تعب
"لأصدقك القول، أحياناً يزعجني تعلقه بك" رمى الجملة في آخر حديثه مبدياً بعض الإنزعاج.
بينما مِن خلفه لم يستطع جونغداي منع نفسه من الضحك حين سمع الجملة، كان الآخر يمضي على مهله لصنع كوب قهوته الصباحية وجونغداي يرافقه عبر ممر ضيق تقطعه بقع نور شحيح ونوافذ متتالية.
من المعتاد جداً لجونغداي أن يستمع لتذمرات شقيق يونغ-جاي الأكبر بشأن أعماله ومواعيده الغرامية ومشاكل يونغجاي نفسه. لكن أن يبدي غيرةً من صداقة شقيقه الأصغر مع جونغداي فهذه جديدة ..
وهي فرصة لمضايقته.
دخلا المطبخ معاً حين ردّ جونغداي بنبرة لعوبة وحاجبين ماكرين ..
" ربما .. لأنه حقق ما لم تستطع أنت تحقيقه؟"
"ها؟ "
"التقرب مني"
تجددت ضحكة جونغداي الأقرب لقهقهة وهو يخرج كوباً من الخزانة فوق واستحق على تعليقه هذا نخرة ساخرة ولكمة خفيفة على كتفه ..
" يا ناكر الجميل، ألست أنا مقرباً منك؟" احتدّ شقيق يونغ-جاي وشدّ حاجبيه حتى تجعّد جبينه العريض.
" هو أقرب " أوضح داي بسرعةٍ وبساطةٍ مُغيظة واتخذ حاجباه ميلاناً مُستفزاً. فباغته رفيقه من الخلف بعناق ساحق أقرب لوضعية الكماشة في المصارعة وهو يجز على أسنانه ويهدده بالخنق : "أكثر من هذا، هذا؟ أكثر؟ ها؟ من أقرب مني لك؟ هل أحطم عظامك مثبتاً قُربي؟"
ثم أفلته وقد غلبه الضحك وكاد جونغداي يوقع الكوب مُفجّراً بدوره ضحكةً عالية في المكان رغم أن الضحك هنا هو فعل غير لائق البتّة.
في الحقيقة إن الشقيق الأصغر شديد التعلق بجونغداي فعلاً وجونغداي يدرك ويداري هذا الحب النبيل ويحاببه في كل المواقف ما يثير غَيرة الكثيرين بالفعل.
لكن هذا لا ينفي أن الأكبر يتمتع، كأخيه، بمكانة خاصة عند جونغداي، وإلا لما لبّ طلبه في صباحٍ باكر كهذا رغم مزاجه السيء، ولا أمضى الربع ساعة الأولى من لقائهما وهو يتغزل ويمتدح أناقة صديقه المبالغ بها اليوم.
إن طبيعة العلاقة بينهما لا تندرج تحت أي تسمية معتادة، إلا أنها قائمة ومتينة ..
" أتعلم (قال المتأنّق في آخر ضحكهما) لو كنا نعيش في أحد العصور التاريخية الفائتة لكنا ندّين، ربما، تخيل معي، .. (استند إلى المسطبة الحجرية خلفه وأوضح بحركات يده المُتفلسفة) ذات العمر وذات الطول تقريباً، أنا أزيد عليك وسامةً بالتأكيد وأنت لا تطيقني في كثير من المواقف لكن هذا لن يشكل فرقاً جوهرياً، سنكون ندّين.
ندين شهيرين على مستوى البلاد، ليس عدوّين، لن أعاديك طبعاً قلبي لن يطاوعني، ندّين فقط"
" آااه، نتشاجر بالسيوف يومياً؟ " عينا ونبرة جونغداي تقصدتا المشاكسة.
"اسمها مبارزة! " تبرّم مُحبّ التاريخ بجديّة من جهل صاحبه وتغابيه المُتعمّد. ثم تبسّم مما اجتاح خياله من مشاهد خلافاتهما السابقة.
هي غالباً تكون مبارزة بالألسن.
لكليهما لسان حاد يصلح للمبارزة فعلاً.
ثم سحبه تيار أفكاره أبعد وهو يستمع لبقايا ضحكات جونغداي وحديثه عن السيد بارك وأفعاله البارحة.
قص عليه كيف دعاه السيد بارك، مالك المتجر، إلى وجبة عشاء ثم كان على جونغداي أن يقوم بنفسه بالطهو والتنظيف كالعادة بينما استمر بارك بالصراخ والثرثرة وحسب. وكيف أن ابنه _الطويل لدرجة الحماقة_ أحرق لسانه، وتعثر فوقع وأوقع الصحون وتلقى التوبيخ طيلة السهرة.
أثناء سرد ذلك كان جونغداي كثير الإيماء، يفتعل ضحكات لا ضرورة لها في مواقف لا تستدعي الضحك، شفاهه باسمة كل الوقت وصوته حماسيّ إلا أن عينيه لا تتماشى مع كل تلك الزوبعة والكركرة الزائفة.
إنها ليست ذات الضحكات القديمة. في الماضي كانت ضحكاته ترن رنيناً ذهبياً خالصاً لكنها الآن .. ضحكات مريضة، مغتصبة، صدى ضحكات لا أكثر.
كيف لصوت ضحكة أن يثير الحزن في النفس؟
ضحكاته الصاخبة تفطر القلب.
" على كل حال لا داعي لأن نكون أقرب (عاد للموضوع الأول) أنت يا صاحبي لا تحتاج شخصاً مثلي أو مثل السيد بارك" كتف ذراعيه وتفرّس في ملامح جونغداي يُعرّيه من تمثيله ومكابرته الفاشلة.
للحظة، أُخِذ جونغداي بالتغيير المفاجئ في صوت صاحبه وأحس بنفسه محاصراً. عرف أنه على وشك تلقي ضربة في الخاصرة : "ما الذي أحتاجه إذاً؟ "
"من" صحح باسترخاءِ العارف "تحتاج شخصاً" نظر مباشرةً في عيني جونغداي وتهرّب الأخير رامياً قزحيتيه البنيّتين عبر النافذة وهو يرتشف قهوته.
أكمل ..
"اسمع يا داي، أنا أعيش مكتفياً بوجود عائلة عادية وعمل منتظم هنا، كيف تراني؟ ألا أبدو للناس شخصاً واقعياً وحسياً أسعد بوجود المال والصحبة وحسب؟ لكني عميقاً أعلم، أعلم تماماً على ماذا يرتكز وجودي وسعادتي الخاصة، وسأقولها لك أنت فقط، فأنت تتفهمني، أنا وعلى عكس ما يرون تعتمد سعادتي على الأفكار المجردة"
رشف جونغداي وأصغى ..
" الأفكار المجردة، حالما تشغل فكري مسألة فلسفية أو سؤال جوهري أشعر بالنشوة، يتملكني شغف مُفرح، أحب ذلك الإحساس عندما يعمل دماغي بكل طاقته، مثل معمل، كل الآلات تتحرك.
حتى لو مررت بضائقة مالية، لو تشاجرت مع صديقتي، لو أثقلت عليّ أمي أو عصاني الشيطان الصغير بسببك .."
هنا توسعت ابتسامة باهتة على ثغر جونغداي ثم تخافتت بسرعة وتركت ملامح منطفئة وتعبيراً هزيلاً يدلّ على الاستسلام للكلام الآتي ..
"مهما حصل، يكفيني أن أفتح كتاباً، من تلك التي تدعوها أنت: تعقيدات لا داعي لها. أن أقرأ معضلة أو نظرية أو أطروحة لأهيم بها وأنسى كل الضغوط، إنها سعادتي الخاصة"
"شخص مجرد" قال جونغداي ساهماً.
"شخص مجرد" أكّد له.
"أنا لست كذلك" تنهّد وكأن العبارة رفضت الدخول إلى عقله.
"أعلم، لهذا أقول أنك تحتاج لشخص" ترك الكوب من يده وراح يعيد هندمة ثيابه، أزرار كمّيه، ياقته ومعطفه القرميديّ السميك، وشعره المسرح للخلف.
