المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
الوجه الآخر
الفصل 09: الوجه الآخر

              "لا بد من التعايش مع الندم.."
          **************************
كانت تلك الجلبة التي حرضها الانهيار الأخير عقِب انتهاء عملية إزاحة الأنقاض شرارة انفجار فوضى وتدافع رهيب، تدفعها الأعين الفضولية لرؤية ما أسفر عنه كل ذلك..
صبي قد لا يتجاوز عمره عقدا وثلاثة أعوام، أخذ يرمي برأسه عند كل فجوة متاحة قد يسع جسده النحيل أن ينسل منها، محاربا تدافع ذلك الحشد المهول، مضى بعزم ساعيا للتقدم أقرب إلى مركز الضجة حيث بدأ البعض بالثرثرة حول إنقاذ الناجين.. لا يرقب بصر مقلتيه البنيتين المغشي بهالة من الحيرة و القلق إلا أملا ضئيلا في العثور على أثر للشخص الذي ارتقب بحرارة نجاته..
سيدة في أواخر الأربعينيات قد بسطت التجاعيد نفوذها على ملامحها الحزينة و بشرتها الشاحبة، ذات شعر أشقر مشدود إلى الخلف وعينين ذواتي لون أخضر باهت، تسدل على كتفيها سترة رمادية مخططة تغطي ثوبها الأسود الطويل، بسيطةُ المظهر تناقضها المركبة الفارهة ناصعة البياض التي وقفت بجانبها ضامة قبضتيها إلى بعضهما، تحكم معانقة معطف صوفِيٍّ مزين بالريش فاخر الهيئة بين ذراعيها،  تدحرج مقلتيها حول أرجاء المكان في ترقب ووجل، وحينًا ما كانت تلتفت لترسل نظرات خاطفة محملة بشيء من الانزعاج و العتاب إلى الجانب بعيدا عنها ببضعة أمتار حيث وقف رجل أنيق الهيئة، مستقيم الأنف و الذقن وسيم الوجه، ذو شعر نحاسي مفرق على جانبي جبينه بعناية، وعينين زرقاوين جافتي النظرات وملامح باردة، لا يكلف نفسه عناء إظهار سوى نصف ابتسامة تجاه محدثه من حين لآخر، والذي كان لا يقل أناقة عنه في مظهره، بل لا بُدَّ أنهما يتشاركان الذوق ذاته في ارتداء البدلات الداكنة غالية الثمن، وكذلك، فمَهْمَا كان الحوار الدائر بينهما في تلك اللحظات، فقد بدى جليا أنه لا يَمُتُّ بِصِلة إلى الحادث بحد ذاته، بقدر ما هو يظهر اهتمامهما بحماسة حيال المبنى المنهار..
رجل كهل قد تجاوز الخمسين على الأغلب، قد بدأت خيوط رمادية تتسلل بين خصلات مقدمة رأسه، لحيته، و حاجبيه الكثيفين ذوَي اللون البني الداكن، المماثل للون عينيه متعبتَي النظرات الذي يشاركه ابنَه الأصغر صاحب الأحد عشر ربيعا، الفتى القصيرَ ذا الشعر الفاحم المجعد و النمش المتفرق على أنفه وجانبي وجهه، من ظل ملتصقا بوالده الذي أحاطه بسترته الصوفية وجعل يضمه إليه مربتا على كتفه بحنان عله يطرد ملامح الخوف و الرهبة من عيني الصغير. تجاوره شابة في العشرينات من عمرها، تشارك أخاها الأصغر سواد شعره و نظراته المنكسرة المتحسرة تجاه مشهد الكارثة الذي استقبلهم أول ما أدركوا المكان، تمسك بقبضتها المرتجفة هاتفها غير المطفأ، يحيطها شاب طويل القامة بذراعيه شادا على عضدها وكفها بصبر، أخذ يحدق في الاتجاه ذاته بملامح لا تقارب قلق مرافقيه في شيء، بل كان أقرب ما يكون إلى فضول يصارعه الضجر.. لم تتحرك تعابيره حتى انهارت الشابة أرضا و أخذت تشهق بحرقة دون أن تتدارك الدموع التي انفجرت كالسيل من عينيها فجأة..
.
.
كان من حسن بعض الأهالي المعنيين أن تم السماح لهم بتجاوز السياج المعدني الذي أحيط به الموقع لإبعاد المتطفلين.. من بينهم ماديسون، التي  انشرح صدرها وتهللت ملامحها بالبشرى بعد وقت عصيب أمضته تراقب في نفاد صبر ما إذا كانت كلمات بعض من حاولوا رفع سقف آمالها تحتمل التصديق، فبمجرد أن لمحت يلفيا يساعدها أحد رجال الحماية على تجاوز الآثار الناتئة المحيطة بفجوة خروجهم مادا يده إليها، ثم خلفها مباشرة إيفا التي تكفل عناء حملها من أسفل إبطيها و إنزالها أرضا مثل طفل صغير ذلك العون نفسه، حتى أفلتت يدي زوجها واندفعت راكضة بالكاد تلتقط أنفاسها، ممسكة بأطراف تنورتها الطويلة حتى لا تعيق حركتها..
أما أرنست فاكتفى بمشاهدة انتشال الناجين عن كثب، وقد تجلى على محياه مسحة من التفاؤل و انزاحت غمامة التوتر عن عينيه بعد أن أخذ صبره يتآكل من الترقب .. مع هذا، لا يمكن الجزم بأن تلك التعابير كانت تنم عن الارتياح على وجه الدقة، بل سريعا ما ضيق عينيه مصوبا نظراته الغائبة عن الواقع إلى منظر إيفا التي لم تلبث أن انفجرت باكية بعد أن أخذتها والدتها في حضنها وشرعت تقبل كل شبر من وجهها بحرارة..
ضم ذراعيه حول نفسه على سبيل طرد الوهن الذي انتاب جسده من خلف عنقه، لم يضايقه الجو البارد بعد أن نسي ارتداء سترته، بقدر ما ضايقه خياله الذي خطِف منه سعادة تلك اللحظة لما عاد ليمزج بين المواقف مستعرضا مشهدا مشوشا من أعماق ذاكرته دام أجزاء من الثانية لا أكثر، لألسنة من اللهب أخذت في التطاول حتى بلغت عنان السماء، صورة حريق مبهمة أخذت في التشكل أمام عينيه.. لم يكن الجو باردا، ولا تعابير السعادة تعرف طريقا لأي من تلك الملامح المكفهرة التي خيلت له أطيافها حوله، جل ما رآه كان كتلة من الرماد تلتهمها النيران على مد البصر..
