تحية
الفصل 12: تحية
"أنت محبوسة في هذا المكان الموصد، وحيدة.. هل تريدين أن أحررك؟.. سأفعل، طيري إلى ديارك ولكن عديني بأن لا تعودي إلى هنا مجددا، عيشي حياتك وانعمي بحريتك، الحياة أقصر مما تبدو عليه.. خاصة، بالنسبة لكائن صغير وضعيف مثلك..."
***************************
خلف نافذة غرفة المشفى المفتوحة على مصراعيها صباح لطيف، شمس ساطعة ورائحة الرطوبة القادمة من البحيرة بدأت تصنع الأجواء الصيفية المبهجة، ما تزال العجوز الغريبة تشخر..
-"بعدها تشقلبت عدة مرات وبوم!.. ظهرت سراويلها–"
انفجرت جينوا ضاحكة كأنها حصان يصهل، بعد أن أعادت سرد اللحظة التي رأت فيها إيفا تتدحرج عندما توقفت عن الطيران للمرة الثالثة على مسامع ماديسون، الجالسة على مقعد بقربها تشخر ضاحكة من أنفها هي الأخرى..
-"لقد فتحت عيني وحسب، لا أدري حتى ما حدث أو كيف وصلت إيفا إلى هناك ولكنها وقعت على وجهها و ارتفعت التنورة هكذاا–"
ثم انقطعت عن الحديث مجددا بضحكة أكثر همجية، رفقة ماديسون التي أوشكت تقع أرضا بعد أن لم تستطع إمساك بطنها.. ليس من الحدث بقدر ما هو من طريقة سرد جينوا المثيرة للسخرية..
-"يكفـِ– يكفي أنا لا أتنفسـ–"
أردف صوت ماديسون المتقطع مترجية جينوا أن تكف عن التحدث، وقد شرعت تدمع وتسعل..
كانت إيفا التي امتلأ عنقها وذراعاها وحتى ركبتاها بالضمادات واللاصق الطبي واقفة بجانب الطاولة الصغيرة قرب السرير، تقوم بترتيب بعض الأزهار البرية التي قطفتها من حديقة المشفى خلسة في كوب المياه، منذ ربع ساعة تترقب في نفاد صبر انتهاء سخرية أمها وجينوا من شيء لا يضحك البتة..
-"هذا جل ما أتذكره، ماذا عنك إيفا هل تذكرين ما حدث بعد انهيار المكان؟"
-"أعتقد أنني لمحتك مستلقية هكذا.."
أردفت إيفا هازئة ثم قامت بوضعية تشبه الرقصات الفرعونية التي توجد في العادة على جدران المعابد، مدنية حدقتيها إلى بعضهما حتى تبدو حولاء..
شرعت ماديسون وجينوا ترتجان ضاحكتين، وقد أعجب ذلك إيفا فاستمرت في تحريك ذراعيها كالأعشاب البحرية..
لقد مرت ساعةمنذ قدمت إيفا برفقة والدتها لزيارة جينوا في المستشفى، وبعد انقضائها بين أخذ ورد حيال من سيفقع مرارة ماديسون أولا من سماجتهما، رغم أنها لم تنكر كونها ضحكت من أعماق قلبها في بعض الأحيان.. انتهت عيادتهما وهمتا بالمغادرة متمنيتين لها الشفاء العاجل، عندها اندفعت جينوا مستوقفة إيفا..
-"مهلا!.. إيفا.."
التفتت إيفا نحوها لتجدها تشير لها بيدها كي تقترب، فدنت منها تاركة خلفها ماديسون تقف عند عتبة الباب منتظرة إياها لتلحق بها.. ما تحدق به لم يبدُ لها سوى عناق عادي بين صديقتين، ولكنها أخفت ابتسامة بدأت تظهر على شفتيها عندما طال ذلك العناق أكثر مما يجب..
-"في المرة القادمة تعالي بمفردك.."
-"لا أطيق صبرا.. لدي الكثير من الأسئلة حقا.."
تخاطفتا تلكما الهمستين السريعتين ثم انفصلتا عن بعضهما، لتأخذا في تبادل نظرات مبطنة بالحزم والجدية على غير المعتاد.. ثم قامت إيفا ولوحت لها مودعة..
-"ستأتي عمة والدتي لتعتني بي بعد يومين، يمكننا أن نلتقي في منزلي حينها.."
-"سآتي حتما، نلتقي لاحقا"
-"إلى اللقاء.. شكرا لكما على الزيارة"
ثم استرسلت في التلويح لإيفا وماديسون حتى اختفيتا عن أنظارها، عندها أخفضت يدها ثم التقطت نفسا عميقا، بعدها التفتت نصف التفاتة ناحية علبة معدنية ملونة أحضرتها ماديسون لأجلها وظلت تتوق لفتحها منذ البداية.. كان من الصعب فتحها بيد واحدة فقد استمرت أصابعها في الانزلاق حتى أوشكت تفرقع صارخة في سخط.. ولكنها في النهاية حصلت على ما بداخلها دون أن تشتم أحدا، كانت مملوءة بحلويات شوكولا منزلية الصنع..
-"أحتاج إلى طريقة للتخلص من العمة سوزن أيضا.. ربما أخدرها أو أضربها على رأسها.. ولكن ماذا لو ماتت عن طريق الخطأ.."
أدبرت قائلة بينها وبين نفسها وفمها مملوء عن آخره، ولكنها خرست فجأة ولم تستطع قول أي شيء آخر، وإنما اكتفت بالتحديق كالبلهاء إلى الوجه المصدوم للعجوز التي تشاركها الغرفة من كلامها عن التخلص من عمتها، وكأنها لم تجد غير تلك اللحظة لتستيقظ فيها..
.
.
––––––––––––––––––––––––––––
-العاصمة الملكية يورد | قلعة سفانهيلد-
يورد صاخبة جدا اليوم أيضا، عند التفكير في مدى قدرة سكانها على التعايش مع كل تلك الفوضى فإن الأمر يبدو مذهلا على نحو ما.. عموما، مقصدنا ينأى عن مركز المدينة والطرق الرئيسية المزدحمة، حيث كانت أحياء الأثرياء المتواجدة في هضبة على أطراف المدينة تتميز بالهدوء، سكون وصمت يغشى أرجاءها كأنما تلك القلاع الفارهة المحاطة بالأشجار المعمرة مهجورة..
