المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
هالة البدر المكتمل
الفصل 10: هالة البدر المكتمل

"حتى ضجة كهذه لا تؤرق سكان الريف، التواجد بينهم مريح حقا.. هذا ما كنت تفكرين فيه على الأرجح حينما اخترتِ فيلدسباث لتكون مخبأ سرك العظيم، أليس كذلك أيتها الجدة إيفيلين؟.."
****************************
وسط عتمة غرفة الاستقبال الضيقة والمؤثثة بعناية، كانت السيدة مارغريت صاحبة الاثنين والستين خريفا، تتكئ باستقامة على مقعدها الخشبي الهزاز قرب شرفة شقتها، المتواجدة في أحد الطوابق العليا من إحدى العمارات السكنية الواقعة خلف مشفى البلدة..
مع كل اهتزاز لقاعدتي المقعد المنحنيتين كان يصدر صوت دحرجة خفيض، آنس شيئا من الوحدة التي أذبلت عينيها الواسعتين ذواتي اللون العسلي الباهت، تتحرك ضفيرتها الرمادية الجانبية للأمام و الخلف منصاعة لتهاديها البطيء ذهابا وإيابا.. ما انفكت تحكم أطراف أصابعها النحيلة المرتعشة حول كوب من الحجم الكبير، ممتلئ حتى منتصفه بمشروب أعشاب استحال باردا بعد أن اعتادت راحة كفها على درجة حرارته، لربما نسيت أنها تحمله أساسا..
كانت نظرات مارغريت ناحية الأضواء الصادرة من نوافذ المشفى عبر زجاج باب شرفتها حزينة وشاردة، لم تتحرك من مجلسها ذاك منذ ساعتين على الأقل.. مكتفية بإراحة مرفقيها المتشابكين على ملاءة ناعمة أرسلتها على ركبتيها حتى لامست الأرضية الخشبية..
سكينة، حفيف الأوراق وطرق الغصن المثقل على النافذة... تتبعه سكينة، ثم صمت.. ثم ما هي إلا بضع نبضات من عقرب الثواني خاصةِ الساعة الحائطية العتيقة، حتى بدأت بعض أصوات الخشخشة تتسلل بصخب غير مقصود من مدخل الشقة.. ثم استدار مقبض الباب نصف دورة ببطء شديد.. ليس أبطأ من ارتجاف جفني مارغريت المتعبين عندما لفت وجهها ذا التعابير الراضية ناحية الباب، حيث التقت نظراتها الدافئة بالحلقتين السماويتين المتسعتين في دهشة.. كان أقصى مسعى ذلك المغفل أن يقتحم البيت خفية طالما الجدة نائمة ولكن..
"لستِ نائمة؟.."
نبس إيفان بتردد محاولا إخفاء تفاجئه، حتى لا تنتبه مارغريت إلى أنه كان بصدد التسلل دون علمها..
مارغريت في العادة تستشيط غضبا عندما يخالف إيفان نصائحها وطلباتها الحريصة خاصة إذا ما كان الأمر يمس سلامته، و لكنها هذه المرة بدت منهكة جدا، حتى أنها لم تبرح مكانها ولم تحمل نفسها عناء تغيير تعابير وجهها من القلق إلى الاسترخاء دون المرور عبر مرحلة الإنكار ثم التصديق.. و هذا يعني شيئا واحدا..
'لا.. ليس خيبة الأمل!'
بلى، إنها خيبة الأمل..
-"أهلا بعودتك عزيزي.. تأخرت على عكس اتفاقنا"
غمغمت مارغريت بنبرتها الحنون ذات الحدة الثابتة، و كأنها تضبط صوتها فلا يتغير بتغير مجريات الحديث..
أما الحفيد فلم يردف، نظف حلقه في تردد ثم أخفض نظراته مشيحا بشيء من الندم عن عيني جدته الناعستين.. ثم التقط بعض الهواء و نفخ صدره في استعداد لإلقاء اعتذار طويل عريض قبل أن تصوب مارغريت فردة خُفِّها على وجهه، ولكنه ما أوشك ينطق حتى ابتلع أولى كلماته لما عادت ابتسامة مارغريت العذبة لتداعب حدقتيه المُذبلتين بإحباط..
ثم الحركة اللطيفة التي ميزت وجودها السائد في ذاكرة الذبابة خاصته، تكررها كثيرا عندما تشعر بالملل فتشير له برفعها لكفها ثم خفضه مربتةً على ركبتها بخفة كي يأتي ويضع رأسه في حضنها.. تفتح ذراعيها مستقبلة جسده الصغير المتقافز مثل الضفدع في أرجاء الغرفة، ثم تأخذ أناملها الناعمة في مداعبة شعره الفاحم حتى يغفو.. حينما رأى إيفان ذلك منها أبى إلا أن يستجيب لها ويأخذها في عناق دافئ ينسيه وحشة تلك الليلة المشؤومة. اندفع نحوها مرسلا فردتي حذائه خلفه في الهواء دون أن يفك أربطتها حتى، إلى أن استقر بين ذراعيها، يحشر وجهه في حضنها وكأنها لم يرَ ملامحها ولم يتنفس رائحتها منذ سنين..
بينما همت مارغريت بنفض ما بقي عالقا من برادة الاسمنت والتراب على رأسه، دل صوتها الأجش عن نعاسها الشديد مقاطعا نفحة الصمت التي سيّدت نفسها للحظات ..
-"لا تحمل همي يا صغيري، لم أحاول النوم من البداية، ففؤادي معك في كل ما تمر به.."
تنحنح إيفان دون أن يرفع وجهه قائلا..
-"أنا مستعد لأي عقوبة!"
-"همم.. اشرب هذا الذي في الحدق"
أدار إيفان رأسه قليلا ناحية المائدة الخشبية التي وضعت فوقها مارغريت كوبها الزجاجي، رمقه باستغراب غير واضح المعالم بشكل جلي، بل غلب على تعابيره رغبة ملحة في النوم.. ولكنه استجاب لطلبها من غير اعتراض، فنهض و سحب أقرب مقعد إليه، ثم جره حتى أصبح مقابلا لمقعد مارغريت، بعدها أخذ مكانه بتثاقل و حمل الكوب بيديه الاثنتين، آخذا في تبديل نظراته المتوترة بين صورته على صفحة المشروب الملساء وسط الكوب، وبين وجه جدته التي طفقت ابتسامة لعوبة تظهر على ملامحها بالتدريج..
-"إذن أين انغرست حتى عدتَ إليَّ مرمدا هكذا، هل اعتدت عليك عصابة ما؟"
نبست مارغريت بعتاب مبطن بالمزاح ممررة كفها على وجنتها، عندما أوشك إيفان على تذوق ذلك الشيء..
-"لا!.. ليس الأمر بذلك السوء.. لقد.. لقد حصلت أمور كثيرة!"
-"أقل سوءا من حرب شوارع في منتصف الليل؟"
-"قطعا!"
-"اطمأن قلبي الآن.. لا تعلم كم أخشى عليك من الجانحين، يا فتاي المسكين.."
صمت إيفان محدقا بشرود إلى انعكاسه وسط الكوب مجددا.. لم يردف على كلام جدته بل غرق في مشهد داهمه إثر كلمة "جانحين"..
'من يمكن أن نسميه جانحا؟.. المتنمر؟..'
