القبو السري
مر يومان على تلك الحادثة، أصبح الصمت سيد عليهما، لقد تحاشى ألفريد رؤيتنا طيلة اليومان، و البقية كذلك، صحيحٌ أننا أصدرنا جلبتاً منذ أن جئنا إلى هنا و لكن لا يسعنا الخروج و البحث عن مكان أخر نمكث فيه، أو حلاً لنعود به إلى زمننا، ولم أكن أريد أن أوهم عقلي بكل تلك الأفكار السوداء عن عدم مقدرتنا على الرجوع، صحيحٌ أنه عندما كنت صغيرة تمنية زيارة إنجلترا و لكن لم أرد أن أعود إلى زمن تنتشر فيه الحروب، وكما قالت أليس -و الذي أستطعت أن ألتقطه من ثرثرتها- أننا في مكان أفضل من العاصمة، فلو كنا هناك لنهالت القنابل علينا من السماء أمطاراً غزيرة.
أصابني أرقٌ شديد، لا أعلم لماذا، أو لأن عقلي أكتفى من الأفكار الشيطانية، التي بدأت تسكن مخيلتي و تأخذها مسكناً لها، مرت فترة طويلة قبل أن أقرر النهوض من فراشي، و بخطوات جعلتها قدر الأمكان خفيفة، أخترتُ ثوباً ساتراً أكثر من لباس النوم الخفيف، و نزلتُ السلالم ببطئ، لا أعلم في ما كنت أفكر، فقد كانت قدماي هي من تتحكم بي، أقتادتني إلى باب المطبخ، و الذي كان يصدر من أسفل بابه ضوء خافت علمت أن هناك شخصٌ في الداخل، فخمنت أنها أليس أو آني، فهما يعملان إلى وقت متأخر من الليل، فتحتُ الباب ببطئ ثم دلفتُ إلى هناك، لم أكن لأتصور أن الجالس على المنضدة المقابلة للباب سوف يكون هو.
كان مغمض العينين، و يمسك في يده اليمنى كأساً فارغاً، ويده اليسرى تتدلى من الطاولة. قال وهو يخاطب الواقف أمامه، بلهجةٍ فاجأتني :
- من يجرأ على أقتحام خلوتي.
ضحكتُ في سري، فمن يأتي ليختلي بنفسه هنا، في المطبخ، ويجلس على طاولةِ طعامٍ قديمة، و ينار المكان بضوءٍ خافت.
ألتزمت الصمت، وقلبي يسرعُ في نبضاته، عندما طال الوقت و لم يلقى مجيباً، تمتم بخفوت وصل إلى مسمعي : توماس إن كنت أنت، فعلم جيداً أنك لن ترجع إلى غرفتك كما جئت منها. ثم صمت، لا يزالُ أكافح حتى أستدير و أفتح الباب، كنت أوشك على فتحِ الباب، عندما صدرت حركةٌ مفاجأة من الجالس خلفي، وقد سمعتُ زحزحت الكرسي للوراء، ثم قال :((أنسة!)).
كان صوته يحمل دهشةً كبيرة، تصلبتُ مكاني، وما أستطيعتُ أن أفعله هو أصدارُ تنهيدة لا تكاد تسمع ولكن الواقف خلفي أستطاع سماعها، فسأل:((أتريدين شيئ؟))
،ألتفتُ إليه و أنا أوجه نظري للأرض، أبتعد عدة خطوات إلى الوراء حتى اسند جسده بحافة الطاولة القديمة، كان ينتظر أجابة، فقلت : (( المعذرة، حسبتُ أن هنا أليس أو آني)).
فقال:((هما ليستا متواجدتان الأن)).
فبررتُ سبب مجيئي قائلة :(( أنتابني رغبة شديدة في شرب الماء، فنزلتُ لأخذ كأس)).
فأجاب وصوت الشك واضح: ((ألا يوجد أبريق في غرفتكن؟ ))
فأجابت:(( بلى، ولكنه نفذ)).