لم يعكر أجواءها الموحشة سوى هدير محرك سيارة سوداء رباعية الدفع، اندفعت تخترق الطرق الواسعة التي تتوزع على جانبيها أسوار فيلات أصحاب الطبقة الأرستقراطية، تنفض إطارتها الغبار عن الأرض فتهيجه حولها كأنها تقتاد عاصفة إلى وجهتها، والتي أخذت تتراءى شيئا فشيئا بمجرد أن انعطفت السيارة تاركة خلفها آخر منزل من تلك المنازل البرجوازية على بعد نصف ميل على الأكثر..
متربعا على قمة الهضبة، لمعت حافته العلوية المدببة شامخة، تترنح متعلقةً بها رايةٌ ذات خلفية باللون الأزرق البحري، يتوسطها رسم لدرع مقسم على أربع، تحيطه رموز غير واضحة المعالم مطرزة باللونين الذهبي والفضي؛ جناح واحد شاهق الطبقات تعكس واجهته الكريستالية الأخاذة صورة القبة السماوية الزرقاء في وضح النهار فيبدو للعيان كأنه قطعة منها، مزين بأعمدة خارجية أسطوانية الشكل فارعة الارتفاع، ناصعة البياض، تزينها من حوافها العليا والسفلى بعض الزخارف النباتية المتقنة. يتوزع على جانبي الجناح الضخم مبنيان متطابقان، ذوا قباب زجاجية وبنية أسطوانية، يفوقهما الجناح الرئيسي بعدد لا بأس به من الطوابق، تعلو كليهما رايات مطابقة للسابقة من حيث التصميم ولكنها ذات شكل مثلث، تتأرجح كذلك بسبب الرياح الباردة التي أخذت تضرب ذلك العلو الشاهق، فلم يسلم من عنفوانها حتى أشجار الغابة المحيطة بالمبنى بأكمله.. والتي هي في الأساس مساحة تابعة للحديقة الملحقة به على وجه الدقة..
إن هذا المكان الساحر الذي لا يراه عن قرب إلا محظوظ ابن محظوظة، حيث أن معظم من ادعى رؤيته لم يكن يقصد سوى حافته الزجاجية الشاهقة التي يمكن لمحها حتى من حواف المدينة، أو ربما يقصد أنه رآه في آخر مرة عرضت فيها صوره على التلفاز، قبل عشر سنوات.. إنها 'قلعة سفانهيلد الملكية'..
توقفت السيارة رباعية الدفع للحظات أمام بوابة المبنى الهائلة ذات القضبان المعدنية، ريثما تقدم حارسان يرتديان ملابس عسكرية، يعلق كل منهما بندقية على كتفه نحو مصراعي البوابة ودفعاهما مفسحين الطريق للسيارة..
ولجت إلى الساحة المحيطة بالقصر ثم تقدمت نحو الأمام والتفت حول النافورة التي كانت تتوسط المسار المرصوف إلى مدخل القصر طولا، وفَدَّانَي الأشجار المقلمة على الجانبين عرضا، ثم توقفت مقابل السلالم المؤدية إلى بوابة مدخل القصر الخشبية ذات المقابض المطلية باللون الذهبي، والتي كُلف بحراستها أربعة من الحراس متطابقي الهيئة مع الآخرين المتواجدين عند بوابة السور..
ترجل السائق أولا، كان رجلا ضخم البنية حليق الرأس، يرتدي طقما أسود بالكامل ويخفي ملامحه غير المعبرة بنظارات سوداء حالكة، سار باستقامة نحو الباب الخلفي للسيارة ثم فتحه وأفسح الطريق للركاب بالنزول..
أولهم رجل متوسط الطول، يرتدي بذلة سوداء، مع قميص أسود ومن غير ربطة عنق؛ ترجل من المركبة ثم مرر كفه بسرعة على رأسه مثبتا شعره الفاحم المسرح للخلف، وكان قد ثبت بأطراف أصابعه قناعا أبيض يغطي نصف وجهه -مماثل للتي كان النبلاء يرتدونها في المزادات والحفلات التنكرية-..
خلفه مباشرة، انضم إليه شخصان آخران كانا على غراره يضعان أقنعة مشابهة، أحدهما كان فتاة شقراء الشعر، ترتدي ملابس سوداء بالكامل هي الأخرى ولكنها غير رسمية المظهر، تنورة وحذاء طويل، تعلوهما سترة جلدية قصيرة و طوق أسود يحيط بعنقها على سبيل التزين، والآخر كان فتىً، يبدو أقصر قامة منها بقليل ربما بسبب كعب حذائها العالي، يرتدي سروال جينز وحذاء رياضيا مع قميص عادي بلا تفاصيل وقبعة بيسبول تسلل من جانبيها أطراف خصلات شعره الصهباء؛ شرعا يسرعان الخطى وراء صاحب البدلة دون أن يتفوه ثلاثتهم بحرف..
بمجرد أن اقترب الأول قبالة الباب، تقدم اثنان من الحرس الأربعة ودفعا دفتي الباب، فانسحبت إلى للخلف ببطء يرافقها صرير صاخب مضى صداه يتردد في أرجاء الردهة الفسيحة مظلمة الأركان، دون ضرورة التطرق إلى الأبهة والفخامة التي اصطبغ بها تصميمها الراقي من أثاث فاخر وثريات فارهة مطفأة عدا أكبرها المعلقة في المنتصف، متلألئة رغم الغبار الذي يغلف كريستالاتها المتدلية..
واصل الثلاثة مقنعوا الوجوه تقدمهم نحو السلالم، ثم تجاوزوا أحد الأروقة الشاسعة المفروشة بسجاد أحمر ذي حواف ذهبية، حتى وصلوا إلى نهاية الرواق حيث وقف باستقبالهم حارس آخر يحمل بيده رمحا ذا رأس مدبب صغير، على خلاف سابقيه، وكذلك ثيابه كانت أكثر رسمية، أشبه بالحرس الملكي الفعلي.. عندما لاحظ هذا الأخير اقتراب الضيوف ناحيته، داس الأرض بقوة ثم استقام في وقوفه مثل التمثال ورفع رأس رمحه حتى ذقنه، وعندما وصل صاحب البدلة السوداء قبالته اندفع محَيِّيًا..
-"السير جيريمي كارتر، تفضل سيدي!"
هز الآخر رأسه ثم أردف مشيرا له بالاستراحة..
-"فلتُعلم السيد الحاكم أنني قد وصلت.."
-"إنه في انتظارك بالفعل سيدي!"
أدبر الحارس في حزم موجها عينيه نحو السماء حتى لا تلتقيا مع خاصتي المدعو 'جيريمي كارتر' حتى وإن كانت تعابيرهما مخفية خلف ذلك القناع.. مد إحدى ذراعيه ودفع دفة الباب بهدوء، ثم أضاف مع انحناءة بسيطة..
