المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
أن نكون أبطالا.
               الفصل 05: أن نكون أبطالا.
"منذ أن التقيتها أول مرة، قبل خمس سنوات مضت.. حسبتها لا تعرف كيف تربط حذاءها حتى... ولكنها ربطتني أنا شخصيا، بحيث لا تعلو فكرتي على فكرتها ولا ينتهي بي المطاف إلا تحت رحمتها... هذا سخيف نوعا ما، ولكنها الحقيقة... إيفا فتاة ذكية، نعم... ولكن رأسها يابس، للأسف... دائما تصر أنني على خطأ، وتعبث بعقلي حتى تنجح في كسبي إلى صفها في النهاية... وحتى آخر لحظة، حدث ذلك مجددا... لم تستمع إلي، لم تترك مكانها، وعوض أن تأتي هي نحوي، كنت أنا التي عادت إليها في نهاية المطاف، زحفا... ولكنه ليس خطأها، كلا... "
*******
انهارت واجهة المبنى بعد صمود حثيث، وجرت معها نحو الأرض الأجزاء المتصلة بها من الهيكل، الجدران، الجزء الأمامي من السقف، والشرفة التي تحمل الطابق الثاني، وكذا الأساسات التي وقعت خلف بعضها بالتتابع مثل قطع الدومينو.. مركز القاعة، أصبح كله تحت جبل من الركام، يعلو خمسة أو ستة أمتار ...

احتبست الأنفاس وسدت القلوب الحناجر.. من شدة طغيان الصمت القاتل على الأجواء، أمست نبضاتها مسموعة... ربما قاطعتها من حين لآخر شهقات باكية، أو سعال مكبوت... ذلك المشهد المرعب أزاغ العيون فلا أحد استطاع أن يبعد عن ناظريه حبات الغبار التي انتثرت في سحابة هائلة الحجم.. أخذت وقتا لتنقشع عن ذلك الجانب من القاعة، التابع للمخرج الخلفي المخصص للطوارئ..

اختتم الانهيارَ الذي أتى على الجزء الأمامي للمبنى حصاة صغيرة واصلت تدحرجها حتى اصطدمت بقدم أوليفر، لو أنه كان أقرب بخطوة واحدة لانتهى به المطاف مسحوقا... أما نصف القاعة الثاني الذي احتشد فيه أولئك الذين أمسوا "ناجين من موت محتم"، فقد ظل متماسكا، ليس سليما تماما.. ولكن جدرانه تماسكت لوقت أطول، يفصله عن النصف الآخر بقاياه التي تكدست وسدت القاعة من منتصفها... تاركة خلفها ضحيتين لا يعلم أحد ما حل بهما.. كانت معجزة أن المخرج لا يزال سليما، ينبعث منه ضوء خافت بعد أن انقطعت الكهرباء ثانية..
بعد لحظات، دلفت كايا إلى المكان هرولةً وخلفها رجلان يحمل كل منهما كشافا كبير الحجم، كانا يتسكعان في مكان قريب تاركين عملهما في حراسة المبنى، إلى أن فوجئا بصوت أشبه بالانفجار وانطلاق سحابة غبار كثيفة في الجو... تركت لهما كايا مهمة إخراج ما تبقى من المدعوين، أما هي فانسحبت مذعورة باتجاه صوت فايوليت التي انفجر صراخها في الأرجاء فجأة..

ارتعش نخاعها حتى الصميم عندما وجدتها تمسك رأسها بيديها وتئن بصوت حاد منخفض، يظهر من علو ظهرها وانخفاضه بسرعة مرة بعد أخرى أنها ضيعت وتيرة تنفسها الطبيعية، جاثمة على ركبتيها أمام كتل الركام ..
بجانبها، كان إيفان واقفا يحدق في الحجارة المكدسة أمامه.. التقط حصاة ورماها بعنف ثم انهار هو الآخر، جلس منحنيا يرمق بعينيه الغارقتين في الدموع الأرض تحته، ويبكي في صمت ..

أفلتت يدُها الكشاف الذي كانت تحمله أرضا ما جعل زجاجه يتشقق، ولكنه لم يُكسر لحسن الحظ.. ركضت نحو فايوليت وانحنت بقربها ثم ضمتها إليها دون أن تنبس شفتاها بحرف، لم تجرؤ على سؤالها هي أو إيفان عما جرى، كانت ملامح وجهيهما أقرب تأكيد للفكرة الفظيعة التي راودتها لحظتها..

رفعت رأسها نحو أوليفر، كان يقف بجانبهما جامدا مثل التمثال.. أقصى نيتها لم تكن سوى الاطمئنان على حاله، عله يكون أكثر تماسكا من الآخرَيْن، ولكن هيهات..