استعاد اللحظة التي ارتجفت فيها مقلتاه في ذهول يخفي الكثير من الإعجاب و الفخر على نحو ما، لما هوى رأس ثيو صافعا رخام أرضية القاعة بعنف بعد أن تلقى تلك الرفسة الدرامية من جينوا، نظرات الاحتقار التي التهمت بها منظر ثيو المزري و تلك الهمجية التي أظهرتها من العدم.. إعادة تخيل ذلك المشهد تجعل الفراشات ترفرف في معدته ..
.
.
ريثما راوده ذلك الإحساس المنتشي نفسه ترافقه ابتسامة نصر مرتاحة، اندفعت تلك الرشفة الضئيلة التي سحبها بطرف شفته من الكوب إلى أعماق حلقه بسرعة شديدة جعلته يجفل ثم يشرع في السعال بعنف..
-"ما هذا الشيء!.. "
ثم أضاف بعد أن استعاد أنفاسه، مزيحا نحو جدته عينيه المُضيقتين بإحباط..
-"خدعتني رائحته الزكية.. لقد نلتِ مني.."
أدبرت قهقهة مارغريت اللطيفة تداعب سمعه شامتة على حاله.. ورغم ادعائه الانزعاج إلا أن الغبطة برؤية تعابيرها المبتهجة كما هو معهود منها جعلته يشاركها الضحك على نفسه، أيا يكن..
-"إنه منقوع قشور الرمان و و بتلات الأقحوان، ينظف الجهاز الهضمي و يساعد على النوم.."
-"أنتن العجائز تصنعن منقوعات من كل شيء.. إنه متجمد حتى، لن أشربه هكذا.."
-"قم بتسخينه، لن تنام حتى تنهي الكوب.."
حرر زفيرا ثقيلا ثم هز رأسه بالإيجاب مكرها..
نهض واتجه إلى المطبخ الذي كان يتقاسم الباب مع غرفة الجلوس، وريثما ينتظر بضجر ظهور بوادر الغليان على المشروب، استرجعت ذاكرته بعضا من أحداث تلك الليلة.. لم يكن غريبا عليه الغوص في تحليلات غير واقعية خاصة عندما يبدأ في تخيل سيناريوهات مختلفة للحدث ذاته..
..
'لهذا ظننتُ أنه يشبهك!'
.. ذلك السطر الذي نطق به نيكيتا من دون مبالاة عندما أوشكت جينوا على كشف وجهها، لما تدخل إيفان لتلفيق تلك الكذبة التافهة.. لولا أن ما رَكَلتهُ على ركبته حينها لربما تفرغ للتفكير في الأمر سابقا..
'أشبهها في ماذا؟.. لستُ مثل جين قلب الأسد.. أنا إنسان مسالم وبسيط، أرى عراكا، أتدحرج بعيدا!'
وهو كذلك يحدق في جدار المطبخ ذي الرخام العشبي شاردا، فإذا بصورة أوغست تتجسد في مخيلته فجأة، ما جعله يجفل و ينتفض لدى تذكره أمر لقائهما..
..
-"جدتي!"
استنفر إيفان صارخا في حماس بينما يعود أدراجه نحو جدته راكضا..
-"ما الأمر يا عزيزي؟"
-"تذكرت شيئا مهما لدرجة الموت .. لقد قابلت رجلا يدعى أوغست.. أوغست.. أغسطس.. لول، نسيت اسمه الأخير"
أصغت مارغريت باهتمام طفيف في البداية، ثم أخذت تحاول مجاراة إيفان في تذكر "لُوِي"، شيئا فشيئا، فإذا بها تنتفض فجأة معلنة باندفاع: "لوي! أوغست لوي!"
-"هو بالذات!"
-"تقول أنك قابلت أوغست لوي؟!"
-"أجل، وتحدثنا قليلا.. لقد سألني عن جدي، قال إنه كان من معارفه.. وكذلك أخبرني أن أوصل تحياته الحارة إليك.."
انخفضت همة مارغريت شيئا و اكتست عيناها بذلك الطيف الكئيب الذي يعكر صفو ابتسامتها العذبة، أشبكت أصابع يديها ثم أطرقت تفكر للحظات.. ولكنها لم تلبث أن عادت لمبادرة إيفان بتعابيرها المشرقة، عازمة على الاستجابة لإيماءات نظراته الفضولية المتسائلة..
-"أنت تتذكر المربية يوليا من الملجأ، صحيح؟"
-"بلى.."
-"إن السيد أوغست يا عزيزي، يكون شقيقها الأكبر.."
-"أنا حقا.. لم أتوقع شيئا كهذا.."
أردف إيفان، آخذا بمؤخرة عنقه يدلكها، ضاما حاجبيه في حيرة لم تزد لهيب فضوله إلا استعارا..
-"أخبريني منذ متى يعرفكما أنت وجدي؟ ..يبدو لي شخصا مثيرا للاهتمام حقا!"
صمتت مارغريت لبرهة قبل أن تجيب، تعابيرها التي انقلبت صارمة بغتة، إن دلت على شيء فإنما هو حتما دافع تخفيه لرغبتها في تأجيل رواية هذه القصة لأجل غير مسمى، لربما قد حددته بالفعل ولكنها تركت خياراتها مفتوحة..
-"إنها قصة طويلة.. ربما سأخبرك بها يوما ما.. لذا لا تسألني عنها حتى أقرر أنا متى يجب أن تعرف.."
-"ما أمر هذا الكلام الغامض فجأة.. لماذا لن تخبريني؟.."
-"لأن المنقوع سيفيض.."
هز إيفان ذقنه ببلادة حتى وخز لحمه صوت انسكاب الماء ثم تبخره على سطح الفرن الساخن..
اندفع متعجلا يتمتم بمصطلحات غير مفهومة بينه و بين نفسه، ريثما يلتقط مقبض الإبريق في اللحظة المناسبة قبل أن ينبثق كل المشروب إلى الخارج.. ثم لسبب مجهول حشر وجهه عند فوهة الإبريق، حتى لفحه البخار وأحرقت تلك الرائحة القوية جيوبه الأنفية..
-"أصبح ساخنا مثل الجحيم، ما زلت لن أشربه يا جدتي!"
صاح متذمرا، موجها أشد ما استطاعت تعابيره أن تظهر من ازدراء تجاه سائل الأعشاب ذاك.. ولكنه لم يتلق حتى نفسا واحدا من مارغريت، لذا طفق متسللا نحو غرفة المعيشة ليطمئن عن حال صمتها المفاجئ، فإذا بها قد غطت في النوم وهمّت بالشخير..
بالطبع.. عاد إيفان أدراجه بخفة على أطراف أصابعه لينفذ أول ما تبادر إلى ذهنه.. أمسك الإبريق واقترب من حوض المطبخ ثم فتح سدادة أنبوب التصريف و أرسل المشروب إلى المجاري مع ابتسامة وداع صفراء ..
"وداعا.. يا منقوع الجوارب.."
******************************
"مصباحي المضيء يركب السحاب... عيناه نجمتان وثيابه كالغيوم.. يحلق في الجو من غير جناحين .. إلى أين سيأخذني اليوم.. إلى جبل الضباب.."
.
.
نغمة خفيضة تسللت في أرجاء الغرفة مطفأة الأنوار، تداعب خيال إيفا الذي أخذ يعرض أشباح حيتان مضيئة وكائنات صغيرة الهيئة سحرية المظهر، تطفو وتتمايل مثل الأشرطة حول سريرها و تهيم بالابتعاد نحو الأفق.. لم تكن تلك التخيلات سوى الصورة التي نشأت إيفا على تصورها كلما لامس وعيها قبل أذنيها كلمات ترنيمة النوم السابحة في الخرافات و الخيال..