لم ينتشله من سهوه في تلك الذكريات المشؤومة سوى أن بادره صوت مألوف مقاطعا .. "إنها في انتظارك، ألن تذهب إليها..؟"
التفت أرنست نصف التفاتة نحو مصدر الصوت،  و دون أن يظهر على ملامحه ذرة تفاجؤ، انزاح قليلا مفسحا المجال لمحدثه صاحب المعطف الأسود، ذي الطول الفارع ليقف بجانبه..
دون أن يجيبه بشيء محدد، انهمك الاثنان في التحديق نحو الأمام، يحشر كل منهما يديه في جيوبه، آخذين في مراقبة خروج الناجين واحدا تلو الآخر في صمت..
-"سيعتقلك غوستاف.."
نطق أرنست كاسرا حاجز الصمت الذي ساد بينهما للحظات، بعدما التفت قليلا موجها أنظاره ناحية جينوا المستلقية بوهن محمولة إلى سيارة الإسعاف على عجل، خلفها يلفيا التي جعلت تهرول خلف المسعفين حتى أدركت السيارة هي الأخرى لتنظم إلى ابنتها..
أجابه الآخر بصوت يشوب نبرته شيء من المزاح، راسما على ثغره شبح ابتسامة واثقة.. "لقد هددني بالاعتقال حقا... هل أنتما متفقان على هذا؟"
صمت أرنست للحظات مستسلما لبرودة أعصاب الأخ، ثم زفر بامتعاض و أدبر مضيفا بلهجة ساخرة "حقا؟ .. تبدو فخورا بما جعلتهم يمرون به.. أنت الآن تدين لهم باعتذار طويل ومفصل.."
-"لا تتسرع في إطلاق الأحكام، لقد اتضحت أمور كثيرة بعد ما حدث هذه الليلة... بل إن كل شيء يسير بشكل مثالي، أكثر مما تتصور.."
أضاف صاحب المعطف الأسود متحريا الثقة بوضوح في كلامه، و لكن تلك الثقة تلاشت بعدما رمقه أرنست بعينيه المذبلتين في ضجر مميلا أطراف شفتيه باشمئزاز..
-"لا تحدق بي هكذا... لن أعتذر أبدا"
-"أبله.."
-"متحذلق.."
-"لا تجعلني أبدأ.."
و حدث أن أوشك الإثنان على بدأ معركة شتائم لولا أن يدي إيفا الصغيرتين قاطعتا تلك المحادثة الغريبة بتلويحهما السريع و المتحمس تجاه والدها، ليلتهي في لمح البصر بمنظرها اللطيف بينما تشاركها ماديسون الابتسام محيطة إياها بذراعيها ..
إيفا لسعادتها استمرت في التلويح بلا هوادة باتجاه كل من كان في مرمى بصرها، حتى ما برح أشخاص عشوائيون صدف أن لمحوها تلوح لهم، يبادلونها التلويح و الابتسام.. بل إن إحدى السيدات أثناء مرافقتها لابنها، انتبهت إليها فأرسلت لها قبلة في الهواء..
ضحكة عفوية تسللت من بين شفتي أرنست بعدما لم يقوَ على كبح نفسه من إظهار ابتهاجه لرؤية فتاته الصغيرة بأتم العافية، أخذها بين ذراعيه و قبل رأسها بحنان ثم شرع يربت على شعرها المبعثر بلطف.. تاركا خلفه صديقه الذي استمر في مشاهدة لَمِّ شملهم شارد المُحَيَّا، حتى شعر بعينيها المؤنستين تراقبانه خفية خلف كتف والدها..
فرج ما بين شفتيه ورفع حاجبيه في ارتباك، خالجه شعور غريب بأنه مراقب من طرفها، فوضع كفه على رأسه لا إراديا نية إسدال قبعته على عينيه، حتى فاجأه ملمس شعره بدلا منها ليتذكر أنها طارت بعيدا منذ وقت ليس بالعيد..
فلم يكن منه إلا أن أخفض رأسه و رفع ياقة معطفه حول وجهه، ثم استدار ببطء نحو الخلف ليختفي تدريجيا وسط الحشد.. من غير أن يتيح لأي كان أن يلمح تعابيره المرهقة إثر استمرار نظرات إيفا الفضولية بملاحقته، أو أن يتيح لها السؤال عن هويته، فبمجرد أن التفتت لوالدها نية سؤاله حتى اختفى الرجل عن ناظريها فجأة، تاركا إياها تحملق في مكان وقوفه بِحَيرة..

******************************
-"ذلك الرجل هناك، هل سيحملني ثم ينزلني مثلما يفعل مع الفتيات؟"
وجه إيفان لأوليفر كلامه متسائلا بجدية، بينما يسيران بتؤدة حتى حافة الفجوة، حيث كان بالإمكان مشاهدة الكثير من الرؤوس تتحرك في كل الاتجاهات..
-"هل أنت بليد؟ اقفز وحسب يا أخي.."
-"لا، سوف يحملني."
قطب أوليفر جبينه في ضجر مستقبلا ابتسامة إيفان الواثقة بتجهم، ليجيبه بغير اكتراث "افعل ما يحلو لك، ولكن تذكر أنني لا أعرفك ولا تعرفني بعد يومنا هذا.."
قوس إيفان شفتيه و حنى حاجبيه في امتعاض لما بادره به صديقه من جفاء، كان قد أحس بالفعل أنه منزعج جدا حتى بعد خروجهم سالمين وانتهاء تلك الأزمة على خير.. ولكنه استمر في العبوس ومحاولة إخراسه عن إلقاء الدعابات هنا وهناك..
"يداك متقرحتان، لماذا لم تخبر السيدة والدة جينوا؟.. رغم أنها أصرت على الاطمئنان على حالنا جميعا.." تساءل إيفان بنبرة لعوبة بينما يطوي ذراعيه محدقا إلى يدي أوليفر بابتسامة نصر و حاجبين متعاكسي الاتجاه.. كونه قد أدرك الأمر الذي كان يجول في خاطره حتى انقلب معكر المزاج فجأة..
-"لم أنتبه.."
أردف أوليفر باقتضاب وقد ازداد تجهما، إذ أنه قد توقع بالفعل الموضوع الذي يوشك إيفان على جره للتحدث بشأنه..
"لم تنتبه؟.. غير صحيح، كان أمر نجاتنا يشغل بالك تماما، ولكن بعد أن انتهت هذه المعضلة، تفرغ ذهنك للتفكير في الأمر المعتاد.."