عندما استوضحت ملامحه، تمنت لو أنها لم تفعل.. شاحب الوجه فاغر الفاه، لم تتحرك حدقتاه إنشا مذ انهار المكان فوق رأس جينوا، أمام ناظريه ..

اتسعت عينا كايا واصفر وجهها حتى اكتسا بتلك الملامح ذاتها التي طبعت على وجه أوليفر.. ثم ما لبثت أن امتلأت عيناها بالدموع بعد أن استوعبت أخيرا..
***************************************
"لا يمكنك إنكار كم أن مشاهدة اللحظات الأخيرة لشخص ما، أمر فظيع ولا يحتمل .. "

بعض الصخور المبعثرة، استقر فوقها لوح اسمنتي متشقق يوشك على التفتت إلى أجزاء في أي لحظة، بينما أخذ ينزلق شيئا فشيئا..

كانت يدها ترتجف، تتحسس بأطراف أصابعها الشقوق الواسعة بين قطع الرخام التي زينت في وقت ما أرضية المكان بألوانها البراقة. وماهي إلا لحظة خاطفة حتى ارتمت جينوا سريعا بجسدها المغْبَرِّ مبتعدة قبل أن يقع فوقها ذلك اللوح ويهشم عظامها..

نهضت بصعوبة ثم اتكأت بركبتيها وكفيها على الأرض ذات الملمس المدبب بسبب الحصى والصخور المبعثرة فوقها، والتي اخترقت ومزقت جلد ساقيها ويديها إلى ندبات دامية مؤلمة...

بقيت منحنية لبضع ثوان تحاول التقاط بعض الهواء النقي لرئتيها من بين ذرات الغبار ذات الهالة فضية اللون من أثر انعكاس نور القمر عليها، المتناثرة حولها جراء اصطدام ذلك اللوح الاسمنتي بالأرض.. كانت الرؤية شبه معدومة بسبب العتمة وبقايا الحطام والأتربة التي أثارها الانهيار.. ثم إنه قد استعصى على جينوا فتح عينيها لما اختلط فوقهما من التراب والدماء التي سالت من جرح على جبينها ..

لم يكن وخز تلك الجراح مؤذيا لجينوا بقدر ما وصب الألم على قلبها إذ أخذ ذلك المشهد القاسي يمر ويتكرر في خيالها... حفرت على ذاكرتها ملامح وجه إيفا عندما التمعت عيناها و أرسلت بضعة دموع قبل أن ينتهي بها المطاف مدفونة تحت تلة من الحجارة المهشمة.. كان كل تفصيل صغير من تلك اللحظة العصيبة ما ينفك يفارق عينيها، نظرات إيفا الخائفة، خصلات شعرها التي انتفضت و أخذت تتمايل مع أعمدة الغبار والدخان خلفها، و ظل جسدها المرتجف الذي اختفى عن الأنظار في لمح البصر...

لم تستطع رفع رأسها ومواجهة حقيقة أن ما كان منذ لحظات هيكلا للمبنى قد أصبح قبرا لأعز إنسانة على قلبها، أختها التي تشاركت معها كل شيء، عدا الدماء...
ازداد حالها سوءا عندما لمحت قطرات دمائها تبلل الأرض تحتها، ما تلبث أن يمتزج لونها الأحمر القاني مع برادة الاسمنت والغبار فتصح كتلة داكنة مقرفة، رسم ذلك المنظر في خيالها مشاهد محتملة لحال جسد إيفا الآن تحت الأنقاض، وكيف أنها سحقت تحتها مثلما تسحق الحشرة تحت قدمها، كيف أن أطرافها المحطمة غارقة في بركة موحلة من الدماء .. لم تتمالك جينوا نفسها و انقلبت معدتها دفعة واحدة..تقيأت حتى كادت أحشاؤها تفلت أماكنها..

عندما استقرت حالتها، نهضت ومسحت فمها بكم قميصها المتسخ، ثم أخرجت نفسا عميقا متعبا من رئتيها... مسلمة بذلك نفسها للحقيقة المرة التي لا مفر منها: "إيفا ماتت، انتهى عمرها القصير الليلة وفي هذا المكان"..

انحنت بتهالك و أرسلت مع نظراتها المنكسرة نحو الأرض عبرات ساخنة... وحتى لعلمها بأن الصراخ لن يعيد روح إيفا إلى جسدها، إلا أنها لم تستطع أن تحرم نفسها من الفرصة الوحيدة لتقبل الأمر واستعادة تماسكها.. أخذت تلكم الأرض بقبضتها، تلعن حماقتها بين شهقاتها وأنفاسها المحتقنة.. أقصى ما أرادته في تلك اللحظة هو أن تضرب جبينها نحو الأرض عله يتهشم فيرتاح العالم منها ومن سذاجتها..