-"رجاء فلتتفضلوا"
ولج الثلاثة إلى الحجرة دون تلكؤ، يتبع الاثنان ظهر جيريمي في خطوات ثابتة، حتى توقف هو فكفَّا هما عن السير وثبتا أماكنهما منتظرين إشارة منه..
-"طاب يومك، جلالتك"
نبس جيريمي بلهجة رسمية ثم انحنى انحناءة بسيطة، بعد أن خلع القناع من على وجهه وطوى إحدى ذراعيه للخلف، بينما قدم الأخرى واضعا كفه المحجوبة داخل قفاز أسود على صدره، بعدها استقام ثم سار خطوتين للجانب وأشار خافضا كفه لمرافقيه بأن ينحنيا..
-"تحياتي جلالتك، أوسولوت تحت خدمتك"
ألقت الفتاة الشقراء تحيتها، بعد أن خلعت قناعها وجعلت كفها على صدرها، مثل جيريمي تماما.. ثم تبعها صاحب القبعة و أردف مترددا، فقد كان على نحو ما شاردا في التحديق إلى رخام الأرضية المزين حتى نسي نفسه..
-"تـ..تحياتي جلالتك! نِييُو آكسل تحت خدمتك!"
ثم انحنى وفعل مثلما فعل الآخران..
لمن يقدمون تحيتهم يا ترى؟.. أيا يكن فقد أبدى المدعو جيريمي احتراما أقل قيد شعرة من الآخرَيْن، فبينما استقام من انحنائه سريعا، بقي مرافقاه على وضعيتهما ذاتها..
لا تفكر أسولوت في شيء البتة، إن لها عينا لشدة فراغها تبدو كقرص من لحاء الشجر البني الجاف، لا تتحرك رموشها الذهبية ولا كأن لها ردات فعل طبيعية أو قلبا ينبض، عينها الأخرى–.. لا بل نصف وجهها الأيمن بأكمله مستتر خلف خصلة ذهبية منسدلة بشكل مرتب من مقدمة رأسها..
أما آكسل فكان ينبض بالحياة، لتوتر أو لقلة حيلة، أو ربما لحيرته.. كان الوحيد في تلك الغرفة من تتحرك مقلتاه في محجريهما مثل إنسان طبيعي، وكتفاه يرتجفان بين الحين والآخر كونه استعسر البقاء منحنيا بتلك الوضعية لمدة تتجاوز الخمس ثوان، أمضاها يحاول تحريك رأسه ببطء حتى يتسنى له إلقاء نظرة خاطفة على مضيفهم الغامض..
حركه درجة ثم درجة تليها، في تريث وحذر حتى وصل الزاوية الكافية التي التمعت بلورتا الكراميل الحادتان خاصته إعجابا بما رأته عندها، حينما حظي بالنظر إلى صاحب أكبر نفوذ على الأراضي المسماة بمملكة إيلدينغار، الرجل الذي تتسع كل الموازين في قبضته.. 'الحاكم'.
كان غريبا.. هيئته تبدو لشاب في مقتبل العمر، يرتدي بدلة رمادية مع سترة خضراء داكنة بلا أكمام فوق قميص أبيض مكوي بعناية، تدلت حتى أسفلِ كتفيه بقليل خصلات شقراء خفيفة، الجزء العلوي منها مربوط في شكل ذيل حصان قصير، والأسفل مُسدَلٌ لحاله..
عندما دخل الفتى أحمر الشعر تلك الغرفة في البداية لم يرفع رأسه عمدا، ليس احتراما بقدر ما هو احتراز منه كي لا تلتقي نظراته مع نظرات ذلك الرجل، فقد اعتقد في مخيلته أنه سيستقبلهم جالسا بخيلاء على كرسي فاخر في وسط الحجرة ذات الطراز الملكي بأرائكها الحمراء ذات الحواف الخشبية اللماعة، والسجاد الباهض الذي يزين الأرضية الخشبية بمقاييس مضبوطة بدقة، إلا أنه فاجأهم بانبطاحه جالسا القرفصاء عند زاوية الغرفة، لم يبدُ كأنه أحس بقدومهم حتى.. على الرغم من استعداده مسبقا -حسب قول الحارس-، أو تحيات ضيوفه اللبقة والصبورة..
أوشك آكسل على الاستقامة واقفا بعد أن يئس من محاولة التماسك منحنيا، ولكنه ما فتئ أن عاد لإخفاض رأسه في خضوع بعد أن شعر بجيريمي يحد ناحيته نظراته اللاسعة بطرف عينه..
حدقتاه الجافتان ذواتا اللون البني المحمر ظلتا مثبتتان على ظهر الحاكم بصبر وتعابير باهتة كأنه معتاد حقا على سلوكاته الغريبة التي لا تمت للبروتوكولات الخاصة بأي صلة تذكر، ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها بالصمم على الأرجح..
-"أهلا بكم، رجاء فلتجلسوا أين يحلو لكم.."
لقد تحدث أخيرا، قال ذلك بصوت فيه بحة خفيفة أدبر بعدها يحمحم منظفا حلقه، ثم تابع قائلا بعد أن استقام واقفا، ما يزال لم يقابلهم بوجهه بعد، ويداه كانتا منضمتين لبعضهما وكأنه يحمل شيئا ما بحرص..
-"شكرا على التزامك بالموعد، جيريمي.."
-"أرجو من جلالتك أن تناديني باسمي العملي، 'ديفا'.."
تنحى الشاب الأشقر بضع خطوات إلى الجانب حتى توقف أمام الشرفة التي كانت أبوابها مفتوحة منذ دخول ضيوفه، ثم مد ذراعيه وفرج أصابع كفيه، فإذا بدعسوقة برتقالية تنفض أجنحتها وتندفع محلقة بعد أن أعطاها دفعة انطلاق.. اتضح أن ما كان يثير اهتمامه عند زاوية الغرفة لم يكن سوى حشرة ملونة، لم يطلب منه أحد أن يحررها، ولكن لا بد وأنه كان سعيدا برؤيتها تحلق بحرية، فقد همس بصوت خفيض وكأنه يحدثها قائلا.. "عودي إلى ديارك سالمة"..
تنهد بعمق، مستمرا في التحديق بصديقته الصغيرة حتى اختفى أثرها وسط زرقة السماء، بعدها أوصد باب الشرفة وأسدل الستائر حتى حجبت المنظر الخارجي بالكامل.. ثم التفت وأردف معقبا على رغبة جيريمي في أن يناديه باسمه الذي نعرفه منذ البداية بـ'ديفا'..
