ذكرى
قهوة
فراغ
ألم
تعب
ثِقل
جوع
ثِقل
نحيل.

منذ صغره.

لطالما بدا هزيلاً.

لم يُجدي معه شرب الحليب ولا الطعام البحري؛ توقف نموه في الثانوية عند مئة وثلاثة وسبعين سانتيمتراً.

هو متوسط الطول بين الرجال ولا يزعجه ذلك البتة.

ليس وكأنه خائر القوة أو ضعيف البنية، على العكس، لديه قدرة جيدة على احتمال الأمراض الموسمية والعمل الطويل وما يترتب على ذلك من الإرهاق والضغط النفسي.

ليس أعجف إنما رقيق البدن متواضع المقاس متناسق النِسب، يضمر خلف الوزن الخفيف والأيدي الصغيرة عزماً لا بأس به.

إنما لم يسبق أن اعتبر جسده نقطة تصب في صالح مظهره لا مع النساء ولا في الانطباع الأول مع أيٍّ كان. ولا حتى عند شراء ملابسه.

وهكذا تراه في الغالب يرتدي قميصاً فاتح اللون وفي النوادر يُتبعه بسترة خلال أوقات العمل الرسمي. أما خارج الدوام فسيكتفي بكنزة قطنية عادية جداً، واسعةً بعض الشيء، بلون واحد ولا تحمل نقوشاً بارزة مع بنطال مريح وقبعة شبابية سوداء من حين لآخر.

هو في العموم ليس رجلاً يعتمد على العضل ولا على المظهر. رغم أن الوسامة لا تعوز وجهه أبداً. بل إنه _فيما يخص الوجه_ يعي امتلاكه ابتسامةً تستهوي الأفئدة وتمنحه السلطة في كل حوار.

"مثاليّ جداً! ألقي نظرة إلى ناحية اليمين! أمعن النظر في تفاصيل هذا الجسد المفتول، هذا الفستان الفاتن! هذه المنحنيات! انظر فقط! اراهن أنها تتأنق لأجلك أنت!" أطلق زميله زفرةً مُشبعة بالاستحسان كادت تتحول صفيراً، هائماً بمطالعة الجسد الميّس الأهيف للآنسة تشوي.

وتكرّم جونغداي على إلحاح صاحبه بأن رمى نظرة واحدة من أسفل حاجبٍ عُقف بغير رضى. ثم عاد فانكبّ زاهداً على تدقيق ما بين يديه.

يولي مينسوك _رفيقه وزميل عمله_ اهتماماً خاصاً بالأجساد الممتلئة المُخصّرة، ذات التفاصيل "المدوّرة المكوّرة" كما يسميها ويصفها وصفَ الخبير. إذ أنه بدوره منحوتُ الجسد. لا يغادر الصالات الرياضية قبل زيادة حجم ذراعيه سانتيمتراً أو اثنين يومياً.

ما يجده جونغداي محالاً فالتمارين _حسب تجاربه السابقة_ فعلٌ لا يجلب سوى التشنجات العضليّة والحرمان من مشروبات النبيذ.

أما عن الآنسة تشوي فلا عجب ولا إنبهار. تعليق مينسوك لم يبدر عن ذوق خاص. البلد بأكمله _في سابقة هي الأولى من نوعها_ يُقرّ بالإجماع على أنها تملك جسداً يأسر الألباب.

كيف لا وهي تطل بحُسنِها على الشاشات كل مساء في نشرة الأخبار الجوية؟ ونجاح المرأة، كما هو متعارف عليه في تقاليد هذه المهنة، يتطلّب القوام الممشوق والخصر النحيل و .. مقومات بنيويّة أخرى.

وإلا فمن سيتابع؟

بينما يكفي جونغداي، لحسن حظه، أن يمتلك صوتاً صافياً وإلقاءً جيداً وحسب في قسم الإذاعة المسموعة.

يكفيه لكن .. لا يقيه من ضرورة العمل المشترك مع هذه الآنسة ما داما يذيعان النشرة ذاتها في كلا القسمين.

بل إن تخصصه وخبرته _الأطول عمراً_ يحتمان عليه الاحتكاك معها والإشراف وحمل مسؤولية التحقق من تحضيرها للفقرة المرئية من النشرة خلال لقاءٍ صباحيّ شبه يومي.

هذا الإجتماع المصغّر مع هذا الكيان الأنثويّ الحار ليس حدثاً يأبه له لو أن الآنسة تشوي زميلة عادية، أو مجرد امرأة جذّابة.

ما يُقلق حياته المهنيّة هو حقيقةَ أن هذه المرأة الحلوة تُكِنّ له مشاعر تتخطى حدود الاحترام الوظيفيّ إلى إعجابٍ بشخصه كرجل، دون اكتراث لعدم التكافؤ بين مظهرهما أو حتى لكونه أباً أعزب.

ومينسوك يعوّل كثيراً على هذه الفرصة ويدفع بجونغداي بإلحاح لإقامة علاقة معها، ظنّاً منه أن كائناً بهذا الجمال يكفي لإخراج جونغداي من حداده ومقته وانعزاله المتزايد.

مينسوك لا يفهمه.

ليت جونغداي لم يسرر له بالأمر منذ البداية.

"إنها قادمة! " ألقى مينسوك تحذيره الحماسيّ و _بخبرة المعتاد_ دفع كرسيه بخفّة البهلوان لينزلق عائداً إلى برج مراقبته، مكتبه المجاور.

"صباح الخير، سيد كيم"

وقفت بمحاذاة كرسيه، فستانها لا يستر ساقيها، ولا الرقبة أو ما حولها. والضوعُ العَطِر يفوح مع كل حركة اقتراب أو ميل تميله أثناء شرحها لما أعدّته وعملت عليه.