"ما الشيء الصعب في إمساك يدها وجرها غصبا مثل المعتاد.. لماذا تركتها هناك بالذات... لماذا هي من بين الجميع؟.. لما..ذا.."
..
.
أوشك اليأس على الوصول بها إلى آخر مراحله.. عندها اهتزت الأرض وقفزت بها قفزة مفاجئة..

أجفلت جينوا فجأة وانتفضت مستقيمة الظهر، تحرك الظل الذي وجدته مسلطا على الأرض ثابتا منذ أن فتحت عينيها.. رفعت رأسها وأدارته زاوية بسيطة لتجده هناك، صامد بشموخ على بعد عشرين مترا منها..

سرت في عمودها الفقري رعشة عنيفة ذكرتها بالشعور الذي داهمها عندما رأت من نافذة الطابق الثاني ذلك الجسم الهائل متجها نحو المبنى، هو بالذات... أمسى أمام عينيها ... أما بالنسبة لحجمه الهائل الذي جعلها تعتقد أن الجدار ما يزال موجودا لفرط ارتفاعه، فقد كانت جينوا الضئيلة لا تبعد عنه سوى خطوتين على الأكثر..

نظرت نحوه شاحبة الوجه زائغة العينين، نبض قلبها بعنف حتى أصبحت تشعر به ينبض في رأسها... لقد أدركت أن المصيبة لن تنتهي هكذا فقط، إنه لا يزال موجودا.. وسوف يستمر في رج الأرض بخطواته الثقيلة حتى يأتي على المبنى كله ثم يمر للبلدة...كائنا ما كان هذا المسخ المعدني العملاق...

-لقد كان ذلك الشيء ماكينة ضخمة، لديها قمة أشبه بالقبة يصدر منها ضجيج فظيع، تتفرع من جانبيها ثمانية قضبان معدنية مدببة الأطراف أخذت تتأرجح في الهواء مصدرة صريرا مرتفعا، إذ هي تصيب كومة ركام أو جدار لم ينهد بعد فتطرحه أرضا، بينما يحفظ توازنها أربعة أعمدة حديدية عريضة هائلة الحجم ذات قاعدة مستطيلة، إثنان منها في الخلف والآخران من الأمام .. ترتفع ببطئ شديد حتى تصل ارتفاعا محددا، ثم تهوي نحو الأرض مسببة هزات مدمرة... هيكلها مصفح من كل الاتجاهات بالمعدن الذي كان يكسر ضوء القمر ويعكسه على الجدران حتى أصبحت الرؤية أوضح فقط بسببها، بين الصفيحة و الأخرى قطع مطوية أصغر حجما-

محاصرةً في تلك القاعة لوحدها، لم يكن لجينوا من مخرج سوى الفتحة الرهيبة التي كانت في الجدار المقابل لها حيث استقرت جثة إيفا تحت الحطام لا يظهر لها أثر.. بعد أن تأكدت من أن المخارج خلفها قد سُدَّت تماما..

لم تستطع أن تشيح بعينيها عن الآلة، وكلما أطالت مراقبة حركاتها المتثاقلة العنيفة، كلما ازدادت اضطرابا و ازداد التشويش على ذهنها.. لم تستطع أن تقدم على فعل أي شيء طالما الأمور لا تسير إلّا إلى الأسوأ..

ثم إنها وجدت نفسها تقف بلا هدف، لم تعد تملك دافعا واضحا بعد فقدان إيفا.. اندثرت عزيمتها مثل ما اندثر أثر إيفا، بنفس السرعة..

دون أن تتحرك شبرا، استمرت في الوقوف بانتظار دورها لتسحق هي الأخرى.. تصارع في أعماقها، الخوف، الإحباط، والرغبة في الانتقام .. لم تجرؤ على اتخاذ قرار تعلم في صميم قلبها أنه الصواب، إلا عندما وصل مسمعها صوت خربشة من الجانب الآخر للركام الذي يسد كل شيء خلفها... ثم تحول بعد بضع ثوان إلى صوت أعلى، أشبه بارتطام أداة معدنية بالصخور..
"من هناك؟!" صرخت جينوا، ولكنها لم تتلق إجابة...
**************************************
حين التحفت تلك الوجوه بتعابير الخيبة والأسى، ولم يكن هناك من بصيص أمل يخرجهم من تلك الصدمة التي وقعوا فيها جميعا.. قاطع أوليفر ذلك الصمت الكئيب بشهقة غريبة أفزعت رفاقه...

