ذكرى
قهوة
فراغ
ألم
تعب
ثِقل
جوع
قهوة

كيم جونغداي؟

و هل يمكن لقاطنٍ في حيّ (محطة سيئول) ألا يعرف هذا الاسم؟ ستجد له صاحباً في كل مطعم وحانة، وستصادفه في أي زاوية من المنطقة، وقد يُذكر اسمه في أي لحظة على لسان سكان المنطقة.

يقدّم نفسه بلباقةٍ عالية، ينحني بتواضع ويلفظ اسمه بوضوح "كيم جونغداي" أو يقوله مائل الرأس قليلاً مع ابتسامة مُشرقة رزينة.

مع من يصغره سيكون أكثر مرحاً، يعاتب جهلهم " كيف لا تعرفني؟" ويضمّ حاجبيه تمنّعاً وتعجّباً، لكنه سيصفح عنهم سريعاً ويخبرهم عن اسمه كأنه يقدم لهم معروفاً. وسيمدّ يده للمصافحة أياً كان الشخص الذي أمامه كأنه يهديه بطاقة إئتمان تُستخدم عند الحاجة.

وهي كذلك، كل سكان الحيّ يشهدون أنه خير من يُستجار به وقت الشدّة، خدوم عند الحاجة، حكيم عند النصيحة ..

" نصيحتي لم تضع سُداً، أرى أن الزبائن بازدياد "

طاولته المعتادة دائماً وأبداً تستكين لهفهفات الستارة قرب نافذة متطرفة، لا يجلس إلى غيرها.

" صار المقهى يشبهك بعد التجديد "

"جذّاب؟ " رفع حاجبيه بسؤالٍ يستند على ثقة.

" بل تملؤه التفاصيل الصغيرة "

ضحكت متفاديةً النظر في عينيه واكتفى هو بابتسامة هادئة.

رتابةُ إيقاع الحياة تحطمها الحُليّات الصغيرة. يؤمن بذلك منذ زمن بعيد. كجرص صغير مزركش للباب، أضواء نجميّة خافتة للسقف، و شموع فوّاحة على الطاولات مع لحنٍ ناعس يغطي ضوضاء الحاضرين.

نصيحته بإضافة هذه التفاصيل حقاً لم تضع سُدى وتشبيهها أتى في محلّه.

جونغداي تجذبه التفاصيل و تكوّنه.

إن الناس العاديين مبنيّون على أفكارهم ومعتقداتهم كما تُبنى الأبنية والجدران، مبادئ الناس ترتكز في نفوسهم كأحجار كبيرة، و الفرد الواحد يقوم على حجر أو اثنين. بينما جونغداي مختلف.

جونغداي يرتصف من حصىً صغيرة لاتنتهي في التفاصيل. فيرى ببساطة مكنونات غيره بينما يستغرقون عمرهم لمعرفة ما يُرضيه.

كما تجذبه صغائر الأمور والأشياء الدقيقة التي لا يُعيرها الكثيرون انتباهاً، تقلبات المزاج، ردود الأفعال، و النيّة خلف تصرفات الناس، وكذلك الجوامد، الألوان والعطور والأصوات. كرنين الأساور في معصمها حين وضعت فنجان قهوته أمامه، و النبرة المازحة لصوتها المتعب ..

" تفضّل يا ذا المزاج الغريب "

" تحتاجين دهراً لتفهمي "

" أحاول "

أول مرة دار فيها الحديث بينهما كان بفضل فنجان قهوة طلبه.

وفنجان قهوة جونغداي هو عالم من الفلسفة التطبيقية.

هو هرم من التجارب العجيبة، كلما ارتفع ازدادت المرارة. غالباً يروي وهو يتلذذه كيف ذاق مرارته الأولى على يد جدته في عمر صغير، ثم انهمرت الحياة على رأسه حتى وصل فنجانه مرارةً سوداء لايطيقها سوى رجال السياسة والعجائز.

أي مثله.