عندما فرغت ماديسون من الغمغمة بتهويدتها اللطيفة، طبعت قبلة دافئة على جبين إيفا، ثم رفعت رأسها قليلا حتى يتسنى لها تأمل حدقتيها الذهبيتين بوضوح..
"أملأُ لكِ كأسا آخر؟"
أدبرت ماديسون تُسائلُ نبرتها الحنونُ إيفا عن آخر احتياجاتها قبل أن تخلد إلى النوم، وليس الآن وحسب بل علها المرة العاشرة التي تسألها فيها إن كانت تحتاج شيئا.. غير أن إيفا أردفت مجيبة بصوت مَشوب بشيء من الكسل إثر إيشاكها على الاستغراق في غفوة عميقة في أي لحظة طالما هي محشورة وسط كومة هائلة من الأغطية ومحاطة بخمس وسائد على الأقل، أثناء ذلك مؤكدة على رفضها لكوب آخر من الحليب أو أي شيء إضافي محركة رأسها ببطئ يمينا وشِمالا..
-"أنا بخير الآن، لا تقلقا علي.. أنا حقا نعسانة.."
ثم قطع تثاؤب ثقيل داهمها كلماتها المشجعة لوالديها الذين وقف كل منهما على أحد جانبي سريرها يتأملانها بقلق، بينما واصلت هي إصرارها على رغبتها الصريحة في أن يتركاها وحدها..
-"أنتما متعبان أيضا، يجب أن تخلدا للنوم بسرعة.."
تشارك أرنست و ماديسون نظرات متعجبة حيال ثقتها بما تقول.. ولكن أرنست بالذات سرعان ما هز حاجبيه و أزاح حدقتيه تجاه باب الغرفة، مشيرا خفيةً إلى ماديسون بضرورة ترك إيفا بمفردها، عندها بادرته ماديسون متفهمة بإيماءة بسيطة برأسها..
عاد أرنست للابتسام كأن شيئا لا يشغله، ثم قرص أنفها بأطراف أصابعه وألحق مازحا.. "تصبحين على خير أيتها اللؤلؤة المتسخة"
لتجيبه بإيماءة مدللة بعينيها الواسعتين، ممسكة أنفها المحمر من أثر القرصة بكفها.. القهقهة الخفيفة التي استجابت بها لمزاحه كانت كافية له كي ينسحب خارجا مطمئن القلب.. رفقة ماديسون التي ما أوشكت تغلق الباب حتى عادت إيفا لتناديها من أجل طلب أخير..
-"ماما! ..رجاء فلتأخذي ناتاشا معك أيضا.."
ثم أشاحت بنظراتها المنزعجة من خلف الملاءة، ناحية هرة سمينة ذات فرو رمادي مخطط بالأسود وعينين خضراوين غاضبتين، كانت قد قفزت على سريرها واستقرت بجانب قدميها بمجرد أن ابتعد أرنست وماديسون..
-"دعيها برفقتك، أنت لا تطردينها عادة.."
أردفت ماديسون، بينما همت بالفعل بالانحناء لالتقاط الهرة العجوز ناتاشا، و لكنها لم توشك تلمسها حتى قفزت الأخيرة برشاقة مغيرة موضع استلقائها.. ما ترك ماديسون تحدق فيها مرفوعة الحاجبين في استسلام..
-"يبدو أنها لن تسمح لك بفعل ما تشائين.."
أضافت جاعلة في نبرتها بعض الرضى لأنها على الأقل ضمنت أن إيفا لن تبيت وحدها، ثم عادت أدراجها متمنية لطفلتها كل أصناف الأحلام الجميلة.. و أخيرا، أغلقت الباب ببطء شديد خلفها ..
دفنت إيفا وجهها وسط الغطاء زافرة في ضجر.. ثم شرعت تهز ساقها بعنف في محاولة فاشلة لركل ناتاشا، .. تلك الهرة العجوز البشعة كانت ثقيلة جدا على العموم.. لقد ظلت صامدة كالصخرة..
لم تأبه إيفا كثيرا للأمر فسريعا ما خضعت لرغبة نا-تا-شا المبجلة!.. لأن العائق الفعلي قد انزاح نوعا ما، بقي أن فتحت عينيها و أصغت السمع بإنصات شديد دون أن تتحرك من مكانها، إلى خطوات والديها ريثما يبتعدان شيئا فشيئا ..
******************************
ارتمى أرنست بتثاقل على أريكته ذات المقعد الواحد بعد أن غاب عنها لما يتجاوز الساعتين.. مرر كفه على عنقه ثم أماله بزاوية بسيطة حتى أصدرت عظامه فرقعة مزعجة..
في الآن ذاته دلفت ماديسون إلى غرفة الجلوس خلفه على عجل، فإذا بنظرة متفاجئة تزيح ملامحها الصارمة من منظر أوراق الجريدة المتناثرة في الأرضية.. عاجلا ما أومأت في انصياع بعد أن تذكرت أنها هي من قامت برميها سلفا، ثم التفتت إلى أرنست ترمقه بامتعاض، توشك على إجباره لينهض و يساعدها، لولا أنها عدلت عن ذلك بعد ما رأته من شرود يغلف نظراته الناعسة و الطريقة المتراخية التي كان يجلس بها مسندا رأسه على كفه.. علمت أنه سيغط في النوم في أي لحظة، لذا سارعت بإزاحة الأوراق بقدمها ثم اتخذت مكانها عند أقرب مقعد إليه قبل أن يغفو ويترك تساؤلاتها التي تجنبت استحضارها في وجود إيفا معلقةً..
-"إذا!"
بادرت ماديسون إلى قول ذلك كي تفسح له المجال ليشرح لها ما حدث بالضبط، ناصبة حدقتيها البُنِّيتين المشتعلتين فضولا على نظراته الهائمة..
و لكن، صبرها أوشك ينفد حتى داهمتها رغبة مُلحة في صفعه..
لقد رمش بضع مرات بالعرض البطيء، ثم التفت نحوها نصف التفاتة.. و مستوى رأسه انخفض، يبدو أنه مستمر في التزحلق ببطء على الأريكة.. ليجيب أخيرا بعد أن أصبح رأسه محشورا بين كتفيه وكأنه سلحفاة تحاول إدخال رأسها إل قوقعتها، بصوت أجش يلائم منظره الخمول..
-"إذا ماذا؟.."
ذلك... ليس بالأمر الغريب، لقد شهقت ماديسون شهقة احتفظت على إثرها بأكسجين يكفيها يومين في رئتيها، في استعداد لتدمير طبلتي أذني أرنست بوابل من التذمر، وليس الشتائم، ماديسون لا تفعل شيئا كهذا.. ماديسون مستعدة لتحطيم رأسه ولكنها لن تشتم أبدا.. على كل حال، كانت ستكسر هذه القاعدة لولا أنها تذكرت في لحظة فاصلة أن إيفا، قرة عينيها، نائمة بعد يوم مجهد وعصيب ولن تسامح نفسها إذا تسببت في إيقاظها.. لذا، حررت ذلك النفس ببطء وعادت للجلوس مثل سيدة مجتمع أرستقراطية، لم يكن ينقصها سوى كوب شاي..
-"إيفا، ابنتنا العزيزة، فلنتحدث قليلا عن ذلك .. الأمر المهم، تعرف.. أيها السيد"
-"فلنؤجل ذلك إلى الغد.. سيغمى علي.."