" كيف؟ أي نوع من الأشخاص؟ " تمسّكت عينا جونغداي به تستجديه المساعدة.
"هنا يأتي دورك، أنت على عكسي تحيط نفسك بالناس لتحيا، لكن لماذا؟ ما الذي تستمده منهم؟ يجب أن تعرف مصدر سعادتك الخاصة، ثم تجد شخصاً واحداً محدداً يمكنه بث هذا الإحساس فيك"
لاحَ لجونغداي المقصد من هذا الكلام. لو أن شخصاً آخر فاتحه بموضوع كهذا لثار غضباً لكن هنا والآن اكتفى بتذكيره ..
" هذا الشخص .. لم يعد موجوداً "
تتطلع به بقرف بحت "بربك؟! " وبدا أنه على وشك أن ينهال عليه بالتأنيب والتوبيخ لكنه تفقد ساعته أولاً وقرر تأجيل المحاضرةِ الطويلة لوقت لاحق.
" انتبه لأمي ريثما أعود" قال وهو يخرج.
"ايه ايه ~أيها اللقيط! تذهب؟ أكمل ما أردت قوله" صاح جونغداي خلفه.
"لن أغيب طويلاً " ردّ من آخر الرواق.
" ياه! جونميون! " صياحه لم يُجدي.
_______
أمطار هذا الصباح، أمطار منعشة.
إن من أحب الأجواء إلى قلبه هي الأيام الشتوية التي تلوح فيها الشمس طفلة رقيقة ترافق مطراً خفيفاً.
حتى لو كانت الرياح باردة فلا بأس، بل يا مرحبا.
إنه يوم لا يمكن أن يفوّته ولحسن الحظ يصادف هذا الجو الرائع يومَ عطلة جونغداي، وبهذه الصُدفة المُباركة استطاع جونميون تركَ مشاغله وواجباته بين أيدي صاحبه الأمينة ليخرج ويلاقي حبيبته التي اشتاق لها: المكتبة المركزية.
لم ينفق المال على الكتب منذ شهر كامل، لذا وتعويضاً عن هذا الإنقطاع الفظيع لم يرضَ الخروج من البناء إلا وقد اشترى ما يقارب عشرة كتبٍ ضخمة.
حملها بصعوبة محتضناً إياها بكلتا يديه، وسانده رفيقه فمنّ عليه بحمل المظلة فقط وهو يضحك ويسخر من أناقة جونميون التي أضاعتها حمولته هباءً.
تناولا وجبةً معاً، تحادثا ثم تمشّيا حتى موقف الحافلة حيث ودّعه وتركه يتدبر أمره وحده مع الثقل الرهيب المحبب لمشترياته.
المشكلة لم تكن في الثِقل، المشكلة هي أنه وفي اللحظة التي ترجّل بها من الباص فطِنَ أخيراً أن مظلته ليست معه.
رفيقه النذل أخذ المظلة.
سحب هاتفه بصعوبة من جيب بنطاله يتحلّف في سرّه للخائن بأبشع السِباب. طلب الإسم وهو يجز على أسنانه وقبل أن يجيبه الطرف الآخر بادره صوت أنثويّ لطيف بدد إنزعاجه :
" تحتاج توصيلة؟ " آنسة قصيرة تقف بجانبه شاركته مظلتها وهي تعاين الكتب بشفقة. تقصد بعرضها حماية كتبه لا حمايته هو.
تخشى على الكتب من البلل. وهذا بالضبط ما يحتاجه!
تبسّم براحة "سأناديك بمنقذتي حتى آخر حياتي، آنسة شون"
"نادني سونغ-وان رجاءً" حشر هاتفه على عجل في جيب معطفه وبادلها التحية ثم مشيا. من الجيد أنه تأنق اليوم فها هو في موعد لم يحسب له حساب.
لم تكن الظهيرة قد حلّت بعد، والجو ليس بذلك السوء، المطر رفيق والشوارع شبه فارغة، رائحة الجو المنعشة جعلت من المشي تحت مظلتها أمراً لطيفاً وممتعاً نوعاً ما.
هي أقصر منه بحيث كانت تناضل لرفع المظلة فوقهما معاً. وفي المقابل هو ليس بذاك الطول المُرهِق لها.
حمداً للرب.
شون سونغ-وان آنسة من الشباب العازبين الذين يسكنون الحي. ليست من السكان القدامى، هي هنا منذ بضعة أشهر، قليلة الاختلاط والظهور في الأنحاء.
تبدو هادئة هدوء السكينة لا هدوء الخجل والإرتباك. حلاوة ملامحها وتناسق هيأتها البهيج يلفتان العين إليها قبل جمال التفاصيل الأنثوية التي لاتعوزها أبداً.
نظرتها وصوتها ولباقة إيماءتها تعطي إنطباعاً سريعاً بالرزانة. ومبادرتها لمساعدته _رغم المشقة التي تعانيها بسبب فرق الطول_ تثبت أنها شخص لطيف وطيب كما سمع عنها.
أجل، سبق أن التقيا عرضياً وهو يعرفها قبل ذلك حتى بفضل أكثر كائنات الحي إزعاجاً، جونغ-إن. وبالتفكير بالأمر، لا عجب أن سميك الوجه أعجب بها، هي لا تبدو أكبر منه، بل لها طلّة ابنة التاسعة عشرة رغم الطراز المحتشم لملابسها.
بكل الأحوال، مرور الفتى الشقي في سلسلة أفكاره جعل منه عذراً لبدء حديث ..
" أتمنى أن جونغ-إن لم يعد يضايقك، تعاملك معه واحتمالك لتطفله مُبهر حقاً "
تبسّمت لإطراءه بينما تتطلع إلى صف الشجر الذي يمرون بقربه، الأوراق تقطر على مهل وبعض العصافير تغرد وتنفض عنها ما بللها من مطر الصباح. أكمل يبرر ..
" إنه في العموم طيب، لكنه طائش وعنيد. من النادر أن يستطيع أحد التأثير فيه أو زجره عن أمر ما، هل أقولها بصراحة؟ حاولنا جميعاً نهره عن التعرض لك لكننا لم نفلح. اسمحي لي أن أعتذر لك نيابةً عن سكان الحي، الحقيقة ينتابني الحرج من أفعاله والفضول، كيف استطعتي ترويضه؟"
" ترويض؟ (ضحكت ضحكة متقطعة) لا يصح قول ذلك سيد كيم" رمت إليه أكثر الابتسامات لطفاً وليناً على وجه الأرض. كما لمح في عينيها بريقاً صبيانياً أضفى على ظرافتها ظرافة.
"ناديني باسمي رجاءً " شعر بإلفة مريحة تجاهها، ليس وكأنه يمشي مع امرأة جميلة بل يمشي مع صديق مقرّب.
تقبلت عرضه بإمتنان لتكمل..
" جونميون شي، جونغ-إن ليس حيواناً، إنه بشر، مشاعره تجاهي هي جزء من الطبيعة الإنسانية، خارجة عن السيطرة. فكر بالأمر من هذا المنظور وسيزول كل إلتباس أو إحراج، تعامل مع أفعاله على أساس الدوافع الإنسانية، هو ببساطة إنسان"
" كإنسان؟ " أفلتت منه تكشيرة ساخرة، بالفعل إن لجونغ-إن انطباعاً حيوانياً في نظره؛ ليس وحشياً وإنما فطريّ بدائي، فهو شاب حسيّ بشكل كامل ونادراً ما يستخدم عقله هذا إن كان موجوداً أصلاً.
لم تتأثر بهزوه وأوضحت بتروّي سيدة قديرة..
"جونميون شي، الإنسانية مرتبطة بالحب، وتقوم على الحب، ليس حب رجل لإمرأة أو إمرأة لرجل فهذا يعقّد الأمر، ولا حب أمّ لطفلها فهو مهين لشابٍ في عمره، بل حب إنسانٍ لإنسان، استخدمت هذا النوع من الحب لأقنعه بأنني لا أناسبه وأني أنشد مصلحته، هذا الحب هو سهم لا يُخطئ أبداً "
"لا بدّ أنك رامية ماهرة " أحسّ بغبطة تتزياد في صدره كلما استمع لها، صوتها الحاني مع وقع المطر له تأثير يبهج القلب.