فالعمر لايقاس بتاريخ الميلاد _يشدد دائماً على رأيه هذا_ العمر هو تجاربك التي صنعتك وأنضجتك، و استناداً عليه يُصنّف نفسه كمسنٍّ هَرِم ويُطالب جيرانه بتقديم احترامهم له، ضارباً عرض الجدّ بطول المزاح.

سألته " كيف ستكون أجواء الغد؟ "

" مناسبة للوقوع في الحب "

" لم أعهدك رومانسيّاً "

" لا دخل للرومانسية، الملابس عدوة الحرّ وعدوّة قلوب الرجال " إلتوت شفتيه بابتسامة ذي معنى.

" أها أي أنه سيكون حاراً، وستكون الفساتين قصيرة فيقع الرجال بالحب؟ .. أنت ماكر سيد كيم ! "

بعد نهار عمل طويل يحب جونغداي إنهاء يومه في هذا المقهى، يتبادل أحاديث متقطعة مع مالكته، تحادثه أثناء خدمتها للزبائن. يشرب قهوته بينما يهبط الليل على أطراف المدينة.

في حيّ محطة سيئول تغيب الشمس قبل بقية الأحياء لأن قاطنيه مزاجيون بامتياز.

تُنار المصابيح على طول الطريق حتى بوابة المحطة وتضمّ الأماكن الصغيرة السكانَ بمودّة وتجمعهم حول موائد الشواء المشتركة وكؤوس السوجو، يأكلون ويشربون مُصغين لصوت قطار الحياة.

شوارع تلك الساعات الليليّة تغري جونغداي بصفائها و فراغها وامتدادها الساكن، تذكره بأيام طويلة مضت و تدعوه للتوحد معها. يحب أن يمشي فيها إلى اللامكان، المهم أن يتنفس بعيداً عن جموع البشر، لولا أن التعب يمنعه غالباً وأحياناً تمنعه مشاكل ومشاغل أخرى..

" آجوما! هاتي الحساب " ناداها زبون.

ليست سوى امرأة في بداية الثلاثين، أرهق الزمن شبابها لذا تبدو أكبر، تتحمل الزبائن الدبقين، تقدم القهوة و المُسليّات، تعمل على مدار عشر ساعات وحدها، تنظف وتربي ابناً بعمر الثالثة. وحين تخلو بنفسها بعيداً عن العيون تبكي قدر ما تستطيع كأن الحزن واجب فرضته عليها الحياة.

بانحناءة مبالغ بها ودّعت الزبون الشاب وعادت إلى جونغداي على وجهها ابتسامة منكسرة مُرهقة، يُزعجه مكابرتها على شقائها هذا، يزعجه أنها أم عزباء، يضايقه أنها تستكين للحزن في عمر صغير.

" رائع، بضع ساعات أخرى وتموتين شهيدة العمل وتحصيل لقمة العيش"

تطلّعت عميقاً في عيني جونغداي وقد أخذتها الصدمة، فاجأتها نظرته القاسية لكنها لاتعرف كيف تعاتب سخريته الفجّة.

ما يجعل تواجد جونغداي مزعجاً أحياناً أنه ببساطة يعرف عنك ما ترغب بإخفاءه وتناسيه، ثم وبعبارة واحدة يطلق سخريته لتحطّم أقنعتك، مع علمه أنه يؤذيك.

" دلّني على من يمكنه إنقاذي، هل من أمير في الأرجاء؟"

رفعت فنجانه الفارغ من أمامه، بدا له كل مافيها ميّت عدا الأساور في معصمها ترنّ وتتصادم. شعر بغصّة، وسرعان ما تراجع عن عدائيته إلى عطف شديد ..

"اصبري قليلاً بعد، سأجد حلاً "

عضّت شفتها السُفلى وتوقفت مُغلقةً أجفانها عن النظر إليه. من النادر أن تسمع صوت جونغداي الخافت، تغطيه غباشة حانية حين يتحدث بخفوت، مهما قاومتَ نبرته ستصيب القلب بأضعف نقاطه.

" هل تشفق عليّ؟ "

قهقه بسخرية وكأن الضحك انفلت في غير وقته "غيرة، أنا أغار، يزعجني أن أرى أحداً يشقى أكثر مني"

تبرّمت " أنت و مزاجك الغريب، حلّ مصائبك أولاً "

طبطب على كتفها في طريقه للخروج ولم يزد بأي كلمة.