ثم أدبر يتثاءب متجاهلا تعابيرها الساخطة..
نهضت ماديسون من مكانها مندفعة بانزعاج، وتناولت جهاز التحكم لتشغل التلفاز..
وها هي ذي، المحطة الإخبارية ذاتها من آخر مرة، تعرض بثا مباشرا من موقع الحادث.. أظهرت الشاشة صحفية شابة غريبة المظهر، ترتدي معطفا جلديا ذا قلنسوة مكسوة بالريش تحيط بوجهها، تجعلها تبدو مثل الأسد، و ووشاحا أطول من نهر المسيسيبي لفته على عنقها عشرات اللفات حتى أصبح صوتها أجش ومبطنا غير واضح.. تتدلى على جانبي كتفيها خصلتان منكوشتان من الشعر مصبوغتين بلون زهري فاقع يعمي الأبصار.. أثناء حديثها كانت تهتز و صوتها يرتجف، وهي لم تكلف نفسها حتى عناء إبعاد الوشاح عن فمها فنصف كلامها كان خرخشة عشوائية عديمة المعنى..
"سـ..سسسـ..سيداتي وسادتي، للأسف لم .. ااا.. لقد رفض مالك الأرر..ـض.. السيد ججـ..جو فالاكروت الإدلاء بأي... هاه.. ماذا تقول..."
ثم اقتربت أكثر من الكاميرا حتى شغل أنفها مساحة الشاشة بأكملها، ريثما يهمس لها المصور بأنها أخطأت في لفظ الاسم..
أثناء ذلك كله، أوشك أرنست على الاختناق بعد أن انفجر ضاحكا من غير أن يلتقط أنفاسه، ما جعله يدخل في نوبة سعال حادة..
بالنسبة لماديسون، فَجُلُّ ما أرادته أن تلجأ للتلفاز علها تطلع على شيء من التفاصيل التي رغبت في التحقق منها.. ولكن بعد الذي رأته لم تجد شيئا لتفعله سوى رمي جهاز التحكم على الأريكة ولطم جبينها في انهزام و خيبة وأمل، ثم طوت ذراعيها  ورفعت نظراتها نحو الثرية البسيطة كروية الشكل التي كانت تزين سقف الغرفة، وقالت محدثة نفسها بلكنة ساخرة "ما هذه الأشكال يا إلهي.."
.. بعد بضعة ثوان عادت صاحبة الشعر الوردي للوقوف في مكانها مضيفة بينما لا تزال ترتجف متأرجحة ذهابا وإيابا "كما كنت أقول.. اا.. السيدُ.. جون فالكفوردت قد رفض الإدلاء بأي تعليقٍ.. و.."
ثم شرعت تلتفت حول نفسها باحثة عن أحد ما كي تورطه في حوار عديم الجدوى فقط كي تملأ الوقت المتاح من النشرة..
توقفت عن الالتفات فقد بدى وكأن أحدا ما لفت انتباهها، ثم شرعت في الهرولة ملوحة للمصور كي يلحق بها.. لتبدأ الكاميرا في الاهتزاز بجنون..
فيما لا زال أرنست يصارع من أجل البقاء على الأريكة، نفد صبر ماديسون من الهراء الذي أصبحت قناة الأخبار تعرضه، فعادت لالتقاط جهاز التحكم، ثم اعترضت الشاشة و أوشكت على إطفائها دون أن تحاول تفقد المحطات الإخبارية الأخرى.. حتى استوقفها أرنست الذي اعتدل في جلوسه فجأة واعتلت تعابير التركيز و الاصغاء ملامحه، مشيرا إليها بكفه في تعجل كي تنزاح عن الوقوف في وجهه، وهو ما نفذته ماديسون بسرعة ثم التفتت لترقب باهتمام ما أثار حماس أرنست فجأة.. فإذا بشهقة إجفال تخرس الكلمات في جوفها لما تعرفت على ملامح العجوز أوغست..
-"ذلك الرجل نفسه!!"
صاحت ماديسون في ذهول مشيرة نحو الشاشة ببنانها، فأومأ لها أرنست إيجابا، ثم حنى ظهره و جعل مرفقيه مثبتين على ركبتيه، مسندا ذقنه على أصابع يديه المتشابكتين، يشاهد بترقب في مسعاه للتحقق من أمر ما..
-"اهدئي.. فلنستمع لما سيقوله.."
همهمت ماديسون متفهمة ثم تراجعت إلى مقعدها وشرعت تمحص ملامح أوغست و أقواله علها تتوصل إلى ما يرمي إليه أرنست بذلك الاهتمام الغريب الذي أبداه فجأة لدى ظهور الرجل على الشاشة، وقد بدأ تضايقها ينحسر تدريجيا وينقلب إلى حالة من التركيز و الإصغاء المتأني..
-"معنا.. السيد أوغست ليوي.."
-"لُوي.."
-"لُوي.. رئيس مصلحة الحماية المدنية فرع إقليم هيفي ستون ببلدة فيلدسباث.. إذا أخبرنا يا سيدي ما هي المستجدات بشأن هذا الحادث الكارثي.."
استفسرت المراسلة بحماس مقحمة الميكروفون في وجه أوغست.. ما جعله يرجع رأسه للخلف احترازا من أن تحاول تلك الخرقاء حشره في إحدى فتحتي أنفه، ثم حمحم و استطرد مجيبا بملامح صارمة أبلت بلاء عظيما في إخفاء امتعاضه من فرط حركتها..
-"لقد أسفرت التحقيقات الأولية عن أن سبب الحادث راجع لانهيار في شبكة الصرف الصحي الملحقة بالمبنى منذ فترة طويلة مما أدى إلى اهتراء البنية التحتية الهشة أساسا.. لذا، فقد كان  انهيار المبنى أمرا حتميا منذ البداية.."
-"وما تعليقك بشأن القتلـ.. أأعني الناجين.. وهل تتوقعون أن ما حدث أمر مدبر كما هو متداول مؤخرا؟"
كان كل شيء على ما يرام إلى أن تلفظت المراسِلة بهذا السؤال الأخير.. مضت الثانية التي أعقبت سؤالها مثل الدهر على أوغست، شعر خلالها وكأنه يستطيع رؤية لفة البعوضة لجناحها، ريثما يتدارك الورطة التي هو فيها الآن ... فسريعا ما حزم أمره حتى قبل أن ينال التوتر من تعابيره الهادئة التي لم تتحرك قيد شعرة..
بينما اندفع أرنست من مكانه واقفا يحملق في وجه تلك الفتاة البليدة في صدمة ..
-"ما الذي!.."
ثم إنه خشي أن يخطئ أوغست التصرف حيال سؤالها الأشبه بطعنة في الظهر، ولكنه سريعا ما هدأ واستعاد أنفاسه لما شرع أوغست يتحدث بصرامة مجيبا على سؤالها من غير تردد، ولا كأنه سمعها للتو تخبره بالحرف الواحد أن البعض تفطنوا إلى احتمال وجود شخص مثير للريبة -إيفا مثلا على سبيل المثال لا الحصر- يتم استهدافه و هَدُّ بناية فوق رأسه.. لا ليس هذا ما يهم طالما لا يزال أمر الهادرة بعيدا عن متناول أيدي الإعلام..
-"عدد الناجين الإجمالي هو ثلاثة وستون شخصا تتراوح أعمارهم بين ثلاثة عشر و ثمانية عشر عاما، و من حسن الحظ فإنه لا توجد أي إصابات خطِرة.. أما بالنسبة لذلك الهراء المتعلق بما هو متداول، فأحبذ أن أشير إلى أن لا شيء من ذلك صحيح، وقد سبق ووضحت سبب الحادث.."