-"أُفضل أن نتحدث بحرية، لذلك لا داعي للرسميات.."
لم يظهر جيريمي -ديفا- أي رد فعل وإنما اكتفى بالصمت تعبيرا عن عدم رغبته في الاطناب بشأن الطريقة التي يناديه بها الآخر، هذا الأخير اتخذ مجلسه على إحدى الأرائك كانت تتوسط الحجرة محاطة بالمزيد من الأثاث المشابه، أشار للجميع بيده كي يجلسوا، ثم استطرد مرحبا بلهجة لبقة هادئة..
-" نحن نعرف بعضنا البعض من قبل ولكن لا بأس بتقديم نفسي مجددا، أدعى آلان هانسمورتن، سعيد برؤيتكم هنا اليوم.."
صوته كان مريحا جدا بشكل ما، إنه يبتسم على الأرجح، ولكن لن تستطيع التحقق من ذلك، ولا أحد يستطيع، فهو كان يرتدي قناعا يغطي وجهه بالكامل..
أجل، على ذكر هذا.. سطح ذلك القناع أملس فضي، تشوبه بعض الخدوش الواضحة، ولكنه بقي محافظا على لمعانه الشديد كأنه مرآة زجاجية.. لم يخلعه الحاكم عن وجهه ولم يُبدِ نيةً لذلك، بل استمر في التحدث بشكل عادي موجها كلامه إلى أوسولوت وآكسل إذ أنه التفت ناحيتهما حتى أصبح بمقدورهما رؤية انعكاسهما واضحا على قناعه..
-"أردت مقابلتكما، إنكما تبدوان بصحة جيدة.. أنجيلا وكريس.."
أجفل آكسل لما استدرك أن الرجل يحدثه هو مناديا إياه بـ'كريس'، خلع قبعته عن رأسه وكورها في قبضته، ثم أردف مخفضا رأسه في إحراج..
-"شـ..شرف لنا جلالتك.."
بعدها التفت قليلا وهمس لمرافقته جامدة التعابير معاتبا، والتي كانت على خلافهم جميعا ما تزال واقفة، ترفض مشاركتهم في الجلوس أو الحديث دون سبب واضح..
-"أنت، أنجيلا!.. لماذا تقفين، اجلسي!"
تجاهلته ذات العين الواحدة ولم تبادله النظر حتى، وكانت ماضية على نيتها في تجاهل صوت جيريمي أيضا عندما اندفع آمرا..
-"أوسولوت–.."
ولكن الحاكم قاطعه قبل أن يتاح له قول شيء غير اسمها..
-"جيريمي رجاء.."
ثم وجه كلامه نحوها ، كما يفضل أن يسميها 'أنجيلا'، بصوته الهادئ اللطيف..
-"تفضلي بالجلوس يا أنجيلا، من فضلك فحديثنا مهم جدا"
طرفت عينها مرة واحدة، بعد لحظة مرت عليها وهي تحدق في شرود إلى انعكاسها على قناع هانسمورتن، ثم أخفضت بصرها وانسحبت لتجلس على مقعد بجانب آكسل دون اعتراض..
-"حسنا إذا، لا بد أن جيريمي أخبركما لماذا استدعيتكما.."
التفت آكسل إلى أنجيلا حتى وسعه أن يتبادل معها بعض النظرات المرتابة، بعدها عاد كلاهما ليحدقا بصاحب القناع الفضي في ترقب لما سيضيفه على المعلومات المتواضعة التي يحوزان عليها.. صرح آكسل في تردد مجيبا..
-"سوف.. تكلفنا بمهمتنا الأولى!.."
هز الحاكم رأسه مؤكدا، ثم تابع وقد بدأت نبرته المشرقة تبهت إلى غاية بلوغها حدا من الجدية بعيدا عن اللهجة الودودة التي افتتح بها الحوار آنفا..
-"صحيح، إنها خطوة غاية في الأهمية، إن مصير إيلدينغار يعتمد على نجاحكما.."
فصل كلامه للحظات، بدا لوهلة وكأنه مستمتع بالتوتر الذي بدأ يتراءى على ملامح محدثيه، آكسل بدرجة أشد.. أما جيريمي فكان خارج الإطار، مقعده أساسا كان منفصلا عن الآخرَين، وقد كان منشغلا بترتيب أكمامه وقفازاته السوداء غير مكترث كثيرا لتلك المحادثة، بيد أنه جلي الوضوح كونُه مسبقا يحيط علما بكل ما قاله الحاكم، وكل ما سيقوله تاليا..
-"لديكما مهمتان لا ثالث لهما، وأنتما لن تعودا حتى تنجزاهما.. ولكن قبل أن نتطرق إليها، سأزودكما ببعض التفاصيل حتى لا تتوها أثناء بحثكما.."
صمت لحظة قيد ما التقط أنفاسه، ثم تابع الشرح بعد أن عدل وضعية جلوسه إذ أسند مرفقيه على ركبتيه وانحنى للأمام قليلا في حركة متعمدة كتلميح لضرورة التركيز مع كل كلمة سيقولها..
-"لقد كان بحوزة الأسرة الحاكمة كتاب، كاتبته هي المؤسسة الأولى للفرع الحاكم الجديد 'إيفيلين ليتوفيتشينكو'.. لقد دونت فيه بعض المعلومات التي استطعت استغلالها للعثور على مفتاح مخططنا الأساسي، المخطوطة والأختام..، مهمتكما الأولى تقتضي العثور على هذه المخطوطة.."
-"ماذا عن الكتاب في حد ذاته؟"
تجاوز آكسل تردده واندفع مستفسرا، كل ما كان يجول بباله حينها هو كسب ما يكفي من المعلومات ودفع الشكوك حتى يجنب نفسه تبعات ارتكاب الأخطاء، آلان هانسمورتن كان كريما في ري فضول الفتى، رغم ما بدى على نبرته من امتعاض طفيف تجاه السؤال، إذ أنه زامن حديثه مع ضمة شديدة أشبك فيها أصابع كفيه كأنما يحاول الحفاظ على هدوئه من التلاشي..