أضاف إيفان معقبا على محاولة أوليفر الفاشلة ليفتك منه.. ثم واصل راسما على شفتيه ابتسامة خبيثة لما لاحظ إجفاله واتساع عينيه .."هيا ابتهج، لقد صفَعَت يدك لا أكثر.. لستَ أسوأ حالا مني بعد كل شيء–"
لم يوشك إيفان على اتمام جملته حتى باغته أوليفر بدفعة عنيفة على ظهره، أخرسته و أنزلته طائرا من حافة المخرج ليَخرَّ أرضا واقعا على ركبتيه.. ثم تلاه أوليفر هو الآخر واثبا نحو الخارج دون أن يسحب كفيه من جيوب سرواله..
"ما رأيك إذن، لم تكن بحاجة لأن يحملك أحد.." أضاف أوليفر مبتسما بشماتة تجاه إيفان الذي ما أوشك يقع حتى انتفض قائما، آخذا في رمق رفيقه بخيبة..
******************************
لم تتوقف الريح عن العصف لثانية واحدة، منذرة باقتراب موجة الأمطار المعتادة قبل ولوج فصل الصيف..
.
.
تجاوزت فايوليت السياج بعد أن فارقت كايا، عندما لمحت هذه الأخيرة السيدة ذات المعطف الرمادي تلوح لها بحرارة بعيدا نسبيا عن مكان الاحتشاد فانطلقت راكضة نحوها في شوق منقطع النظير..
شرعت فايوليت تلتفت في الأرجاء بمفردها باحثة عن أي أحد من أفراد عائلتها، و قد أوقعها عدم اتصالهم بها هاتفيا طوال ذلك الوقت في حيرة أوشكت تستحيل إلى خيبة أمل لولا أن انتفضت خصل إحدى ضفيرتيها بغتةً، ثم شرعت في لطمها على وجهها منصاعة لعبث النسيم الآخذ بالتسارع تارة والتباطؤ تارة أخرى.. لتنفك و تنفصل في شكل ثلاث أشرطة سوداء متموجة أخذت تتمايل بعنف، فلم تدخر فايوليت وقتا وسارعت إلى فك ضفيرتها الثانية ثم جمعت شعرها بالكامل إلى الخلف حتى لا يضايقها..
عندما فرغت من ضمه في شكل ذيل حصان فوضوي الهيئة، عجلت إلى تفقد هاتفها المحمول، لتجفل مرة عندما أدركت وجود سبع وأربعين مكالمة معلقة، نصفها من والدها و نصفها الآخر من شقيقتها الكبرى.. إذ أنها تركت الهاتف على الوضع الصامت منذ أن بدأ الحفل دون أن تنتبه لإعادته إلى الوضع الطبيعي..
ثم أجفلت ثانية بانفعال أشد، لما طرق مسامعها صوت نحيب أختها المألوف مصحوبا بلعنة طويلة مفصلة تشارك في إلقائها كل من والدها وأخيها الأصغر سنا، آخذة أصواتهم في العلو شيئا فشيئا، لم تكد فايوليت تلتفت مفزوعة ناحيتهم حتى باغتتها شقيقتها من الخلف، فأخذت بكتفيها على نحو عنيف وحشرت رأسها كله أسفل عنقها، ثم أعقبت اندفاعها كلها بانسحابها أرضا على ركبتيها ساحبة جسد أختها معها، دون أن تتيح لفايوليت حتى فرصة لاستيضاح ملامح وجهها، و الذي كان متقرحا تماما خاصة أسفل جفنيها و آثار الدموع التي سطرت وجنتيها بعلامات محمرة بينما توشك عيناها المطابقتان لقرصي البن خاصة فاي على الاشتعال وقد انقلب لون البياض فيهما إلى دماء قانية، آخذة في الانتحاب بلا توقف حتى أدركها والدهما و ضم الاثنتين إلى صدره دون أن يضيف شيئا.. مكتفيا بكفكفة دموعه بطرف إبهامه..
لم تقو فايوليت على فتح عينيها إلا بعد أن فصل والدها بينها وبين أختها برفق، مسترسلا في التربيت على رأسها، مانحا لها المجال لتستجمع شتات أفكارها التي بعثرها اندفاعهم المفاجئ نحوها..
أول ما صادفها كانت نظرات أختها الكئيبة التي انقلبت ملامحها الناعمة على إثرها حتى أضحت لا تُعرف من النظرة الأولى، تتشابك خصلات شعرها الأسود الطلق حول عنقها و جبينها في هيئة مبعثرة على الأرجح سببها هبوب الرياح في اتجاهات عشوائية طوال تلك الأمسية.. اتسعت عينا فايوليت في ذهول، فهي لم تتخيل هذا الانفعال الشديد و لم تضع بالحسبان حدوث هذا الموقف، دحرجت مقلتيها يمنة ليصادفها منظر شقيقها الأصغر الذي أخذ يذرف الدموع ويبتسم في آن واحد، يضحك بصوت متقطع مثل من تتم دغدغته، فاقدا السيطرة على أحاسيسه بعد أن لم يعد بوسعه اختيار رد فعل واحد مناسب فأفلت مشاعره كلها دفعة واحدة.. ولا بد أنه رغب في لكمها بعنف لتأخرها في الرد على هاتفها وإفزاعهم على ذلك النحو، ولكن الكلمات خانته فلم يسعه النطق بحرف، ليكتفي بسحب مخاط أنفه بصوت مرتفع كل بضع ثوان..
ثم دحرجتهما يسرة لتقابلها نظرات عيني والدها الدامعتين الملتحمتين بحاجبيه المعقودين في حزن، كانت كفيلة بجعل كيانها يهتز بعنف لما انتظمت أفكارها في سلسلة متلاحمة أعقبت عليها تفسير تلك النظرات المنكسرة التي غزت ملامح أعزائها.. لقد عانوا الفقد مرة، ولم يعد بوسع أفئدتهم المجروحة مجابهة ألم فقدان فرد عزيز مرة ثانية..
انتابتها رغبة صارخة في ضرب رأسها في الأرض لما اصطدمت بواقع أنها أثناء انشغالها بأمور الاختبار والحفل وتلك المسؤوليات، لم تفكر بأمر أسرتها، بينما كانوا هم يدافعون أرواحهم حتى لا تغادر أجسادهم خوفا وحزنا عليها، بل لم تسترسل دموعها إلا لشعورها بالذنب الشديد..