لا يُطاق.

أحس بالهواء حوله يهبط كالحجر على رأسه.

يزداد ضغطاً.

إن لحضورها ثِقل لا يُحتمل.

لا يكرهها لشخصها، حاشا أن يمسّ الكُره قلبه، فلم يسبق أن بدر منها أي فعل مُشين، مثير للشك أو غير محتشم في حقه.

عيون الزملاء المتلصصة تلاحق فتنتها لا ترقب التفاعل بينهما.

وجونغداي حين اكتشف أمرها، إنما أدركه من ارتباكها، وانخفاض نبرة صوتها وارتجاف يدها التي تدفع الأوراق نحوه. لاحظه في تجنبها النظر إلى عينيه ووهج السعادة الذي يطغى على كل إيماءة وردة فعل تصدر عنها.

الحب ليس ذنباً يلومها عليه.

ما يكرهه هو عجزه، نقصه هو، أنها تحمل نحوه أحلاماً وخيالات لا يمكن أن يشبعها لها أو يحقق منها أبسط لمسة.

ليس شخصاً يناسبها. ليس الموضع الصحيح لكل هذا الإعجاب. و هذه الفكرة هي ما يأسره في قضبان إحساسٍ مقيت، هي ما يكبّله ويُعيقه عن التنفس قربها. كأنه يسرق ما ليس له.

لم يعتد التعامل مع شيء بهذه البهرجة والسطوع. و لا يحب أن يردّ لُطفها ومشاعرها ردّاً مُجحفاً يخدش أنوثتها أو يقلل من رجولته.

لكن ..

لا قلبه ولا حياته _ولا شخصه_ قادر على تقبل نواياها ومنح محاولاتها للتقرب أدنى فرصة.

عجّل في التحقق من الأوراق وانصرفت تشوي حالما انتهى فرِحةً تضم المُصنف إلى صدرها. رمقه مينسوك بابتسامة لعوبة وغمز له.

تنهد قليلَ الحيلة.

ليتها تملك ولو ربع جمالها ذكاءً.

مهما مثّل التجهّم في تصرفاته، وبّخها، اختار كلمات غليظة، تملّص من اللقاء الآتي وربط عقدة غضب ثخينة بين حاجبيه، لا تفهم.

تنهّد مُتعباً.

هي لطيفة للحد الذي يصعب صدّه بقسوة أكبر.

ليخرجه مينسوك من اغتمامه وتنهداته المُتلاحقة زحف نحوه بخبث. استغل شروده ليقترب ويفحّ في أذنه بضعة كلمات رذيلة.

"يااه!!!" زعق جونغداي صيحة توبيخية عالية ارتج لها المكتب !! صُعق بقلة أدب صاحبه ووقاحته.

التفت الكل نحوهما بوجل وانفجر الوسِخ يضحك.

هذا الرجل لايستحي، فضيحة !

نهض جونغداي وترك المكان منزعجاً.

الرحمة يا رب !

__________

ضوضاء بهيجة وضحكات وقرع كؤوس.

وهج الغروب الفاتر ينسحب على مهل من النوافذ
ويترك في المقهى إحساساً سماوياً دافئاً رغم كونه شبه خالٍ.

فقط مجموعة شبان صِغار في زيّ موحّد يحتفلون بانتصار رياضيّ. صيحاتهم المهلِلة، مباركاتهم وسعادتهم المتفجرة تملأ الفارِغ من الكراسي وتجبر المرء على التبسّم حين يدخل المكان.

رُكن الاستقبال أكثر هدوءً، و ليس أقل مرحاً.

يقف جونغ-إن من ناحية الباب يستند على منضدة الاستقبال، يريح ذقنه على كفيه مشدوداً بكل جوارحه إلى حديث المرأتين. على ثغره ابتسامة حالمة والحب يقطر من كل تفاصيل وجهه.

جوهيون، رئيسة عمله، تتحدث بإيماءات وتعابير ممتنة، تعاين بضعة أصص صغيرة أمامها، براعم نباتات شوكيّة وأخرى عُصاريّة، تبدو سعيدة بها كأن الله رزقها بأطفال حلمت بهم لأشهر.

وبجانبها حيث تنصبّ كل نظرات جونغ-إن العاشقة وأحاديث جوهيون الحماسية، كانت الآنسة الغريبة التي التقاها أمام دار العزاء تقف مواربة له مرتاحة ومتآلفة معهما.

"مرحباً بمن حضر !" جوهيون رأته أولاً " قهوة عزيزي جونغداي؟ "

وبموافقةٍ من عينيه شرعت مباشرة تعدّ له ما يشرب.

تكاد تغني فرحاً.

لو كان يدري أن بعض الزرائِع قد تصنع بها هذا التغيير لاشترَ لها ما يكفي لغمر حياتها باللون الأخضر.

"هيونغ !" اعتدل جونغ-إن في وقفته وقد فوجئ بحضوره. الغبطة تلون صوته كطفل _أبله_ عيناه تتلألأ ووجنته السمراء قد ضرّجتها الحُمرة. يبدو أنه كان يضحك لوقت طويل حتى تركت الضحكات قبلاتها على تفاصيل وجهه.

شعور غريب، كأن سحراً مُباركاً حلّ على المكان.

أخيراً واجهته ضيفتهما بشكل اعتياديّ جداً وبسيط. ليّنة المبسم مترددة النظرة كأنه لقاؤهما الأول.

تبسّم جونغداي لصاحبيه. وبشكل رسميّ جداً أومأ للآنسة تحية :

"كيم جونغداي" عرّف عن نفسه بالشكل اللائق هذه المرة. لتكن بدايةً جديدة وصحيحة.