و أثناء حديثي قام بأخذ كأسٍ من الدرج و ملئه بالماء، ثم ناوله لي، رفعت رأسي إليه و تناولتُ الكأس منه، و لكن لم أشرب منه، لحظات أستقرت عينيه علي، ثم تحرك و عاد إلى مقعده، أزاح الكرسي الذي بجانبه، ثم قال :((لا يجب عليك شرب الماء و أنتي واقفة هكذا)).
أمتثلتُ لأمره، وجلست على الكرسي بجانبه، أرتشفتُ قليلاً ثم وضعته على الطاولة، لم يتكلم أحدنا لوقت قصير،
حتى قال :((يبدوا أن الأرق قد أستولى عليك)).
فأجبته بتردد :((نعم، إنه يصعب علي النوم)).
ثم مرت فترةٌ أخرى من الصمت، كان منسجماً مع أفكاره لا يصدر أي صوت، سوى التنفس الذي بالكاد يسمع.
- "ماهي النصيحة المثلى، لشخصٍ فقد عائلته؟".
أنصتُ إليه، ولا أزالُ غير مصدقة لما قاله، حمل صوته رنة الحزن و الأسى، لم أرد عليه، لأن لساني قد ألجم بالكامل، أظنه قد شعر بالندم لقوله هذا الكلام، فقد غطى و جهه بكفيه، وأنا أراقبه، ثم أزاحهما وقد أحتدت نظراته،
لا أرادياً مني قلت له :"الدعاء!".
هز رأسه نفياً و قال: "لا جدوى من ذلك".
من الصعب إقناع شخص يائس ولكني حاولت،
((هل جربت؟))،
لم ينطق، كانت إجابتهُ واضحة، لم يفعل، فركت يدي ببعضهما و أنا أشعر بالتوتر مما قلت، لم ألبث أن أستقمتُ فجأة، نظر لي لوهلة ثم قام بدوره، فزعتُ كثيراً، وبدأت أرجع في خطواتي، و بدأت أفكاري تهلوس لي،
"ماذا سوف تفعلين "،
"إنك في مكانٍ وحيد مع رجل غريب"،
و ما إلى ذالك، أسرعتُ إلى الوراء أكثر، عندما لا حظت أنه ذهب لدرج المطبخ، ثم أخذ سكيناً حاداً، حدق النظر فيها، ولا أظنه يبالي لي، أرتطمتُ بجدار المطبخ، فاصل صغير بيني و بين الجدار، كان حامل الشموع، شعرتُ أنه غير ثابت، وهو قديم ولا أحد يستعمل الشموع الأن،
إلتفت إلي ثم قال :"أتعلمين، لقد وجدت الطريقة المثلى".
ثم لعب بالسكين بين يديه، وكأنه يرى السكين أول مرة، تقدم مني قليلاً، وقد أبقى مسافتاً كبيرة بيننا، و أبتسم أبتسامتاً بدت لي و كأنها حزينة، من شدة الهلع، مددتُ يدي إلى حامل الشموع، وما إن رآني حتى هم إلى التقدم، وبحركة سريعة وجدتُ أن حامل الشموع قد أنحنى و أصبح رأسه موجهاً لألفريد، و لم أشعر إلا بسطحٍ خشبي و هو يسحبُ إلى الأسفل، وظلامٌ حالك بعده، كانت الفتحة بعرض صغير مكنتي من فرد يدي على طولهما، و أنا أتنفس بسرعة، ووقفتُ على كعب قدمي، أسرع في وضع السكين على المنضدة و تجه نحوي، أمسك بيدي و ما إن توازنت حتى سحبتها ووقفت على مبعدةٍ منه، ركل الجدار - الذي بتُ أظنُ أنه من الخشب و ليس من الحجر - بعصبية، ثم تمتم بصوت خافت، لأول مرة رأيتُ الغضب واضحاً عليه، قال و نبرة صوته عالية : إياكِ و التفوه بشيء.
ثم عاد إلى الطاولة و جلس على الكرسي، لم أتحرك من مكاني، و أنا أُؤَأَنب نفسي على الورطة التي أقحمتُ فيها، مد يده و تناول السكين ثم قام و أرجعها إلى الدرج، و نظر إلي، أشحتُ بوجهي عنه، و أنا أشعرُ بالغباء الشديد فيما فعلت، أو بمعنى أدق كنتُ أشعر بالخجل من نفسي، تمتم قائلاً :"أسف".، ثم أتجه إلى ذلك الشق من الجدار، ومد يده ثم أضاءت مجموعة من المصابيح على الجانبين، ونزل إلى هناك و هو يقول :((أتبعيني)).