"أنا.. آسفة.. سامحوني أنا... لم أرغب في حدوث هذا–"
كانت تلك الكلمات المتقطعة التي أخرجتها من حلقها بصعوبة آخر ما وَسِعها قوله قبل أن تُخرسها الغصة عن قول المزيد..
انحنت و ضمت كفيها على وجهها حتى تخفي عبراتها عن أنظارهم، لذا كان من المؤنس لها أن ضمتها أختها إليها بعد أن هدأ روعها واستعادت عيناها شيئا من البهجة، ثم انضم إليهما شقيقهما الأصغر مكفكفا دموعها و آخذا برأسيهما يفركهما بحماسة راسما على ثغره ابتسامة عريضة زينت وجهه محمر الوجنتين،  كشفت عن أسنانه التي تخللها فراغ نشأ عن سقوط ضرس ما..
أحاطهم الأب بذراعيه لبرهة حتى كفت فايوليت عن إصدار شهقات متقطعة إزاء فراغها من البكاء.. ساعدها على الوقوف و خلع سترته المنتفخة ليلفها بها مثل شطيرة بوريتو..
حينها تقدم أخيرا الشاب الذي كان برفقتهم منذ البداية، وقد كان ينأى بنفسه عنهم متجنبا الوقوع في حرج ما إذا ضايقهم من دون قصد..
وقف مقابل فاي وانحنى قليلا ثم أردف صانعا ابتسامة بلاستيكية بشفتيه دون أن يتحرك شيء غيرهما في وجهه و استرسل قائلا بصوت هادئ ورزين "هنيئا على سلامتك فايوليت، لقد قلقت عليك كثيرا.." ..
و بمجرد انتهائه من قول ذلك اعتدل في وقوفه و ابتعد عن طريقها دون أن يضيف شيئا، لقد تجاهلته فايوليت بالكامل..
-"فايوليت، لما لا تردين على مورغان؟.. لقد قلق عليك حقا يا عزيزتي"
أردفت شقيقتها محاولة قول ذلك بصوت منخفض حتى لا ينتبه ذلك المدعو مورغان.. ولكنه استمر في تتبع سير فايوليت البطيء حتى توقفت إثر كلمات شقيقتها المحرجة، ولفت وجهها المغطى تماما بقلنسوة معطف والدها نصف التفاتة باتجاهه، لترمقه بملامح عابسة وعينين باردتين تحملان في نظراتهما بغضا هائلا تجاهه..
هو على نحو ما لم يلق بالا لذلك و أردف بابتسامة أوسع و صوت أكثر نشاطا بينما يقترب بخطى سريعة باتجاه شقيقتها، مربتا بكفه بين كتفيها برفق..
"لا عليك يا ستيلا، لقد مرت عزيزتنا فايوليت بوقت عصيب، لا بد أن نسمح لها بأخذ قسط من الراحة"
بادلته ستيلا بابتسامة خجولة ثم عادت لتحيط فايوليت بذراعيها لترافقها هي وشقيقهما الأصغر إلى سيارة خاطبها، محاولة قدر ما استطاعت أن تلقي تجاهه ابتسامة من حين لآخر على سبيل ترقيع عدوانية فايوليت غير المبررة نحوه..
-"أرجوك اعذرها يا بني.. إنها تمر بمرحلة صعبة"
أدبر والد فايوليت، السيد براندن هارتويغ، مبررا للشاب في استياء جلي الوضوح على تعابير وجهه..
-"لا تقل هذا ياعم، إن فايوليت مثل أختي و أنا أقدر ما تمر به، أرجو لها أن تتحسن قريبا.." أردف مورغان بنبرة بالغة الأسى نية إظهار شيء من التعاطف تجاه براندن، الذي ما لبث أن أضاف معقبا بينما تلاحق عيناه منظر أبنائه الثلاثة في شرود يغلب عليه الغم والجزع..
-"أرجو ذلك.."
.
.
******************************
"إيزابيل!.. إيزابيل!!"
انحنت السيدة ذات المعطف الرمادي عندما طرق أوتار قلبها قبل أذنيها هتاف كايا المبتهج لدى رؤيتها لها من على بعد مسافة معتبرة، و لولا أن خانتها ركبتاها اللتان نخرهما التهاب المفاصل لَهَبَّت نحوها راكضة بدورها، ولكن لم يكن بمقدورها سوى استقبال الفتاة مادة ذراعيها نحوها بشوق تجمع في هيئة دموع أحاطت بمقلتيها وأوشكت على الانفلات..
"حبيبتي!"
صاحت إيزابيل مردفة على نداءات كايا التي أوشك صوتها يتلاشى كل ما اقتربت منها، حتى ارتمت في أحضانها الدافئة، فأحكمت ذراعيها حول جسدها الضئيل و شرعت في التربيت على ظهرها بكفيها حتى أيقنت أنها دفأت أطرافها المتجمدة كما ينبغي..
"سيدتي الصغيرة!.. لقد أوشك نبض قلبي يتوقف من الخوف، هل أنت بخير؟ هل أصابك مكروه ما؟"
تساءلت إيزابيل بإلحاح، آخذة رأس الفتاة بيديها الاثنتين بينما جعلت عيناها تتفحصان ملامح كايا التي غشيتها ابتسامة هادئة..
هزت كايا رأسها نافية، ثم وثبت حتى عادت للتعلق بعنق إيزابيل، مدغدغة أذنيها بكلماتها المشجعة التي تخللتها قهقهة ظريفة .. "أنا بخير تماما إيزابيلا! لن تصدقي ما حدث لنا.. أنا متحمسة لأخبرك بكل شيء!"
تلك الكلمات قد سرقت شيئا من سعادة إيزابيل و رمتها في مكان ما. لم يكن غريبا عليها تمييز تلك النبرة الزائفة  عندما تشرع كايا في التظاهر بأنها بخير طوال الوقت ببراعة فائقة، ولكن ما فاق مشاعر الحسرة التي أوشكت تداهمها، شعورها بالحيرة و الاستغراب، كونها لم تتوقع أن لا تُظهر كايا أي تأثر أو صدمة من حادث فظيع مثل ذاك الذي نجت منه للتو..
رغم كل شيء، فهي تضع مشاعر كايا فوق كل شيء، لذا بادرت بأخذها في حضن لطيف آخر، هازة رأسها بإنصات إلى ثرثرتها المتحمسة دون أي امتعاض.. حتى باغتتها بصمت مفاجئ قاطع حديثها في منتصفه..
وقفت الكلمات في حلق كايا عندما أزاحت نظراتها نحو الجانب فضولا لا غير، اتسعت عيناها بينما ترقبان بنظرات مغرقة في السعادة والدها الذي كان واقفا مكانه بعيدا عنها بأمتار قليلة، مستمرا في محادثة مرافقه دون أن يلاحظها..