-"أا.. شـ.. شكرا لك على مشاركتنا بهذه التفاصيل المهمة سيد غاسبر ليو–"
-"أوغست لُوي.."
-"نـ..ـعم.. كانت معكم المراسلة الصحفية آميليا إم مايلز، ونعود إليك زميلي في الاستوديو.."
ثم أضافت هامسة لنفسها بإحباط بعد أن أشار لها المصور بانتهاء البث .. "والذي نسيت اسمه.."
انتقل المشهد إلى الأستوديو مباشرة حيث استرسل مذيع النشرة في عمله مغيرا الموضوع جذريا، و قد بدى الامتعاض و الضجر واضحا على ملامحه الجافة..
آنذاك، شرعت تلك المراسلة، أميليا في السير باتجاه الشاحنة الصغيرة الخاصة بمحطة التلفاز، تحرك ساقيها بتثاقل شديد، مطأطأة الرأس مسدلة ذراعيها، تعيقها مشاعر الخيبة و اليأس عن السير بشكل سوي..
-"ابتهجي قليلا مِيمِي.. لقد أبليت حسنا صدقيني.."
بادر محاولا تلطيف الجو في تردد واضح.. المصور الأشقر النحيل ذو النظارة، بعد أن أنزل الكاميرا الثقيلة من على كتفه و أخذ يحرك مفاصل ذراعه حتى يفك التشنج عنها، ريثما يسير خلف صاحبة قلنسوة السبُع مراعيا خطواتها البطيئة..
لم تردف آميليا بشيء سوى همهمة عسر عليها إخراجها دون أن تعيقها الغصة التي بدأت تتشكل في حلقها، ولم تلتفت إلا عندما هبت ريح قوية أوشكت تدفعها عكس اتجاه سيرها، صاحبها رنين نغمة هاتفها الصاخبة..
أجفلت لما باغتتها موسيقى الروك اند رول التي انطلقت من مكان تجهله، و شرعت تتقافز بجنون باحثة عن الجيب الذي وضعت فيه الهاتف من بين جيوب سترتها التي ما انفكت تكتشف فيها جيوبا جديدة كل يوم..
حتى توقف الرنين، ووجه آميليا لا يزداد إلا شحوبا.. فإذا بصوت محشرج رخيم ينطلق بعد الصفير، قائلا بنبرة ساخطة ..  "خذي راحتك في عدم الرد على اتصالي، أنت مفصولة.."
.
.
اعتلت تعابير الشفقة والأسف ملامح الشاب ذي النظارة وهو يشاهد اندفاعها وحماستها تخمد في طرفة عين بمجرد سماعها لتلك الرسالة الصوتية التي أرسلها المدير التنفيذي للمحطة.. أفرغت أميليا أنفاسها في قنوط، بينما تسحب هاتفها ببطء بعد أن عثرت عليه أخيرا، ثم رفعته نصب عينيها و حدقت في شاشته المطفأة بعيون فارغة ..
بعد بضع ثوانٍ، فصلت أميليا شريط صمتها بصوت مرتعش، قائلة و الدموع آخذة في التحلق حول مقلتيها النيليتين..
-"لقد كنت واثقة من هذا، أخبرتهم أنني لا أستطيع العمل في هذا المجال.. ولكن.."
تراجع الشاب خطوتين للخلف، مترقبا بحذر ثوران غيضها، والذي انفجر في وجهه بلمح البصر. كان قد توقع هذا سلفا..
"لقد طُرِدتُ من أول يوم! لماذا أنا خرقاء يا تيموثي؟! .. لماذا!!"
صاحت أميليا بانفعال، مباشِرة في نفض ذراعيها بعنف ورفس الأرض بقدمها، و كأنها تلوم المدعو تيموثي على طردها..
ليردف هو راجيا أن تهدأ قليلا.. بعد أن تراجع أكثر و حجب وجهه بإحدى ذراعيه خشية أن تسدد له ضربة غير مقصودة -كما تفعل عادة-..
-"ربما لأنك تنسين الأسماء كثيرا!"
هدأ انفعال أميليا و جعلت تحدق في تيموثي عاقدة حاجبيها على مقلتيها البراقتين مثل جرو حزين.. حينها أخفض تيم ذراعه وجعل كفه على خصره، ثم أردف قائلا، بينما شرع يفرك ذقنه موجها ناحيتها نظرات تحمل شيئا من المزاح، رافعا أحد حاجبيه قليلا..
-"ما الأمر الآن؟ ظننتك لم ترغبي في العمل في محطة عائلتك أساسا.. لأجل ماذا إذن كل هذا الحزن تحديدا؟.. أعتقد أنك تخلصت من هذا العائق في نظري.."
ثم أنهى حديثه بابتسامة جانبية لطيفة، ما جعل مثيلتها تحل محل العبوس على محياها، وقد أخذت ملامحها تميل إلى الذهول شيئا فشيئا لما استوعبت كلام تيموثي جيدا، لتردف صارخة في وجهه ملوحة بذراعيها في الهواء بحماسة، و كأنها لم تكن توشك تنفجر باكية منذ لحظات..
-"تيمي!.. إنك محق تماما!"
عدل تيموثي وضعية نظارته ثم هز رأسه موافقا، بينما واصلت أميليا قائلة..
-"لن أدع هذا الهراء يحبطني!.. فليذهب المدير الكريه إلى الجحيم.. لقد اتخذت قراري يا تيمي.."
كان تيموثي مسترسلا في الهمهمة وهز رأسه موافقا على كل كلامها، حتى تلفظت بذلك الشيء عن كونها 'اتخذت قرارها'، عندها أجفل و اندفع مناقضا موقفه فجأة..
-"هـ.. هل أنت جادة؟!.. لا يمكنك أن تصبحي شرطية في ليلة وضحاها، ابحثي عن عمل آخر وكفي عن التفكير في مثل هذه الوظائف الخطِرة.."
عقدت أميليا حاجبيها واستطردت مدافعة عن موقفها بنبرة عازمة..
-"لا تستهن بي يا تيمي، تحدثنا عن هذا سابقا وأظن أنني مؤهلة للاشتراك بمسابقة الالتحاق بصفوف قوات الأمن.. أنا طويلة القامة وقوية جدا، هذا ما يشترطونه عادة.."
ثم طوت ذراعها اليمنى و رفعتها نصب كتفيها مستعرضة عضلاتها بثقة.. ولكن تيموثي لم تخالجه ذرة اقتناع ..
-"لست أدري.. خذي احمليها.."
أردف تيمي قائلا، ثم قدم الصندوق مستطيل الشكل ذا العدسة في مقدمته إليها والضجر يعتلي نظراته المعاتبة..
-"هاتها!"
صاحت في تعالٍ، ولم تعبأ سوى بمد يدٍ واحدة فقط لتلتقطها لا اثنتين، فإذا بآلة التصوير الثقيلة تقع أرضا وتسحبها معها بمجرد أن أفلتها تيموثي من يده..
-"بئسا!.. هذا الشيء محشو بالرصاص!"
-"قال شرطية قال... لن تُطردي من اليوم الأول، وإنما سيقضى عليكِ من اليوم الأول.."
.
.
*****************
شرد أرنست أثناء تحديقه إلى شاشة التلفاز دون وعي منه بما يتحدث عنه المذيع، فقد طفقت عقدة محكمة تقيد حبل أفكاره لما ظهر أوغست على التلفاز..
