبّل رأسها ثم بحذر شديد غادر غرفتها.

وغادر بيته.

"لم أعد أقدر على الاحتمال، لماذا يحصل هذا لي؟" سأل الخالة بيون مرة وهو يبكي.

"لأن الرب يريدك أقوى" أجابته وبعثرت شعره كما فعلت رياح الفجر حين خرج إلى سطح البناء.

صفعت ريح الفجر جسده حين جلس على الحافة صفعةً أفرغت رأسه من كل خاطر ووسواس.

أخرج من جيبه سيجارة أشعلها، سحب منها نفساً طويلاً. ولج الدخان الدافئ المسموم صدرَه على مهل.

أسند ثقل جسده للخلف ورفع راسه إلى سقف السماء. لم تكن مظلمة بالكامل، من ناحية يلوح شفق خافت يرسم خط الأفق ومن أخرى ينحدر القمر ناعساَ يتوارى خلف أبنية المدينة ويتخافت.

"عزيزي الله .." همس. ثم ببطء راح يغني، يغني لنفسه، عبارات متفرقة من ذاكرته، لا لحن يجمعها.

غنى وتناثر صوته كضياءٍ شفاف رقيق مُشبع بآهات وتعاسة ما من شكلٍ محدد لها ..

(سآتي كالمطر احضنيني .. فهذا سيمضي سيمضي

سأغفو بين ذراعيكي لا توقظيني .. حتى يمضي يمضي

إني أحلم .. إني أحلم .. إنها تنام في داخلي)

______________

" تغدّيت؟ "

اقتحم جونغداي مكتب تشاسونغ بودّ. تخطى المكتب والرسميات معاً ليقف قربه ويرمقه بفوقيّةٍ مازحة، يداه في جيبيّ بنطاله باسترخاءٍ ظاهريّ، ويسند قفاه على المكتب بوقفة مائلة .. كرر السؤال برفق : "أكلت؟"

"ليس بعد، هل يفكر سنبانييم بدعوتي؟" رفع نظرةَ دلال نحو جونغداي.

"إن نفذت طلب السنبانييم" أمال داي رأسه بنظرة رقيقة تنطوي على الكثير من اليأس والتماس الفهم.

تشاسونغ شاب نبيه، خوّله ذكاؤه الاجتماعي ولسانه المرن في التعامل مع رؤسائه للتقدم على سلّم الوظائف، فترقّى منذ أسابيع قليلة من مهندس صوت بمرتّب عاديّ إلى مدير قسم فرعيّ بمرتّب أعلى من العاديّ بقليل.

ولم يصعب عليه _بهذا الذكاء_ معرفة نوايا جونغداي ومقصده.

هو يعلم جيداً مقدار الصعوبة التي تحمّلها جونغداي مؤخراً ريثما أتمّوا برنامج الكتاب الصوتي. والآن بعد أن اختُتِم الكتاب الأول ووفى جونغداي بالتزامه بالمشروع من السهل على المرء أن يتوقع انسحابه.

منذ مدّة وجونغداي يتملص من كل ارتباط ويتفادى كل اجتماع. يُؤثر أن يقضي وقته حبيس بيته.

"هيونغ، يمكننا تعديل موعد التسجيل" تململ سونغ. يكره أن يتعامل مع شخص آخر غير جونغداي، بل إن الفكرة بأكملها ستبهت إن لم يكن صوت جونغداي هو الذي ينساب عبر لواقط الصوت.

فمن مثله يثور في ذروة الحبكة، يذوب في اللحظات الرومانسية ويحنو في المواقف الحزينة؟ المشروع لا يحتاج إلى أي قارئ، يحتاج إلى شغف وحبّ ونبرة صوتٍ ساحرة، يحتاج كيم جونغداي ليستمر.

ترجاه كطفل : "هيونغ ! إنه مشروعك أنت، لا معنى له من دونك! "

طبطب جونغداي على كتف الجالس بابتسامة لا لون لها توضح أن جونغداي حسم أمره، وجونغداي لا يتراجع عن قرار.

صفق مينسوك الباب مقتحماً الغرفة غير مقيم وزناً لمكانة مديرها أو خصوصية شاغريها؛ كفّاه محشوران في الجيوب الأمامية لبنطاله الضيّق، أنفه محمر من البرد وعيناه تقول أنه يبحث عن المشاكل وعن صديق يدفع له ثمن وجبةٍ دافئة محترمة ..

" لائحة طعام الكافيتيريا ضعيفة جداً اليوم، هل نخرج إلى مكان لطيف"

وقف على النظير من جونغداي يحملق بوجه تشاسونغ الممتعض كأن الجواب عنده.

يستحثّه على القبول؟ هل هو تحالف مُعلن؟

"اتفقتما عليّ؟ مينسوك هيونغ يجب أن تحاول إقناعه بالعدول لا أن تقف في صفّه، ألا تذكر كم اجتهدنا ليُسمح لنا ببدئه؟ كم تنازل هو بالأخص؟!"

" دعه على راحته" تطلع مينسوك إلى جونغداي فقابله الأخير بنظرة ممتنة وابتسامة هادئة.

مهما كان سونغ حذقاً لا قدرة له على مجاراتهما أو ثنيهما إذا أرادا شيئاً .. نهض متأففاً ومُكرهاً :

"وأنا من يتم ركله ليقف في وجه المدير ويخبره بقرار المُبجل كيم جونغداي، لماذا؟ لا تقل لأني فصيح لسان. لسان كلّ منكما _مع احترامي_ أطول من سور الصين، لكن على المسكين _أنا_ أن يُدفع لتجرع العلقم وتلقي مزاج المدير مُقابل وجبة؟ هذا استغلال! "

نعم استغلال، شرح الأسباب سيحرج جونغداي أمام المدير، لا يحب أن يحكي عن حياته الشخصية او يضع مبررات قد يجدها شخص جاهل بوضعه مبررات سخيفة.

"سأشتري لك لحماً، ها؟ أبلي حسناً " ربّت مينسوك على قفى تشاسونغ مشجعاً حين مرّ من أمامه فازداد المسكين تبرّماً واحتجاجاً وصار يخبط الأرض خبطاً حتى صفق الباب خلفه.

لا بأس، وجبة دسمة ستعدّل مزاجه لاحقاً.

أما الآن فالسماء تثلج على مهل. لطيف كيف لا يأبه الندف الناعم للزمن، يأخذ كل وقته في الهبوط.

جلس مينسوك على حافة الطاولة باعتيادية ينتظر عودة مبعوثهم المُخضرم بينما وقف جونغداي يراقب ..