اقترب من الحجارة المكدسة وأصغى السمع، ثم التفت متفاجئا نحو البقية وسألهم "هل سمعتم ذلك؟"

حدق الثلاثة نحوه باستغراب، ثم التفتوا إلى بعضهم البعض يتبادلون نظرات محتارة في صمت، لا أحد منهم قد سمع أي صوت لافت للانتباه عدا أصوات الارتطام و الاهتزازات الخفيفة التي استمرت بالانطلاق من الجانب الآخر ..

لم ينتظر أوليفر منهم إجابة بل بمجرد أن أنهى سؤاله مسح العرق عن وجهه وفرق على جانبي جبينه خصلات شعره البُنِّية القصيرة، ثم شرع في حمل الصخور وإيعادها عن الطريق بسرعة شديدة حتى بدأت القروح تظهر على يديه، كان جليا على وجهه القلق والخوف ولكنه أصر على ما يفعله دون أن يوضح لهم شيئا..

-"أوليفر.. ماذا تفعل؟!"

نطقت كايا سؤالها بصعوبة، محاولة التوقف عن ابتلاع ريقها بين كل كلمة وأخرى من شدة البكاء، ليجيبها أوليفر متعجلا بينما ما يزال منهمكا في ما يفعله:

-"انهضي يا كايا وساعديني، نحتاج إلى الفأس، أخرجيه بسرعة!"

لم تفهم كايا ما كان ينوي فعله، لقد انتهى الأمر بالفعل!..
وقفت فايوليت بسرعة وأمسكت بذراعه لتوقفه عن مواصلة إبعاد الصخور .."أوليفر توقف!.. لا فائدة من هذا" ، مسحت عن وجهها آثار الدموع وأفلتت يده ثم واصلت "علينا الخروج من هنا، لم يعد بوسعنا فعل أي شيء.."

في البداية، لم يرغب أوليفر في النظر إليها، ولكن بمجرد أن انتهت من كلامها، أجابها موجها نحوها نظرة خائبة الأمل:
- "و ماذا لو كانتا على قيد الحياة، تنتظران أن يبتسم لهما الحظ ويتم إنقاذهما؟ ... فكري في نفسك، إلى متى ستتحملين الذنب.."

أجفل إيفان عندما سمع ذلك، كف عن التحديق بالأرض المرتجّة بين لحظة وأخرى، ورفع نظراته نحو أوليفر وفايوليت، مترقبا الطريقة التي سينتهي بها ذلك الجدال..
-"ولكن المعلم أمرنا بأن لا نتورط في هذا، لا تحاول أن تكون بطلا أوليفر!-"
-"لا أحاول أن أكون بطلا، أريد إنقاذهما!"

صاح أوليفر في وجه فايوليت مقاطعا، ثم صمت بعد أن أدرك أنه بالغ في رفع صوته..

أخرج نفسا عميقا ثم أردف بنبرة أكثر هدوءا: "شيرمان لم يضع في الحسبان أن يحدث هذا، عمليا لم تكن هناك خطة منذ البداية.. لا يحق له أن يمنعنا الآن.."

-"أتفق مع صاحبي، ما فائدة هذه الأسلحة اللعينة إن لم نستطع أن نستعملها لمساعدة الآخرين، ألا يفترض بها أن تجعلنا أبطالا؟"

كان ذلك إيفان، من نطق فجأة راسما على ثغره ابتسامة مضحكة دون أن يمنح فايوليت فرصة للاعتراض.
وقف باستقامة وبدأ يتمدد يمينا ويسارا ويفرقع أصابعه وكأن لا شيء حدث، وعندما انتهى من تهيئة مفاصله انضم إلى أوليفر في إزاحة الحطام دون مقدمات، ابتسم لفايوليت بثقة عالية جعلتها توشك على الابتسام أيضا، لولا أن كلامه بعد ذلك قد بدى لها أشبه بالاهانة خاصة أنه أتبعه بضحكة ساخرة:

-"ظننت أن المعلم جعلك قائدة علينا لأنه رأى فيك القوية الصامدة التي لا تتزحزح رباطة جأشها، أعتقد أنه لم يكن يرتدي نظاراته عندما أقدم على هذا الفعل الغبي!"

شخرت كايا بضحكة مكبوتة دون أن تضيف شيئا، بل اكتفت بالوقوف مكانها مبتسمة بحماسة تنتظر من فايوليت إعطاء توجيهاتها الحازمة مثل المعتاد..

احمرت فايوليت خجلا، ملأ صدرها شعور لطيف من الفخر بسبب ثقة أصدقائها بها واعتبارهم لها قائدة يعتمد عليها.. ما زادها إحراجا هو أن ثلاثتهم قد لاحظوا ذلك عليها فبدأوا بتيادل نظرات وابتسامات مضحكة..