-"من يكون هذا السيد؟"
صحا أرنست من شروده على نبرة ماديسون الغامضة مجفلا بشكل طفيف، ثم رفع نظراته الجادة نصب مقلتيها وأدبر قائلا وقد استضاح صوته واتسم بالصرامة..
-".. انتظريني لحظةً.. سأعود فورا.."
ثم انسحب خارج غرفة المعيشة مسرعا، حتى وصل ناحية الدرج فأبطأ خطواته وشرع يسير بتأنٍ ريثما يتقدم في ممر الطابق الثاني بجانب غرفة إيفا.. لم يكن ينوي التوقف، ولكنه فعل..
قرب أذنه قليلا من الباب، ضم أجفانه وأصغى السمع، ولكنه سرعان ما زفر بارتياح عندما لم يلتقط سمعه أي صوت مثير للشك. أظهرت شفتاه ابتسامة طفيفة، سريعا ما أزاحتها جديته المفاجئة بعدما عاد إلى السعي نحو وجهته..
مضت تلك الدقائق المعدودة بسرعة، ريثما أطفأت ماديسون التلفاز ورتبت غرفة المعيشة الفوضوية، حتى عاد أرنست حاملا بيده كتابا كبير الحجم، ليس لكثرة صفحاته وإنما لانتفاخها من شدة قدمه..
أدبرت ماديسون قائلة في تحيُّر لما لمحت الكتاب في يده، وقد لاحظت أنه كان يقحم سبابته وسطه حفاظا منه على صفحة محددة..
-"أحسستُ أنك ستجلبه.."
-"أظن أنك حزرتِ.."
اعتلى وجه أرنست ابتسامة جانبية لما أومأت له ماديسون موافقة، ثم اتخذ الاثنان مقاعد متقابلة..
-"انظري، لقد سمعتِ كلام أوغست كله، أليس كذلك؟"
-"بلى، بالتفصيل.."
-"ماذا تعتقدين بشأنه؟"
-"هل تحاول استجوابي؟"
أخفض أرنست حاجبيه و قوس شفتيه لأسفل محدقا نحوها في امتعاض، عندها هزت ماديسون رأسها محاولة كتم ضحكة رأتها لا تتلاءم مع الموضوع الذي سيتحدثان عنه..
-"حسنا حسنا، سأخبرك أيها المحقق.. لاحظت أن ذلك السيد كان يحاول تجنب التحدث عن الهادرة، ألست محقة؟"
هز أرنست ذقنه و رفع حاجبيه مشيرا لها حتى تواصل، لتضيف ماديسون باندفاع أشد..
-"وعندما سألته الصحفية بشأن الشائعات حول محاولة استهداف المبنى، أخرسها بقسوة غير ظاهرة.."
همهم أرنست موجبا، ثم استرسل مجددا في الإصغاء إليها..
-"أي شائعات هذه؟"
-"ليست بالشيء المهم، أظن أن هناك من شعر بالهزات الناجمة عن حركة الآلة لا غير.. ستظل مجرد شائعات طالما يستمر التعتيم على الأمر.."
-"هكذا إذن.. ولكن ما الذي يجعل ذلك السيد.. أوغست صحيح؟"
ثم استطردت بعد أن أومأ لها أرنست إيجابا..
-"ما أحاول قوله، ما الذي يدفعه إلى محاولة التعتيم على الأمر.. أعني.. أكاد أجزم أنه.."
كفَّتْ ماديسون حديثها مؤثرةً الصمت لحظتها، وحين لاحظ أرنست ترددها في طرح توقعها، شخر ضاحكا وشرع كتفاه يهتزان، حتى صاحت به في غضب، أخرسه طرقها العنيف بكفيها على الطاولة عن مواصلة القهقهة..
-"ما بالك تضحك على كل شيء؟!.. تُراك تافه حتى ونحن نتحدث عن أمر خطير كهذا!"
-"قوليها وحسب.. أقسم أنني لن أسخر إذا كنتِ مخطئة.."
أردف أرنست متحريا بعض الجد في صوته، رغم أن تعابيره العالقة في نوبة الضحك ما تزال..
حينها أرسلت ماديسون دفعة أخرى من زفراتها الضجرة التي لا تنفك تغادر رئتيها كلما تفوه زوجها بحماقة من حماقاته.. تراجعت نحو مقعدها و اعتدلت جالسة، ثم رفعت ساقا فوق الأخرى و أسندت ذقنها على طرف سبابتها بِرِقَّة، و أردفت مجيبة في ثقة انبثقت صارخة من لهجتها الهادئة ونظراتها الجليدية..
"أوغست لُوي.. يكون حامل سلاحٍ من الجيل الرابع."
************
"تحركي!"
"الآن! تحركي يا ناتاشا!"
رمش جفنا الهرة ناتاشا الناعسان بخمول شديد، وكأن نظراتها المرعبة تسخر من إيفا -التي أخذت تهمس لها بغضب- قائلةً أنْ: 'أنا لن أتزحزح، قد خُلقت لأبرك على قدمك.'
ضغطت إيفا على نواجذها و قطبت جبينها في سخط، ثم اندفعت من مضجعها مزيحة الأغطية المكدسة حولها بعنف..
'سأجعلك تطيرين مثلما جعلتُ تلك الصخور تطير!'
عزمت بينها وبين نفسها على التحقق من أمر المشاهد المشوشة للأضواء الفضية الوامضة والأجسام عديمة الهيئة، و التي صاحب اقتحامها المتقطع لذهنها بين الفينة والأخرى صداع حاد مذ أن استعادت وعيها قبل بضع ساعات..
حقيقةً، لم يكن لدى إيفا أدنى فكرة عمّا تحاول الوصول إليه بقيامها بمد ذراعيها في الهواء و رصِّ أجفانها بقوة، ولكنها استرسلت في سعيها للوصول إلى التركيز التام على جسد ناتاشا البدين.. عندما أغمضت عينيها، جعلت كل ما يحيط بها أقل أهمية من ناتاشا بالذات.. خلال كل الفراغ الأسود، النقطة المرجو الوصول إليها هي التركيز التام على ناتاشا وحسب..
استغرق الأمر حوالي نصف دقيقة، أوشكت تصل فيها إيفا إلى حدود صبرها الهش حتى بدأت أصوات العالم الخارجي بالانحسار، صوت ماديسون و أرنست القادم من الطابق السفلي قد أشرف على التلاشي.. إحساسها العام بما حولها قد فقد ميزته.. كان كل ما تلتقطه حواسها أمران، أولهما أن حرارة دافقة شرعت تتمدد في عروق كفيها حتى بدأت قطرات العرق بالتجمع بين مفاصل أصابعها المرتجفة، وثاني الأمرين أن ناتاشا، قد بدأ صوت موائها الغليظ ببسط نفوذه على أجواء الصمت الليلية..
الأمر ذاته تكرر، كانت هيئة الأجسام الطافية ذات الهالة المضيئة تعيد تشكيل صورتها مجددا، عندما نال الفضول و خرير ناتاشا الغاضب من صبرها، فتحت إيفا عينيها لتستقبل مقلتاها اللتان استُبدِلَ لونُهُما الذهبي المميز بحلقتين فضيتين براقتين حتى أصبحتا تملكان هيئة أخاذة أشبه ببدر مكتمل، ناتاشا تطفو في أرجاء الغرفة معلقة بهالتها الفضية شديدة السطوع..
.
.