الحاجز الزجاجي الضخم في المكتب أعطاه إطلالة واسعة على المدينة المرتعشة، مع هذا وجد أن وجهه المنعكس على الزجاج أكثر غموضاً وجذباً لعينه من مشهد الثلج الأبيض المتراكم على حواف البنايات.

شعره المقصوص حديثاً أقصرَ من المعتاد لا يزال يبدو غريباً لعينيه. أو ربما ليس الشعر وحسب ..

تفاصيل كثيرة تغيّرت.

بعد التحرر جزئياً من حداده الطويل توسّعت مداركه لتفاصيل كان يجهلها عن نفسه: كم هو مترع حد الوجع بمشاكل الآخرين، كم يضيف هموم الناس إلى أحماله، وكم سئم من ذلك كله وكم يرغب بالتملص وهجرهم جميعاً علّه يوقف آلام الشقيقة التي تكاد تقتله.

" ستأتي معنا هذه المرة، صحيح؟" سأل مينسوك يؤرجح ساقيه.

التفت إليه جونغداي معتذراً "سأدفع حتى لو لم أحضر، الوجبة على حسابي"

" تعلم أني لا أقصد المال" أطال مينسوك النظر في عيني جونغداي نظرة اشتياق أشعلت فيه الإحساس بالذنب لابتعاده عن محيطه بتعنّت وتشدد زائد وبدل الرد والجدل وأمام الصورة الشتوية الضخمة للمدينة تنهد جونغداي وسرح. 

مضى الوقت مُبهماً بارداً في الغرفة إذ ألغى الثلج إحساسَ مُراقبَيه بمرور الزمن حتى سمعا طرقاً على الباب ولم ينتظر الطارق الإذنَ بالدخول بل دُفع الباب وخطت الآنسة الحسناء تشوي داخلة وقد تملكها القلق للحد الذي جرّدها من كياستها وأناقة حركتها المعتادة ..

سرعان ما وجدت عيناها ضالّتها التي أتت تنبش عنها ودون اعتذار عن الدخول المفاجئ سألت :

"سيد كيم، هل ستترك العمل في الإذاعة؟"

تبادل الرجلان نظراتٍ تخاطريّة سريعة ثم انتفض مينسوك من مكانه، هزّ رأسه مستنكراً ما بدا أنه إشاعة خاطئة أفلتت بين الموظفين ومضى إلى الخارج ليصلح ويلملم الأمور بتكليف من عيني صاحبه.

"اهدأي، و.. احذريه" رمى لها نصيحته، أحسّ أن صديقه ينوي أمراً. مضى وأغلق الباب خلفه.

كأنها لم تسمعه ظلّت عيناها المتوسعة مُثبّتة على هيئة السيد كيم الذي اقترب ليقف أمامها على أقلّ من مهله.

يتحرك بثقل وصمت يثير الريب.

استند إلى سطح المكتب بشبه جلسة. 

هادئ، رصين أمام الهياج الذي يخفق به صدرها ..

من خلفه _عبر الزجاج_ امتدت مدينة سيئول باردة، مهولة، معقدة وجميلة، بينما على وجهه طفت ملامح عذبة. ملامح رحيمة، ليس وجهه الذي اعتاد أن يلقاها به. حتى صوته لم يكن بالجفاء الذي تحمّلته طويلاً، بل خرج من شفتيه حانياً رؤوفاً بها ..

"لم ارحل إلى أي مكان، ولن أرحل" صادق.

تؤمن بصدقه، تؤمن بكل كلمة يقولها.

لكن قلبها لا يستجيب لها.

في عينيه نظرة لا تطمئّن لها.

نظرة شفقة، نظرة شخص عارف.

نظرة تطعن قلبها خوفاً ..

جاهدت لتثبت .. حاولت أن تبرر تبريراً أحمق تعلم أنه لن يكفي لستر تصرفها .. يداها تتحرك بتوتر خارج عن إرادتها ..

"سمعتهم يتحدثون .. في مكتب الإدارة .. أنك ستتوقف .. عند هذا الحد ولن تستمر ب.. " حُشِرت الكلمات في حلقها توشك أن تنفجر دموعاً.

لم تقدر على لفظ المزيد.

ركز عينيه نحوها

حدّق في روحها متجاوزاً كل الحدود والحصون التي كان يبنيها بنفسه بينهما.

باعدت شفتيها .. لم تلفظ شيئاً. إنما ترجّته عيناها المُحتقنة أن يكرر ويؤكد أمر بقائه مئات المرات على مسامعها.

"أنا باقٍ هنا لن أغادر الإذاعة" نبرته منخفضة، رقيقة، وحانية كما لا يمكن لصوت رجل غيره أن يكون.

ويلتاه ..

ها هو قلبها يسقط مُفلتاً على غفلةٍ منها.

كما حصل في أول لقاء.

كانت حفلة الترحيب بها كموظفة في الإذاعة. وكان غالب الحضور من الذكور وقد أخذهم الاحتفال. بالغوا في الثمالة وتراخوا في ضحكاتهم الجلفة وتصرفاتهم الخشنة فصدّت السيدات عن المشاركة في الشرب والمرح واكتفين بالأكل والأحاديث الصغيرة.

كانت لا تزال خجولة صموتة وقتها واكتفت بالمراقبة كطفلة في تجمع للبالغين. وفي لحظة خرج الجَمعُ عن السيطرة إذ كادت إحدى النقاشات تتحول لشجار عنيف بين رجلين من الموظفين القُدامى.

توتر الجو وشُحن بتراشق كثيف للإهانات من الجميع وللجميع. أخذ السِّكرُ عقولهم وعاثت الفوضى بين مؤيد لهذا أو ذاك والنساء تتأفف.

فجأة سكت الكل الكل وتوجهت العيون إلى شخص واحد جالس يحتسي شرابه. لا تذكر أبداً ما قال يومها، فقط بضع كلمات وأنكس المتشاجرون رؤوسهم في خجل، مع أنهم أكبر منه سناً.

ابتسمت النساء باستحسان وتهامسن بغزل خفيّ.

كانت المرة الأولى التي تسمع بها صوت السيد كيم. تكلم يومها بنبرة منخفضة، عميقة، حازمة ذا رنّة ساحرة ومهيبة.

كملك .. أسقط حرباً بكلمة وأسقط قلبها دون أن يدري ودون اكتراث لوجودها.

مرة بعد مرة.

ويستمر ..

" أعتذر " سالت دموعها أخيراً وحدها فذابت وأشاحت وجهها في خجل "لا أدري ما أصابني"

" لا بأس .. " ردّ ببساطة.