" ربما (ضحكت بخجل واقتضاب) هذا النوع من الحب لا يصوَّب إلى القلب، أو العقل، بل يوجه إلى الروح، وحدها الروح تستشعر وتستجيب له لأنه يمسّ سموّها، أي الإنسانية"
" هذا شجيّ، لو كان حديثك كتاباً لفعلت المستحيل لأضعه مع هذه الكومة في غرفتي، لكنك إنسان" أخفضت رأسها تخفي ضحكتها المتواترة. وشعر هو بالراحة لوسع أفق تفكيرها وتفهما لذلك الأرعن.
ثم تابعا حتى تباطأ ميون أمام بناء من طابقين ينزوي بعيداً عن الأبنية وتحيط به حديقة صغيرة.
دار جنازات.
فهمت أنهما وصلا ووقفت بدورها تتطلع إلى البناء البسيط خلفه فأوضح لها ..
" هذه الدار هي ملك الأسرة، عملي هو إدارتها "
أومأت بتفهّم. لم تكن تدري شيئاً عن عمله بالكاد تعرف اسمه وأنه يسكن في الحيّ.
"أتعبتكِ معي، وسأبقى مديناً للتوصيلة إلا إذا سمحتي لي بردّ الخدمة"
توسّعت عيناها وبحركة تلقائية ردّت شعرها العسليّ القصير للخلف وأرهفت سمعها للتتمة ..
تبسّم متودداً " فنجان قهوة تعويضٌ كافي؟ "
ترددت للحظة تفكّر بالعرض المُغامر ثم وبدافع اللباقة وحدها أومأت موافقة مع ابتسامة حلوة ومضت معه بعد أن أكدت على ضيق وقتها وأنها لن تطيل المكوث.
قطعا الحديقة التي فاح عبير تربتها الرطبة تحت زخات المطر اللطيف ثم صعدا درجاً عريض المساحة، ودخلا عبر بوابة تُفضي إلى قاعات منفصلة.
أغلقت مظلتها تريحها واستأذن منها ريثما يوصل كتبه للأعلى.
صعد حافياً على عجل وظلّ صوت خطواته في المكان حاضراً حتى بعد غيابه.
الدار فارغة وهادئة، ما من مأتم قائم هذا الصباح. و هذا أفضل، فالموت في الأيام الماطرة يحمل للقلوب ضعف البؤس المعتاد.
شعرت بالتعاطف مع السيد جونميون، كيف يعيش في دار مأتم؟ التعايش مع الموت والجنازات بشكل يوميّ لابدّ أن يؤذي الروح.
وقفت تنتظره وتتفرج على ما حولها. لم تحضر جنازة منذ زمن طويل. شعرت برائحة البخور القوية تضغط صدرها وتنبش الذكريات من أبعد زوايا عقلها.
إن النواح والنحيب المُختزن في الجدران الخشبية له صدىً حاضر يلقي على المكان حزناً ثقيلاً يُرهب النفس.
بيدين معقودتين للخلف أدارت عيناها في السقف العالي وتتبعت الجدران الصلدة الكدرة إلى غرف الإطعام وغُرف السقاية، صالة المغسل وصالة الضريح.
تبدو كلها كدير بوذي في منعزل جبلي بعيد.
لم يعد الإقبال على هذه الدور كبيراً. الجيل الحالي لايولي تقاليد الجنازة والدفن أهمية. صاروا ينقلون موتاهم إلى المقابر من المشافي بشكل مباشر هذا إذا لم يُتموا الحرق من اليوم الأول.
لا وقت لتقاليد بالية.
أضاعوا أزهار الأقحوان وأهملوا الغسيل بالبخور ونسوا أغاني التشييع. من المؤسف أن تر حضارةً بأكملها تموت في دور الجنازة. لابد أن أرواح أعزائهم تلعنهم آلاف المرات في طريقها المؤلم إلى الآخرة.
استمرت بالتجوال البصري في حجرات الدار حتى سقطت مقلتاها في عمق عيني جونغداي فجأة فأجفلت.
في آخر القاعة المفتوحة وعلى الأرضية الجرداء جلست امرأة عجوز في السبعين وعلى ساقها وضع شاب رأسه بينما يستلقي بجسده على البلاط البارد.
كانت تمسح على شعره بحنوٍ أموميّ وكان ساهماً.
تعرّفته سونغ-وان، إنه السيد كيم جونغداي.
أُخِذت به وتطلعت إلى الحال الغريبة التي تراه عليها لأول مرة.
نظرة متحسّرة تنزّ من عينيه بينما جسده متراخٍ بإستسلام تام.
بدا هشّاً.
غير محصّن.
مهزوماً.
مكشوفاً.
ومجرداً من ذاته.
استمر بالتحديق ناحية سونغ-وان.
لم يبدي حركة.
أدركت أنه ينظر لكن لا يراها، كما هي عادته.
مع هذا أحنت رأسها كتحية. ثم غادرت حين دعاها جونميون من آخر الرواق. غادرت مُحرجة كأنها رأت ما لا يجوز أن تراه.
______
مرّت ساعات وهو على حاله، يراقب حديقة الدار تغتسل بالوَدق. بدأت عصافير الصباح تنشط أكثر مع تخافت شدة الهطول. ورائحة الأرض المرتوية تتدفق إليه من كل نافذة مع صوت القطار البعيد.
الدار بعيدة عن المحطة.
سمع صوت جونميون يحادث شخصاً ما حديثاً جافاً من أحاديثه الثقافية التي لا تنتهي، فتململ في استلقاءه واستدار حتى قابلت عيناه السقف. كان جونغداي طوال الوقت يفكر بما قاله جونميون، يتخبط دون أن يعي المقصد بالضبط.
" أمّاه (سأل) أيعقل أن أشعر بالسعادة مرة أخرى؟"
طبطبت العمة كيم على رأسه، ثم أنزلت كفّها حتى أغمضت عينيه وأبقت أصابعها على أجفانه المغلقة..
" نم، ألم تتعب بعد؟ " عاتبته. تظنه ابنها. في صوتها بحّة خدشتها السنوات الطويلة تُدثّر القلب بالطمأنينة.
"بلى" تابع تمثيل دوره بينما يحس بأعصابه تتراخى.
والدة جونميون عجوز خرِفة. غالباً ما تظنه ابنها الوحيد حتى في حضور أبنائها. وحين يستعين جونميون بمساعدته إنما يستعين به للإعتناء بوالدته فقط فهي تحبه وتنفذ له كل ما يقول.
تحت تأثير عطفها وقربها ودون أن يشعر سقط جونغداي غافياً.
ليس وكأن لديه القدرة على النوم طويلاً.
فبعد دقائق فقط نهض على صوت جونميون وهو يحاول إقناع أمه بتناول الفطور في ناحية أخرى من الدار. يحاول معها وهي تتذمر وتمتنع كطفلة في سنواتها الأولى.
ردّ شعره وهو يتلفّت حوله مستعيداً وعيه، جونميون يعرف مأساة جونغداي وصعوبة خلوده للنوم والاسترخاء لذا بذل جهده ألا يزعجه وتركه نائماً على حاله.
وقف وهو يشعر بعظامه محطمة وبتشنّج يتفرّع في رقبته.
أخذ أشياءه من حيث تركها وخرج دون أن يخبر جونميون أنه راحل.
وقف أمام البوابة فلمح صبيّة واقفة على بعد أمتار منه. تحمل مظلة وتقف مراقبة الحديقة والشجر المُغتسل.
زخات المطر خفيفة.
أحسّت بوجوده فالتفتت إليه وأشاح بنظره فوراً. بادرت ..
"حين نتأمل المطر فنحن ننتظر شيئاً ما، أليس صحيحاً سيد كيم؟"
اهتزّ صوتها بشكل طفيف.
"ربما" ردّ وهو يرمي بعينيه إلى حيث كانت تتأمل.
انتظرت أن يقول شيئاً ثم يئست فتحرّكت تنوي الرحيل.