جونغداي لايتقرّب من أيّ كان قبل معرفة معدنه الأصليّ، لأنه إن تقرّب لايبتعد أبداً ولايقطع حبال الودّ. مثلاً، يعرف حارس المحطة من خمس سنوات، والعجوز بائعة السمك من حوالي سنتين فقط أما العمّ بارك صاحب المتجر فيعرفه من أكثر من اثني عشرة سنة..

" من أزعج الملك؟ " حيّاه العمّ عندما دخل جونغداي متجهّماً.

" الحياة برمتها مزعجة! "

حين يغضب جونغداي يتوجه إلى متجر البِقالة، يتحجج بشراء الحاجات ليتبادل الحديث مع السيد بارك فهو طيّب القلب وصبور والأهمّ أن على جونغداي أن يصرخ ليسمعه الرجل.

الصراخ هي الطريقة الوحيدة للتواصل مع العم بارك ولإفراغ غضب داي في آنٍ معاً.

"ما يغضبني فعلاً أنه كلما ازدهرت الحياة في هذه المدينة ازداد بؤس الناس! ما الذي أصاب البشر يا عمّ؟! يُخيفني الأمر حين أتخيل ما سيحل بنا بعد بضع سنوات "

حالما يدخل المتجر يتوجه جونغداي إلى الحمام مباشرة فبعض الماء على وجهه يساعده ليهدأ، ثم يأخذ جولة، يشتري ما ينقصه ويتكلم فيما يزعجه.

يصدح صوته بدءاً من الحمامات ثم من بين الرفوف على مسامع العمّ والزبائن..

" أقلق على مستقبل ابنتي، هل أرسلها للدراسة في أمريكا؟"

ضحك الزبائن المعتادين على وجوده والبعض سدّ أذنيه من علوّ الصوت. بينما تفهّم السيّد بارك ما يثير أعصاب جاره الشاب بإيماءات من رأسه، فعلاً تسوء أحوال الحي بالتدريج لكن الجملة الأخيرة .. كانت خرقاء عن عمد..

"أحمق ! إلى أين ترسل ابنتك هناك؟؟ إلى حضانة؟ "

أخرج داي رأسه من خلف صف الرفوف وابتسم ثم حرّك شفتيه بكلمة "أمزح" دون أن ينطقها ليكسب من العم ابتسامة.

يحب العمّ بارك أن يزوره جونغداي فرِحاً كان أم غضبان، يسليه.

بقية الزبائن لايكترثون إن سمعهم أم لا، أما جونغداي فيحرص على أن يكون واضحاً وأن يوصل كامل مقصده للعم بارك مهما كان ذلك صعباً ومُتعِباً.

دخلت سيدة إلى المتجر ألهت السيد بارك بمحادثة خاصة هادئة وأحس داي أنها تحادث السيد بارك بشأنه. كونه شاباً أرمل الآن ومسؤولاً عن تربية فتاة صغيرة يجعل كل سيدات الحيّ يصببن اهتمامهن وثرثرتهن عليه.

يتفهّم أن هذا دافع فطريّ من طبيعتهنّ الأموميّة لكنه لايزال غير متقبّل له. حتى لو بدافع الحرص وما يسمونه إنسانية.

"هل أنا محور الحديث" وضع علبة سجائر على طاولة المحاسبة مع علبة بسكوت صغيرة.

تعمّد أن يريها ما اشترى وتعمد قطع الحديث. وتحمّل على إثر المقاطعة النظراتِ الحارقة للسيدة دو. و للأخيرة أسباب كثيرة للامتعاض.

على عكس رأي جونغداي لم يكن سكان المنطقة يحبذون وجود مقهى بين الشقق السكنية لأنه يشدّ الغرباء للتغلغل في الحيّ -حسب الادّعاء- لذا يُعادون مالكته ويُشيعون عنها سوء السمعة، من غير قصد أحياناً. و كابنٍ للحيّ لا يتدخل جونغداي في معركةٍ كهذه، لكنه لا يقف ضدّ الحق أبداً. ولا يسمح لأحد بالوقوف ضد حريّته وتصرفاته ورأيه.