تكاثف ندف الثلج في الخارج، أبيض ناصع. واشتدّ البرد.

تخافت صوتها وطأطأت رأسها ..

" حقيقة، سمعتهم يتحدثون ففقدت صوابي، وعندما لم أجدك في مكتبك صدّقت ما سمعت" قبضت على طرف ثوبها تعتصره، تفرغ فيه الألم الذي يطعن حنجرتها.

" يمكن لهذا أن يحدث دائماً" أكدّ بلين وسماحة.

"لكني الآن أفهم، لا بدّ أن ما سمعته مغلوط .."

"بالضبط"

" أو أني سمعت الكلام منقوص .. وإلا لما كنتَ هنا تقف بهذا المزاج الحسن"

"أعتقد هذا أيضاً"

" الخطأ خطأي، أعتذر"

" أتفهّم "

كانت كل الوقت تخفض وجهها في محاولة يائسة لستر تعابيرها المبعثرة، حتى أن خصلات شعرها كانت تهبط ساقطة الواحدة تلو الأخرى، عند ردّه الأخير فقط رفعت وجهها نحوه ..

بصدمة .. ولأول مرة في وجهه.. تهكّمت متناسية الاحترام الذي تفرضه مرتبتهما المهنيّة ..

" تتفهم؟ كيم جونغداي، بحق الرب الذي تؤمن به، ما الذي تتفهمه؟ "

تُغالب .. منذ عرفته تغالب مشاعرها نحوه وتُحكم إخفاءها والسيطرة عليها حتى كادت تتعفن في صدرها. هذا لأنه كان متزوجاً ثم أرملاً يتعفف عن النظر إليها أو لأي امرأة. ففهمت وأقنعت نفسها أنه لا يرغب بأي ارتباط.

اختارت ان تنتظره.

ابتلعت غصّة الحب من طرف واحد ورضيت بها لزمن طويل .. ليأتي ويقول أنه يتفهّم؟ ما الذي يتفهمه؟ كم تبكي ليلاً كلما وبّخها؟ كم تنفق على مظهرها لتحصّل اهتمامه؟ كم تكره ذاتها لأنها ليست المرأة التي يستهويها؟ كم تتوق لاحتضانه، لتطييب حياته وتغييره للأفضل؟ كم تتعلم وتتجهز لتكون المرأة التي تقف بجانبه بمعجزة ما .. وكم تتخيل ذلك وتحلم به؟

هل يتفهم؟

شهقة خافتة سُحبت من صدرها حين فرد ذراعيه في الهواء فجأة من تلقاء نفسه وأشار لها أن تقترب.

يداه معلقتان في الفراغ بعيدتان عنه، جسده مكشوف دون جدار أو حواجز تصدها عنه.

إنه يسلمّ نفسه لها.

إنه يعلم ..

"هل أبدو .. واضحة لهذا الحد؟ " اهتزّ صوتها واغرورقت عينيها مما بدا لها وهماً وربما شفقة.

أجابها صمته.

اجتاحتها رغبة جارفة بالبكاء وشعور بالإهانة. لكنه في المقابل صمد في مكانه وعلى حاله مُشرّعاً لها فرصة احتضان.

بدا وسيماً .. أوسم من أي يوم مضى

كنزة واحدة تُحيط جسده برقة مَحيكة من خيوط دافئة بلون حبات البن، تُشابه لون شعره، تُبرز وتُحلّي بياض وجهه. خصلات غرته المقصوصة حديثاً أقصر من المعتاد تسمح لرموش عينيه بالظهور، طويلة ومعقوفة، بغاية الجمال.

حرّك جفنيه مشيراً لها أن تقترب.

تحركت خطوة.

استسلامه يزيد ملامحه الطيبة سماحةً على سماحة وعطفاً على ثقة وتؤدة وجاذبية.

اومأ برأسه ان تتعجل.

حاولت ألا تطيعه لكن .. في رفّة عين وجدت نفسها تعانق جسده بيديها وتُلطي رأسها على صدره. لم تعِ كيف وصلت إليه، ركضت أو تعثّرت، كل ما أحست به هو دفئ رقيق يستقبلها ويلج قلبها ثم نبضات قلبه الهادئة تُطرب مسامعها.

شدّت في إحتضانه كما كانت تفعل في خيالاتها الجانحة. تنفّست بعمق رائحته الحانية الدافئة، رائحة ارض واسعة من القمح تحت أشعة شمس يوليو.

لطالما أحبت رائحته.

بتردد ولتتأكد مما هي فيه رفعت رأسها، قابلتها رقبته ..

شهية

ومغرية

لم تمنع شفتيها من طبع قبلة صغيرة عليها ثم وبغير وعيٍ منها امتدت عينيها سريعاً لتستقر على الهدف الأكبر، شفتيه.

تأملتهما .. وبتلقائية استطالت بجسدها حتى حطّت شفتيها على شفتيه، كما يحط عصفور على غصن رفيع.

وتجمّدت.

ارتعش جسدها من لقاء البشرتين البارد ففقدت شجاعتها وقدرتها على الصمود وتراجعت .. ترتجف.

لم تكن قبلة.

كانت محاولة تقبيل فاشلة.

" لهذا تجاهلت ميولك إليّ، هذا ما أردت حمايتك منه" همس صوته مُبدٍ أخيراً تصرفاً يثبت وجوده "برودي".

ارتعاشة جسدها ازدادت فاضطرت للاستناد عليه .. أراحت جبينها على صدره الثابت تُصغي لصوته الخافت كيف يغرس سيوفه في روحها .. أكمل ..

"يمكنني بدافع التهذيب واللباقة أن اسلّمك نفسي، أن أقبل مشاعرك وأواعدك لكن .. لا يمكنني التظاهر بأني أملك نحوك أي شعور"

للتو فقط انتبهت أن ذراعيه لا تزالان معلقتان بعيدتان عنها .. كحلم. لم يبادلها العناق ولا يحفل للقبلة الخجولة.

"اعذريني، لا يمكنني أن أكذب" صوته يشي بغصّةٍ تسكن حلقه.

خطان رطبان من الدمع سالا على وجهها. أذّلها، جعلها تبدو كمحرومة تسرق بدافع الشهوة.

وحسب.

يداها اللتان لا تزالان تلمسان جسده لأول مرة دفعتاها بعيداً عنه لتنقذ ما بقي من كرامتها لكنه تدارك ..

منعها.