-"ليس لنا حاجة بذلك الكتاب في الوقت الراهن، كما أنه ليس بحوزتنا الآن.. ولكنني استفدت منه بما يكفي.. الأهم هو أن المعلومات التي يحتويها عن المخطوطة تحت رحمتنا.. إنها الآن بلا شك مدفونة بين دفتي أحد كتب الخيمياء المحفوظة في أرشيف المكتبة التي بنتها إيفيلين بنفسها، فحسب ما جاء في كتابها سالف الذكر، فإنها قد دفنت المخطوطة في المكان الذي عاشت فيه بقية حياتها حتى توفيت.. 'فيلدسباث'.."
قام الحاكم من مكانه وسار بضع خطوات ملتفا حول الطاولة المستديرة التي كانت تفصل المقاعد عن بعضها البعض، ثم استقر واقفا مقابل باب الشرفة، أزاح الستارة مقدارا ضئيلا بأطراف أصابعه وتابع شرحه غير عابئ بضرورة رفع صوته كونه يرتدي قناعا ويبدو كمن يحدث الجدار لإشاحته عن ضيوفه..
-"بناء على هذا؛ ستحضران لي المخطوطة، هذا هو الأمر الأول.. سوف تحصلان على تصاريح بهويتيكما المسجلتين للبحث في الأرشيف، وبهذا نتفادى احتمال كشف التزوير، فهدفنا هو الحصول على المخطوطة دون أن يلاحظ أحد اختفاءها، ولا بد أن مدة شهرين ستكون كافية لهذا.. أمامكما يوليو وأغسطس، لا بد من تنفيذ المهمتين قبل بداية الموسم الدراسي القادم بعد ثلاثة أشهر من الآن.."
..
-'قال مهمتان، هل قال مهمتان؟!..'
كان ذلك آكسل يحدث نفسه هامسا، أغفلته حيرته عن الاحتراز حيال قول ذلك بصوت مسموع، كذلك لم يظهر الحاكم أي جانب عدائي أو مبالغ في الصرامة مثل ديفا الذي تنهد متبرما وما زال يسند وجهه على قبضته في ضجر، بل إنه التفت واستغرق في الكلام مباشرة بعد سماع السؤال..
-"معك حق يا كريس، يبدو أنني أسهبت في التحدث عن أمر المخطوطة.. إن الأمر الثاني الذي أريد منكما التحقق منه هو.."
اتسعت عينا آكسل وابتلع ريقه في رهبة لما فاجأه هانسمورتن برده السريع، ثم أخذت تعابيره بالمضي نحو أمارات الصدمة لما التفت الحاكم ناحيته ورفع كفه، ثم قبضها بقوة تزامنا مع تصريحه الحازم الذي جعل حتى أنجيلا المتبلدة تجفل..
..
"هويات حراس الجيل السادس."
.
.
––––––––––––––––––––––––––––
-بعد مرور ثلاثة أيام-
..
-"أين هي، أين هي.. أين هي الآن؟! قالت أنها ستكون هنا عند التاسعة صباحا ولكنها الواحدة ظهرا! سأتأخر كثيرا على هذا المعدل.."
متخذة مسارا مستقيما على طول غرفة المعيشة، أخذت يلفيا تذرع أرجاء المكان جيئة وذهابا، تتذمر وتحرك ذراعيها في الهواء تنفيسا عن الاغتياظ الذي اجتاحها لسبب ما..
في الآن ذاته كانت جينوا مستلقية على كنبة مقابلة للتلفاز، تطوي ساقا وتدلي الأخرى، تعانق صحنا كبيرا من رقائق البطاطا ثبتته على جبيرتها الصلبة حتى لا يتدحرج بعيدا.. على عكس والدتها، كانت أعصابها فاترة جدا، أنظارها منصبة على محطة إخبارية منذ الصباح الباكر على غير عادتها، حتى أوشك الملل ينال منها.. أردفت في خمول على شكوى يلفيا التي لم تكن توجهها لها أساسا..
-"ما بالك متفاجئة من تأخرها وكأنها المرة الأولى.. أنسيت أنها أخبرتك بأنها ستأتي يوم الاثنين، إننا في الخميـ–"
كفت جينوا عن الكلام ورفعت أحد حاجبيها متسائلة بشأن إشارات والدتها المفاجئة لها بأن تسكت. بعد ثانيتين من الصمت انطلق للمرة الثانية صوت طرقات ضعيفة على الباب الخارجي للبيت، عندها انفرجت أسارير يلفيا وصاحت في ابتهاج..
-"لقد جاءت!"
ثم اندفعت تهرول لفتح الباب..
..
-"إيفا؟"
شعرت يلفيا بخيبة أمل لم تفلح في إخفاء أثرها عن تعابير وجهها، لما وجدت الطارقة إيفا وليست عمتها العجوز التي تنتظر قدومها منذ أسبوع كي تعتني بجينوا في غيابها..
إيفا من جهتها شعرت بالبلادة والاحراج عندما لم تستوعب سبب ذلك الاحباط على وجه يلفيا فصاحت لا شعوريا..
-"صباح الخير!"
.
.
-"حسنا تذكري، حبة وسط العشاء، وهذا قبل النوم، والحقنة بعد الغداء.. رددي"
أدبرت يلفيا تحدث جينوا، وقد كانت تمسك بيديها علبتي دواء صغيرتين وعبوة معهما، أخذت تشير إليها بالتناوب أثناء شرحها.
بينما إيفا تقف بجانب الكنبة وتركز باهتمام على كلام يلفيا، أردفت جينوا دون أن تزيح عينيها عن التلفاز..
-"قبل العشاء وسط العشاء بعد العشاء.."
ثم أصدرت فرقعة بأصابعها وغمزت لوالدتها.. هذه الأخيرة تشنجت مكانها وطفقت تحدق في ابتسامة جينوا الصفراء بملامح منهكة و فارغة..
-"انسي الأمر، ستبدأ مناوبتي بعد قليل.."
تنهدت في استسلام، ثم وضعت الأدوية بجانب التلفاز. علقت حقيبتها على كتفها، وتابعت مضيفةً..
-"حين تصل عمتي اتصلي بي كي أشرح لها مواعيد الأدوية.."
-"حسنا"
أجابت جينوا، بعد ذلك همت يلفيا بالمغادرة و أضافت أخيرا عندما بلغت عتبة الباب..
-"ابقيا آمنتين، اعتني بها جيدا إيفا"
-"حاضر! لا تقلقي عليها.."
.
.
انطلق صوت انغلاق الباب معلما بمغادرة يلفيا وخلو البيت من أي أحد عدا جينوا التي انمسح الخمول عن ملامحها حالا، وإيفا التي لم تتحرك من مكانها ولم تدخر وقتا حتى أزاحت تلك الهيئة اللبقة عن نبرتها، طوت ذراعيها واستطردت مستفتحة الكلام ببعض الغموض..