-"يكفي عبثا!" صاحت فايوليت بغطرسة مثل عادتها. "يجب أن ننتهي من هذا بسرعة.. كما تعلمون فإن الهادرة ما تزال تتقدم وقد يقضى علينا إذا لم ننفذ عملنا هذا بسرعة... سوف ننجح في الاختبار!"
أجابها الجميع بصيحة حماسية، مما بث فيهم العزيمة والأمل لاتمام ما بدأوه ..

أشارت فايوليت لإيفان وأوليفر بالابتعاد ثم واصلت توجيه الأوامر لكايا: "أخرجي فأسك، سوف نجرب حظنا هذه المرة"

أومأت كايا بالإيجاب. نفضت جسدها قليلا وكأنها تقوم بإحماء خفيف، بعد ذلك وقفت بثبات، أغمضت عينيها والتقطت نفسا عميقا ثم أخرجته. قالت في ثقة ساخرة "عندما ينتهي كل هذا، أعدكم أن أنظم حفلا آخر.. لنا نحن الستة فقط"

اتسعت عيناها بشدة مرسلتين وهجا فيروزيا، ثم تشكل بين يديها من العدم فأس عظيمة تتوهج باللون ذاته.. و من دون تلكؤ، رفعت الفأس بقوة غير متوقعة من جسد بتلك الهيئة الرقيقة، ولوحت به باتجاه كتلة الصخور..
*************************************
"إيفا، لدي واجب صغير لا أستطيع تجاهله الآن.."

أشاحت جينوا نظرها عن الآلة العملاقة ومسحت المكان حولها بعينيها، تلك كانت أول فكرة تبادرت إلى ذهنها عندما لم تتلق أي رد، لقد أدركت أن الأوان لم يفت بعد لتنفيذ واجبها المزعوم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والذي فقد صفته "صغير" واستمر في الكبر كلما اخترق طبلة أذنها صوت ضربات فأس كايا الحثيثة على الصخور.

تعرفت على الصوت؟.. لا لم تفعل، ولم يكن لديها أدنى فكرة عمن يكون المجنون الذي يحاول تفتيت الصخور في الخلف، ولكن كائنا من كان .."طالما أستطيع منع تكرار مأساة إيفا مع شخص آخر.. فسأفعل ما بوسعي.. ".. لقد قررت جديا أن تأخذ حياته على عاتقها.

صمتت للحظات ثم أردفت بصوت ضجر مرتفع، توجه كلامها لشخص ما، لم تحدده بلسانها، ولكن ذهنها استحضر صورته المشوشة، وابتسامته المستفزة .."أنت تقول عادة، أن نكون أبطالا.. يعني أن نموت نحن ويعيشوا هم...  لذا سأحرص على النجاة وقتلك أيها المومياء الخرف!"

تركت جينوا مكانها وتقدمت خفية بهدوء شديد نحو الآلة، اقتربت بما يكفي حتى أصبحت المفاصل التي تدعم حركة القضبان الثمانية واضحة لها، تذكرت بشكل حرفي كل كلمة سمعتها من الاتصال الهاتفي الذي دار بين فايوليت ومعلمهم الذي يدعونه "شيرمان" .. كل ذلك الكلام عن المفاصل الضعيفة وكونها أكثر نقطة ضعف مكشوفة...

ثبتت جينوا قدميها بالأرض، قدمت إحداهما و وأدارت الأخرى أفقيا لتسند بها جسمها، رفعت ذراعها اليسرى نحو الأمام بزاوية مائلة، وأرجعت ذراعها اليمنى إلى الخلف وطوتها ثم ضمت سبابتها والوسطى إلى بعضهما، والخنصر والبنصر إلى بعضهما..

ليس الحفاظ على وضعية استعداد وتأهب في أجواء مثل تلك بالأمر السهل أو الممتع، لذا أغمضت عينيها وحركت شفتيها بأشياء غير مفهومة، ثم سحبت نفسا عميقا وحبسته قليلا محاولة تركيز انتباهها على شيء محدد ..

بعد ثوان معدودة، زفرت مخرجة كل الهواء الذي حبسته رئتاها في نفس واحد كثيف وعقدت حاجبيها بقوة، ثم فتحت عينيها سريعا فإذا بلونهما الزمردي يتلاشى ويحل محله وهج ذو صفة عسلية، تزامنا مع ذلك تشكل بين يديها قوس رماية يكاد يبلغ ثلاثة أرباع طولها، وعلى شاكلة الفأس الغريب الذي أظهرته كايا من اللامكان، أصدر ذلك السلاح نورا مشابها للذي طفح من تحت أجفانها  ..

رفعت القوس بيدها اليسرى وسحبت الخيط باليمنى ليتشكل معه نشاب ضخم مدبب له نفس هيئة القوس –حجما ولونا- .