تلك الهرة الرمادية، وكرسي، وبعض الأغراض من طاولة التزين خاصة إيفا، و ملاءات إيفا.. كانت كل محتويات الغرفة تقريبا تعوم كالمصابيح..
هل نسيت ذكر إيفا؟ تلك الفتاة المنفعلة في ذهول كانت تطير أيضا لسبب ما، آخذة في الترنح في هلع، تشغل حيزا لا بأس به من حجم الهواء الموجود في الغرفة.. واضعة كفيها على فمها حتى لا يصل صراخها المذعور أسماع والديها..
***************
-"أوغست لُوي.. يكون أحد حاملي الأسلحة من الجيل الرابع.. نقطةٌ لصالحي أليس كذلك؟"
-"نقطة؟.."
أردف أرنست رافعا أحد حاجبيه في إعجاب، ثم واصل قائلا، وقد تظاهر أثناء قوله ذلك بأنه يرفع قبعة وهمية من على رأسه تحيةً لماديسون ..
-"بل مليون نقطة! أحييك على هذا الذكاء أيتها الماكرة.."
تنحنحت ماديسون و أشاحت بعينيها في خجل مصطنع، ثم أزاحت بعض خصلات شعرها الطويل المسترسل جانبا و أردفت..
-"منذ متى تجيد المديح هكذا؟ ..هل وقعت من الدرج عندما ذهبت لإحضار الكتاب؟"
-"ماذا؟"
-"ماذا؟.. هل وقعت فعلا؟"
-"لا.. لا لم أقع.. لم أفعل.."
-"أرنست.. لديك كدمة فوق عينك.."
-"لقد وقع مجلد من تسعمائة صفحة على رأسي عندما حاولت سحب الكتاب.. ألقِ نظرة عليه وحسب.."
قال أرنست، ثم لف الكتاب باتجاه ماديسون وأشار بسبابته نحو سطر من أعلى الصفحة التي كان يحددها سابقا.. حينها استجابت ماديسون لطلبه و انحنت قليلا ثم ضيقت عينيها لتستطيع قراءة ذلك الاسم المكتوب بخط يد.. أردأ ما رأت عيناها يوما..
-"..'أوغست لوي'، إنه مذكور حقا هنا.. هل لديه فصل خاص به؟"
-"هو لم يحظ حتى بفصل كامل عنه، إنها بضعة أسطر لا غير.. وليست تحتوي أي شيء عن أسباب انسحابه .."
-"ماذا تعني بقولك 'انسحابه'؟.."
أردفت ماديسون بعد أن انتابها الإجفال إثر سماعها ذلك الشيء عن الانسحاب، ثم حدقت متوجسة نحو أرنست، الذي طوى ذراعيه أمام صدره ثم صمت لبعض الوقت، آخذة ملامحه في التحوُّر إلى التجهم والعبوس الشديدين لدى ما أوشك على المواصلة قائلا في حشرجة تنم عن عدم رغبته في ذكر ذلك الاسم..
-"إن آلان.. يُعتبر ثاني حارس يُسحب منه السلاح، والأول كان هو أوغست لوي.."
أخفضت ماديسون نظراتها بعض الشيء على نحو مشابه لأرنست، وجعلت تحاول إحكام نبرة صوتها حتى لا تبدي شرارة الحنق التي أوشكت تشتعل، حتى استطردت بشيء طفيف من الانفعال..
-"لا أصدق.. أنا لا أتذكر سوى الحراس الخمسة الآخرين، أما هو فلم أسمع اسمه يذكر أمامي قط.."
-"هذا لأن.. الملك هارالد قد سحب منه السلاح في وقت مبكر جدا.. قيل أنه تخلى عنه طواعية لأسباب خاصة ثم غادر العاصمة مباشرة، لذا لم نسمع عنه قبلا.."
التمعت عينا ماديسون وانضم حاجباها في ترقب، لتضيف بنبرة بها رائحة تردد و قلق، أفرغت معظمه على طرف ثوبها الذي أحكمت الضغط عليه بكفيها دون أن تنتبه.. لقد خشيت من صميم قلبها أن يكون هناك مزيد من الأشخاص الذين تنتمي أسماءهم إلى حلقة الكراهية و الخيانة.. خاصة الخيانة..
-"هكذا إذن.. لا بد و أن له أسبابا نبيلة.. و إلا لَما هو يقف بصفنا الآن، أليس صحيحا؟!"
-"لأكون صادقا، لقد كسب ثقتي الكاملة.. لقد علمتُ منه أنه كان قلقا جدا حيال إيفا، فهو لم يتوقع رؤيتها أبدا، رغم أنه تخلى عن خدمة أسرتها منذ عقود.. فمازال يرى نفسه حاملا للمسؤولية تجاهها.."
-"يبدو لي أنك لم تحاول معرفة القصة وراء انسحابه.."
هز أرنست رأسه نافيا، ثم استرسل في حزم مزيحا كل نبرة غضب من صوته.. حتى تحذو ماديسون حذوه و ينسيا أنهما قد سحبا شريطا مظلما من الماضي الذي يحاولان على غرار غيرهم تجاوزه..
-"لم أفعل، كان الوقت ضيقا لذا تحدثنا عن أشياء أهم، وأخبرني أنه قد وصلتهم أوامر عليا بالتعتيم على أمر الهادرة.. ذلك يصيبني بالحيرة حقا.."
-"وماذا عنك، هل أخبرته بأمر سكوت؟.. أظن أن من حقه أن يعرف على الأقل ما يحدث حوله، لن أسامحكما إذا ورطتما هذا الرجل الطيب في هذه المعمعة!"
-"لقد أخبرته، ولكن ليس بالكثير.. ما يعلمه الآن هو أن سكوت على قيد الحياة، وأنه يواكب التيار و يتحرك عكس اتجاه الريح في الوقت ذاته.."
-"ما الذي يفترض به أن يفهم من هذا الكلام؟"
-"أنه يستحسن به أن لا يتورط وحسب.."
أطبق أرنست دفة الكتاب على صفحته، ثم أدبر مضيفا في ضجر بمجرد تذكره لأمر آخر ظل يضايقه منذ أكثر من ساعة..
-"و بالحديث عن ذلك المزعج سكوت، من الأفضل أن نعيد التفكير في أمر عيني إيفا.. أعني، إن الأعمى يستطيع معرفة أنهما ذهبيتان.."
-"دعني أخمن، السيد أوغست هو الذي نبهك على الأغلب.."
-"اه.. نعم، أيا يكن.. ما أرمي إليه هو، لماذا يخفي ذلك المعتوه عينيه بعناية، بينما يرفض تطبيق الأمر ذاته على إيفا.. ليس فقط لأن فيلدسباث معزولة نوعا ما ولن ينتبه سكانها لأمر مثل 'لون عيني هذه الفتاة غريب ومريب'؟"
-"أعتقد حقا أن لا أحد هنا سينتبه... نحن هنا منذ خمس سنوات و لم يأت أحد طارقا الباب ليسأل 'هل أنتم من التنغستن؟'.."
-"هل كنتِ.. تنتظرين حقا أن يأتي أحد ليسأل عن شيء كهذا؟"
رفعت ماديسون كتفيها بعدم اكتراث، ثم أوشكت على اقتراح أخذ قسط من الراحة بعد أن استعاد أرنست وضعية الكوالا وأخذ في الانزلاق من على كرسيه بمجرد أن توقف عن التحدث.. فإذا بعظامهما ترتج في أماكنها على صوت ارتطامات متتالية على سطح أرضية الطابق الثاني، انتفضا من مقعديهما في استنفار و تبادلا نظرات مندهشة للحظات.. ثم اندفعا مرة واحدة باتجاه غرفة إيفا دون مقدمات..