يزعج السيدة دو أنه زبون للمقهى، ويزعجها أنه لايقبل مساعدتهن بشأن ابنته الصغيرة، ويزعجها أنه معتدّ بنفسه ورأيه فلا يتعاون أو يقف بصفها أو يسمح لها بإدلاء آرائها الحكيمة الذكية.

بالمقابل يزعج جونغداي أن تتدخل امرأة غريبة في حياته بحجة ما تراه هي صواباً. لكن الحرب بينهما باردة، يسودها ابتسامات مُجامِلة ولا شيء أكثر.

تذكر السيد بارك خبر فوز ابنها بميدالية ذهبية في الجودو ودغدغت تهانيه اعتزازها بنفسها وتربيتها الصالحة فاستغل جونغداي هذا الجو المرح لينسحب مع علبة سجائره ..

"أراكما لاحقاً"

"مرّ غداً سأطهو لك شيئاً طيباً" أكد بارك بأعلى صوته.

خرج من المتجر.

يسعده لطف الجيران و يؤلم قلبه.

يجعلونه يشعر بالضعف والبؤس أحياناً، تصرفاتهم التي كانت تندرج تحت مُسمّى الودّ والمحبة أخذت فجأة طابع الإشفاق في نظره.

لا ينكر أنه بحاجة للاهتمام لكنه لايرغب به.

تكاد تكون عشرين سنة، المدة التي عاشها في هذا الحي. أتاه شابّاً في الثانوية، أتمّ دراسته الجامعية، عمل، وتزوج ولم يغادره. يعرف أغلب ساكنيه لكن الشوارع تكتظ بالوجوه الغريبة وتختلف صباحاً عن المساء. كل نصف ساعة يصل قطار إلى المحطة وتتغير الوجوه عدا عن تلك الملامح الطيبة لأهل المنطقة.

ربما هذا مايجعلهم متقاربين على عكس بقية الأحياء، فوسط هذا التغير الدائم يكون من المريح وجود بعض نقاط الارتكاز تعود إليها لتشعر بالثبات والاستقرار؛ في حيّ المحطة أن ترى جارك كل صباح يعني أنك لاتزال في ذات البقعة من العالم، لست من يتجول بغير هُدى إنما العالم هو من يتحرّك من حولك.

"هيونغ !! " ابتسم جونغداي بارتياح لرؤية ثلاث شبّان صغار من الحيّ، يونغ_جاي كان يقفز ملوّحاً ويدعوه للاقتراب.

في الحالات العادية يونغ جاي هو من يركض نحوه ليلقي التحية وقد يمشي معه إلى المنزل حُبّاً برفقته ومحادثته، لكن الليلة بدا أن أمراً يحصل عند ذاك المنعطف.

رمى مابقي من سيجارته أرضاً ودهسها ثم هبط داساً يديه في جيبيه إلى زاوية الشارع حيث يقف الشبّان الثلاثة مع رجلين غريبين.

مع اقترابه ميّز الوجهين، تذكّر أنه قابلهما يوم المأتم.

"هيونغ، يبحثان عنك" أشار يونغجاي معرّفاً بالرجلين.

انحنى جونغداي باحترام وقدّم نفسه.

"كيم جونغداي"

ردّ الرجلان الانحناء والتحية وعلائم الحزن والتعاطف على وجهيهما.
الأصغر كان يحمل صندوقاً من الكرتون، الأشيب برر قدومهما ..

" سيد كيم، انتظرنا أن يأتي أحد ما لجمع أشيائها لكن لا أنت ولا أحد أقاربها زار المكتب. موظف جديد سيحل مكانها غداً لذا قمنا بجمع أغراضها بأنفسنا وأحضرناها "

اقترب منه حامل الصندوق ومدّه نحوه لكن لم يفلته، بقي الصندوق يربط بينهما وعيونه تحدّق بوجه جونغداي عن قرب.. بدا كأنه يستجمع شتات نفسه ليقول شيئاً ..