ردت بلباقة مماثلة "شون سونغ-وان" أنيسةُ الطلّة، بنطال متواضع من الجينز وقميص أبيض أنيق يغلف جسداً ضئيل الحجم. مع معطف صوفي أحمر رقيق وطويل يصل حتى ركبتيها.

توقفت يدا جوهيون عن الحركة وتنقّل بؤبيها بينهما عجباً واعتراضاً ..

"لا تقل لي أنكما .. لم يسبق أن التقيتما؟ " وكأن هذا أغرب ما في الوجود.

بخلجات بالغة الرقة أرجعت الآنسة شون خصلةً من شعرها القصير ورمت إلى جوهيون إبتسامة لائِمة أسكتتها.

أحرجتها؟

ربما.

مال جونغ-إن نحو جونغداي _الأقصر منه_ وتأبط ذراعه يشدّه إليه ليهمس في أذنه "هيونغ، هذه قاطنة الشقة رقم تسعة" وكشّر ببلاهة وحبور "جارتك"

هذا تفسير كافي.

أومأ جونغداي بتحية أخرى أكثر ودّ وفضول، هذه هي الشقة رقم تسعة إذاً؟ وفي اللحظة عينها علا ضجيج الطلبة بهتافات نصر متلاحقة تصم الآذان، متواصلة وكأنها لن تنتهي.

لا مجال لحديث أطول.

استأذن وتوجه إلى مكان يرتاح فيه. صخب الطلبة حرمه الجلوس في مكانه المعتاد. خرج إلى الحديقة الخلفية حيث يدري بوجود بعض الطاولات والكراسي المهملة.

سحب كرسياً متجمداً وجلس تحت مظلة السقف إلى طاولة تجاور النافذة.

الريح قارسة والشجر يرتجف.

ضوء شحيح يغادر السماء المتلبدة، غروب شتوي خَدِر يهبط على حديقة المقهى.

صوت القطار البعيد يبث فيه اليوم إحساساً بارداً بالوحدة والشؤم. غداً تعود أمه إلى زوجها وبيتها وأخوته.

يجب أن يكون شاكراً.

لقد منّت عليه وعلى ابنته بوقتها الثمين. اعتنت بصغيرته وبمنزله منذ غادرته زوجته، كم شهراً مرّ؟

لم يطلب مكوثها.

وبالتالي لا يحق له اعتراض رحيلها.

لم يسبق أن كان على وفاق ظاهريّ معها.

تفعل ما يحلو لها ويفعل ما يحلو له ثم يتشاجران. عاشت الأشهر الماضية في منزله بواجب الجدة لا بواجب الأم. ثم ها هي تتذكر أن لها شؤوناً أخرى ترعاها فتهجره.

اعتاد.

أكلَ الهُجران من قلبه حدّ الوهن.

مُرهق؟ أجل.

ومكتئب.

يائس.

مُتحلل.

يرغب بالدفء وبعزلة طويلة ينأى بها عن كل البشر، لكنه ها هنا في الضجيج والعراء وغداً مع أمه، ولبقية العمر مع ابنته.

لا يدري ما يحل به وما يتغير. هو فقط يحس بهبوط عام، مُثقل الأطراف والقلب، كأن جسده يرغب بمعانقة الأرض. يشعر بروحه تتخلى عن الرغبة بالعيش، تترك جسده كما تغيب هذه الشمس عن السماء.

بذات الحسرة والبرود.

لم يعد يرغب بشيء. هذا الجسد الخائر يحتاج الراحة وحسب. ربما هي عوارض ناتجة عن الحزن الطويل. ربما يتقدم في السنّ وربما هي مضاعفات الأرق والسهاد.

ومرة أخرى لا حل .. لكل هذه العوارض .. سوى في المزيد والمزيد من القهوة.

عبّ من فنجانه البارد العلقم حتى أفرغه.

بتنهيدة، أزاح بؤبؤيه عن وجه السماء المكفهرّ ورمى بهما عبر النافذة ليتلصصا على البقية في الداخل حيث لا تزال الحياة مستمرة بأبهى صورها.

ضحكهم ونشاطهم يبثّ في المقهى روحاً أكثر خفة عن المعتاد ويبعث فيه الحسد والفضول: الحسد، إذ كيف يضحكون بهذا الإنشراح. والفضول، إذ كيف، بل متى وصلت تلك الآنسة العجيبة إلى هذا المكان وهذا القرب من الجميع؟

لم يمنع عينيه من ترصد حركات الآنسة شون.

تعاطفٌ صادق يبدر عن كل حركة وكلمة تقولها لجوهيون ونظرات ودودة رفيقة تحدج بها سميكَ الوجه كلّما تمادى.

لا يمكن لعاقل أن يظن بها السوء. إن هالة طيبة دمثة تتدفق عبرها. تبدو مسالمةً جداً وهادئة وهي تعلمهما كيف يعتنيان بالأصائص وتساعدهما على توزيعها في أماكن مناسبة تصبغ المقهى بانطباعٍ فردوسيّ.

إنها شخص جيد، حدس جونغداي لا يُخطئ، لا تخلو من الغموض مع ذلك وجسارةٍ واضحة. إذ أن تصرفاتها _في كل مرة_ تأخذه على حين غرة ..

فوجئ فعلاً حين فتحت الباب وخرجت إليه، تشدّ معطفها برداً.

"أتسمح؟ (تقدمت نحوه بحذر) سأضع هذه هنا، وربما أجلس أنا هنا أشرب قهوتي؟ " وضعت إحدى الأصائص على الطاولة. أوراق صغيرة خضراء مغروزة في جرة بحجم كوب، فيها بعض التربة.

لم تنتظر موافقته على الأولى، لكنها ظلت واقفة تترقب جواب الطلب الثاني.