نزلت الدرجات برفق وحزم. لحذائها وقعٌ رصين يكسر رتابة الهطول وفي ملامحها حزن مستتر.
غيرت رأيها بعد أن تخطّته فتوقفت واستدارت نحوه. وقفت قبالته تتفرس في وجهه، تبحث عن ما هو أبعد من الملامح.
شعر بالغرابة.
عمّا تنبّش هذه الآنسة؟
كان يفصل بينهما خمس درجات. وكمن يسأل عن حال الطقس وبذات اللامبالاة سألته :
"هل أبدو لك جميلة، سيد كيم؟ "
"جميلة طبعاً" أجاب قبل أن يتطلع في وجهها حتى.
تبدو مألوفة لكنه لا يتذكرها، ولن يكسر خاطر مخلوق أياً كان وبأي حال.
" لكنك لا تتصرف معي على هذا الأساس" طفت على شفتيها ابتسامة منكسرة.
عيناها تلألأت كالزجاج. أحسّ أنها تكن له شعوراً ما.
هناك شرارة صغيرة ضربت قلبه، شرارة قادمة من ناحيتها، من نظرتها من عمق عينيها الواسعة.
ارتبك.
قلبه لا يخطئ هذه الأمور.
إحساسه لا يكذب.
"عادةً لا أتصرف مع الناس وفقاً لمظهرهم، هذا كل ما في الأمر " صوته تخافت، عاتب نفسه، ترى أسبق وأخطأ بتصرف ما معها؟
غريب، ليس من عادته أن ينسى.
أومأت متفهمة وأردفت قانعة "هذا ما أمِلته" ثم نفضت مظلتها وأغلقتها فتوقف المطر في ذات اللحظة.
رفع عينيه متفقداً السماء التي جفّت فجأة. وراقبت مقلتيه كيف تتمطى الشمس مزيحةً عنها غطاءً سميكاً من الغيوم المتراصّة.
سقطت الأشعة شاقّةً السحب بحدّة وتلألأت البِرك والشجر المبلل. وفي غضون ثوان قصيرة سطع توهج الظهيرة قوياً مُجبراً جونغداي على حماية عينيه بذراعه.
عبّ نفساً عميقاً ملأ صدره وأنعشه. أحس بالشعاع الدافئ يمس روحه.
وحين فطن لوجودها أخفض بصره فلم يجد أمامه أحد.
______
إنه في حلم، يعرف هذا.
فالمتوى لايعودون سوى في الأحلام.
إذ ها هو يضمها إلى صدره يعانقها بعنف بينما هي طيّعةٌ جداً، هادئة ودافئة.
يعلم أنها لا تتصرف على سجيتها، هي فقط تسمح له أن يعبّ من رحيق وصلها بقدر مايشتهي ويشتاق.
صمتها يدعوه لقول شيء، لكن ليس في جعبته سوى حاجةٌ ملحة للشكوى.
بدايةً لم يرد أن يهدر لحظة اللقاء هذه، لكنه حالما فرّق شفتيه تكسّرت مقاومته التي بناها منذ افترقا.
انهار. فحاوط جسدَها بروحه ونشج يبكي قلبَه ويشهق.
يشدّ على أذرعها وجذعها أقرب إلى أضلع صدره، يؤلمها، يتألم، يشمّ رائحتها، يقبّل كتفها قبلات طويلة علّه يحتفظ بذكرى ضوعها بعد أن يصحو.
قلبه خفق.
كانت بين يديه ملموسة، محسوسة، حقيقيةً جداً، بكل تفاصيلها بحيث كلما تذكر أنها ميتة وأن هذا حلمْ طعنته الحقيقة في خاصرته وتهنّف في بكائه أكثر حتى اختفت.
أمواج هادئة تتأرجح عميقاً في نفسه، هي كل ما تبقى من أثر اللقاء حين فتح عينيه، كأن ما بكاه في الحلم ترسّب في صدره وركد.
تنهّد وهو يطالع سقف الغرفة، أحس أنه رُمي فجأة في عالمٍ لا يودّ البقاء فيه. إحساس كريه.
أسِف لأمر واحد، بل تحسّر أشد حسرة فهو .. لم ينظر إلى وجهها، بل إنه فجأة لم يعد متأكداً إن كانت المرأة في الحلم زوجته أو أنها أحد آخر.
أقفل جفنيه يبحث في الذاكرة عن ملامح وجهها علّه يغط في حلم ما فيقبّل عينيها وابتسامة ثغرها التي يحبها، لكنه لم يستطع الاسترخاء مطلقاً، ولا الصحو بشكل كامل.
لا يزال يشعر بوجودها حوله، تقف عند خزانة الثياب، تجلس قربه على حافة السرير، تسترق النظر عند باب الغرفة، تختبئ خلف الستائر.
ومرة أخرى يعرف في قرارة نفسه أن كل هذا محض وهمٍ لزِج.
صوت هطول غزير اقتحم عليه غرفته.
عاد المطر.
والوقت ضائع في ساعة ما من ساعات آخر الليل.
نهض منزعجاً متعرّق الجبين قليلاً، جافاه النوم الهانئ مؤخراً وصار هجوع ليلة كاملة هدف يصبو إليه ولا يطاله. أرخى بعض أزرار منامته ومضى جارّاً خطواته إلى الشرفة.
لا يقتل الوهم سوى إحساس قوي.
رائحة طاهرة. رائحة أرضيات الشوارع التي ابتلت لتوها وصوت رعد بعيد.
استلّ نفساً عميقاً بارداً أحيى ضلوعه به.
رويداً رويداً أحسّ بغباشة الحلم تنقشع وبطيف زوجته ينسلخ بعيداً عنه يغادر محيطه، يغادر غرفته، يتركه وشأنه.
أسند جسده إلى الجدار بعيداً عن البلل، وأشعل سيجارة.
عيناه المرهقة بحثت حوله عن أي قشة تتعلق بها بدل بحر الظلام المحيط. لا لون ولا ذكرى ولا حتى فكرة، إنه العدم، الإحساسُ السقيم الذي يمتد مع الانسكاب الطويل للمطر.
متى ينتهي الشتاء؟
أيهما يشبه الآخر؟ أتتوالى الأيام كما ينهمر المطر؟ أم أن المطر يشبه تتابعها؟ أم هو حزن يرشح من قلوب الملائكة؟ أو من قلبه هو؟
أحقاً نراقبه لأننا ننتظر؟
يصبغ الشعراء والفنانون المطرَ بأحاسيس، رموز وذكريات، لكن الفن يبقى في حدود الفن.
الواقع مختلف.
فالمطر هو المطر، ماء. يغسل، يمحي، يزيل، يتغلغل ثم يمضي من غير أثر.
نبقى ننتظر ويبقى الإحساس بالتعب والإحباط.
نفث سحابة صغيرة أمام وجهه امتدت حتى صفا ذهنه، ووجد نفسه يدمدم لحناً سكراناً علق في ذاكرته من مكان ما لا يذكره مع شيء من أغنية أبيه ..
" القمر لوحده في السماء ..
تذكريني عزيزتي ماري ..
تذكري فضائلي
إنها نائمة في داخلي ..
دموعي وعاطفتي
وماري في مكانها المعتاد
تهذي بالحب وتقبل عيناي
إنها تحلم .. إنها تحلم"
غنى على سجيته، غنى كل الإرهاق الذي يعشعش كيانه. وبصمت ودون أن يدري كان هناك شخص يستمع _بغصّة_ لأغنيته، في الشرفة القابعة أسفل شرفته.
______
.
.
.
.
.
.
يُتبع
🌙
---
على فكرة ولمن لم ينتبه : زوجته الأولى هي لونا من fx
والآن الآنسة سونغ وان هي ويندي من redvelvet 😁
ماذا عن دخول جونميون ؟ سوهو 🙂
حتى رفيق جونميون الذي أخذ المظلة تخيلته النذل كريس لكني لم أضف الإسم 😂
ومن هو ابن السيد بارك الطويل لدرجة الحماقة؟ 😁
شكراً للقراءة ❤
بينما مِن خلفه لم يستطع جونغداي منع نفسه من الضحك حين سمع الجملة، كان الآخر يمضي على مهله لصنع كوب قهوته الصباحية وجونغداي يرافقه عبر ممر ضيق تقطعه بقع نور شحيح ونوافذ متتالية.