"بابا هنا أيضا!"
أردفت بصيحة متحمسة، ثم أفلتت عنق إيزابيل و اندفعت راكضة باتجاه والدها دون أن تسمح للسيدة بتدارك الموقف، فلم يسعها إلا أن تمد يدها نحو كايا صارخة عليها بصوت مضطرب لتعود إليها.. ولكن الفتاة كانت أشد تَوْقا إلى والدها من أن تنصاع لطلب السيدة، لذلك هبت إيزابيل من مكانها و حاولت الاسراع قدر ما أمكن لساقيها أن تسرعا حتى تلحق بكايا، و قد كانت ملامح التوتر التي ارتسمت على تعابيرها نذير شؤم حرصت على عدم إظهاره منذ البداية..
.
.
-"ما رأيك يا هورسن، يمكنني بيع العقار بضعف القيمة التي اشتريت بها المبنى الآن، عرفت أنها صفقة رابحة.."
استرسل قائلا، ذلك الرجل صاحب التسريحة البديعة، ريثما يقوم بتعديل كُمِّ سترته بلياقة..
عندئذ أردف محدثه، كهل أشقر يفوقه طولا، بينما يتفقد هاتفه الحديث من آخر طراز بنظرات متبرمة..
-"لقد تأكدت مما سمعناه قبل قليل، لقد كان المبنى مستهدفا من البداية حقا.."
-"إذا هنيئا، لقد تخلصنا من عائق.."
أضاف الأول مشيحا عن موقع الحادث ليرمق صاحبه بابتسامة انتصار لا تكد تظهر.. صمت برهة منتظرا من صاحبه أن هز رأسه مهمهما بغير اكتراث، فقط ليتأكد من أنه يستمع إليه..
لم يبدُ على ملامحه الباردة أنه عبئ بردة فعل الآخر، بل واصل كلامه بعدما قطب جبينه بانزعاج..
-"ويا للمغص.. تريد الشرطة أخذ بعض الإفادات مني في الغد .."
هز الأشقر المدعو هورسن أحد حاجبيه في في امتعاض هو الآخر بينما شرع يفرك ذقنه الملتحي، لتنقلب على ملامحه ابتسامة نصر بادر بها الآخر قائلا بشيء من الحماس "ذلك لا يعد شيئا أمام الأرباح الطائلة التي ستنهال عليك مثل الأمطار، أنت حقا وغد محظوظ يا جون، أتطلع لمعرفة مبلغ التأمين–" .. ولكنه قطع حديثه لما سمع صوت كايا الباهت قريبا منهما عندما نادت والدها في خجل.. "بابا؟"..
لمح هورسن أطراف ثوبها الأحمر خلف جون، عندها أزاح رأسه قليلا ليقابله مظهر كايا التي اتضح أنها بقيت واقفة مكانها طوال الوقت، ترمقهما بخجل لم تعرف بسببه كيف تقاطع حديثهما..
-"همم؟... من هذه الطفلة.."
نطق هورسن مستفسرا، عندها أدار جون عنقه بمقدار ضئيل قدر ما تسع عينه الشوساء أن تلمح كايا.
أغمض عينيه للحظة قدر ما أفرغ رئتيه في زفرة سريعة، ثم ضم قبضة يده بالقرب من شفتيه مصدرا حمحمة مقتضبة نية الاستئذان من هورسن .. التفت بعد ذلك بالكامل نحو كايا، لم ينحن و لم يكلف نفسه عناء إخراج يديه من جيوبه، أو حتى إظهار تعبير طفيف عن اهتمامه بما تريد قوله، بل لم يعقب عليها سوى بحركة بسيطة من رأسه بينما استمر في حدجها من الأعلى بنظرات لا تصل درجة البرود أو الجفاء، ولكنها لامباليةٌ بشكل يثير السخط حقا..
-".. لقد.. لقد جئت لأطمئنك.. إنني بخير الآن لذا لا تقلق علي!"
استطردت كايا بقدر ما استطاعت إظهاره من شجاعة علَّ ملامح أبيها تتحرك شبرا، مزيحة عن تعابيرها البريئة ذلك التوتر والخجل الذي خالجها بصعوبة... ولكنها لم توشك على إنهاء كلماتها تلك حتى رفع جون رأسه مشيحا بأنظاره خلفها، حيث قابلته إيزابيل التي جاءت تركض مستنفرة حتى استقر كفاها على كتفي كايا..
-"آسفة سيدي! أرجوك أعذر الآنسة.."
استطردت إيزابيل بشيء من التوتر وصوت مهتز خشية أن يوبخها الرجل، ولكنه ظل صامتا يحدق بنفاد صبر إليها..
اقتربت من كايا ريثما تسبل لها معطفها الأبيض ذا الريش الناعم على كتفيها ثم همست لها بصوت حاولت أن تجعله مسموعا لجون، فقط كي يتفهم محاولتها الحريصة على إقناع كايا بعدم إزعاجه..
-"عزيزتي.. ليس من الصائب مقاطعة والدك، إنه يجري محادثة مهمة"
وقع تلك الكلمات أحدث هزة كالزلزلة في عظام كايا، اتسعت عيناها في عجب وذهول من ردود الأفعال غير الطبيعية التي لاقتها.. ولكن تعابيرها سريعا ما استعادت ذلك الإشراق المزيف عندما بدأت مشاعر الشفقة والغيض تغشى نظرات إيزابيل الحزينة تجاهها، لتضيف بصوت مباشر ومرتفع، مخفية بكفها ابتسامة دلال واسعة..
-"أوه! آسفة، لم أعلم أنني أقاطع أمرا مهما يا أبي العزيز، تصبح على خير إذا!"
ثم صدته بظهرها دون انتظار رده، فهي على علم مسبقا بأنه لن يكلف نفسه عناء ذلك..
كان ظنها في محله، فهو قد عاد للثرثرة حول أرباحه وجل الهراء المتعلق بها، حتى أنه تظاهر بالعمى عن تعابير هورسن المتعجبة، والذي ما لبث أن انضم معه إلى الحديث ذاته مجددا متناسيا ما رآه للتو..
مضت إيزابيل في أعقاب خطوات كايا الثابتة والمتسارعة نحو السيارة دون أن تنبس بحرف.. كايا بدورها استمرت في الإشاحة بوجهها عن إيزابيل قدر المستطاع، مخفضة رأسها الذي أنزلت عليه قلنسوة سترتها حتى أضحى مظللا بالكامل تقريبا..