بالطبع لم تسمح له اللباقة بإجابة غير القبول : "يُسعدني"

سحبت كرسياً وجلست أمامه وللحظة _كأنما عرضياً فقط_ التقت عيناها مباشرةً مع تحديقته المركزة فأخفضت جفنيها بحياء ورمتهما بعيداً إلى السحاب المتجهمر.

"بدأ الشتاء بالتقهقر" قالت بارتباك خفيّ.

استغل اللحظة ليُنعم النظر في ملامحها علناً وعن قرب هذه المرة ..

جميلة حقاً.

شعرها القصير يغلفها بمظهر جاد رزين تُلغيه حالاً وداعةٌ حالمة تأطّر وجهها.

حدقتاها تتحركان بحيوية كأنها طفلة تُخفي في سرِّها وعوداً معقودةً بالخنصر وبئراً عميقاً وحذاءً زجاجياً وقبلة.

أما شفتاها الرقيقتان فمتأهبتان للنطق في أي لحظة، مع هذا لا تفترقان بسهولة.

بشرتها يطغاها نقاءٌ ملكيّ ومبسمها الملائكي يهدئ النفس حين ينفرد.

عذبة وحيادية جداً.

تلفّها الشُبهة. هدوءها يُغري بالتقرّب ويُنذر بالخطر. تجلس أمامه ساكنة كأنها تصغي برحابة صدر إلى ما لا يمكن سماعه.

شعر جونغداي وكأنه يطالع بحراً أزرق لا امرأة.

وهذا بحد ذاته فاتن. فتنة روح لا فتنة جسد.

مر الوقت وهي تحتسي فنجانها بصمت. تتجاهل وقاحة وجرأة تفحصه لها. تعطيه الوقت للتعرف عليها.

على طريقته.

انطلق فجأة سرب طيور صغيرة في سماء الغروب.
لاحقته عيناها وهي تسأل ..

"هل تعرف كيف تُزرع الأولوفيرا، سيد كيم؟ " التمع قرطها الؤلؤي في الوميض الأخير للنهار.

أقراط لؤلؤية؟ تبسّم في سرّه. لم يصادف هذا الذوق منذ زمن.

أسند ثقله على الطاولة وقد اعتدل مزاجه وتبدّل. أخيراً أعتقت عيناه وجهها ليتفحص شتلة الأولوفيرا الساكنة في الوسط بينهما.

في زاوية فقيرة من ذاكرته يحمل بعض المعلومات عن النباتات وكيفية العناية بها. أسعده نبش تلك الناحية .. أجاب :

"يُقتطع ضلع اقتطاعاً سليماً ويغرس في التربة، مع الوقت سينبت له جذور ويستقل بنفسه" ثم تفقّد وقع جوابه البارع في ملامحها.

لم يجد الدهشة التي توقعها.

أسندت ذقنها على راحة كفها محاكيةً حركة اقترابه. غرقت في هدوء يكاد يكون حزيناً كأنها _بطريقة ما_ تأذت من إجابته ..

" سيتعفن "

فاجأهُ الردّ.

أوضحت وقد استطاعت عيناها أخيراً أن تثبت في مواجهته ..

" لو فعلت به ذلك سيتعفن وتخسره" عاتبته نظرتها برفق، كأنها ترأف بجونغداي نفسه، تمسح على رأسه بعينيها وحدها.

زادت الرقة في صوتها ..

" نسيت الجرح؟ بعد قطع الضلع نتركه جانباً حتى يلتئم جرحه، شفاء جُرح الورقة أهم مرحلة "

لامست كلمة (جرح) قلبه بحنو شديد. تراخت أعصابه وذاب في مقعده عطفاً ..

مرر إصبعه على ورقة الأولوفيرا يواسيها.

من المريع أن يُسمى مكان اقتطاع الورقة جُرحاً وهو مع ذلك تسمية حقيقية وواقعية جداً. تدفع الأناس الجيدين لمُداراة هذه النبتة ككائن حي، والخوف عليه ورعايته بالحب وحتى التحدث معه.

" كم يستغرق ذلك؟ " سأل.

أُنيرت الأضواء في المقهى لاستقبال الليل ووصل بصيص منها إليهما. عقدت ذراعيها على الطاولة بجديّة ..

" يومين أو اسبوعين .. يتشكل غشاء رقيق يمتد على الجرح من تلقاء نفسه. وحالما يستر الجرح بأكمله ستكون الورقة جاهزة للغرس في تربة موطنها الجديد "

هذا الحديث يعيده إلى ماضٍ جميل. إنسان واحد مرّ في حياته يتعامل مع الورق الأخضر كأرواحٍ حساسة.

" هل تحب العناية بالنبات؟ سيد كيم " سألت وقد استعاد صوتها بعض اشراقه السابق.

هذه المرة هو من أخذها على حين غرة بتبدل حاله. إذ تبسّم فجأة في وجهها وقال باندفاع حيويّ مُستمتع :

" كنت أعرف سيدة تحب الورد والزرع العَطِر، كان لديها حديقة فوّاحة ! ضخمة بكل معنى الكلمة ! وكنت أساعدها أحياناً. سيدة طيبة، كانت تكرر علي عبارة جميلة، ماذا كانت؟ آه هذه : عندما يكون المُحب مطراً .. و .. "

"والمحبوب زرعاً، لن ينال الجفاف منهما أبداً "
أفلتت من ذاكرته التتمة فأكملتها عنه.

"واه !" فغر فاه وحدق بها بعجب وفرح لم يستطع كتمه.

فوسّعت عينيها تتصنّع التكبّر والمُباهاة ثم سرعان ما تحولت تعابيرها التمثيلية إلى ضحكة متواضعة وبررت برزانة ..