من المعتاد جداً لجونغداي أن يستمع لتذمرات شقيق يونغ-جاي الأكبر بشأن أعماله ومواعيده الغرامية ومشاكل يونغجاي نفسه. لكن أن يبدي غيرةً من صداقة شقيقه الأصغر مع جونغداي فهذه جديدة ..
وهي فرصة لمضايقته.
دخلا المطبخ معاً حين ردّ جونغداي بنبرة لعوبة وحاجبين ماكرين ..
" ربما .. لأنه حقق ما لم تستطع أنت تحقيقه؟"
"ها؟ "
"التقرب مني"
تجددت ضحكة جونغداي الأقرب لقهقهة وهو يخرج كوباً من الخزانة فوق واستحق على تعليقه هذا نخرة ساخرة ولكمة خفيفة على كتفه ..
" يا ناكر الجميل، ألست أنا مقرباً منك؟" احتدّ شقيق يونغ-جاي وشدّ حاجبيه حتى تجعّد جبينه العريض.
" هو أقرب " أوضح داي بسرعةٍ وبساطةٍ مُغيظة واتخذ حاجباه ميلاناً مُستفزاً. فباغته رفيقه من الخلف بعناق ساحق أقرب لوضعية الكماشة في المصارعة وهو يجز على أسنانه ويهدده بالخنق : "أكثر من هذا، هذا؟ أكثر؟ ها؟ من أقرب مني لك؟ هل أحطم عظامك مثبتاً قُربي؟"
ثم أفلته وقد غلبه الضحك وكاد جونغداي يوقع الكوب مُفجّراً بدوره ضحكةً عالية في المكان رغم أن الضحك هنا هو فعل غير لائق البتّة.
في الحقيقة إن الشقيق الأصغر شديد التعلق بجونغداي فعلاً وجونغداي يدرك ويداري هذا الحب النبيل ويحاببه في كل المواقف ما يثير غَيرة الكثيرين بالفعل.
لكن هذا لا ينفي أن الأكبر يتمتع، كأخيه، بمكانة خاصة عند جونغداي، وإلا لما لبّ طلبه في صباحٍ باكر كهذا رغم مزاجه السيء، ولا أمضى الربع ساعة الأولى من لقائهما وهو يتغزل ويمتدح أناقة صديقه المبالغ بها اليوم.
إن طبيعة العلاقة بينهما لا تندرج تحت أي تسمية معتادة، إلا أنها قائمة ومتينة ..
" أتعلم (قال المتأنّق في آخر ضحكهما) لو كنا نعيش في أحد العصور التاريخية الفائتة لكنا ندّين، ربما، تخيل معي، .. (استند إلى المسطبة الحجرية خلفه وأوضح بحركات يده المُتفلسفة) ذات العمر وذات الطول تقريباً، أنا أزيد عليك وسامةً بالتأكيد وأنت لا تطيقني في كثير من المواقف لكن هذا لن يشكل فرقاً جوهرياً، سنكون ندّين.
ندين شهيرين على مستوى البلاد، ليس عدوّين، لن أعاديك طبعاً قلبي لن يطاوعني، ندّين فقط"
" آااه، نتشاجر بالسيوف يومياً؟ " عينا ونبرة جونغداي تقصدتا المشاكسة.
"اسمها مبارزة! " تبرّم مُحبّ التاريخ بجديّة من جهل صاحبه وتغابيه المُتعمّد. ثم تبسّم مما اجتاح خياله من مشاهد خلافاتهما السابقة.
هي غالباً تكون مبارزة بالألسن.
لكليهما لسان حاد يصلح للمبارزة فعلاً.
ثم سحبه تيار أفكاره أبعد وهو يستمع لبقايا ضحكات جونغداي وحديثه عن السيد بارك وأفعاله البارحة.
قص عليه كيف دعاه السيد بارك، مالك المتجر، إلى وجبة عشاء ثم كان على جونغداي أن يقوم بنفسه بالطهو والتنظيف كالعادة بينما استمر بارك بالصراخ والثرثرة وحسب. وكيف أن ابنه _الطويل لدرجة الحماقة_ أحرق لسانه، وتعثر فوقع وأوقع الصحون وتلقى التوبيخ طيلة السهرة.
أثناء سرد ذلك كان جونغداي كثير الإيماء، يفتعل ضحكات لا ضرورة لها في مواقف لا تستدعي الضحك، شفاهه باسمة كل الوقت وصوته حماسيّ إلا أن عينيه لا تتماشى مع كل تلك الزوبعة والكركرة الزائفة.
إنها ليست ذات الضحكات القديمة. في الماضي كانت ضحكاته ترن رنيناً ذهبياً خالصاً لكنها الآن .. ضحكات مريضة، مغتصبة، صدى ضحكات لا أكثر.
كيف لصوت ضحكة أن يثير الحزن في النفس؟
ضحكاته الصاخبة تفطر القلب.
" على كل حال لا داعي لأن نكون أقرب (عاد للموضوع الأول) أنت يا صاحبي لا تحتاج شخصاً مثلي أو مثل السيد بارك" كتف ذراعيه وتفرّس في ملامح جونغداي يُعرّيه من تمثيله ومكابرته الفاشلة.
للحظة، أُخِذ جونغداي بالتغيير المفاجئ في صوت صاحبه وأحس بنفسه محاصراً. عرف أنه على وشك تلقي ضربة في الخاصرة : "ما الذي أحتاجه إذاً؟ "
"من" صحح باسترخاءِ العارف "تحتاج شخصاً" نظر مباشرةً في عيني جونغداي وتهرّب الأخير رامياً قزحيتيه البنيّتين عبر النافذة وهو يرتشف قهوته.
أكمل ..
"اسمع يا داي، أنا أعيش مكتفياً بوجود عائلة عادية وعمل منتظم هنا، كيف تراني؟ ألا أبدو للناس شخصاً واقعياً وحسياً أسعد بوجود المال والصحبة وحسب؟ لكني عميقاً أعلم، أعلم تماماً على ماذا يرتكز وجودي وسعادتي الخاصة، وسأقولها لك أنت فقط، فأنت تتفهمني، أنا وعلى عكس ما يرون تعتمد سعادتي على الأفكار المجردة"
رشف جونغداي وأصغى ..
" الأفكار المجردة، حالما تشغل فكري مسألة فلسفية أو سؤال جوهري أشعر بالنشوة، يتملكني شغف مُفرح، أحب ذلك الإحساس عندما يعمل دماغي بكل طاقته، مثل معمل، كل الآلات تتحرك.
حتى لو مررت بضائقة مالية، لو تشاجرت مع صديقتي، لو أثقلت عليّ أمي أو عصاني الشيطان الصغير بسببك .."
هنا توسعت ابتسامة باهتة على ثغر جونغداي ثم تخافتت بسرعة وتركت ملامح منطفئة وتعبيراً هزيلاً يدلّ على الاستسلام للكلام الآتي ..
"مهما حصل، يكفيني أن أفتح كتاباً، من تلك التي تدعوها أنت: تعقيدات لا داعي لها. أن أقرأ معضلة أو نظرية أو أطروحة لأهيم بها وأنسى كل الضغوط، إنها سعادتي الخاصة"
"شخص مجرد" قال جونغداي ساهماً.
"شخص مجرد" أكّد له.
"أنا لست كذلك" تنهّد وكأن العبارة رفضت الدخول إلى عقله.
"أعلم، لهذا أقول أنك تحتاج لشخص" ترك الكوب من يده وراح يعيد هندمة ثيابه، أزرار كمّيه، ياقته ومعطفه القرميديّ السميك، وشعره المسرح للخلف.
" كيف؟ أي نوع من الأشخاص؟ " تمسّكت عينا جونغداي به تستجديه المساعدة.