"لا تكرهيني" همس وحاوط خصرها ليعيدها نحوه بلطف. شدّ جسدها الواهن إلى صدره، لم تقاوم، أعطاها ابتسامة ثم أخذ شفتيها بقبلة لائقة.

كانت خائرة

وكان رحيماً

قبّل ثغرها قبلةً طويلة بلسمية، ترقّع أعمق الجراح، ثم اتبعها بقبلات صغيرة تطبطب على مواضع الوجع. قبّلها يطلب بقبلاته العفيفة الغفران.

لم يقبلها لنفسه قبلها لأجلها.

أعطاها. لم يأخذ منها. بينما يكرر اعتذاراته همساً.

لم تقوى على مبادلته ولم يعطها الفرصة إذ أنه أبعد ثغره الشافي عنها بذات الابتسامة وأمسك كتفيها لينظر مباشرة في وجهها.

"سامحيني، لا تحقدي عليّ" مذنب.

" ليتني أستطيع " نخرت ساخرة واستسلمت للبكاء.

مدّ كفه ومسح على رأسها بينما يميل ليتمكن من النظر في وجهها الباكي.

اعترفت من بين شهقاتها ..

"سأظل للأبد أحسد المرأة التي ستحصل على قلبك "

"وأنا لن أرضى أن أراكي مع رجل أقل مني، امم؟ عليكي أن تواعدي شخصاً عظيماً لتغيظيني به، اتفقنا؟ عديني" سحبها حتى أسندت ذقنها على كتفه وراح يربّت على كتفها بلطف ومودّة.

فجأة .. لم تعد تشعر بانجذابٍ نحوه.

وقبل أن تهدأ أو يستقر حالها قرع أحدهم باب المكتب. تملّصت من بين ذراعيه بشيء من اللؤم بينما لا تزال تتهنّف في بكائها ..

"دعني، أريد أن أبكي وحدي" التوت شفتيها بتعجرف "أمضيت البارحة أصنع لك وجبة، هدية أوشكت أن أقدمها لك اليوم، سأذهب واتناولها .. وحدي"

دخل تشاسونغ وقد عاد بالموافقة من مكتب المدير ..

"هيونغ، ستدفع للغداء .. آنسة تشوي؟"

أدارت وجهها تخفيه بيدها وشعرها المُسدل وخرجت على الفور.

سيظن الزملاء أن جونغداي وبّخها مرة أخرى .. والحقيقة أنه حطمها تماماً هذه المرة.

__________

إن حقيقة أن جسد الآنسة سونغوان صغيرُ الحجم لدرجة أنه يكاد يختفي تماماً خلف لوح الرسم تبهج قلب جونغ-إن كلما زارها لدرجة يعجز معها عن حجب ابتسامته أو ردعها طوال فترة الزيارة.

بعد أن تعد له ما يشرب تجلس غالباً إلى لوحتها لتكمل رسماً ما بينما يقص عليها هو _مندفعاً بكل عواطف الحب والتعلق_ أخباره ومغامراته اليومية. 

يجلس إلى طاولة أكل صغيرة الحجم في مطبخ مفتوح على الصالة حيث يقابله هناك قفى لوح رسمها والمسند. وهي من خلف اللوح تجلس على كرسيّ عالي تحيط بها مجموعة فراشي ومواسير ألوان شبه فارغة.

عادةً ترتدي بنطالاً فضفاضاً أثناء العمل مع كنزة عادية مرخيّة وترفع شعرها القصير كي لا يزعجها. إنها مع جونغ-إن مرتاحة جداً كما تكون امرأة مرتاحة مع من هو أصغر سناً منها أو أقل قدراً من إثارة اهتمامها.

وهذا لا يزعج جونغ-إن.

فقط يَعجب حدّ الدهشة كيف للملابس المنزلية أن تكون ظريفة وجميلة كما تبدو عليها دون اكتراث لاحتمال تقليلها من شأنه كرجل.

تتابع سونغوان وضع التفاصيل الدقيقة إلى رسمٍ لم يتسنّى لجونغ-إن قط أن يراه.

ويتابع تأملها.

إن لسونغوان أسرار كثيرة. ودارها ملأى بتفاصيل تبعث الفضول في الحَجَر ! وهي جدّية حاسمة ترسم الحدود بينها وبين الآخرين بصرامة شديدة.

فهي وإن سمحت لجونغ-إن بالزيارة كصديق ستظل تمنع عنه التجول في بيتها أو الإلحاح في السؤال عما لا ترغب هي في الإجابة عنه.

أي أن الإقتراب منها ممنوع.

ولمعارضة أوامرها عواقب وخيمة، هي _على صِغر حجمها_ ذات سطوة على القلوب والمرء لا يملك في حضورها إلا أن يُنفّذ ما ترغب به هي، سواء من باب الحب أو الخِشية.

والحب هو الغالب.

ليس في حالة جونغ-إن وحده بل إنها من النساء اللواتي وُهِبن قدرة عجيبة على وهب الحب وكسبه.
تسللب قلوب الجميع والمرء لا يملك إلا أن يحبها وينجذب للهالة الطيبة المرحة والرزينة التي تحيط بها بل وينفذ أوامرها سمعاً وطاعة وبرضا تام.

كله بفضل ابتسامتها ..ربما.

جونغ-إن مُوله تماماً بالإبتسامة وبحركة يديها الرشيقة على اللوح وبصوتها الصافي صفاوة ينابيع الربيع. ويحب أكثر ما يحب أن يُضحكها فيرتدّ رأسها قليلاً إلى الخلف أو تغلق عينيها وتشدّ جفنيها كأنها للحظة تفقد السيطرة على نفسها فتفلت منها سعادةٌ صرفة وتترقرق حنجرتها بتلك الضحكة القصيرة الحلوة التي يرتجف قلبه لها رجفاً وتنغرس في أعماقه كوتد لا يتزحزح.

إنه واقع لها بكل جوارحه.

ولا يصدقه أحد.

"بعد أن خرجنا من عنده توعد يونغ-جاي بضربي، لكنه جبان، لذلك أسخر منه" قرع صوت جونغ-إن بضحكة مرحة وسمعها كذلك تشاركه الضحك.

"المكوث برفقة الأطفال لطيف، لكن لماذا تجالسها؟" سألته دون أن تريه وجهها صابةً كل اهتمامها على ما ترسم.

سؤالها بدد الجو اللطيف.

تنهّد واخفض وجهه إلى طبق البسكوت الموجود أمامه والذي بدا كجزء من ديكور المطبخ لا يرغب المرء بالأكل منه خشية تخريب مظهره.

رشف بعض الشاي الساخن قبل أن يجيب ..