ريثما تشير إيزابيل للسائق بالانطلاق، عجلت كايا إلى سحب هاتفها بعدما أن جلست باعتدال على أحد المقاعد الخلفية للسيارة دون أن ترفع القلنسوة عن رأسها، ثم شرعت في تدوين رسالة نصية، تتخاطف أصابعها مواقع الأحرف على لوحة المفاتيح بسرعة رهيبة حتى انتهت من تدوين أسطر عديدة في وقت لا يتجاوز بضعة ثوان.. أما إيزابيل، فاقتصرت على تثبيت بصرها إلى الأمام، في مسعاها العسير إلى عدم النظر في وجه كايا مهما حدث، ولكن عطف قلبها كسر الرهان عندما التفتت فضولا، حتى ارتجت مقلتاها لما لمحت قطرات متلألئة أخذت تصفع شاشة الهاتف تباعا، ثم تنزلق تاركة المكان للاحقاتها التي شرعت تتهاطل من بين أجفان كايا محكمة الإغلاق. جعلت تحاول في تعسير أن تكتم صوت أنفاسها المهتزة، راصة على أنيابها بعنف و ضامة حاجبيها المهتزين على أمل أن يوقف ذلك الضغط تدفق تلك العَبرات التي تمقت إحساسها الدافئ على وجنتيها مقتا عظيما..
******************************

-"أشعر وكأنني في مهرجان"
استطرد إيفان بلكنة متناعسة مشيرا إلى الوميض الملون و الضوضاء العشوائية التي سيطرت على عموم المكان، ريثما يسحبه أوليفر من معصمه و السأم يأكل رأسه من مشية رفيقه المتثاقلة..
-"لا أرى جدتك.."
نطق أوليفر متسائلا بعد أن كف عن السير فجأة وجال بنظرة سريعة على مرمى البصر..
لم يجب إيفان إلا بعد أن صدم رأسه في ظهر أوليفر كونه آخذا في الترنح مطأطأ الرأس من التعب حتى لم يلحظ توقفه عن المشي..
-"لا بد أنها نامت قبل ساعتين الآن.. لحسن الحظ أنها لا تتابع الأخبار.." 
في الوقت ذاته الذي أخذ فيه أوليفر يحاول طي ذراعه للخلف حتى يتأكد من سلامة عموده الفقري بعد تلك النطحة، أردف بنبرة عتاب لا تقل تراخيا عن إيفان ..
-"إذا كف عن التغافي هكذا و سر باعتدال، أتتوقع مني أن أحملك إلى البيت هكذا؟"
-"ليتك تفعل.."
قال إيفان، ثم أضاف بعد أن تثاءب لنصف دقيقة فاتحا فاهه على مصراعيه في وجه أوليفر، وقد بدأت عيناه بالتدميع.. "سأدفع لك.."..
ثم رفع رأسه قليلا حتى يرى ما أمر صديقه الذي صمت و لم يبد أي رد، حتى ألفاه يحدق في اتجاه مخالف، لا يظهر منه سوى نصف وجهه الذي استطاع أن يتبين ملامحه الشاردة و المتفاجئة في الوقت ذاته..
شعر إيفان ببعض الطاقة من فضوله تجاه ما يرمي إليه أوليفر بتلك التعابير المندهشة على نحو مضحك في نظره، ليحرك رأسه أعلى قليلا حتى وقع بصره على فتى قصير القامة ذو شعر بني فاتح مسرح لأعلى، يقف أمام أوليفر مباشرة، ليس بينهما سوى بضع خطوات.. آخذا في التحديق إليه بوجه غاضب جدا دون أن ينطق بحرف هو الآخر..
.
.
"آشتون؟"
تساءل إيفان بشيء من الذهول جعل حاجبيه يرتفعان بسرعة، ثم أضاف هامسا بعد أن لف وجهه ناحية أوليفر "ظننتك لم تخبر أحدا بأنك هنا.."
.
-"لماذا تركت هاتفك في البيت؟! .. هل تعلم كم الساعة؟ إنها العاشرة ليلا!"
أدبر ذلك الولد ذو التعابير الغاضبة بصخب شديد رافسا بقدميه الأرض في عنف و سخط.. وقد كان يوشك على مواصلة الصراخ بغضب في وجه أوليفر ولم يتوقف إلا ليلتقط أنفاسه، فريثما انهمك في ذلك، باغته أوليفر وسحب رأسه إلى صدره ثم أحاطه بساعديه مقحما وجهه في مقدمة رأس آشتون..
ابتلع الفتى آشتون كلماته وتسمر جسده في وضع متأهب، مسدلا ذراعيه في الهواء تفاجؤا بما فعله شقيقه الأكبر للتو.. ثم ماهي إلا لحظة مرت حتى شرعت أنفاسه في الارتجاف وأوشك على الإجهاش باكيا، ولكنه صمد واكتفى بالتمسك بسترة أوليفر محكما قبضتيه عليها من الخلف حتى أوشك يحدث فيها ثقوبا..
-"أنا هنا أمامك الآن، ليس عليك القلق حيال أي شيء.."
تلفظ أوليفر بتلك الكلمات القليلة أثناء عبث أطراف أصابعه بفروة رأس آشتون، ثم أتبع قوله بهدوء تام جمع بين نظراتهما المتشابهة للحظات.. عل قول إيفان بينه و بين نفسه أثناء تحديقه إليهما وافيا بالوصف حينما بادرت ذهنه فكرة مثل 'أوليفر الكبير وأوليفر الصغير' أثناء تحليق الأزهار حول رأسه من تأثره بخفة روح أوليفر عندما يصبح في وضع الأخ الأكبر اللطيف..
أمسك أوليفر بكتفي آشتون ورَجَّه مازحا ..
-"أنت لم تخبر أمي أو أبي كما اتفقنا، صحيح؟"
عندها عاد آشتون إلى تعابيره الغاضبة ولطم أوليفر على ساعده قائلا باحتدام "سوف أتعرض للتوبيخ بسببك.. خرجت من المنزل دون إذن، لو أخبرت أمي بما حدث لتوقف قلبها.. أنت غير مسؤول.."
صمت أوليفر واستمع بإنصات في حضرة تذمر آشتون وعتابه المبالغ به حتى أصبح في دور الضحية بدلا منه، إلى أن أوشكت أنفاسه تنقطع من استمراره في البقبقة حتى ضجر أوليفر وأضحى من العسير عليه عدم تجاهله خاصة وأنه كاد يغمى عليه من النعاس، لذا اغتنم الفرصة عندما صمت آشتون ثانية، فهو لا يكف عن الهدر إلا إذا انقطع نفسه ..