" لا بأس " بادر جونغداي أولاً وسحب الصندوق مع إيماءة ودودة من رأسه وعينيه.

" حملُ أغراضِها إليك يمزّق قلبي " الغصّة في صوت الرجل أكّدت صدقه، عيناه احتبست الدموع. وفاة زوجة جونغداي كانت صدمة للجميع.

بعد أن شكرهم جونغداي بلباقة شديدة وانسحب يجرّ خطواته مبتعداً، ضربه الأشيب على كتفه ووبّخه على ضعفه أمام زوج زميلتهم الراحلة.

مسح الأصغر عينيه وهو يرى الهيئة الضئيلة لجونغداي تختفي تارةً و تظهر تارةً تحت عواميد الإنارة عبر الليل الهادئ ..

" هل صغُر حجمه؟ أم أني أتخيّل؟ "

" أوافقك، يبدو أنحل و أكثر شحوباً "

" بل يبدو رائعاً ! هيونغ قويّ! وقد تخطّى وفاتها منذ زمن ! " صاح بهم يونغ جاي محتدّاً كطفل يدافع عن أبيه فضحكا وأغاظاه قليلاً.

أصواتهم كانت مسموعة عبر هدوء الشارع حتى طغى عليها صوت القطار المنطلق من المحطة.

فسّروا الأمر بشكل خاطئ هو لم ينس احضار ممتلكات زوجته من مكان عملها، هو لم يرغب بذلك.

لأن حمل صندوق كهذا ثقيل جداً على قلبه.

في المسافة القصيرة التي تفصل بيته عن مفترق الطريق ذاك ومع كل خطوة شعر بقوة جسده تضمحلّ، صَعُب عليه سحبُ أنفاسه، وزن الصندوق تزايد مع مرور كل دقيقة حتى تحدّب كتفيه، أربعة وعشرون سنة من السعادة كانت تسكن الصندوق، زوجة وحلم دافئ لن يعود.

لم يُخلق جونغداي قويّ الاحتمال، لكنه كبر ليكون صلباً.

لايذكر أنه كان يافعاً مراهقاً، كان أقصر؟ أجل، لكنه حتى قبل عشرين سنة كان رجلاً. يتمتع بعزيمة رجل، يحمل مسؤولية رجل، و يتبع عقيدةً صلبة لا تتغير كرجل.

ماحدث له ليس سوى نوع من احقاق العدل، كان سعيداً للغاية لذا وجب دفع ثمن سعادة تلك السنوات عاجلاً أم آجلاً.

هكذا استحقّ فقدان زوجته، هكذا تقبّل فاجعة موتها.

يواسي نفسه كما يُواسَى الأطفالُ حديثي العهد بمصائب الحياة، يهمس لقلبه "هي في رحمة الرب" و يصلي لأجلها بصدق كل يوم أحد كاتماً دموعه.

كانت نور حياته و الآن صارت جزءاً من نور السماء، لذا حين يشتاق لها ينظر للقمر.

الناس يرونه قوياً، فقد ما فقد وخسر ما خسر ولا يراعون كونه جريحاً أو ضعيفاً، في عيونهم هو صلب لايتقهقر، كأنه ليس انساناً.

هو من يغذّي لهم هذه الفكرة بكل الأحوال وبكامل إرادته و وعيه، يكره أن يرى في عيونهم سوى الرجل الخارق كيم جونغداي فهو لايملك وقتاً للضعف والتقهقر. كثيرون يعتمدون عليه بأبسط أمور حياتهم و أحياناً أتفهها ..

" ماذا تفعل هنا؟ "

توقف جونغداي عن المشي.

كان هناك شاب يقف في باب العمارة يعترض طريقه وفي سحنته ألف تذمّر وشكوى يحفظها جونغداي عن ظهر قلب.

" هيونغ! ساعدني! "

"طردتك؟ "

كان الموقف مضحكاً تقريباً إلا أن حزن جونغداي في تلك اللحظة منعه من الضحك، ابتسامة كليلة طفت على ملامح وجهه وحسب.