"يزور طبيباً" خرج جوابه على ظهر تنهيدة بائسة مضيفاً "أخيراً" وهزّ رأسه في أسف.

جونغداي يزور طبيباً .. هذه معلومة كافية لجذب اهتمامها. مالت بجسدها لتطلّ من خلف اللوح وقد توسّعت عينيها بفضول أقرب للخِشية ..

"طبيب؟ أخيراً؟"

ها هي ذي.

حزر أنها ستهتم للخبر. ربما هو بطيء الفهم لكنه ليس غبياً.

إنه يعلم ويرى .. أكثر مما تظن هي.

جونغ-إن ظل لأشهر مذ انتقلت سونغوان إلى الحي يحاول التقرب منها مدفوعاً بعاطفةٍ حقيقية وقوية. لم يكترث لفرق السن بينهما ولمحاولات أبناء الحي ردّه عنها ولا حتى لرفضها المباشر والمتكرر له.

شيء واحد جعله يعدل عن فكرة مواعدتها وهو ليس أسلوبها في الإقناع كما ترك الجميع يظن، إنما اكتشافه أنها تحمل مشاعر لشخص آخر.

لو أن قلبها شاغر لقاتل وناضل للحصول عليه، لكن ما دام قلبها يميل إلى رجل ما وينبض له إذاً فجونغ-إن يفضل الإنسحاب والتظاهر بالاستسلام والاكتفاء بموقع الصديق المقرب.

ملازمته لها سمحت له بتخمين من هو الشخص الذي  وقع عليه اختيارها وهذا دفع به أبعد وأبعد عن التفكير بها كامرأة رغم الألم الذي تتسبب به هذه العملية برمتها ..

"ظننته على درجة من الوعي والذكاء بحيث لن يمرض" تظاهرت أنها خائبة الأمل، و وارت وجهها خلف اللوح لكن يدها توقفت عن الرسم ثم انخفضت لتحطّ على ساقها.

ردّ "أنه على درجة مُمرضة من الذكاء، لا يمكنه التوقف عن التفكير، يكاد يقتل نفسه، لا يأكل ولا ينام"

عبث بفنجانه وانتظر بلهفة أن تقول شيئاً، أن تعطيه حلاً، أن تبدي تعاطفاً لكنها _ويا للخيبة_ ظلت جالسة في مكانها بلا حراك ودون أن تعلّق بكلمة.

النافذة خلفها تتلأ. ينعكس النور البارد لآخر النهار على رقاقات الثلج المتماسكة على الحافة. وعلى الأرضية تركت الستائر المُخرّمة ظلالاً بنقشات دقيقة شفافة طالت يديها وأصابعها المُستسلمة.

"نونا، ساعديه" استعطفها الأسمر كمحاولةٍ أخيرة "جونغداي هيونغ ليس بخير".

لم تعطه إجابة ولم تُفاجأ من تلميحاته أو تعترض إنما تحركت أصابعها كأسماك صغيرة عادت للحياة تمسّكت بالريشة التي أوشكت على السقوط وتابعت الرسم.

_____________

يرتعش .. ليس جسده.

إنما شيء ما في باطنه يرتعش، ومهما فعل لا يتمكن من تهدأته. يهتزّ كورقة يابسة. يهدّه هدّاً، يُفقده تركيزه ويسلبه من نفسه.

ليته كان ألماً .. إنه أسوأ.

تناول حبّة مُهدئ .. لكن الدواء لا يُفلح.

الساعة السابعة مساءً.

غفت أنجو حال عودتهما من الحضانة. أخبرته المشرفة أن ابنته مرحت كثيراً اليوم لذا لم يقلق حين غفت من فورها.

في المطبخ، أكياس طعام سريعة التحضير كان العم بارك قد أجبره على القبول بها مع لحوم، أرز، كيميتشي، خبز، بيض وفاكهة.

كلها فسدت .. منذ ايام.

لم يمسّها.

فقط طعام الصغيرة لا يزال صالحاً للاستخدام.

حتى الغرف تعمّها الفوضى.

إلى جانبه في سريره الواسع كانت صغيرته مُستغرقة في نوم عميق هنيّ تحت تلّة من الأغطية. تُغلق جفونها الجميلة، أنفاسها متلاحقة، قصيرة ودافئة. خديها متوردين، وأصابعها الغضة الصغيرة مُنقبضة تستجدي الحب والرفق.  أصرّت بأنانية على النوم بقربه، فلم يكن منه سوى أن يمنحها هذه الرفاهية الصغيرة.

تأملها بمقلتين فارغتين.

لساعات ظلت أغنية (آسف) لمغنيه المفضل يانغ دا-ئِل تتكرر في سكون البيت بينما يتطلع ساهماً عبر النافذة، متمدداً في سريره، يصغي ..

(حتى عندما أناديكِ .. لم أعد أشعر بشيء
لم أعد أشتاق لك .. لم أعد أرغب بك)

جسده لا يتقبل الطعام. يشعر بالضعف لكنه لا يشتهي الأكل ولا حتى قطرة ماء ترضى المرور إلى باطنه. يشعر بالاشمئزاز من كل شيء.

من نفسه.

لا يريد سوى لكيانه الداخليّ أن يهدأ ويكنّ.

لكنه لا يفعل.

نام على ظهره، رفع ذراعه وغطى بها عينيه اللتين هزمهما الضغط الرهيب فأدمعتا.

شعور مريرٌ بالخزيّ عالق في حلقه.

أسوأ إنسان على الأرض، فكّر يعضّ شفته بقسوة.

يعاقبها.

غريزة البقاء تتحكم به، تحرّكه بأنانية مؤذية، تدفعه للإساء لمن حوله بالتجاهل والرفض والانسحاب، هذا لا يتطابق مع مبادئه، لكن عليه أن ينجو بنفسه.

قلبه طافح بتفاصيل حياتهم ومشاكلها. لم يعد يضمن ردّ فعله اذا ما زاد الضغط أكثر.

(آسف)مع هذه الكلمة آلت الأغنية لنهايتها فنهض. مسح عينيه من الرطوبة التي طالتها.

أطفأ الموسيقى، أغلق الستائر، دثّر أنجو جيداً، سحب سترته المرمية جانباً وبتخبّط من يصارع الماء خشية الموت خرج من البيت هرباً من عذاب الضمير.

____________

لم يكن ذلك مقصوداً أبداً.

سمع ما سمع بمحض الصدفة. لكنه ليس أبلهاً ليُبقي على الأمر سرّاً ويكتمه، ليس وهناك من يتأذى.