" هذه مقولةٌ شهيرة .. سيد كيم"

ارتد رأسه ضاحكاً بصخب وتهللت أساريرها إعجاباً بما ترَ ..

يتميز جونغداي بزاويتي فمه، خطان صغيران على طرفي شفاهه يبرزان للأعلى حين يبتسم، يعطيان مبسمه حيوية وشكلاً فريداً محبباً للقلب، كأنه قطة. هذا عدا عن صوت ضحكته الصاعق الذي يضرب لبّ الروح ويزعزعها بقوة.

مشهد أخّاذ وجدت الآنسة شون نفسها أمامه دون سابق إنذار.

اعترف وفي صوته لا يزال يدقّ أثر الضحكة :

" لم أكن أدري، ظننتها من ابتدع تلك الجملة، ربّاه ! خدعتني" استرخى للخلف وسرح عبر الحديقة يتابع تدفق ذكرياته الطيبة بسرور.

النور الخجول المتسرب من النافذة قربه هبط برقة على رموشه الطويلة وانعكس متألقاً على عينيه البلورية الواسعة. وبلمسة فنية بالغة الأناقة ظلل زوايا مبسمه الحنون.

ساد الصمت الرقيق.

بتروٍّ هبت الريح وبعثر هواءُ المساء غرته.

بات من الخطر أن تنظر إليه مدة أطول. استجمعت البأس الذي أتت به إليه ونهضت تنسحب ..

" سررت بالحديث معك سيد كيم" أومأت باحترام.

استوقفها : "آنسة شون .. " صوته الهادئ بلسميّ طريّ.

"نعم؟ " شعرت بأنفاسها تتوقف شوقاً لسماع ما سيقول.

ازداد اتساع ابتسامته وطال رونقها حوافَ عينيه حين اعترف "تبدين .. جميلة جداً اليوم" أطبق شفتيه عن التتمة التي أراد البوح بها لكن عينيه قالت المزيد. قالت أنه يذكر لقاؤهما أمام دار العزاء. وأنه اليوم رأى داخلها وليس مظهرها.

في المقابل، طاف في روحها الرضى وانسكب على وجهها بهيأة ابتسامة عذبة. ما نطقه اعطى تواجدها في هذه اللحظة وهذا المكان من العالم معنىً وقيمة.

أومأت شاكرة ورحلت على عجل.

_________


في صباح اليوم التالي لم يكن جونغداي في أحسن حالاته؛ بعد أن غفى سويعات فقط استيقظ على ألم ينضّ صدغيه.

صداع رهيب.

هذا يعني تشنجات عصبية تطال عادةً معدته وتشلّ قدرته على احتمال المؤثرات الخارجية. الألم النابض في رأسه شديد القوة لدرجة التسبب بالغثيان.

فأل سيئ.

حين يباغته هذا الألم يتحول جسده إلى كتلة من العصب المُثار. مُنكمش وثقيل الحركة وموجوع دون أن يستطيع تحديد مصدر الوجع. يزعجه الضوء، وأخفض الأصوات تفعل به ما تفعله أصوات التعذيب بجرذ تافه في مُختبر.

ليس صداعاً عادياً بل كهرباء مُمرضة تنغّص عليه عيشه. لا يدري له سبباً ولا متى بدأ ولا كيف يتعامل معه. حتى المسكنات تعجز عن قتله إذا ما دبّ في عروقه وفتك.

كاليوم.

حساء الطحالب والبيض المقلي على طاولة الإفطار لاحا له مقززين. الرائحة كريهة والنظر إلى أمه وهي تلتقم وتُطعم ابنته أثار في نفسه الاشمئزاز.

نهض عن الطاولة يجر رجليه كأنها رُبطت بجنازير من حديد :

"سأغير ملابسي ثم سأنقل الحقائب"

إنها الساعات الأوائل من الصباح والأخيرة لأمه في هذا البيت، ساعات مُباركة ينخرها الشؤم. ليت معجزة تحل فتمنع أمه من السفر. أجل، لا يتفقان لكنه _وإن كره الاعتراف بذلك_ بحاجةٍ لها دون غيرها.

اتصل بسيارة أجرة وبدأ بنقل الحقائب بديناميكية باردة.

أعدّت ثلاثةً سوداء اللون متوسطة، والرابعة حمراء ضخمة كادت تتسبب بخلع كتفه حين رفعها. ربما لثقلها أو ربما بسبب اعتلاله الصحيّ الذي ينخر بدنه. في تلك اللحظة لم يعبأ للأمر كما يجب.

تصبّر على صداعه وأخفاه ريثما أتمّوا التجهيزات وغادروا إلى المحطة ثم تكفّل بكاء صغيرته (أنجو) وتوصيات أمه وتذمراتها  _التي طالت كل شيء_ بزيادة حالته سوءاً حدّ الإعياء.

"في مثل هذا الوقت من الغد توصلها إلى الحضانة" أومأ بالفهم وهو ينزل المتاع. وصل به الصداع لدرجته إحجامه عن النطق والرد.

دفع للسائق بينما مضت هي تتمشى ببطء يتناسب مع خطوات أنجو المُتعثّرة النشطة.

لقد قررت _عنه_ التسجيل لأنجو في حضانة وفعلت.

أنجو أصغر من أن تُترك وحدها في البيت أو في رعاية أحد والأوقات التي يقضيها جونغداي في وظيفته متفاوتة. الحضانة هي الحل الوحيد والأمثل لأمان الصغيرة وراحة بال جدتها وباله أيضاً.

أمه ليست امرأة عجوز. بل سيدة في ذروة جبروتها. بالكاد تبلغ الخمسين بمظهرٍ أربعينيّ مُختال.

أنيقة.

قوية.

قاسية.