-"إذن.."
كانت جينوا ما تزال مستلقية مكانها، وضعت الطبق أرضا ثم مدت ذراعها السليمة لإيفا..
-"ساعديني على الوقوف.."
-"لماذا؟"
-"سوف أبدأ بقول أشياء.. غريبة، ضعيني نصب عينيك وركزي.."
هزت إيفا ذقنها متفهمة، ثم أسندت جينوا ببطء وحرص حتى سحبتها لتستقر واقفة هي الأخرى، ليس قبل أن قامت بالتمدد وفرقعة مفاصلها الواحد تلو الآخر بعد أن أمضت ثلاثة أيام مستلقية بنفس الوضعية..
بعدها ومن غير سبب وجيه، وقفت تحدق في إيفا دون قول أي شيء لمدة دقيقة كاملة، في البدأ بادلتها هذه الأخيرة التحديق ظنا منها أنها تستجمع شتات أفكارها لا غير، ولكن مع كل ثانية تمر أخذت تزداد اقتناعا بأن جينوا لا تنوي على خير من تلك النظرات الفارغة التي سريعا ما تحولت إلى تعابير شخص تافه يحاول كبح ضحكه..
-"بربك! كفي عن المماطلة وانطقي!.. "
صاحت إيفا في وجه جينوا بعد أن نفد صبرها من الانتظار، ولكنها بمجرد أن فعلت ذلك؛ جادت عليها جينوا بضحكة من أعماق معدتها.. حصلت جراء ذلك على لطمة عنيفة على ساقها أحالت ضحكها إلى صراخ..
-"أنا أكاد أفقد عقلي من التفكير، وأنت تضحكين وكأن لا شيء من هذا يعنيك!!.."
زجرتها إيفا ثانية، وقد استحال حاجباها ملتصقين بمقلتيها لشدة عبوسها. عند ذلك فقط كفت جينوا عن التألم واستعادت هيئتها الحازمة، حمحمت منظفة حلقها وأشارت لإيفا بالجلوس، وبعد كل ذلك الاستعداد الجاد، عادت للتحدث بلكنتها المتناعسة المازحة..
-"لا أدري من أين أبدأ يا عزيزتي–"
-"اصمتي عليك اللعـ!... اه.. اسمعي، فلنتظاهر بأننا ما نزال في ليلة الاثنين، وأننا غادرنا الحفل قبل أن تصب علينا اللعنة.. ماذا، كنتِ سوف تخبرينني بحق السماء؟!"
-"صحيحٌ!.. لقد كنتِ درامية جدا حينـَ–"
-"أدخلي في صلب الموضوع!"
-" حسنا حسنا لا تصيحي، سأبسط الأمر لتستوعبيه جيدا.. نحن، أي أنا والآخرون، نخفي عنك شيئا صغيرا.."
فصلت جينوا حديثها لما شرع أحد حاجبي إيفا يرتفع شيئا فشيئا.. أدركت حينها أنها تحاول تقزيم الموضوع دون فائدة. لذا أضافت مصححةً ما اعتبرته إيفا التباسا بنظراتها الشوساء الغاضبة والمشككة..
-"..كبيرا قليلا.."
-"ما هذا العمق والعظمة لم أكن أعلم!.. قولي أشياء لا أعرفها!"
-"أشياء لا أعرفها–"
-"جينوا!!"
بدا وكأن جينوا تستمتع بإغاظة إيفا على ذلك النحو، كونها سريعة الغضب في العادة ويسهل استفزازها.. استجابت لزجرها الغاضب باعتذار مقتضب تتخله ضحكة أخيرة فشلت في كبتها–... لا، تعمدت ذلك..
-"آسفة.. آسفة، أنظري.. سوف أتحدث بجدية الآن، أنا أعدك... وإذن.. أنا، والأربعة الآخرون، ومنذ أكثر من عامين، اكتشفنا أن–"
وعندما اشرفت جينوا على قول كلام مفيد أخيرا، قاطع شرحها صوتُ نقر على الباب، طرقات متناسقة ذات إيقاع موسيقي مرتب..
عم الصمت لبضع ثوان بين الاثنتين، رسمت وجوههما خلالها نظرات متبادلة تشابهت في تعبير جلي الوضوح عن مقدار طفيف من الصدمة.. اتسعت عيناهما واستطردتا في الآن ذاته..
"فايوليت!"
..
استمر القرع بضع مرات أخرى، حري بالذكر أن الطارق أيا كان فهو صبور جدا.. فقد شغل تلك الثواني التي توشك تعتد بالدقائق، جدال طارئ بين الفتاتين عن تقرير ما ستفعلانه حيال ما اعتبرته جينوا على نحو أشد بمثابة مصيبة..
اندفعت حتى أوشكت تلصق وجهها بخاصة إيفا وهمست لها بارتباك على غضب..
-"ما الذي جاء بها بحق الـ.. بحق الـ.."
ثم شرعت تنفض جسدها وتصول في الأرجاء وقد بدأت أنفاسها تتثاقل و عروق جبينها تحتقن... كانت بحاجة ماسة إلى الصراخ في تلك اللحظة.. لم تتوقف حتى شدتها إيفا من كتفها و أدبرت محاولة تهدئتها..
-"تمالكي نفسك، ستعرف بأنك هنا إذا استمريت في إحداث الجلبة بخطواتك الثقيلة.."
-"تبا.. بالطبع هي تعرف وإلا لما جاءت في هذا الوقت–"
أردفت جينوا في استسلام ثم رمت بنفسها على أقرب مقعد، حجبت عينيها بكفها وأنشأت تفكر في صمت لا يعكره سوى صوت تأففها المستمر مع كل نفس تطرحه، حتى عادت إيفا لتضيف في حزم..
-"ما زلت لا أفهم ما سبب رد فعلك الغريب هذا.. إذا لم تفتحي فسأفتح أنا–"
ولكن جينوا قاطعتها قبل أن تتم ذلك، انتفضت من المقعد مشيحة عن تعابيرها المتجهمة كفها وأردفت في الآن ذاته..
-"قفي خلف الجدار ولا تتحركي، لا تتكلمي.. ولا تتنفسي، أنت لست هنا.. حسنا؟"
شيئا فشيئا، اتسعت عينا إيفا لما فهمت المقصد من قول جينوا ونظراتها الحادة، فما كان منها إلا أن أومأت لها إيجابا..
.
.