كان جون-ميون قد توجه حسب الموعد المُعتاد إلى منزل السيدة دو. الساعة الثامنة، ليعطي ابنها الدروس المُتفّق عليها. منذ بضعة أسابيع بدأ يدرّسه الانكليزية بطلب من السيدة.

ابنها فتىً عنيد يمرّ بعمرٍ حَرِج وهي مستعدة لفعل المستحيل لإبقاءه على المسار الصحيح.
و جون-ميون  _عدا عن غيره_ يتفهم هذا ويساعدها فهو أيضاً عاش مراهقته من غير أب ويلعب الآن كذلك دور الأب في تربية شقيقه الأصغر يونغ جاي.

لكن ما لا يفهمه هو طريقة السيدة دو.

ما سمعه اليوم منها عندما أوشك على قرع باب منزلهم كشف له أمور كثيرة.

جون-ميون يدري بالحوادث التي تسببها السيدة دو. لمقهى الحي. ومن لا يعرف؟ لكنه على غرار صاحبه لم يسبق أن تدخل بشكل علنيّ مباشر. يبدي آراء حيادية بخصوصها لا أكثر، فجون-ميون ليس من روّاد المقهى وليس مسؤولاً عن جوهيون.

لكن أن يقع الظلم في الحيّ .. ويسكت؟

لا .. لن يفعل.

قفل راجعاً حالما سمع السيدة دو تصيح بابنها في الداخل وتوبّخه. كان ابنها _كيونغسو_ يهدد بترك البيت. لكن تهديده ليس ما أفزع ميون.

إنما سبب الشجار.

من فوره حشر يديه في جيبي معطفه الطويل القمحيّ اللون ومضى عكس تيار الهواء المُثلج.

الرياح في هذا الطرف من الحي شديدة.

نادراً ما يزور هذه الأزقة ويكاد يجهل ممراتها ومنعطفاتها مع ذلك اندفع من غير تردد راغباً بإحقاق العدل وحسب، ر بإنصاف من لا مُنصف لها. هذه الرغبة هي وحدها ما قاده إلى المقهى، حتى مع علمه أن المقهى مُغلق في هذه الساعة.

لم يستطع تأجيل الأمر للغد. فهو _رغم أن الحادثة الأخيرة لم تمسّه شخصياً بسوء_ لا يزال يشعر بإنزعاج كبير وغضب من التشويه الصريح لسمعة مالكة المقهى.

وقف جونميون أمام البناء الحسن التصميم وقرع الباب. بعد دقائق استجاب له ضوء من الطابق الثاني فتراجع قليلاً وانتظر.

خلع نظارته ليمسحها من الغباشة التي تشكلت بفعل الليلة المُثلجة وحالما أعاد وضعها ودفعها فوق أرنبة أنفه فُتح باب المقهى.

"عذراً للزيارة في هذا الوقت، لكن الأمر مهم، اسمي جون-ميون صديق جونغداي" انحنى بلباقة.

"جونغداي بخير؟؟" توسّعت عيناها وخطت نحوه خطوة.

ضوء خافت ينير البوابة.

"إنه بخير (سارع لطمأنتها) أنا هنا للحديث معك أنت، إن لم تمانعي" تنفّست براحة وردت شعرها للخلف، أسود، طويل ومموج.

جاهدت لتُظهر ابتسامة مضيافة على محياها..

"تفضّل " افسحت له الطريق ليمرّ فدخل .."سأشعل الأنوار، انتظرني لو سمحت".

أومأ لها وظلّ ساهماً، رغماً عنه، عينيه تلاحق ظلها في العتمة وأذنيه ترهف السمع لها بانجذاب غريب يعيشه لأول مرة.

هناك رنين خافت لأساور موجودة في معصمها.

ورائحة ناعمة هي مزيج من رائحة القهوة وشيء ما حلو المذاق.

أي أحمق هو؟

بحق الرب، كيف لم يزر هذا المكان الرقيق من قبل؟

____________

تراكم الثلج المتساقط على كتفيه وبدأ الألم ينخر مفاصله. تجوّل طويلاً في المنطقة حتى أفلت منه وعيه وتراخى فترك ساقيه تقودانه وحدها. 

أضواء المقهى المُشرّعة نبّهته لقربه من منزل جوهيون فتتنهّد بعمق.

غريب كيف لم يعد يطيق البشر وفي ذات الوقت يشتاق لهم.

جوهيون تتصل به منذ أيام وتلح عليه ليزورها مع ذلك لم ينوي الدخول إلا حين لمح هيأت رجل في المقهى.

جون ميون .. في هذه الساعة؟ هذا حتماً ليس مدعى سرور.

________

"لم ألتقي جونغداي منذ مدة، أشعر بالقلق عليه" جلست أمام جونميون تتفقد وجهه بدقة في محاولة لالتقاط اي تعبير يشي بالسبب الذي اتى به.

في المقابل أوشك الرجل أن ينسى ما أتى به لشدة ما اعتراه من ارتباك لا يشبه شخصه. تحمحم ورشف من القهوة التي قدمتها له.

"جونغداي في حال يرثى لها فعلاً، دعيه يعتزل علّه يصفي ذهنه، أما الآن .."  دفع نظارته فوق ارنبة أنفه وشبك أصابعه فوق الطاولة "لنركز على مشاكلك أنت"

" أنا؟ " وضعت فنجانها ولفت أصابعها الجميلة حوله تتمسك به، تتهيأ للقادم من ثغر هذا الغريب.

أبعد بؤبؤتيه عن يديها وغالب ليخفي ابتسامة اجتاحته بغير وقتها ..

"أقصد السيدة دو. والمصائب التي تتسبب بها لك"

أخفضت نظرتها بحرقة وكدر، أصابها في الجُرح .. لكن عليه أن يكمل ..

"أعلم أن تدخلي وقاحة، لكن وجب عليّ تحذيرك لتتخذي موقفاً وتتصرفي بأسرع وقت"

رفعت وجهها نحوه بدهشة، ووجد نفسه في حضرة أوسع عينين سبق أن رآهما في حياته بل وأكثرها براءة. 

" عليكي أن تضعي حداً لابنها"

بشكل غريب زاد غضبه من تلك العائلة بينما يجلس أمام جوهيون وجهاً لوجه، كيف تتجرأ السيدة الحمقاء دو. على إزعاج كائن كهذه المرأة؟ ألا تعرف الرحمة؟

"ابنها؟ ابن السيدة دو.؟ " رمشت عدة مرات. لا تفهم ما يتحدث عنه شبيه المثقفين هذا.