ولها شكيمة ومقدرة لا تُضاهى على إصدار الأحكام القاطعة واللذع بالكلمات والإلحاح المُضني والسيطرة. كما أن لها دقة ملاحظة تطال ما تُخفيه النفوس.

مع هذا هي مُحترمة ومحبوبة ومُهابة لدرجة اعتادت معها حُكم كل من يحيط بها إما بالحب أو بسلطة الصواب والخبرة حين تدعوها الحاجة.

وما يخلق بعض التوتر بينهما أحياناً هو عدم خضوع جونغداي التام لسلطتها هذه. هو أول من تمرد عليها ورفع صوته في وجهها وأثبت أنه النظير والمنافس والغالب إذا أراد. رغم أنه يلتزم _معظم الوقت_ بالتصرف كإبن مُطيع بالغ الأدب وذلك قدرَ ما تسمح به نزعته للاستقلال والحكم الذاتي.

صراعهما تتخلله الثقة بكل الأحوال. أما المعارك فهي في الغالب ضمنية مخفية يتحاشيانها كأنما باتفاق مُسبق. ولولا رهافة كلّ منهما تجاه الآخر لما نشأ أي خلاف. والذي ليس خلافاً بالمعنى الحاد الجاد للكلمة .. إنما تنافر شحنتين متماثلتين.

أنه ببساطة : يشبهها.

إن كان جونغداي يشبه أحداً في هذا العالم فهو يشبه أمه في تجبّرها وقوتها ورمقها الطويل ضد مصاعب الحياة وإصرارها على اتخاذ الجانب السليم وفعل الصواب.

مهما كان الصواب عسيراً.

وصل حاجز التفتيش يتذمّر. توقف يسحب أنفاسه ويضرب بقبضته على خصره بعد أن ضغط الوزن الكبير عظامَه " بحق السماء ! ما الذي وضعته بها؟ "

قلقٌ غامض انتابه تجاه الحمراء بالأخص حين رصف الحقائب على ماكينة الفحص بالأشعة. أمه ليست سيدة بهذا الاستهتار لتوضّب كل هذا الكم من الخصوصيات وبهذا الحجم والوزن لسفر قصير.

تظاهرت بعدم الاكتراث وبحثاً عن مفرٍّ من الشبهة نزلت إلى مستوى الصغيرة تمسح لها ذقنها من أثر ما كانت تأكل ..

"تركت لك بعض الكيمتشي الطازج في الدُرج السفلي أضف لها القريدس حين ترغب بها، وخللت ثلاث علب أخرى تجدها في الخزانة حيث طباخة الأرز"

تأفف من تجاهلها لسؤاله وردّ بحدّة ..

" رأيتها، مشكورة "

كلاهما حازم وعنيد كصوان وحتى مع النوايا الطيبة يولد الاحتكاك بينهما شرارات خطرة. فالأحسن قطع الجدالات من أولها. وهذا ما يحرمهما من تبادل الأحاديث العميقة والحميمة التي يُحبذ لو يُفضي بها الابن لأمه وتنصح الأم من خلالها ابنها.

لا يفتتح أي منهما مواضيعَ يعتبرها الطرف الآخر حساسة، فلا يسألها إن كانت سعيدة مع زوجها ولا تخبره كم تتفهم الحزن الذي يضنيه.

ينظر كلّ منهما في عيني الآخر يقرأها ويصمت وحسب.

حمل الحقائب بعد أن تم فحصها، واحدة على كتفه واثنتان بذات القبضة أما الحمراء فكادت تعادل الثلاثة معاً. حملها باليد الأخرى وحدها ليتّزن.

السماء جافة تماماً والريح تصفر وتلسع جسده المتعرق بسياط باردة.

"لا أذكر أنك أحضرت كل هذا حين أتيت " لم ينوي استجوابها إنما لم يعد قادراً على لجم مخاوفه.

"وهل كنت في وعيك؟ " خطواتها الرخوة وتصلّب كتفيها يهيّئان لافتتاح حديث خططت له مسبقاً.

لاحظ ذلك منذ بداية اليوم.

وكأن الصداع لا يكفيه. هذا ليس وقت المناوشات. كيف لا تر أن حركته فاترة، أنه يلحق بها بصعوبة، أن وجهه مُصفرّ، أنه لم يأكل.

أنه ليس بخير؟

لم لا ترأف به.

تتقدمه وحسب. استرسلت ..

"ولن تكون في وعيك أبداً. شبحها سيلاحقك للأبد لأنك لم تدفنها جيداً، لم تدفنها كما يجب" قاسية ومحقة.

أجل لم يفعل. اعترف في نفسه مخفضاً وجهه.

لا بد أن فطنتها وإقامتها في منزله أعطتها نظرةً أعمق من بقية الناس المحيطين به. وهي بطبيعة الحال أقدر الناس على فهمه.

موت زوجته طعنه، أجل، لكنه لم يقتله. وهذا ليس لأنه أقوى من النصل كما يقولون بل لأن النصل لم يغادر جسده.

لا بد أن أمه رأت هذا بوضوح.

جونغداي لم يدفن زوجته. لا يزال يحيا معها، مع التفاصيل التي تركتها خلفها. مع سريرها ومشطها وملابسها في الخزانة. وشاحها الذي على مسند الأريكة حذائها عند عتبة البيت وقفازيها في الدرج. مع أغانيها المفضلة وصورها وحوض السمك الذي كانت تعتني به.

أقام جنازة وواراها التراب وبكى لكنه لا يزال يُحكم قبضته عليها بإرادته. يتعايش مع النصل في الجرح. مع الرصاصة في الجسد فلا يموت يموت ولا يشفى يشفى.

أمه أدركت هذا.

أدركت لأنها مرت بذلك قبله وحذت حذوه، بل هو من يحذو حذوها وهذا ما ترغب بإنقاذه منه.