ترددتُ بالدخول إلى هناك، ولكن في النهاية أقتادتني قدمي لأنزل إلى هناك، كنت أتلمس الجدار البالي و التربة الملتصقةُ به وهي تتساقط مع كل لمسة لي، وصلتُ إلى قبوٍ كبير كان يقف في منتصفه، يعقد ساعديه و يتأمل مكتبةً كبيرة أمامه، تغير مزاجهُ سريعاً،
فتحدثَ بعد مدة :"هذه المكتبة تخصني!".
، ثم أقترب منها، و أنتشل كتاباً بغلافٍ رث و بالي، فتح إحدى صفحاته، وتمعن النضر فيها، لم تكن رواية، فعنوانها بدا لغزاً، ((الأبعاد الزمنية))، وكتب بالأنجليزية، أقترب مني ثم مد لي الكتاب،
وقال :" دائماً ما يخالجني شعورٌ أنكِ لستِ من هذا الزمن".
ذهلت وأنا أنظرُ إليه، وخفت أن يصدق فكرته، ويحدث شيءٌ سيء، ..فعاد بالنظر إلى الكتاب
و قال :" من الجميل أن يزورنا شخصٌ من زمنٍ مختلف".
تسائلتُ في نفسي كيف له أن يعرف، ثم نفيتُ لنفسي، "يمكن أن يكون من الكتاب".
قرأَ فقرتاً منه، وقد ذكر الدوامة فيها، وأنها معبر بين الأزمان في نقطة الصفر، لم يخفى عليه توسع عيني و دهشتها، وقد شعرتُ أنه قد فرحَ بهذا كثيراً،
قال لي : من المؤسف أن تلك الدوامة قد أخذت بناتِ ليدل و أستبدلتهن بكن،
ثم تمتم في خفوت :" غبيات، ما كان يجب عليهن اللعبُ بأغراضي.
ألتفت بسرعة إلي و قد توسعت عيناه، و أشعرني بالخوف و أنا أقبض على فستاني بقوة، تأملني قليلاً، ثم قال :" لا داعي للخوف، فالأمر بسيط.
تشجعتُ للكلام وقلت:"كلامك غيرُ صحيح!."
ضحك على ردي - و الذي في رأيه سخيف -،
وقال:" ألم تشتاقي إلى زمنك يا أنسة، أستطيع أن أعرف أنكِ تكذبين من عيناكِ، ثم صمت وهو ينظر لي، إزدادت قبضتي على فستاني بغضب، وقال بسخرية، ((تمثيلكن سيئٌ للغاية، يجب أن...)).
-كفى!!
صرختُ عليه، وقد دهش من ردت فعلي، نظرتُ إلى عينيه بغضب، ثم شعرتُ بعيني و هي تمتلئُ بالدموع، ما لبثت أن نزلت في صمت، كنت أحدقُ به، و هو ينظر إلي ثم وبحركةٍ سريعة أخفيتُ وجهي بين كفي، و بدأت شهقاتي المتألمة بالظهور، وهو لا يزال لم يتحرك، بعد مدة هدئت نفسي، وقلت و أنا أحاولُ كبح رنة البكاء في صوتي :"من الصعب على الشخص التأقلم على مكانٍ غريب في أسبوع،وإن كان أن تلك الفتيات هن السبب، فما ذنبنا أن نأتي إلى هنا!، ثم أعدت ُ الجملة الأخيرة في صوتٍ عالٍ له، أطبق صمتٌ طويل علينا لم نتكلم فيه، أعاد الكتاب إلى مكانه، ثم تقدم إلي و قال :" لا ذنب لَكُنْ..، و سأجد طريقة لأعادتكن.
⚡... ⚡
مرحبا..
بدأت القصة بأخذ منحنى جديد
وستبدأ بعضُ الأمور المبهمة في الظهور
نلتقي في الفصل العاشر
بإذن الله🌟.
Коментарі