أغمضت عينها اليسرى و قنصت الموضع المناسب للرمية بعينها الأخرى، وبعد أن سحبت النشاب بما فيه الكفاية، أفلتته لينطلق بسرعة فائقة نحوالمفصل المنطوي بين صفائح الذراع المعدنية، ويخترقه مسببا انطلاق بعض الشرارات الكهربائية الضئيلة متبوعة بصوت انفجار طفيف، ليرديه في الأخير متهالكا على الأرض..

راقبت جينوا حدوث ذلك باندهاش بالغ، لم تتوقع أن تنجح في رميه بالقوة والزخم الكافيين حتى يمزق صفيحة معدنية، أو يحالفها الحظ بالتصويب في المكان المناسب من الضربة الأولى... ولكن ذلك الحظ لم يرافقها طويلا.

استشعرت الآلة حركة جينوا قريبا منها فعينتها هدفا مؤقتا للتخلص منها.. هذا ما توصلت إليه جينوا وقد كان واضحا جليا بالفعل عندما بدأت الآلة في تغيير مسارها ببطئ.. أصبحت جينوا مجبرة على الركض أثناء التصويب مما عرقلها عن إصابة الهدف عدة مرات، و غدت لا تقدر على إسقاط إحدى الأذرع إلا بعد أربع أو خمس محاولات فاشلة ...

ثم إنها لم تظفر إلا بثلاث محاولات ناجحة حتى تعبت من الركض حاملة ذلك القوس الثقيل، ومن الوقوع أرضا عدة مرات لعدم تفحصها أين تدوس بأقدامها أثناء التصويب..

نال النصب من جسد جينوا المتعب أساسا، انزلقت على عنقها وظهرها سيول من العرق حتى أصبحت تشبه هرة مبتلة، ونظرا لما حل بها فهي قد أوشكت على اليأس من فكرة إسقاط ما تبقى من الأذرع، إنها خمسة!.. كما أنه بدى من غير المجدي جدا فعل ذلك، الآلة أشعرتها بالفشل وكأنها تتحداها بقدرتها على التوازن بعد كل ذلك الجهد... كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى لإخماد حركتها ولو مؤقتا..

هزت جينوا رأسها ونفضته من الغبار، محاولة تذكر شيئ ما قد تكون أغفلته من المكالمة.. كانت متأكدة من أنها سمعت شيئا ما إضافيا لا يقل أهمية عن هشاشة المفاصل..

–روماتيزم روبوتات-

...".. المولد تحت الحجرة العلوية..."
صرخت جينوا فجأة بعد أن طن ذلك السطر من المكالمة في رأسها "هاا! ..الشيء الذي يشبه القبة لا بد أنها الحجرة الرئيسية! "، ثم دققت النظر جيدا أسفل تلك الحجرة ولكنها لم تستطع رؤية شيئ، الآلة كانت قريبة جدا وحجمها ضخم لذا كان من المستحيل رؤية ما يوجد في أعلاها.. كان لا بد من الحصول على مكان مرتفع كفاية حتى تستطيع تحديد هدف سهمها التالي.

تشكلت في حلقها غصة خانقة عندما داهمتها الفكرة الوحيدة التي تستطيع اعتمادها أثناء الوقت الضيق الذي بقي بحوزتها، التفتت نحو التلة المكدسة من الصخور، التي دفنت إيفا تحتها..

كانت أكثر كومة مرتفعة يمكنها الوصول إليها... رغم أنها حاولت تجاهل النظر باتجاهها وركزت على الابتعاد عنها وعدم دوسها بقدميها قدرالمستطاع، إلا أن الوضع حتم عليها ذلك ..

ركضت بقلب منقبض نحوها وتسلقت حتى الأعلى، وهناك حصلت على زاوية مثالية.. كان بوسعها أن ترى بوضوح قمرة صغيرة تحت تلك الحجرة الكبيرة، تصدر بعض الأضواء الطفيفة وتهتز أكثر من أي شيءآخر في هيكل الآلة.. رفعت القوس ثانية وسحبت الخيط ليتشكل نشاب آخر... انتظرت عشر ثوان كاملة محافظة على الخيط مشدودا بأقصى قوة، حتى اقتربت منها الآلة العملاقة بما يكفي وأصبح البعد بينهما لا يتعدى الخمسين مترا.. ثم أطلقت باتجاه المولد..