"هنا يأتي دورك، أنت على عكسي تحيط نفسك بالناس لتحيا، لكن لماذا؟ ما الذي تستمده منهم؟ يجب أن تعرف مصدر سعادتك الخاصة، ثم تجد شخصاً واحداً محدداً يمكنه بث هذا الإحساس فيك"
لاحَ لجونغداي المقصد من هذا الكلام. لو أن شخصاً آخر فاتحه بموضوع كهذا لثار غضباً لكن هنا والآن اكتفى بتذكيره ..
" هذا الشخص .. لم يعد موجوداً "
تتطلع به بقرف بحت "بربك؟! " وبدا أنه على وشك أن ينهال عليه بالتأنيب والتوبيخ لكنه تفقد ساعته أولاً وقرر تأجيل المحاضرةِ الطويلة لوقت لاحق.
" انتبه لأمي ريثما أعود" قال وهو يخرج.
"ايه ايه ~أيها اللقيط! تذهب؟ أكمل ما أردت قوله" صاح جونغداي خلفه.
"لن أغيب طويلاً " ردّ من آخر الرواق.
" ياه! جونميون! " صياحه لم يُجدي.
_______
أمطار هذا الصباح، أمطار منعشة.
إن من أحب الأجواء إلى قلبه هي الأيام الشتوية التي تلوح فيها الشمس طفلة رقيقة ترافق مطراً خفيفاً.
حتى لو كانت الرياح باردة فلا بأس، بل يا مرحبا.
إنه يوم لا يمكن أن يفوّته ولحسن الحظ يصادف هذا الجو الرائع يومَ عطلة جونغداي، وبهذه الصُدفة المُباركة استطاع جونميون تركَ مشاغله وواجباته بين أيدي صاحبه الأمينة ليخرج ويلاقي حبيبته التي اشتاق لها: المكتبة المركزية.
لم ينفق المال على الكتب منذ شهر كامل، لذا وتعويضاً عن هذا الإنقطاع الفظيع لم يرضَ الخروج من البناء إلا وقد اشترى ما يقارب عشرة كتبٍ ضخمة.
حملها بصعوبة محتضناً إياها بكلتا يديه، وسانده رفيقه فمنّ عليه بحمل المظلة فقط وهو يضحك ويسخر من أناقة جونميون التي أضاعتها حمولته هباءً.
تناولا وجبةً معاً، تحادثا ثم تمشّيا حتى موقف الحافلة حيث ودّعه وتركه يتدبر أمره وحده مع الثقل الرهيب المحبب لمشترياته.
المشكلة لم تكن في الثِقل، المشكلة هي أنه وفي اللحظة التي ترجّل بها من الباص فطِنَ أخيراً أن مظلته ليست معه.
رفيقه النذل أخذ المظلة.
سحب هاتفه بصعوبة من جيب بنطاله يتحلّف في سرّه للخائن بأبشع السِباب. طلب الإسم وهو يجز على أسنانه وقبل أن يجيبه الطرف الآخر بادره صوت أنثويّ لطيف بدد إنزعاجه :
" تحتاج توصيلة؟ " آنسة قصيرة تقف بجانبه شاركته مظلتها وهي تعاين الكتب بشفقة. تقصد بعرضها حماية كتبه لا حمايته هو.
تخشى على الكتب من البلل. وهذا بالضبط ما يحتاجه!
تبسّم براحة "سأناديك بمنقذتي حتى آخر حياتي، آنسة شون"
"نادني سونغ-وان رجاءً" حشر هاتفه على عجل في جيب معطفه وبادلها التحية ثم مشيا. من الجيد أنه تأنق اليوم فها هو في موعد لم يحسب له حساب.
لم تكن الظهيرة قد حلّت بعد، والجو ليس بذلك السوء، المطر رفيق والشوارع شبه فارغة، رائحة الجو المنعشة جعلت من المشي تحت مظلتها أمراً لطيفاً وممتعاً نوعاً ما.
هي أقصر منه بحيث كانت تناضل لرفع المظلة فوقهما معاً. وفي المقابل هو ليس بذاك الطول المُرهِق لها.
حمداً للرب.
شون سونغ-وان آنسة من الشباب العازبين الذين يسكنون الحي. ليست من السكان القدامى، هي هنا منذ بضعة أشهر، قليلة الاختلاط والظهور في الأنحاء.
تبدو هادئة هدوء السكينة لا هدوء الخجل والإرتباك. حلاوة ملامحها وتناسق هيأتها البهيج يلفتان العين إليها قبل جمال التفاصيل الأنثوية التي لاتعوزها أبداً.
نظرتها وصوتها ولباقة إيماءتها تعطي إنطباعاً سريعاً بالرزانة. ومبادرتها لمساعدته _رغم المشقة التي تعانيها بسبب فرق الطول_ تثبت أنها شخص لطيف وطيب كما سمع عنها.
أجل، سبق أن التقيا عرضياً وهو يعرفها قبل ذلك حتى بفضل أكثر كائنات الحي إزعاجاً، جونغ-إن. وبالتفكير بالأمر، لا عجب أن سميك الوجه أعجب بها، هي لا تبدو أكبر منه، بل لها طلّة ابنة التاسعة عشرة رغم الطراز المحتشم لملابسها.
بكل الأحوال، مرور الفتى الشقي في سلسلة أفكاره جعل منه عذراً لبدء حديث ..
" أتمنى أن جونغ-إن لم يعد يضايقك، تعاملك معه واحتمالك لتطفله مُبهر حقاً "
تبسّمت لإطراءه بينما تتطلع إلى صف الشجر الذي يمرون بقربه، الأوراق تقطر على مهل وبعض العصافير تغرد وتنفض عنها ما بللها من مطر الصباح. أكمل يبرر ..
" إنه في العموم طيب، لكنه طائش وعنيد. من النادر أن يستطيع أحد التأثير فيه أو زجره عن أمر ما، هل أقولها بصراحة؟ حاولنا جميعاً نهره عن التعرض لك لكننا لم نفلح. اسمحي لي أن أعتذر لك نيابةً عن سكان الحي، الحقيقة ينتابني الحرج من أفعاله والفضول، كيف استطعتي ترويضه؟"
" ترويض؟ (ضحكت ضحكة متقطعة) لا يصح قول ذلك سيد كيم" رمت إليه أكثر الابتسامات لطفاً وليناً على وجه الأرض. كما لمح في عينيها بريقاً صبيانياً أضفى على ظرافتها ظرافة.
"ناديني باسمي رجاءً " شعر بإلفة مريحة تجاهها، ليس وكأنه يمشي مع امرأة جميلة بل يمشي مع صديق مقرّب.
تقبلت عرضه بإمتنان لتكمل..
" جونميون شي، جونغ-إن ليس حيواناً، إنه بشر، مشاعره تجاهي هي جزء من الطبيعة الإنسانية، خارجة عن السيطرة. فكر بالأمر من هذا المنظور وسيزول كل إلتباس أو إحراج، تعامل مع أفعاله على أساس الدوافع الإنسانية، هو ببساطة إنسان"
" كإنسان؟ " أفلتت منه تكشيرة ساخرة، بالفعل إن لجونغ-إن انطباعاً حيوانياً في نظره؛ ليس وحشياً وإنما فطريّ بدائي، فهو شاب حسيّ بشكل كامل ونادراً ما يستخدم عقله هذا إن كان موجوداً أصلاً.
لم تتأثر بهزوه وأوضحت بتروّي سيدة قديرة..
"جونميون شي، الإنسانية مرتبطة بالحب، وتقوم على الحب، ليس حب رجل لإمرأة أو إمرأة لرجل فهذا يعقّد الأمر، ولا حب أمّ لطفلها فهو مهين لشابٍ في عمره، بل حب إنسانٍ لإنسان، استخدمت هذا النوع من الحب لأقنعه بأنني لا أناسبه وأني أنشد مصلحته، هذا الحب هو سهم لا يُخطئ أبداً "
"لا بدّ أنك رامية ماهرة " أحسّ بغبطة تتزياد في صدره كلما استمع لها، صوتها الحاني مع وقع المطر له تأثير يبهج القلب.