في الخارج، وقفت صاحبة الضفيرتين السوداوين أمام عتبة الباب تتهادى ببطء للأمام والخلف، تشبك يديها خلف ظهرها وتتأمل في عبث تموجات فروع شجرة المشمش المحملة بالثمار الناضجة فوق رأسها، والتي كانت تتداخل مع محيط المنزل وتظلل الجهة الأمامية لكبر حجمها، تعلو ابتسامة لطيفة محيا الطارقة الصبورة..
أخذت نفسا عميقا من عبق الثمار النقي ثم أفرجته، بعدما انتهى عدها التنازلي للطرقة التالية، وقفت باعتدال و مدت أصابع كفها كي تعزف إيقاعها المميز الرتيب مجددا.. ولكنها ما أوشكت تلامس الباب حتى انسحب من أمامها تلقائيا، وأخذت الدفة تتراجع شيئا فشيئا، مثلما طفقت تلك الابتسامة تتمدد وتزداد اتساعا، ملقية على طريقتها الخاصة تحياتها لمن تكرمت وأظهرت نفسها أخيرا..
-"طاب يومك.. جينوا.."
*
*
*
*************
"أنت محبوسة في هذا المكان الموصد، وحيدة.. هل تريدين أن أحررك؟.. سأفعل، طيري إلى ديارك ولكن عديني بأن لا تعودي إلى هنا مجددا، عيشي حياتك وانعمي بحريتك، الحياة أقصر مما تبدو عليه.. خاصة، بالنسبة لكائن صغير وضعيف مثلك..."
***************************
خلف نافذة غرفة المشفى المفتوحة على مصراعيها صباح لطيف، شمس ساطعة ورائحة الرطوبة القادمة من البحيرة بدأت تصنع الأجواء الصيفية المبهجة، ما تزال العجوز الغريبة تشخر..
-"بعدها تشقلبت عدة مرات وبوم!.. ظهرت سراويلها–"
انفجرت جينوا ضاحكة كأنها حصان يصهل، بعد أن أعادت سرد اللحظة التي رأت فيها إيفا تتدحرج عندما توقفت عن الطيران للمرة الثالثة على مسامع ماديسون، الجالسة على مقعد بقربها تشخر ضاحكة من أنفها هي الأخرى..
-"لقد فتحت عيني وحسب، لا أدري حتى ما حدث أو كيف وصلت إيفا إلى هناك ولكنها وقعت على وجهها و ارتفعت التنورة هكذاا–"
ثم انقطعت عن الحديث مجددا بضحكة أكثر همجية، رفقة ماديسون التي أوشكت تقع أرضا بعد أن لم تستطع إمساك بطنها.. ليس من الحدث بقدر ما هو من طريقة سرد جينوا المثيرة للسخرية..
-"يكفـِ– يكفي أنا لا أتنفسـ–"
أردف صوت ماديسون المتقطع مترجية جينوا أن تكف عن التحدث، وقد شرعت تدمع وتسعل..
كانت إيفا التي امتلأ عنقها وذراعاها وحتى ركبتاها بالضمادات واللاصق الطبي واقفة بجانب الطاولة الصغيرة قرب السرير، تقوم بترتيب بعض الأزهار البرية التي قطفتها من حديقة المشفى خلسة في كوب المياه، منذ ربع ساعة تترقب في نفاد صبر انتهاء سخرية أمها وجينوا من شيء لا يضحك البتة..
-"هذا جل ما أتذكره، ماذا عنك إيفا هل تذكرين ما حدث بعد انهيار المكان؟"
-"أعتقد أنني لمحتك مستلقية هكذا.."
أردفت إيفا هازئة ثم قامت بوضعية تشبه الرقصات الفرعونية التي توجد في العادة على جدران المعابد، مدنية حدقتيها إلى بعضهما حتى تبدو حولاء..
شرعت ماديسون وجينوا ترتجان ضاحكتين، وقد أعجب ذلك إيفا فاستمرت في تحريك ذراعيها كالأعشاب البحرية..
لقد مرت ساعةمنذ قدمت إيفا برفقة والدتها لزيارة جينوا في المستشفى، وبعد انقضائها بين أخذ ورد حيال من سيفقع مرارة ماديسون أولا من سماجتهما، رغم أنها لم تنكر كونها ضحكت من أعماق قلبها في بعض الأحيان.. انتهت عيادتهما وهمتا بالمغادرة متمنيتين لها الشفاء العاجل، عندها اندفعت جينوا مستوقفة إيفا..
-"مهلا!.. إيفا.."
التفتت إيفا نحوها لتجدها تشير لها بيدها كي تقترب، فدنت منها تاركة خلفها ماديسون تقف عند عتبة الباب منتظرة إياها لتلحق بها.. ما تحدق به لم يبدُ لها سوى عناق عادي بين صديقتين، ولكنها أخفت ابتسامة بدأت تظهر على شفتيها عندما طال ذلك العناق أكثر مما يجب..
-"في المرة القادمة تعالي بمفردك.."
-"لا أطيق صبرا.. لدي الكثير من الأسئلة حقا.."
تخاطفتا تلكما الهمستين السريعتين ثم انفصلتا عن بعضهما، لتأخذا في تبادل نظرات مبطنة بالحزم والجدية على غير المعتاد.. ثم قامت إيفا ولوحت لها مودعة..
-"ستأتي عمة والدتي لتعتني بي بعد يومين، يمكننا أن نلتقي في منزلي حينها.."
-"سآتي حتما، نلتقي لاحقا"
-"إلى اللقاء.. شكرا لكما على الزيارة"
ثم استرسلت في التلويح لإيفا وماديسون حتى اختفيتا عن أنظارها، عندها أخفضت يدها ثم التقطت نفسا عميقا، بعدها التفتت نصف التفاتة ناحية علبة معدنية ملونة أحضرتها ماديسون لأجلها وظلت تتوق لفتحها منذ البداية.. كان من الصعب فتحها بيد واحدة فقد استمرت أصابعها في الانزلاق حتى أوشكت تفرقع صارخة في سخط.. ولكنها في النهاية حصلت على ما بداخلها دون أن تشتم أحدا، كانت مملوءة بحلويات شوكولا منزلية الصنع..
-"أحتاج إلى طريقة للتخلص من العمة سوزن أيضا.. ربما أخدرها أو أضربها على رأسها.. ولكن ماذا لو ماتت عن طريق الخطأ.."
أدبرت قائلة بينها وبين نفسها وفمها مملوء عن آخره، ولكنها خرست فجأة ولم تستطع قول أي شيء آخر، وإنما اكتفت بالتحديق كالبلهاء إلى الوجه المصدوم للعجوز التي تشاركها الغرفة من كلامها عن التخلص من عمتها، وكأنها لم تجد غير تلك اللحظة لتستيقظ فيها..