شق السهم طريقه بسرعة، لم يدم الانتظار لأكثرمن أجزاء معدودة من الثانية حتى لامس الطرف المدبب لرأسه أول سلك يعترضه، ثم استمر بالمضي نحو الأمام، تاركا خلفه شرارة واحدة أعطت إشارة الانطلاق لانفجار مدو أتى على دارات ذلك المولد والحجرة التي تعلوه، بل إن جينوا تعثرت ووقعت لما وصلها من موجة الظغط الناتجة عن ذلك الانفجار الذي مهما بدى متوهجا فقد لف وهجه أكداس من الرماد والزجاج والدخان مثل وشاح أسود، غزى زوايا المكان كله كاللهب وصير الجو معتما خانقا ..

صاحت كايا بفزع مفلتتة من يدها الفأس -الذي لم يوشك على الوصول إلى الأرض إلا وقد تلاشى وعاد لون عينيها المكتسيتين بالصدمة  إلى طبيعته-... للسبب ذاته الذي جعل أجساد رفاقها تتجمد في أماكنها وتكف عن الكد -لابعاد ما يمكن إبعاده من فتات الركام-.. "الانفجار.."
...
انتهى كل شيء بنبضة أخيرة رجت الأرض رجا على أثر اصطدام الهيكل المعدني العملاق بها، بعد أن فقد توازنه وخرَّ منهارا ببطئ شديد..

بينما هب أوليفر وإيفان إلى إحاطة كايا وفايوليت بجسديهما على سبيل الوقاية مما قد تجلبه تلك الرجفة العنيفة التي قوضت ثبات أقدامهم،  استمرت جينوا بالوقوف على كومة الحجارة المرتفعة، تتأمل نتيجة عنائها ببعض الفخر.. تصبب منها العرق كالمطر وأخذت تلهث و تسعل بشدة، كانت متعبة لدرجة الاغماء وكل ما رغبت به حينها هو الاستلقاء والنوم... وكأن أقصى هدفها هو جعل ذلك الشيء عاجزا عن الحركة، دون الأخذ بعين الاعتبار ما قد يحصل تاليا..

وكأنها.. لم تكن بحاجة إلى الشعور باليقين.. اليقين بأن خلف ذلك الدخان الكثيف، خردة معدنية مدمرة لا أكثر. ظنت ببساطة أنها بذلت ما يكفي حتى تجلب السكينة إلى روحها المحطمة، أنها انتصرت، حتى إنها لم تنتبه قط إلى النسمة العنيفة التي اندفعت من جوف العتمة فجأة ليكشف الدخان المزاح عن آخر شيء توقعت حدوثه...

لربما كان التخلص من تلك الأذرع الخمسة المتبقية أولى من تفجير المولد، لأن ما أغفلته هو أن ما اتضح أن اسمها "الهادرة"، تملك رغبة في الانتقام على نحو ما.. فقد ارتفعت إحدى أذرعها بسرعة جنونية ولطمت جسد جينوا المتهالك من الجانب الأيمن بعنف نحو الأرض..

مشغولةً بالألم الفظيع الذي نخر عظامها جراء تلك الدفعة، ظغطت جينوا على جفنيها وأرخت أطرافها بانهزام منتظرة مرور شريط حياتها أمام عينيها في أي لحظة، ريثما تهوي نحو الأسفل حتى تُسحق وتُسوى بالأرض من قوة الضربة..
************************
تجمع أولئك الأربعة بجانب بعضهم البعض في كتلة واحدة ناصبين أعينهم على الممر المسدود.. ساد الاضطراب والترقب بينهم بعد أن مرت الرجفة التي سببها سقوط كتلة المعدن نحو الأرض على خير دون أن يتبعها شيء غير الصمت.
عم هدوء تام أرجاء المكان وتوقفت أصوات الصرير عن طرق آذانهم، وكذلك قد انتبهوا بعد لحظات من الانتظار إلى أن الأرض قد هدأت أخيرا..

سارت فايوليت خطوتين مبتعدة عنهم ثم رفعت رأسها وحدقت متعجبةً باتجاه ما كان مصدرا لتلك الأصوات والاهتزازات التي هدأت فجأة، انتظرت لبضع ثوان وهي على تلك الحال، عسى أن يعود الهدير مجددا ولكن، لا شيء يُذكر!

التفتت نحو رفاقها مجددا وقد أوشكت ملامح وجهها تتهلل انشراحا لانتهاء ذلك الكابوس.. غير أنه لم ينته بعد، تسمرت مكانها عندما التقطت أذناها أصواتا من نوع آخر...

"بوم" ثم "باخ" و... أصوات أشياء تصطدم، أشياء تتحطم.. ضربات على البلاط والجدران ربما ... هذا إذا بقيت الجدران أصلا.. أصوات عنيفة غير مفهومة.. وجهت فاي تساؤلا بصريا تجاه زملائها.. نظرات فهموا منها شيئا واحدا "ماذاالآن؟ بحق السماء.." ولم يبادلوها غيرها..