" ربما (ضحكت بخجل واقتضاب) هذا النوع من الحب لا يصوَّب إلى القلب، أو العقل، بل يوجه إلى الروح، وحدها الروح تستشعر وتستجيب له لأنه يمسّ سموّها، أي الإنسانية"
" هذا شجيّ، لو كان حديثك كتاباً لفعلت المستحيل لأضعه مع هذه الكومة في غرفتي، لكنك إنسان" أخفضت رأسها تخفي ضحكتها المتواترة. وشعر هو بالراحة لوسع أفق تفكيرها وتفهما لذلك الأرعن.
ثم تابعا حتى تباطأ ميون أمام بناء من طابقين ينزوي بعيداً عن الأبنية وتحيط به حديقة صغيرة.
دار جنازات.
فهمت أنهما وصلا ووقفت بدورها تتطلع إلى البناء البسيط خلفه فأوضح لها ..
" هذه الدار هي ملك الأسرة، عملي هو إدارتها "
أومأت بتفهّم. لم تكن تدري شيئاً عن عمله بالكاد تعرف اسمه وأنه يسكن في الحيّ.
"أتعبتكِ معي، وسأبقى مديناً للتوصيلة إلا إذا سمحتي لي بردّ الخدمة"
توسّعت عيناها وبحركة تلقائية ردّت شعرها العسليّ القصير للخلف وأرهفت سمعها للتتمة ..
تبسّم متودداً " فنجان قهوة تعويضٌ كافي؟ "
ترددت للحظة تفكّر بالعرض المُغامر ثم وبدافع اللباقة وحدها أومأت موافقة مع ابتسامة حلوة ومضت معه بعد أن أكدت على ضيق وقتها وأنها لن تطيل المكوث.
قطعا الحديقة التي فاح عبير تربتها الرطبة تحت زخات المطر اللطيف ثم صعدا درجاً عريض المساحة، ودخلا عبر بوابة تُفضي إلى قاعات منفصلة.
أغلقت مظلتها تريحها واستأذن منها ريثما يوصل كتبه للأعلى.
صعد حافياً على عجل وظلّ صوت خطواته في المكان حاضراً حتى بعد غيابه.
الدار فارغة وهادئة، ما من مأتم قائم هذا الصباح. و هذا أفضل، فالموت في الأيام الماطرة يحمل للقلوب ضعف البؤس المعتاد.
شعرت بالتعاطف مع السيد جونميون، كيف يعيش في دار مأتم؟ التعايش مع الموت والجنازات بشكل يوميّ لابدّ أن يؤذي الروح.
وقفت تنتظره وتتفرج على ما حولها. لم تحضر جنازة منذ زمن طويل. شعرت برائحة البخور القوية تضغط صدرها وتنبش الذكريات من أبعد زوايا عقلها.
إن النواح والنحيب المُختزن في الجدران الخشبية له صدىً حاضر يلقي على المكان حزناً ثقيلاً يُرهب النفس.
بيدين معقودتين للخلف أدارت عيناها في السقف العالي وتتبعت الجدران الصلدة الكدرة إلى غرف الإطعام وغُرف السقاية، صالة المغسل وصالة الضريح.
تبدو كلها كدير بوذي في منعزل جبلي بعيد.
لم يعد الإقبال على هذه الدور كبيراً. الجيل الحالي لايولي تقاليد الجنازة والدفن أهمية. صاروا ينقلون موتاهم إلى المقابر من المشافي بشكل مباشر هذا إذا لم يُتموا الحرق من اليوم الأول.
لا وقت لتقاليد بالية.
أضاعوا أزهار الأقحوان وأهملوا الغسيل بالبخور ونسوا أغاني التشييع. من المؤسف أن تر حضارةً بأكملها تموت في دور الجنازة. لابد أن أرواح أعزائهم تلعنهم آلاف المرات في طريقها المؤلم إلى الآخرة.
استمرت بالتجوال البصري في حجرات الدار حتى سقطت مقلتاها في عمق عيني جونغداي فجأة فأجفلت.
في آخر القاعة المفتوحة وعلى الأرضية الجرداء جلست امرأة عجوز في السبعين وعلى ساقها وضع شاب رأسه بينما يستلقي بجسده على البلاط البارد.
كانت تمسح على شعره بحنوٍ أموميّ وكان ساهماً.
تعرّفته سونغ-وان، إنه السيد كيم جونغداي.
أُخِذت به وتطلعت إلى الحال الغريبة التي تراه عليها لأول مرة.
نظرة متحسّرة تنزّ من عينيه بينما جسده متراخٍ بإستسلام تام.
بدا هشّاً.
غير محصّن.
مهزوماً.
مكشوفاً.
ومجرداً من ذاته.
استمر بالتحديق ناحية سونغ-وان.
لم يبدي حركة.
أدركت أنه ينظر لكن لا يراها، كما هي عادته.
مع هذا أحنت رأسها كتحية. ثم غادرت حين دعاها جونميون من آخر الرواق. غادرت مُحرجة كأنها رأت ما لا يجوز أن تراه.
______
مرّت ساعات وهو على حاله، يراقب حديقة الدار تغتسل بالوَدق. بدأت عصافير الصباح تنشط أكثر مع تخافت شدة الهطول. ورائحة الأرض المرتوية تتدفق إليه من كل نافذة مع صوت القطار البعيد.
الدار بعيدة عن المحطة.
سمع صوت جونميون يحادث شخصاً ما حديثاً جافاً من أحاديثه الثقافية التي لا تنتهي، فتململ في استلقاءه واستدار حتى قابلت عيناه السقف. كان جونغداي طوال الوقت يفكر بما قاله جونميون، يتخبط دون أن يعي المقصد بالضبط.
" أمّاه (سأل) أيعقل أن أشعر بالسعادة مرة أخرى؟"
طبطبت العمة كيم على رأسه، ثم أنزلت كفّها حتى أغمضت عينيه وأبقت أصابعها على أجفانه المغلقة..
" نم، ألم تتعب بعد؟ " عاتبته. تظنه ابنها. في صوتها بحّة خدشتها السنوات الطويلة تُدثّر القلب بالطمأنينة.
"بلى" تابع تمثيل دوره بينما يحس بأعصابه تتراخى.
والدة جونميون عجوز خرِفة. غالباً ما تظنه ابنها الوحيد حتى في حضور أبنائها. وحين يستعين جونميون بمساعدته إنما يستعين به للإعتناء بوالدته فقط فهي تحبه وتنفذ له كل ما يقول.
تحت تأثير عطفها وقربها ودون أن يشعر سقط جونغداي غافياً.
ليس وكأن لديه القدرة على النوم طويلاً.
فبعد دقائق فقط نهض على صوت جونميون وهو يحاول إقناع أمه بتناول الفطور في ناحية أخرى من الدار. يحاول معها وهي تتذمر وتمتنع كطفلة في سنواتها الأولى.
ردّ شعره وهو يتلفّت حوله مستعيداً وعيه، جونميون يعرف مأساة جونغداي وصعوبة خلوده للنوم والاسترخاء لذا بذل جهده ألا يزعجه وتركه نائماً على حاله.
وقف وهو يشعر بعظامه محطمة وبتشنّج يتفرّع في رقبته.
أخذ أشياءه من حيث تركها وخرج دون أن يخبر جونميون أنه راحل.
وقف أمام البوابة فلمح صبيّة واقفة على بعد أمتار منه. تحمل مظلة وتقف مراقبة الحديقة والشجر المُغتسل.
زخات المطر خفيفة.
أحسّت بوجوده فالتفتت إليه وأشاح بنظره فوراً. بادرت ..
"حين نتأمل المطر فنحن ننتظر شيئاً ما، أليس صحيحاً سيد كيم؟"
اهتزّ صوتها بشكل طفيف.
"ربما" ردّ وهو يرمي بعينيه إلى حيث كانت تتأمل.
انتظرت أن يقول شيئاً ثم يئست فتحرّكت تنوي الرحيل.
نزلت الدرجات برفق وحزم. لحذائها وقعٌ رصين يكسر رتابة الهطول وفي ملامحها حزن مستتر.