" هيونغ، ألن تقف في صفّي ولو مرّة؟ أقنعها أرجوك! حقاً تعجبني أنا لا ألهو! "

أحياناً يشعر جونغداي بغصّة الظلم. ما العيب لو أنه عاش كبقية الناس؟ مثل هذا الجونغ-إن الغبي مثلاً؟

لم يسبق ان شعر بالحسد تجاه احد بسبب الشكل أو الطول، هو لا يحسد جونغإن على قوامه و بنيته القوية ولا حتى على سُمرته وجاذبيته بل يحسده على بساطته و سذاجته.

في اللحظات النادرة التي يسرح فيها تفكير جونغداي يتخيل نفسه مُدللاً يشتكي يتأفف ويتباكى، يتخيل يداً حنونة تمسح على شعره وتسترضيه، يتمنّع ويتذمر ولايشغل باله سوى نفسه ومتطلباته، ما العيب في أن يسعى المرء لتحقيق مصالحه؟ لماذا لايستطيع العيش معتمداً مستنداً إلى أحد؟

هو قانع بشكله وهيأته و يفضل امتلاكه فطنة العقل على قوة العضل، أما حين يحسد الناس فلا يحسدهم سوى على نفسه، لأن لديهم جونغداي يصغي لهمومهم.

هذا هو الاحساس الوحيد الذي يُشعره بالظلم، يستطيع مواساة الناس ولايملك من يطبطب على جرحه هو؟ لماذا لايحمل احد معه هذا الصندوق؟ لماذا لا يجد احداً بجانبه في اللحظة التي يهاجمه فيها التعب؟

أنزل الصندوق إلى الأرض وجلس يستريح على حافة الرصيف .. لا بأس عنده لو جلس في اي بقعة من الشارع، الحيّ بأكمله منزله.

" أتقف في صفها فقط لأنها جارتك؟ "

" أقف بصفّ الصواب يافتى، كم مرة عليها أن ترفضك؟ "

" تريدني أن لا أحاول حتى لو كان هذا يؤذيني؟ "

" ستشفى، لازلت شاباً، جد غيرها "

" أنت تحاببها عليّ دائماً .. أنت .. أنت معجب بها؟ " قالها ببعض التردد.

تنهد بتعب.

كم من الجهد و الوقت عليه أن يبذل في سبيل تبسيط الأمور البسيطة للحمقى؟؟ لطالما أدهشه قدرة بني جنسه على تجاهل المنطق الواضح و إدخال أنفسهم عوضاً عن ذلك في متاهات من التوقعات الغبيّة مُنقادين في الأغلب خلف مشاعر دنيئة و سطحية.

مواقف كهذه تجعله يرغب في السخرية منهم جميعاً و التلاعب بهم نفسياً، رفع جونغداي عينيه للأعلى متحدّياً مخترقاً كل توقعات صاحبه وآماله..

"وماذا ستفعل لو أجبت بنعم؟ ستقاتلني؟ "
شعر بالشر يسري في كيانه، رغب بافتعال شجار، أن يضرب و يُضرب و ينطق بكل أنواع السباب التي يحفظها.

أحقاً لايرى هذا الفتى أي رجل هو جونغداي؟ ألا يرى أنه يحمل صندوق أشياء زوجته الميّتة بين يديه، و ذكرياتها في عقله، وحبها في قلبه؟ أحقاً لايرى كم أنه متعب من حمل كل هذا لدرجة لايقوى فيها على النهوض و متابعة المسير الى شقته؟

لحسن الحظ عزيمة الشاب كانت فاترة و جواب جونغداي زاد يأسه لا أكثر، ظنّه يستهزئ به، أخفى قبضيته في جيبي معطفه و أخفض رأسه ممتعضاً بينما أكمل المحتدّ ..

" سأخرج معها قريباً، ما قولك؟ هيا اسمعني اعتراضك! أرني ما ستفعله ! "

"سأرحل " استدار جونغ-إن و ابتعد ومن آخر الشارع سمعه جونغداي يدمدم لعنات على لحن أغنية.

" عديم الإحساس" استجمع جونغداي قوته ونهض.