من السقوط تحت تأثير الثقل.

على رصيف الانتظار توقفا. لا يزال هناك بعض الوقت. اقترب موظف وعرض المساعدة بعد السؤال عن التذكرة.

"شخص واحد، وهلّا قمت بترتيب الحقائب رجاءً" طلبت من الموظف بلطف. إنها كإبنها ذات تأثير مباشر في الناس.

اومأ الشاب العشريني واقترب يأخذ الحقائب عن جونغداي بشيء من التعاطف والرأفة بحاله، رثا له، فجونغداي يتألم بشكل واضح، متعرق ويقف بصعوبة. والسبب حتماً ليست الحقائب وحدها ..

إن نظرات أمه نحوه يبللها الإشفاق والحسرة ليس لهيأته أو مرضه، إنما لنفسها المنعكسة فيه ..

" يُقال، بعد الموت تشعر الأرواح بالضياع أتصعد أم تبقى على الأرض. وعلى أقاربهم أن يحرروهم من الحياة بحرق كل أشيائهم. عندها فقط تصعد أرواحهم للسماء دون النظر إلى عالمنا. دون أن تحوم حولنا وتلح على إيقاظ ذكرياتنا. لكن ماذا فعلت أنت؟ ألا تدري أن الروح تتعلق بممتلكاتها؟ أنت تشتتها. إن كنت تحبها بصدق فاتركها تتحرر منك وتحرر منها. دعها ترقد بسلام وعش فأنت لا تزال شاباً " تقصد ألا يكرر أفعالها، تفكر بعقلية الرهبان البوذيين.

تخصّر وزفر كل التعب الذي يحس به.

كلامها ينبش ويحفر في جروحها وجروحه. لتجبر نفسها على تخطي أبيه والاستمرار بالحياة تزوجت. لكنه لا يتخيل نفسه يفعل المِثل. ليس الكل قادراً على فقئ عينه بإصبعه.

" لا مزيد من الكلام عنها " أظهر صوته صلابةً دفاعية وحدة هجومية لئيمة. عليها ألا تستغل ضعفه الجسمانيّ الحالي في الضغط عليه وزيادة آلامه. يعترف، لم يكن ينتظر منها أي مساعدة بشأن ابنته لكنه عميقاً أمِل حد الإيمان أنها ستتفهمه.

هي وحدها ستتفهمه.

لكن إن لن تفعل إذاً فلتصمت ولتختفي من أمامه.

لترحل !

التقطت عينا جونغداي _عبر نافذة المقطورة_ كيف يرفع الموظف الحقيبةَ الحمراء إلى مكانها بصعوبة، فأحسّ بنار حارقة تتأجج في صدره فجأة وترتفع.

ثقلها حقيقيّ إذاً.

وأي ثقل مُبهم يمكن لحقيبة أن تحمله سوى ما يفكر فيه؟

شدّ حاجبيه وتعكّر. إنه مُجبر على خوض نزال لا يريده. ليس بحال تسمح بالمجابهة. ويدرك جيداً أنه يصارع يداً تود تطييب جرحه لا خنقه إلا أن مضّ الألم وخوفه من التجرّد المفاجئ الذي تدفعه إليه يجبره على التعنّت.

ماذا في الحقيبة؟

حاول النطق.

نار الغضب تصفع كل عصب في رأسه.

سحب صوته بصعوبة كأنه يستل سيفاً من صخرة ..

" أمي .. ماذا في الحقيبة (ازدرد ريقه) الحمراء؟ " تكسّر صوته في آخر العبارة وزفر أنفاساً تغلي. جرح السؤال حلقه، أحس بحبال صوته قد تمزّقت.

أشاحت عيناها عنه، أصاب الحقيقة إذاً.

افتر ثغره بابتسامة ألم.

"أنت عنيد" أوراقها مكشوفة. يستطيع فهمها فوراً وهذا ما كان يقلقها. لكن فات أوان مقاومته.

تأخر.

الحقيبة صارت في مقصورة القطار وهذا أعطاها بعض الثقة والراحة. حملت الصغيرة تعيد ترتيب شعرها وتودعها بقبل ولمسات حانية. تشد عليها معطفها الزغبيّ. تأخذ كل وقتها فيما تفعل وبتأنّ مطمئن، يناقض تحرّقه واضطرابه، نظرت نحوه ..

"تذكر بيتنا في انسان-بونغ-دونغ؟ المبيت عندك ذكرني ببيتنا في تلك الأحياء القذرة وذكرني بعِنادك. ذكرني كيف اعتصمت أمام معهد الفنون لأسبوع، ظُهر كل يوم، حتى انصعت لك وسجلت اسمك لتتعلم الرسم، إنك على هذا القدر من العناد "

تنهّدت بعمق ترقب خط السكة الطويل كأنها تنظر إلى الماضي والمستقبل مجتمعان في جهة واحدة ..

"حتى في زواجك (أكملت) لم تكترث لرأيي او للمنطق. عاندت وانظر كيف انتهى بك الحال أرملاً في عزّ شبابك وأباً لابنة لا تستطيع تربيتها "

أحس بأنفاسه تتجمهر وتحتبس في حنجرته، بغصّة، أحس بحلقه يتورم ويوشك أن ينفجر عبر عينيه.

هذا كله حقيقة.

كابر. أزاح شعره المبتل بعرق جبينه للخلف علّه يرى أفضل بعينيه المحتقنة حُمرة.

لكن كل شيء واضح أصلاً. أمه تخطط لقتله في عملية إنقاذ.

صدح إعلان المغادرة .. عقدت السيدة حاجبيها بصرامة وهي تعلن عليه قرار المحكمة الأخير الذي هو لصالحه بكل تأكيد ..