"لا تعرفينه؟ فتى في السابعة عشرة، بطولي تقريباً وله عينان واسعتان جامدتان. مظهره  عنيد شقيّ ومتحجر "

"أظنني .. لمحت فتى كهذا من قبل في حديقة المقهى، يأتي بين الحين والآخر، لكنه لا يدخل المقهى ولم يسبق أن حادثني" نفت برأسها.

اومأ متفهماً وكتّف ذراعيه مستنداً للخلف ..

"إنه مراهق شاب و .. _حسب ما فهمت_ يكنّ لك مشاعر إعجاب قوي بحيث صار حبه يعيق تقدم حياته، وهذا يربك السيدة دو. يمكنك عذرها، تريد إنقاذ ابنها مما تراه علاقة مُدمرة، ربما تخشى منك إذا ما وافقتي على قبول مشاعره، وفي منظورها لا سبيل لردعه سوى في خروجك من الحيّ قبل أن تقع الفاجعة. تدرك كم ان ابنها عنيد .. بكل الأحوال لن اطلب منك مسامحتها أو مسامحته .. إنما عليك أن .."

"ذلك الحقير ! هكذا إذاً " جونغداي كان يقف عند الباب، منذ زمن لا بأس به.

"جونغداي! " وقفت جوهيون بلهفة. قلقها واضح وكذلك شوقها لصديقها الأحمق.

" أنت هنا " برخاوة استدار جون-ميون نحو القادم الغاضب كأنه في لحظة خلع عنه هيأة الرجل المثقف المحترم وأبدلها بهيأة بلطجيّ بنظارة.. "ماذا سنفعل مع هذا السافل الصغير وأمه؟ " حتى ألفاظه تغيرت في حضور صاحبه.

"متأكّد مما تقول؟" سأل داي، يكاد الباب ينكسر تحت قبضته.

توترت جوهيون من موقف جونغداي العدوانيّ، لم يسبق أن شهدته حادّاً هكذا ..

أومأ ميون برأسه وفي الحال خرج جونغداي كأنه لم يكن.

"تمهّل، ماذا ستفعل، جونغداي ! " نادته هباءً. "افعل شيئاً" تمسّكت بذراع جون-ميون تترجاه و تنوي سحبه ليقوم ويلحق به.

ابتسم بهدوء وطبطب على يدها يطمئنها "دعيه، يعرف ما يفعل".

بدا لها جونغداي مرعباً وربما يتهور، وهذا يفزعها، على النقيض وجه جون-ميون لا يزال وديعاً وهادئاً. ربما عليها أن تثق بجونغداي كما يثق به صاحبه الوسيم هذا.

صلّت في نفسها أن تمرّ المشكلة على خير وطاوعت جونميون حين طلب منها ان تعود لكرسيها وتجلس.

______

منزل السيدة دو ليس بعيداً، بضعة شقق وأبنية وها هو في أسفل الشارع.

لم يعد كيانه يرتعش .. إنه يغلي!

قصف الغضب رعوده وبرقه في رأسه حتى ما عاد يرى أمامه.

كلما اقترب كلما أسرع خطاه. وكلما أسرع رغا وأزبد واستشاط.

الشارع ساكن يكسوه الثلج وحدها الرياح تصفر عند كل مفترق.

نبضات قلبه تضرب في أذنيه بوضوح.

الآن يتذكره، يتذكره بوضوح. الفتى الذي كان يتباكى تحت المطر في حديقة المقهى. ها هي تلك العيون تظهر أمامه مرة أخرى. كما وصفها ميون.

شاب في السابعة عشرة، يبدو أصغر من عمره يقف أمام منزل عائلة دو. يدخّن تحت ندف الثلج. شعر قصير، وقفة تمرديّة، نظرة جامحة وسيماء مُتعنّتة.

تشنّجت قبضته، مظهر الشاب فاسد للحد الذي يستفز رجلاً عاقلاً كجونغداي. 

عينا الفتى الجامدتان توسعتا حين أحس بوجود رجل غريب يهبط الشارع باتجاهه ولم يكد يتعرف الرجل وإذ بلكمة قوية تدير وجهه المُتصلب.

طارت السيجارة من فم ابن السابعة عشرة وترنّح، قدماه تنزلق بفعل الثلج.

"سيد كيم، ما الأمر؟" شحج صوت الفتى دهشةً وصدمة وتردد في الأزقة.

ما من منقذ له ..

قبض داي على تلابيب مصطنع المشاكل وسحبه إليه رافعاً قبضته في الهواء "أتيت أعيد تربيتك وأعلّمك الأدب" لاحه بلكمةٍ كادت توقعه لو لا أن قبض عليه مرة أخرى من دُبره ..

"ما الذي تتفوه به؟" حاول الصغير التملّص. لكن الأكبر لا ينوي أن يرحمه.

"واحد، العناد لا ينفع، الحب ليس بالإجبار" أداره نحوه. يحركه كيفما يشاء وكيونغ لا حول له ولا قوة.

"جننت؟" أسكتته لكمة ورمته أرضاً بفمٍ نازف. 

"اثنان، لا تعبث أحب على شاكلتك، شخصاً يناسبك"  وطأ جونغداي الثلج نحوه .. البخار يتصاعد مع أنفاسه، صدره يخفق، وحاجباه معقودان بعبوس مهيب.

صاح الفتى مذعوراً "توقف" مد ذراعه في وجه جونغداي يترجاه وأغمض عينيه لا يجرؤ على النظر إليه  .. أتاه صوت جونغداي حانقاً ..

"ثلاثة، احسب تبعات تصرفك، لا تتسبب بمشاكل لمن تحب، فهذه حقارة" ركله على قفاه فانقلب متألماً .. أكمل ينفث لهباً ..

"فكّر، لا تترك مشاعرك تحولك لغبي .. أحمق! "

انحنى ليلتقط قبعة الفتى التي سقطت من أول لكمة .. كورها بيديه يحمّلها كل ما يعتمر بصدره من سخط ثم صفقه بها بقوة جعلت المنكبّ أرضاً يتوجع ليس منها إنما من الرضوض ..

أشاح جونغداي وجهه عن ضحيّته، تخصّر وزفر غضبه زفرةً طويلة. حاول تمالك نفسه، لا يجب أن يؤذي الولد أكثر.

أنّ الفتى ..

" وهم (عاد إليه) .. هذه أهم واحدة، لا تفقد نفسك لأجل وهم" اقترب جونغدي ليقبض على ذراع كيونغ سو وينهضه قسراً وبلؤم. أجبره على الوقوف باستقامة ..