الأشخاص المقرّبون من داي معتادون على مزاجه و حدّة طبعه يدركون أن تفاديه في لحظات غضبه هي أسلم طريقة لاتقاء شرّه. ربما يعود جونغإن للتشكي والإلحاح لاحقاً لكن الآن لا جدوى من مناورته في نقاش أو مجاراته في حديث، فجونغداي ماهر في تسديد الضربات القاضية.

لديه القدرة على قراءتهم جميعاً يعرفهم أكثر مما يعرفون أنفسهم.

يعرف الجميع عداها، قاطنة الشقة رقم تسعة.

منذ شهر تقريباً أسرّ له جونغ-إن أنه معجب بفتاة تكبره ببضع سنوات، شابّة في منتصف العشرينات ولم يعره داي انتباهاً حقيقياً حتى ذكر له أنها تسكن ذات البناء.

رغم معرفة جونغداي الواسعة و المُلمة بسكان المنطقة لم يسبق ان التقى هذه الشابّة وجهاً لوجه أبداً، شعر بوجودها في بضع مناسبات ولمح هيأتها مرّتين أو ثلاث عرضياً على السطح، لكنهما لم يلتقيا كما ينبغي لجارين أن يفعلا.

فالتوقيت الذي انتقلت به للعيش هنا كان الأسوأ في حياة جونغداي.

أثناء صعوده الدرج تشغل هذه الآنسة حيزاً من تفكيره، يتخيّل كم تعرف هي عن حياته كون شقتها تحت شقته تماماً؛ كم شهدت من صخب يوميّاته دون أن يعرف اسمها الأول حتى، وكم مرة رأته يعود إلى بيته مشتتاً محطماً، كم مرة سمعت صوته يلعن ويشتم على الشرفة، ألم تسمع خطواته تقرع الدرجات ركضاً آخر الليل؟

خلف باب شقتها يقبع ألف جواب يريد جونغداي معرفته، لذا يجد نفسه يقف أمامه للحظات عندما مرّ به أثناء صعوده السلالم.

ما الإنطباع الذي كوّنته عنه؟ أتعرف أن زوجته فارقت الحياة بعد شهر واحد من انتقالها للعيش هنا؟ لماذا هي هادئة لهذا الحد؟ وكيف لها أن تصبر على إلحاح وإزعاج جونغ-إن رغم كونه سميك الوجه و بطيء الفهم؟ كيف لها أن تكون منعزلة منقطعة و كتومة؟

نظرة الناس له ورأيهم ليست أشياء يهتم لها، ولا يحظى بحياة مملة ليبحث في حياة غيره عن عمد بقصد التسلية لكن .. قاطنة الشقة رقم تسعة هي الأقرب سكناً إليه، فكيف حدث أنها الأبعد صِلة؟

لابدّ أنها تظنّه سيئاً ولئيماً لتتحاشاه بهذا الحذر.

مُطلقاً لا يستطيع منع نفسه من الاغتمام و القلق والمبالغة بالتفكير بل ورسم الاحتمالات القريبة والبعيدة مهما سبب له ذلك صداعاً و زاد أحمالاً غير مرغوبة على أكتافه.

أدخل رمز القفل ودفع الباب لكن شيئاً ثقيلاً كان يسده من الناحية الأخرى فلم يستطع فتحه.

من عادات ابنته الصغيرة أن تجلس خلف الأبواب.

شعر أنه وصل حدود احتماله بالفعل، لاقدرة له على الصراخ بها أو توبيخها، ولاقوة في جسده ليدفع، وألف معركة يدور رحاها في عقله لذا أي حديث معها سيكون بلا جدوى.

جلس أرضاً و صندوقه، أسند رأسه إلى الحائط خلفه مستسلماً استسلاماً تاماً للهزيمة التي ألحقتها به الدنيا .. كانت الأرض باردة و المكان مظلم وهادئ ..

" إلى متى ستكرهينني؟ " عبارته كانت موجهة لكل النساء في حياته والحياة إحداها.

______



.
.

🌙

.

© Syram ,
книга «Moon Agony || EXO CHEN».
Коментарі