"هذه المرة لن أتركك على هواك، تذكر، على المرء أن يفعل الصواب"

لم يعد يقوى على الكلام.

لكنه بدأ يفهم.

شيّع بقايا زوجته بيده. لقد أوقعته في الفخ وأطبق مكرها المدبب على ساقيه حتى ما عاد قادراً على تحريكهما. اصطادته لتداويه لكنه يكره دافعها ويكره التعافي.

بصعوبة حرك قدمه خطوة، أحست بنيّته فقبضت على ذراعه. غرست أصابعها فيه حتى كادت تصل عظامه ..

"إياك (نهرته) تلك لم تعد تخصك، رحلت للأبد"

هزّه موقفها بعنف.

صوتها الآمر ارتطم بسقف روحه. وحين رفع مقلتيه إلى دموع عينيها رأى بوضوح جرحاً متقيّحاً في الخفاء تحت التكبّر والبأس الذي لطالما أظهرت وتفاخرت به.

رآه ينزّ حزناً وندماً وقلقاً لأجله هو.

هو الذي لطالما ظنّ أنه في آخر قائمة اهتماماتها.

دنت منه "عليك بهذه من الآن فصاعداً " أمسكت ذقنه برفق وأرغمته على تغيير مجرى نظره إلى وجه ابنته.

أعرض ودفع الصغيرة عنه يهتزّ بأكمله رفضاً.

شدّت قبضتها على ذراعه وهمست راجية "بنيّ" هذه المرة وصلت لمستها إلى طبقات سحيقة، إلى مكانتها كأم في قلبه، شدّت عليه حتى انتهت مقاومته الواهنة ثم سحبته ببالغ الأسى إلى صدرها وضمّته بذراع واحدة إليها.

قاوم ثم تسمّر وانصاع لرائحتها التي لم يحظى بها منذ سنوات.

صمت الكون بأكمله وحده قلبها ينبض.

لا يدري كيف أفلتتت منه شهقة أعادته طفلاً ثم نشج يبكي على كتفها رغماً عنه بينما تربّت على ظهره وتواسيه.

كلما كان الإنسان أصلب تشظى لقطع أصغر لحظة التحطم.

سيستغرق شفاؤه وقتاً.

لكن لا بأس.

لا بأس.

ابتعدت تودع ملامح وجهه. مسحت بكفها على عينيه الراجية وشعره المبعثر. ابتسمت ابتسامة دافئة أظهرت تجاعيد دقيقة حول عينيها، ابتسامة لا يذكر أنها أمدته بها من قبل ثم حمّلته الصغيرة كأنها تذكره بأنه الآن أب.

حان وقت سحب النصل العالق في حياته. و لا تراجع مهما انبجثت الدماء من مكان انغراسه ومهما نزف ..

"لقد حزمت كل أشياء سانيونغ، كل غرض كانت تستخدمه، كل قطعة قماش تحمل رائحتها، حشرتها كلها بتلك الحقيبة. كان عليّ فعل ذلك منذ يوم تأبينها. عليها أن تترك وشأنك الآن" توسله صوتها أن يقبل تصرفها ويلتزم به دون مقاومة. كما كانت تتوسله لابتلاع الدواء العلقم في الماضي البعيد. 

تجدد نفر الدمع في عينيه فأسرع ومسحه بعشوائية. يُنكره.

أراد طلب الرحمة، تأجيل الأمر لبرهة لكن أشواكاً بالآلاف تدافعت تمزق حنجرته وتمنعه عن النطق. لا يزال يرغب بها، بوجودها حوله حتى لو كانت شبحاً ووهماً وذكرى.

"سأحرقها، سأحرقها حالما أصل" أخفضت صوتها وكأن الهمس سيخفف من وقع الكلمات عليه.

وصل حدود الاستسلام. انحلّ ذراعاه وجرى الدمع على خديه. انزلقت منه ابنته حتى وقفت إلى جانبه.

تكرر الإعلان بلهجة تحذيرية. وأحاطه الحشد المتأهب للحاق بالرحلة، التجمهر الصاخب الغوغائي للبشرية.

"إلى لقاء أفضل" استدارت للوراء وتحركت مع الجموع لتصعد.

أحس بالجلبة المتزايدة كل الإحساس. الدوي الناتج عن تكدّس أعداد كبيرة من الناس وانتحاب ابنته. ثمة أطفال آخرون يبكون بعيداً وأحدهم يعزف الغيتار عند مقاعد الانتظار بينما تتخذ أمه مكانها وتنظر إليه عبر النافذة ثم صرير الحديد بالحديد حين تحركت العجلات والذي دُقّ كالإسفين في رأسه.

كأن قدرته على استشعار ما حوله واستيعاب الألم قد ازدادت فبات كل مضّ يُضاعف وكل وخز ينغرز ويثقب.

ببطء ابتعد القطار واختفى ليتدفق في إثره الهدوء الخانق ويغمر المكان.

مر الوقت. ثم لا شيء سوى الرغبة بالتقيؤ.

مسح جفنيه بأصابعه ونظر بقرف إلى البلل الذي أصابها.

أحقاً كان يبكي في محطة قطار؟

ياللإبتذال.

_______

.
.
.
.
.
.
.

يُتبع.



لقد وجب على أحدهم أن يقتطع جونغداي عن زوجته اقتطاعاً صحيحاً ليلتئم الجرح و يشفى، صح؟

ثم سيكون جاهزاً للزراعة في تربة جديدة وحب جديد في الفصول القادمة 😁

حادثة عناد جونغداي امام معهد الرسم حقيقية 😅 حكاها بنفسه
#يؤبش قلبي❤


شكراً للقراءة ❤

© Syram ,
книга «Moon Agony || EXO CHEN».
Коментарі