"أخيراً، لا تسمح لأمك أبداً أن تتدخل، مفهوم؟" أومأ الفتى برأسه بشدة أن "أجل" ودفعه جونغداي قابضاً على ياقته حتى باب البيت كما تُحمل الجراء المشردة مذلولاً من قفى رقبته وقرع الجرص.

تأخرت السيدة بفتح الباب.

يجثم على محيط منزلهم هدوء مُقفر، كأنه في منطقة نائية. ليس كبقية البيوت ما من إنارة ولاصوت تلفاز ولا حتى رائحة عشاء. مهجور تماماً. لا شيء سوى شهقات الفتى المضروب وهو يبكي ويعتصر ألمه وأنفاس جونغداي المضطربة.

بعد انتظار دقائق فتحت والدة كيونغسو، شُقّ مصراع الباب على مهل وبانت السيدة تواري وجهها وجسدها خلف الباب، يأكلها العار والخجل .. دموعها التي بللت خداها تشي بأنها رأت ما حصل.

لم يعتذر جونغداي أو يبرر لها ولو من باب اللباقة. دفع الفتى باشمئزاز عبر شق الباب، دفعةً قصد بها أن يُشعر الفتى وأمه بكمّ الاستحقار والتقزز الذي يشعر بهما جونغداي نحو أهل هذا البيت.

"سأكتفي بهذا، وستتوقفين عن مضايقتها" رجل صالح، حتى السيدة دو. تعلم من هو جونغداي.

اومأت طائعة ورحل.


_________

جلس جونغداي إلى الحافة على سطح  بناء شقته.

حركّ معصمه ودلّكه، لم يستخدم مفاصله في عراك منذ زمن طويل ستؤلمه الآن بسبب الوغد الصغير كيونغسو.

يرتجف .. من البرد هذه المرة.

أشعل سيجارة واستند للخلف يحملق بالغيوم المُظلمة التي يتساقط منها الثلج كما تتساقط أوراق الخريف عن الأغصان ..

"عزيزي الله" همس .. بين التهكم والشكوى ..

"أنا إنسان بائس كما تعلم، أخذت مني من أحببت، تركتني وحيداً، وأنا  سئمت الألم فابتعدت عن البقية" مشاكلهم حملٌ آذاه لمدة طويلة فما كان منه سوى أن ردّ الأذى.

" أعلم .. " أومأ برأسه.

أحسّ بغصة تُحشر في حلقه، عبّ نفساً طويلاً من سيجارته وزفره بكل القهر الذي يشعر به ..

"أعلم، أعطيتني ما يعوضني، ابنة .. و عمل .. و .. لا أدري، ربما أشياء أخرى". دفع السيجارة بين شفتيه وأحرقها حتى آخرها ثم رمى عقبها للأسفل بمقت.

"عزيزي الله " بحثت عيناه في الأفق الفارغ الممتد، وقد طفت كل أحزانه منعكسةً في عينيه وشجن صوته "أنا إنسان مُتعب، فهلّا ترسل لي إشارة أجد بها ما يريح قلبي .. "

المدينة بأكملها تنام خامدة تحت طبقات سميكة باردة من الثلج.  وحده القطار يرسل صوته في الأفق كمتشردٍ تَعِس يتسول في أزقة حي المحطة.

هديره دؤوب دوماً.

أغمض جونغداي جفنيه بغمّ وأصغى ..

قرقر بطنه.

نخر وأفلتت منه ضحكة مريرة على حاله المزري .. فتح عينيه ليضيف ..

"عزيزي الله، كذلك أنا رجل جائع فهّل لي بوجبة طعام؟"

هزّ رأسه يسخر من جنونه. ضحك حتى اهتزّ كتفيه وسالت دمعة فاترة عديمة النفع من طرف عينه.

أحس بالبرد يزداد لدرجة لا تُحتمل فنهض ينفض ملابسه ينوي الرحيل. 

الحافّة ضيقة وجسده منهك .. هبّت الريح في لحظة سهو فأفقدته توازنه. للحظة تأرجح جسده خفيفاً واهياً مُعلقاً في اللاشيء

سقط قلبه

وتماسك هو _لحسن الحظّ_ حين سمع شهقة.

سطح البناء طابق لا يخرج إليه أحد، خالٍ، متروك، لا تزوره سوى القطط وجونغداي.

حسب ما كان يعتقد.

شغله مصدر الصوت أكثر مما شغله احتمال فقدانه لحياته على حافة البناء.

بحذر استدار يتبيّن مصدر الصوت الخافت. أدرا بؤبؤتيه في المساحة الطلقة يستطلع حتى التقطت عيناه هيئةً مُنكمشة، ظل امرأة تقف بعيداً تكتم بكف يدها شهقة الخوف التي أفلتت منها.

كانت الآنسة سونغوان.

بشعرها القصير وبيجامة فوقها سترة سميكة. كأنما خرجت إليه على عجل لتشهد تلك اللحظة وحسب، تقف على بعد أمتار منه فزعة مما رأت، مُرتاعة و .. دموعها آخذة بالنزول.

نزل عن الحافة بخطوة واحدة. لم يكن أقل دهشةً منها.

لقد أوشك على الموت دون أن يدري به أحد! تطلع إليها كمن يقول "هل رأيت ذلك؟"

بل إنه أوشك على نطق سؤاله. لكنها سبقته إذ حررت ساقيها من الصدمة واندفعت نحوه تتغلغل عبر جدرانه لتحاوط ضلوعه وتضمه إليها بلوعة ..

احتضنته كلّه .. تمسّكت به بكل ما يعتريه من أحاسيس الوَحشة والذهول والوحدة.

في عناقهما الأول أحس بشيء يذوب في داخله، ينصهر بين ذراعيها.

إحساس لذيذ عرف أنه سيتذكره للأبد.

كان فارغ الذهن لا يدري لأي سبب لفّ ذراعيه حولها وتشبّث بها.

كانت تبكي وتشهق وكان كل همّه في تلك اللحظة أن يوقف دموعها.

ومن بين طيات ثيابه خرج صوتها ..

"ارجوك، اسمح لي بتقديم شيء تأكله".

________

يُتبع ...


اعتذغنية التي كان جونغداي يستمع لها هي الأغنية الأولى التي عمل لها كوفر في قناته على اليوتيوب
والرواية : اللون الأرجواني هي رواية أمريكية لآليس ووكر. لا تغركم بدايتها هي +18


ممنونة للقراءة


© Syram ,
книга «Moon Agony || EXO CHEN».
Коментарі