غيرت رأيها بعد أن تخطّته فتوقفت واستدارت نحوه. وقفت قبالته تتفرس في وجهه، تبحث عن ما هو أبعد من الملامح.
شعر بالغرابة.
عمّا تنبّش هذه الآنسة؟
كان يفصل بينهما خمس درجات. وكمن يسأل عن حال الطقس وبذات اللامبالاة سألته :
"هل أبدو لك جميلة، سيد كيم؟ "
"جميلة طبعاً" أجاب قبل أن يتطلع في وجهها حتى.
تبدو مألوفة لكنه لا يتذكرها، ولن يكسر خاطر مخلوق أياً كان وبأي حال.
" لكنك لا تتصرف معي على هذا الأساس" طفت على شفتيها ابتسامة منكسرة.
عيناها تلألأت كالزجاج. أحسّ أنها تكن له شعوراً ما.
هناك شرارة صغيرة ضربت قلبه، شرارة قادمة من ناحيتها، من نظرتها من عمق عينيها الواسعة.
ارتبك.
قلبه لا يخطئ هذه الأمور.
إحساسه لا يكذب.
"عادةً لا أتصرف مع الناس وفقاً لمظهرهم، هذا كل ما في الأمر " صوته تخافت، عاتب نفسه، ترى أسبق وأخطأ بتصرف ما معها؟
غريب، ليس من عادته أن ينسى.
أومأت متفهمة وأردفت قانعة "هذا ما أمِلته" ثم نفضت مظلتها وأغلقتها فتوقف المطر في ذات اللحظة.
رفع عينيه متفقداً السماء التي جفّت فجأة. وراقبت مقلتيه كيف تتمطى الشمس مزيحةً عنها غطاءً سميكاً من الغيوم المتراصّة.
سقطت الأشعة شاقّةً السحب بحدّة وتلألأت البِرك والشجر المبلل. وفي غضون ثوان قصيرة سطع توهج الظهيرة قوياً مُجبراً جونغداي على حماية عينيه بذراعه.
عبّ نفساً عميقاً ملأ صدره وأنعشه. أحس بالشعاع الدافئ يمس روحه.
وحين فطن لوجودها أخفض بصره فلم يجد أمامه أحد.
______
إنه في حلم، يعرف هذا.
فالمتوى لايعودون سوى في الأحلام.
إذ ها هو يضمها إلى صدره يعانقها بعنف بينما هي طيّعةٌ جداً، هادئة ودافئة.
يعلم أنها لا تتصرف على سجيتها، هي فقط تسمح له أن يعبّ من رحيق وصلها بقدر مايشتهي ويشتاق.
صمتها يدعوه لقول شيء، لكن ليس في جعبته سوى حاجةٌ ملحة للشكوى.
بدايةً لم يرد أن يهدر لحظة اللقاء هذه، لكنه حالما فرّق شفتيه تكسّرت مقاومته التي بناها منذ افترقا.
انهار. فحاوط جسدَها بروحه ونشج يبكي قلبَه ويشهق.
يشدّ على أذرعها وجذعها أقرب إلى أضلع صدره، يؤلمها، يتألم، يشمّ رائحتها، يقبّل كتفها قبلات طويلة علّه يحتفظ بذكرى ضوعها بعد أن يصحو.
قلبه خفق.
كانت بين يديه ملموسة، محسوسة، حقيقيةً جداً، بكل تفاصيلها بحيث كلما تذكر أنها ميتة وأن هذا حلمْ طعنته الحقيقة في خاصرته وتهنّف في بكائه أكثر حتى اختفت.
أمواج هادئة تتأرجح عميقاً في نفسه، هي كل ما تبقى من أثر اللقاء حين فتح عينيه، كأن ما بكاه في الحلم ترسّب في صدره وركد.
تنهّد وهو يطالع سقف الغرفة، أحس أنه رُمي فجأة في عالمٍ لا يودّ البقاء فيه. إحساس كريه.
أسِف لأمر واحد، بل تحسّر أشد حسرة فهو .. لم ينظر إلى وجهها، بل إنه فجأة لم يعد متأكداً إن كانت المرأة في الحلم زوجته أو أنها أحد آخر.
أقفل جفنيه يبحث في الذاكرة عن ملامح وجهها علّه يغط في حلم ما فيقبّل عينيها وابتسامة ثغرها التي يحبها، لكنه لم يستطع الاسترخاء مطلقاً، ولا الصحو بشكل كامل.
لا يزال يشعر بوجودها حوله، تقف عند خزانة الثياب، تجلس قربه على حافة السرير، تسترق النظر عند باب الغرفة، تختبئ خلف الستائر.
ومرة أخرى يعرف في قرارة نفسه أن كل هذا محض وهمٍ لزِج.
صوت هطول غزير اقتحم عليه غرفته.
عاد المطر.
والوقت ضائع في ساعة ما من ساعات آخر الليل.
نهض منزعجاً متعرّق الجبين قليلاً، جافاه النوم الهانئ مؤخراً وصار هجوع ليلة كاملة هدف يصبو إليه ولا يطاله. أرخى بعض أزرار منامته ومضى جارّاً خطواته إلى الشرفة.
لا يقتل الوهم سوى إحساس قوي.
رائحة طاهرة. رائحة أرضيات الشوارع التي ابتلت لتوها وصوت رعد بعيد.
استلّ نفساً عميقاً بارداً أحيى ضلوعه به.
رويداً رويداً أحسّ بغباشة الحلم تنقشع وبطيف زوجته ينسلخ بعيداً عنه يغادر محيطه، يغادر غرفته، يتركه وشأنه.
أسند جسده إلى الجدار بعيداً عن البلل، وأشعل سيجارة.
عيناه المرهقة بحثت حوله عن أي قشة تتعلق بها بدل بحر الظلام المحيط. لا لون ولا ذكرى ولا حتى فكرة، إنه العدم، الإحساسُ السقيم الذي يمتد مع الانسكاب الطويل للمطر.
متى ينتهي الشتاء؟
أيهما يشبه الآخر؟ أتتوالى الأيام كما ينهمر المطر؟ أم أن المطر يشبه تتابعها؟ أم هو حزن يرشح من قلوب الملائكة؟ أو من قلبه هو؟
أحقاً نراقبه لأننا ننتظر؟
يصبغ الشعراء والفنانون المطرَ بأحاسيس، رموز وذكريات، لكن الفن يبقى في حدود الفن.
الواقع مختلف.
فالمطر هو المطر، ماء. يغسل، يمحي، يزيل، يتغلغل ثم يمضي من غير أثر.
نبقى ننتظر ويبقى الإحساس بالتعب والإحباط.
نفث سحابة صغيرة أمام وجهه امتدت حتى صفا ذهنه، ووجد نفسه يدمدم لحناً سكراناً علق في ذاكرته من مكان ما لا يذكره مع شيء من أغنية أبيه ..
" القمر لوحده في السماء ..
تذكريني عزيزتي ماري ..
تذكري فضائلي
إنها نائمة في داخلي ..
دموعي وعاطفتي
وماري في مكانها المعتاد
تهذي بالحب وتقبل عيناي
إنها تحلم .. إنها تحلم"
غنى على سجيته، غنى كل الإرهاق الذي يعشعش كيانه. وبصمت ودون أن يدري كان هناك شخص يستمع _بغصّة_ لأغنيته، في الشرفة القابعة أسفل شرفته.
______
.
.
.
.
.
.
يُتبع
🌙
---
على فكرة ولمن لم ينتبه : زوجته الأولى هي لونا من fx
والآن الآنسة سونغ وان هي ويندي من redvelvet 😁
ماذا عن دخول جونميون ؟ سوهو 🙂
حتى رفيق جونميون الذي أخذ المظلة تخيلته النذل كريس لكني لم أضف الإسم 😂
ومن هو ابن السيد بارك الطويل لدرجة الحماقة؟ 😁
شكراً للقراءة ❤
Коментарі
Упорядкувати
- За популярністю
- Спочатку нові
- По порядку
Показати всі коментарі
(1)
تعب
كيفني وأنا بقراها فالواتباد وبعيدها هون ؟ T^T
Відповісти
2020-10-08 01:03:35
1