.
.
الكرسي مرمي على الجانب.. الأرضية مفروشة بأغراض موزعة عشوائيا هنا وهناك.. بعض الأشرطة و قطع الملابس، منها ما هو معلق بالثرية الصغيرة على السقف، ومنها ما هو مشنوق على طرف السرير، ومجموعة أخرى تنضم إلى الأغراض التي توزعت على الأرضية ... عاصفة قد ضربت غرفة إيفا..
عندما وضع أرنست كفه على مقبض الباب و دفعه باستنفار، فوجئ هو وماديسون بذلك المنظر الكارثي، وقبل حتى أن يتاح لهما استيعاب ما حدث، باغتتهما ناتاشا بركضها مذعورة خارج الغرفة، ثم انسحابها عند الزاوية في الممر، آخذة في الخرير واتخاذ وضع استعداد عدائي..
أوشك الاثنان على الولوج إلى الغرفة بهدوء، ولكن لم يستطيعا تجاوز عتبة الباب بسبب الضجة التي كانت تثيرها بعض الأشياء إذا ما داس عليها أحدهما بالخطأ.. ورغم أن نظراتهما القلقة حيال إيفا المتكورة في أغطيتها دون حراك كانت تعي تماما أنها مستيقظة، ولكنهما اكتفيا بالتحديق من بعيد وحسب..
-"ناتاشا سببت هذا.. أليس كذلك؟"
همست ماديسون دون أن تزيح بصرها عن إيفا.. وقد تعمدت ترك صوتها واضحا حتى تتأكد من أن ابنتها تستطيع سماعها..
رفع أرنست حاجبيه في استغراب من ذلك الأمر غير المنطقي الذي تفوهت به، ولكنه سرعان ما استوعب مقصدها لما التفتت ناحيته وغمزت خفية بعينها..
-"حتما إنها تلك الهرة المجنونة، يجب أن نطردها ليلة أو ليلتين.."
أردف هو الآخر متصنعا القناعة باستنتاج ماديسون الاعتباطي، وهناك لاحظ الاثنان أن ملاءة إيفا تحركت قليلا.. رمقا بعضهما البعض بنظرات جانبية حادة، ثم استرخيا و عادا أدراجهما دون أن يضيفا شيئا..
أمسك أرنست طرف الباب و شرع يسحبه بهدوء حتى أغلقه دون أن يصدر أي صوت.. وبمجرد أن هما بالمغادرة، استرخت كفا إيفا عن شد أغطيتها حول نفسها بإحكام و فتحت عينيها الفضيتين على مصراعيهما..
التفتت بحذر كي تتأكد من أن لا أحد خلفها.. حتى وقع بصرها على باب الغرفة المغلقة بإحكام فزفرت بارتياح وشرعت تحاول ضبط أنفاسها ضامة قبضتها على قلبها الذي كان يخفق بسرعة شديدة، بعد أن أمضت الثواني الماضية تحبس نفسها في ارتعاب..
.
.
-"أتظن أنها ستحاول إخفاء أمر القدرة عنا؟"
سألت ماديسون بصوت منخفض بعد أن ابتعدا مسافة لا بأس بها عن غرفة إيفا.. أما أرنست فشبك ذراعيه و أردف بشيء من القلق يشوب نبرته..
-"بل أنا واثق.. يجدر بنا إخبارها أيضا.."
تباطأت خطوات ماديسون حتى لاحظ أرنست تأخرها عنه، فتوقف و التفت نحوها حتى ألفى مقلتيها المرتجفتين تحدقان فيه، عاقدة حاجبيها الرفيعين في توتر أقرب للخوف..
-"خشيت أن نضطر إلى هذا في يوم من الأيام، لست مستعدة لذلك، وإيفا ليست مستعدة أيضا .."
مرر أرنست أصابع كفه على خصلات ناصيته ثم فرك قفاه بسرعة، على سبيل تخفيف حدة التوتر الذي أوشك ينتابه، لولا أنه قد عاد إلى حزمه دون عناء فقد توقع سلفاً ذلك الرد من ماديسون..
-"ومتى ستصبح مستعدة يا ماديسون؟.. إيفا ليست طفلة صغيرة بعد اليوم، تبقت أربع سنوات فقط حتى تصل سن الرشد، لا بد لها أن تدرك ما هي مقبلة عليه في الوقت المناسب، وهذا الوقت قد حان الآن.."
-"ماذا سيقول سكوت؟.. هل تراه لا يمانع أن نخبرها الآن.."
-"فلنتريث قليلا، لن نخبرها غدا أو الأسبوع القادم.. سنخبرها عندما نجد ظرفا مناسبا.."
.
.
أمسكت إيفا بطرف ملاءتها ونفضتها في الهواء مبعِدة إياها عنها، ثم اندفعت راكضة حتى استقرت واقفة مقابل مرآة خزانتها..
قربت وجهها ببطء حتى أوشكت تلتحم بانعكاس هيأتها المعتمة، والتي طغى عليها الشريط الفضي المضيء الذي طفق يغلف كفيها و حدقتيها..
ما انفكت تتأمل صورة عينيها مليا، دون أن ترمش أجفانها لوهلة حتى بدأ وخزات مؤلمة تحيط بمقلتيها الجافتين...
استجابة لذلك الأمر، أرخت عضلات وجهها المنقبضة لدهشتها، وضمت أجفانها تزامنا مع التقاطها نفسا عميقا.. حبسته في جوفها لما بادرت بعض الأفكار المشوشة بتعكير محاولتها للاسترخاء..
'لماذا؟ كيف ومنذ متى؟.. أتراني أتخيل أم فقدت عقلي؟!'
أشاحت بوجهها عن المرآة وأبت النظر في انعكاسها مجددا، خشية أن تجد ذلك الضوء لا يزال يصدر منها كأنها نفايات مشعة.. لذا فأول ما فتحت عليه بصرها كان غرفتها المقلوبة على بعضها..
مطت إيفا شفتيها و عبس حاجباها في حيرة وهي ترى بأم عينيها الإثبات الصريح أن ما حدث معها منذ دقائق كان حقيقيا بكل تفاصيله، لم تدر ما تفعل سوى أن رفعت كفيها تحدق فيهما بعينين ذاهلتين..
"أنتما فعلتما هذا؟.."
هزت حاجبيها و شرعت تحرك أصابعها في الهواء، تتأملها في فضول، وقد كان للشرود حصة كبيرة من نظراتها..
ولم تكن إلا ثوان، حتى ضجرت إيفا من انتظار تلاشي تلك الهالة المضيئة و نال منها النعاس، فعادت أدراجها وارتمت على فراشها في خمول، حتى لم تعبأ لشدة تضايقها بسحب الملاءة لتدفئة نفسها..
'ربما.. بل قطعا، جينوا رأت هذا ولم تتفاجأ، هل كانت تعرف أم ماذا؟..'
..
'... حقا.. كيف حالها الآن يا ترى..'
أخذ الذبول يتسلل بين أجفانها حتى غفت في لحظات معدودة.. بمجرد أن سلمت وعيها إلى عالم الأحلام، اختفت آثار النور الذي يشبه ضياء القمر كأنه سحاب عابر..
*
*
*
**********



6100 كلمة 🧐

© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
نشيد المحاربين
Коментарі