بينما كلهم غارقون في أفكار مبهمة يترامون بنظرات الحيرة فيما بينهم دون أن ينطق أحد، حدث أن انطلق نور ساطع كالفضة من بين الشقوق التي تفصل كل صخرة عن التي تعلوها، ثم تبع سطوعه المفاجئ لطمة عنيفة جعلت تلك القطع المكدسة تهتز..

ارتعشت ساقا فايوليت واتسعت عيناها عندما أصبح أحد تلك الأصوات المبهمة خلفها مباشرة.. اهتز قلبها هلعا لدرجة أنها لم تقو على السير حتى صرخ عليها أوليفر لتتراجع عن الوقوف مكانها.. لتعود راكضة نحوهم وتشبك يديها بيدي كايا المرتجفتين حد الجنون.. ثم واصلوا وقوفهم كالتماثيل لا يدرون ما يفترض بهم أن يفعلوا تاليا، غير الاستمرار في مراقبة أكداس الحطام التي أصبحت ترسل من بين شقوقها ذلك النور الغريب خافتا، بحذر وقلق..

لم يلبثوا على تلك الحال طويلا، عندما عاد ذلك النور ليسطع بقوة منذرا باقتراب شيء ما مثل المرة السابقة كما لو أن القمر وقع من السماء.. تبادل أوليفر وفاي نظرات تحذيرية سريعة قبل أن يرتميا إلى الجانبين مبتعدين في آخر لحظة عن صخرة هائلة الحجم محاطة بهالة فضية مرعبة اقتحمت الجدار وأردته إلى أشلاء، وقد أوشكت قيد شعرة على انهاء أمرهم..

أوليفر سحب كايا من شعرها ورماها ونفسه في جهة.. أما فايوليت فدفعت إيفان في الاتجاه الآخر وتمرغوا جميعا في الأرض لبضع ثوان ريثما تهدأ تلك الفوضى المفاجئة ...

ثار الغبار ثم هبط على رؤوسهم دفعة واحدة. بعد لحظات عاد الهدوء ليخيم على الأجواء .. و ذلك الجلمود المضيء الذي اقتحم المكان طائرا من حيث لا يحتسب، لم يعد لا متوهجا ولا شيئا من هذا القبيل.. بل ظل مهشما على الأرض شأنه شأن كل الحجارة.

"رأيت ذلك؟ هل رأيت ذلك فاي؟!" .. صاح إيفان بعدما نفض ملابسه وشعره الذي صير الغبار سواده القاتم إلى الرمادي، التهم تلك الصخرة بعينيه فضولا، مشيرا إليها باصبعه.. اكتفت فايوليت بالإيماء دون أن تلفظ شيئا، ليس و فكها متدل دون وعي منها وناظراها منصوبان على الاتجاه المخالف للذي أشار له إيفان، ملامحها أخمدت حماسه، يبدو أن ما كانت تحدق فيه أكثر غرابة من الجلمود المضيء الذي لم يعد مضيئا..

كان كذلك .. لا ريب، بعدما طفح على ملامح كايا وأوليفر نسخة مظبوطة عن تعابير فايوليت... التفت إيفان بفضول لفهم ما حل بهم فجأة، وبأي منطق هو يستطيع رؤية ظله بوضوح في مكان مغلق و معتم... " ماذا حل بكم جميعا.. أهذا نور القمر؟..."..

أردف متسائلا، ولربما قد بالغ في التساؤل بدل أن يلتفت وحسب ليرى مصدر الضوء الفضي الذي انبعث من خلفه وسطر ظلاله هو رفاقه على الأرض.

انكمش سواد عينيه عندما انكسر ضوء حاد على حدقتيه الزرقاوين المرتجفتين مكانهما من روعة ما التقطتا صورته، البدر مكتملا .. منبع النور الذي انبعث ليضيء ما بقي صامدا من هيكل المبنى، محاولاتهم لتحطيم الركام المكدس الذي أحبط سعيهم لإنقاذ إيفا وجينوا، قد كلل بالنجاح، وها هو الجزء الثاني من القاعة قد أصبح موطئا ممكنا لهم...

اختلطت مشاعرهم بين السعادة لتمكنهم أخيرا من صنع مخرج، و الإحباط الممزوج بالتوتر لحجم الدمار المهول، والذي أسقط آمالهم بالعثور على ناجين بين ثناياه.. ولما أوشك الإحباط على سحق بصيص الأمل الأخير، طرق أسماعهم صوت مألوف، نداء هز أجسادهم من الصدمة .. نداء فحواه:..
"جينوا!!" ...
                                                                           *
*
*
*****









© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
شبح القديسة.
Коментарі