-"لقد حصلتُ على حصتك و حصتي و حصة الجميع من التوبيخ حتى .." ..
أطرق أوليفر قليلا دون أن ينهي ما كان يوشك على قوله، ثم أردف بنبرة هائمة لا تكاد تُفهَم بينما شرع يحدق في السماء مضيقا عينيه على منظر لا شيء: "..لا أعرف كيف أنهي هذه الدعابة.."
هز إيفان كتفيه مقهقها ثم اندفع ساحبا أوليفر من مرفقه ليخرجه من سهوه ..
-"أنت بحاجة للنوم!"
التفت أوليفر ببطء شديد إليه، ثم رفع أحد حاجبيه عن عينيه اللتين بدأ جلد أجفانهما في التقلص و الذبول مظهرا على ملامحه عبوسا ساخرا .. حدق إيفان في وجهه مليا قبل أن يتراءى له أن يحول بصره إلى قدميه اللتين أمسى لا يعرف كيف يحركهما، لينطق معترفا ..
-"أنا بحاجة للنوم.."
ثم تثاءب إيفان، وتثاءب أوليفر، وتثاءب آشتون و انتهى ومازال الآخران يتثاءبان حتى قاطعهما مشيرا إلى ملابسهما المتسخة: "من الأفضل أن تسرعا بنفض هذا الغبار، يستطيع الأعمى تمييز ما حدث لكما.."
ثم مضى ثلاثتهم في اتجاه واحد محددين وجهتهم على الطريق الرئيسي المُعَبَّد.. أثناء سيرهم أخذ كل من أوليفر و إيفان بنفض ثيابهما من دون جدوى، بل إن آشتون الذي كان يسير بينهما قد أضحى ناجيا من حمام إسمنت هو الآخر. كذلك بين فينة وأخرى يصفع أحدهم قفى الآخر نية نفض شعره من الغبار ولكن سريعا ما تحول الأمر إلى معركة بين أوليفر و إيفان حول من يرد الصفعة أولا، و لم يعبأ آشتون بفكهما بل واصل السير متبرم التعابير، فلا أحد منهما كان قادرا على رفع ذراعه حتى.. أفضل ما قد يقال في وصف ذلك الاشتباك المثير للشفقة بينهما، هو أن ما يفعلانه يصلح كمشهد في أحد أفلام الأحياء الأموات..
على كل حال، لم يكن هناك أي شيء قد يستثير أي نوع من الشكوك تجاه مراهقين يترنحان في منتصف الطريق حتى أوشكت سيارة ما أن تدهسهما، ولكن لأوغست لُوِي رأي آخر..
لم يبعد ناظريه عنهما مذ أن تخطيا الحافة التي أحدثتها جرافات الانقاذ تلك.. لا هما، لا كايا، لا فايوليت ولا حتى إيفا، بالطبع.. لم تسلم أعقابهم من نظرات أوغست المرتابة، كان يقف قريبا من إيفا ووالديها، قريبا جدا.. ولكنه نأى بوجهه عنهم طالما ما يزال بوسعه تداركهم، و استمر في مراقبة كل من البقية على حدى..
'ابنة الطبيبة مصابة بكسور ولكنها لا تعاني من أي رضوض واضحة، حتى إذا حاولت تخيل ما حدث لها، يستحيل أن تنجو من كل الاحتمالات التي رسمتها مخيلتي.. إذا كانت هناك صلة قرابة بينها و بين أليسيا سيلفاني فلربما قد تكون شكوكي في محلها.. إذا كان فرعهم هو الفرع المكلف بالحراسة لربما..'
التقط أوغست نفسا عميقا و حاول أن يهدئ أعصابه قليلا بعد أن أوشك ألم حاد على طرق جبينه، كونه صادف طريقا مسدودا في تفسير ما حدث لجينوا بالضبط.. أطرق مجددا يفكر في مزيد من الاحتمالات بينما يراقب ابتعاد السيارة البيضاء التي تقل كايا ..
'تلك الطفلة هي ابنة جون فالكفوردت، ذلك الرجل قام بشراء المبنى دفعة واحدة رغم أنه كان بوسعه كراؤه فقط بما أن المناسبة ليست سوى حفل ذكرى ميلاد.. أشعر وكأن نظرات النشوة والانتصار التي تعلو ملامحه لا تنبئ بنوايا حسنة، ومع هذا ... أستبعد أن يكون له يد في ظهور هادرة هيغل من العدم، إنه ليس غبيا ليورط نفسه في مثل هذه الحركات المشبوهة..'
بتر أوغست تلك الفكرة لينشغل تاليا بالتحديق إلى فايوليت و أهلها يستعدون لمغادرة المكان، فبمجرد أن انطلقت السيارة حتى لمحها ترسل تلويحا خفيفا ردا على إيفان و أوليفر اللذين صادفاها يسيران على حافة الطريق..
'هارتويغ.. أعتقد أنها جزء من هذه المجموعة أيضا فقد ظلت متمسكة بابنة فالكفوردت طوال الوقت، و ها هي ذي تلوح للولدين .. إذا فجميعكم جزء من الفريق ذاته.. فالكفوردت، فانغارد، راينهارد، هارتويغ، سيلفاني .. وأخيرا..'
أشاح أخيرا بوجهه بعد أن اختفى محسوبوه عن الأنظار، فلم يتبق بقربه سوى إيفا.. ضم فكيه في امتعاض لعدم قدرته على تنفيذ مسعاه السابق في التحقق من أن الذهبي في عينيها لم يكن وهما، لِعِلَّة التفاتها في الاتجاه المخالف له، فلم يكن له إلا استيضاح شيء من ملامح أرنست فقط..
'سييف إذن؟'
أتم باسم عائلتها "سييف" عدّ أولئك الستة، ثم ضم قبضتيه في ثقة وعقد العزم على استجواب أرنست حتى يصل إلى عظامه.. ولكنه أدرك متأخرا أنه أغفل حذره حينما أخذ يقلب حدقتيه بين ملامح إيفا و البقية مرارا بحماسة واهتمام حتى فاجأه أرنست بإشارته لماديسون و إيفا بالعودة إلى السيارة، فهو لم يبرح مكانه إلا لاستغرابه من وقوف أوغست خلفهم دون حراك لمدة تجاوزت عشر دقائق..
استمر أرنست في مراقبة إيفا وماديسون تسيران بهدوء دون أن تلتفتا كما طلب منهما، حتى ولجتا إلى سيارته الرمادية التي كانت مركونة بطريقة غريبة وسط الساحة الخارجية للبناء.. أحس أوغست بحبات العرق توشك على التشكل أسفل عنقه ريثما يراقب ما ينوي أرنست فعله بعدم اللحاق بزوجته وابنته، حتى أجفل وفك ذراعيه المطويتين لا إراديا من تفاجئه لما كف أرنست عن الوقوف دون حراك والتفت إليه نصف التفاتة، حادا إليه نظرة جانبية بعينيه الرماديتين المتسعتين بشكل مخيف..
حبس أوغست نفسه لبضع ثوان حتى يتدارك الحرج الذي وقع فيه، ثم لفظه بهدوء تزامنا مع خلعه تلك التعابير المندهشة عن ملامحه، حنى شفتيه لأسفل وهز حاجبيه بشيء من الأسف ثم استرسل قائلا بصوت أجش بعد أن عدل وضعية وقوفه، واضعا كفه على خصره و جاعلا أصابع الكف الآخر أداتي تدليك سريعة لطرفي حاجبيه..
-"لقد لاحظتني بالفعل.. كان يجب علي أن أكون أكثر حرصا على ما يبدو.."
فترت نظرات الشك التي رمق بها أرنست محدثه بعدما رآه من رزانة تعلو ابتسامته الباهتة.. فأردف عليه مخففا حدة لكنته حتى يتسنى له فهم ما يرمي إليه من غير تعَجُّل..
-"أتساءل حقا، ما الذي يثير اهتمامك بشأننا لهذا الحد؟"
اقترب أوغست بضع خطوات حتى يتأتى لأرنست سماع ما أوشك على الهمس به حرصا على إبقائه بينهما لا غير.. "أعتقد أن عليك فعل شيء حيال عيني ابنتك، لن تحزر من قد يتربص بها"
ثم تراجع مباشرة وعاد ليطوي ذراعيه أمام صدره، وواصل حديثه بينما أخذ يفرك ذقنه مقلبا عينيه في الهواء، دون أن يلحظ بعد أن أرنست قد تجمد من الصدمة..
-"نظارة داكنة، أو ربما عدسات ملونة، هناك عدد لا بأس به من الحيل التي قد تساعد–"
-"من أنت؟!"
عادت تعابير الشك و الذهول لتعلو مُحَيَّا أرنست حينما استطرد مقاطعا في وجه أوغست باستنكار..
أطرق أوغست محدقا إلى وجه أرنست بملامح جادة لا تنم عن الكثير من الرضا لنسيانه أمرا مهما كالتعريف عن نفسه، مد يده ليصافح أرنست قائلا:
-"أعتذر حقا، نسيت أن أعرفك بنفسي.. أدعى أوغست لوي، لقد سبق وعملت في قصر سفانهيلد منذ سنوات عدة و تعاملت بما يكفي مع أصحاب العيون الذهبية حتى أستطيع تمييزهم عن غيرهم كما تعلم.."
طرفت عينا أرنست بضع مرات بعدم تصديق، حدق فيه معقود الحاجبين كأنه يحاول تذكر أمر ما، ثم سريعا ما انتفض مندهشا ومد كلتا يديه ليصافح أوغست، قائلا بإعجاب جلي ..
-"لقد عرفتك! إن اسمك مذكور في كتاب إيفيلين ليتوفيتشينكو، المقطع الخاص بالجيل الرابع، ألست محقا؟!"
انقلبت الأدوار بينهما و أصبح أوغست هو المتعجب الآن، اتسعت حدقتاه وتجعد جبينه  من الحيرة..
-"و من تكون يا أرنست سييف؟"
هدأ أرنست من اندفاعه وحمحم بهدوء، ثم أجابه عن تساؤله بينما تعلو ملامحه تعابير في غاية الجدية..
-"أنا هو كاتب الجيل الخامس.."
.
.
نظرة ازدراء ألقت بظلالها على عيني المحقق بينيديكت الداكنتين، أخذ يوجهها بلا كلل ناحية أرنست و أوغست، أثناء انهماكه بإجراء مكالمة هاتفية، وقد كان متكئا بتراخٍ على سيارة الشرطة المتوقفة بعيدا عند حافة الطريق.. يصمت تارة ليترك للطرف الآخر زمام الحوار، ثم يعود للابتسام بخباثة والتحدث بلكنة ساخرة، يندم في كل مرة على اعتمادها أثناء حديثه في الهاتف مع ذلك الشخص المحدد..
"لقد عثروا عليها مسحوقة تماما.. أعتقد أن حجمها كبير جدا على أن يتم سحقها بتلك الطريقة بواسطة حطام السقف وحسب... نعم.. نـ..نعم... ذلك المحتال؟.. لم ألمحه و لكنني أرى أحد أتباعه يتحدث إلى رئيس مصلحة الحماية المدنية.. ربما يترجاه كي– ... ما–ماذا؟... لقد تم إخراج خمسة أشخاص برفقتها... أنا متأكد من أن عدد الناجين ستة أشخاص وليس سبعة... حسنـ–..."
صمت المحقق برهة والهاتف الذي استمر في إصدار صوت صفير متقطع ما يزال محشورا داخل قبضته المرتجفة، و قد طفقت عروق عنقه وجبينه تبرز شيئا فشيئا و مقلتاه توشكان على الانفجار في أي لحظة، فإذا به يستشيط غاضبا ويرفع ذراعه بسرعة موشكا على قذف الهاتف أرضا..
اضطربت أنفاسه وازدادت تسارعا، انقبضت عضلات وجهه و التحم فكّاه ببعضهما حتى شارف على تحطيم أضراسه.. ولكنه تسمر مكانه فجأة، لم يجرؤ على تحطيم الهاتف أو قول ما كان يجول في خاطره بصوت مرتفع..
عاجلا ما خفض ذراعه و أخفض رأسه بإحباط، تعلو تعابيره البائسة شعور مُذل بالهزيمة.. فقط لأن المتحدث من الجانب الآخر لسماعة الهاتف قد استمر في مقاطعته ثم أنهى المكالمة دون مبالاة.. كان ولا بد أنه يكن له قدرا هائلا من البغض و السخط، مع هذا.. لم يكن يملك بيده حيلة فاكتفى بالهمهمة لنفسه بصوت حانق لاعنا الآخر..
"ديفا* أيها الوضيع الفاسق.."
ثم عاد إلى السيارة صافعا الباب خلفه بعنف..
*
*
*
*******

*تُنطَق "Diva"

© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
هالة البدر المكتمل
Коментарі