.
.
––––––––––––––––––––––––––––
-العاصمة الملكية يورد | قلعة سفانهيلد-
يورد صاخبة جدا اليوم أيضا، عند التفكير في مدى قدرة سكانها على التعايش مع كل تلك الفوضى فإن الأمر يبدو مذهلا على نحو ما.. عموما، مقصدنا ينأى عن مركز المدينة والطرق الرئيسية المزدحمة، حيث كانت أحياء الأثرياء المتواجدة في هضبة على أطراف المدينة تتميز بالهدوء، سكون وصمت يغشى أرجاءها كأنما تلك القلاع الفارهة المحاطة بالأشجار المعمرة مهجورة..
لم يعكر أجواءها الموحشة سوى هدير محرك سيارة سوداء رباعية الدفع، اندفعت تخترق الطرق الواسعة التي تتوزع على جانبيها أسوار فيلات أصحاب الطبقة الأرستقراطية، تنفض إطارتها الغبار عن الأرض فتهيجه حولها كأنها تقتاد عاصفة إلى وجهتها، والتي أخذت تتراءى شيئا فشيئا بمجرد أن انعطفت السيارة تاركة خلفها آخر منزل من تلك المنازل البرجوازية على بعد نصف ميل على الأكثر..
متربعا على قمة الهضبة، لمعت حافته العلوية المدببة شامخة، تترنح متعلقةً بها رايةٌ ذات خلفية باللون الأزرق البحري، يتوسطها رسم لدرع مقسم على أربع، تحيطه رموز غير واضحة المعالم مطرزة باللونين الذهبي والفضي؛ جناح واحد شاهق الطبقات تعكس واجهته الكريستالية الأخاذة صورة القبة السماوية الزرقاء في وضح النهار فيبدو للعيان كأنه قطعة منها، مزين بأعمدة خارجية أسطوانية الشكل فارعة الارتفاع، ناصعة البياض، تزينها من حوافها العليا والسفلى بعض الزخارف النباتية المتقنة. يتوزع على جانبي الجناح الضخم مبنيان متطابقان، ذوا قباب زجاجية وبنية أسطوانية، يفوقهما الجناح الرئيسي بعدد لا بأس به من الطوابق، تعلو كليهما رايات مطابقة للسابقة من حيث التصميم ولكنها ذات شكل مثلث، تتأرجح كذلك بسبب الرياح الباردة التي أخذت تضرب ذلك العلو الشاهق، فلم يسلم من عنفوانها حتى أشجار الغابة المحيطة بالمبنى بأكمله.. والتي هي في الأساس مساحة تابعة للحديقة الملحقة به على وجه الدقة..
إن هذا المكان الساحر الذي لا يراه عن قرب إلا محظوظ ابن محظوظة، حيث أن معظم من ادعى رؤيته لم يكن يقصد سوى حافته الزجاجية الشاهقة التي يمكن لمحها حتى من حواف المدينة، أو ربما يقصد أنه رآه في آخر مرة عرضت فيها صوره على التلفاز، قبل عشر سنوات.. إنها 'قلعة سفانهيلد الملكية'..
توقفت السيارة رباعية الدفع للحظات أمام بوابة المبنى الهائلة ذات القضبان المعدنية، ريثما تقدم حارسان يرتديان ملابس عسكرية، يعلق كل منهما بندقية على كتفه نحو مصراعي البوابة ودفعاهما مفسحين الطريق للسيارة..
ولجت إلى الساحة المحيطة بالقصر ثم تقدمت نحو الأمام والتفت حول النافورة التي كانت تتوسط المسار المرصوف إلى مدخل القصر طولا، وفَدَّانَي الأشجار المقلمة على الجانبين عرضا، ثم توقفت مقابل السلالم المؤدية إلى بوابة مدخل القصر الخشبية ذات المقابض المطلية باللون الذهبي، والتي كُلف بحراستها أربعة من الحراس متطابقي الهيئة مع الآخرين المتواجدين عند بوابة السور..
ترجل السائق أولا، كان رجلا ضخم البنية حليق الرأس، يرتدي طقما أسود بالكامل ويخفي ملامحه غير المعبرة بنظارات سوداء حالكة، سار باستقامة نحو الباب الخلفي للسيارة ثم فتحه وأفسح الطريق للركاب بالنزول..
أولهم رجل متوسط الطول، يرتدي بذلة سوداء، مع قميص أسود ومن غير ربطة عنق؛ ترجل من المركبة ثم مرر كفه بسرعة على رأسه مثبتا شعره الفاحم المسرح للخلف، وكان قد ثبت بأطراف أصابعه قناعا أبيض يغطي نصف وجهه -مماثل للتي كان النبلاء يرتدونها في المزادات والحفلات التنكرية-..
خلفه مباشرة، انضم إليه شخصان آخران كانا على غراره يضعان أقنعة مشابهة، أحدهما كان فتاة شقراء الشعر، ترتدي ملابس سوداء بالكامل هي الأخرى ولكنها غير رسمية المظهر، تنورة وحذاء طويل، تعلوهما سترة جلدية قصيرة و طوق أسود يحيط بعنقها على سبيل التزين، والآخر كان فتىً، يبدو أقصر قامة منها بقليل ربما بسبب كعب حذائها العالي، يرتدي سروال جينز وحذاء رياضيا مع قميص عادي بلا تفاصيل وقبعة بيسبول تسلل من جانبيها أطراف خصلات شعره الصهباء؛ شرعا يسرعان الخطى وراء صاحب البدلة دون أن يتفوه ثلاثتهم بحرف..
بمجرد أن اقترب الأول قبالة الباب، تقدم اثنان من الحرس الأربعة ودفعا دفتي الباب، فانسحبت إلى للخلف ببطء يرافقها صرير صاخب مضى صداه يتردد في أرجاء الردهة الفسيحة مظلمة الأركان، دون ضرورة التطرق إلى الأبهة والفخامة التي اصطبغ بها تصميمها الراقي من أثاث فاخر وثريات فارهة مطفأة عدا أكبرها المعلقة في المنتصف، متلألئة رغم الغبار الذي يغلف كريستالاتها المتدلية..
واصل الثلاثة مقنعوا الوجوه تقدمهم نحو السلالم، ثم تجاوزوا أحد الأروقة الشاسعة المفروشة بسجاد أحمر ذي حواف ذهبية، حتى وصلوا إلى نهاية الرواق حيث وقف باستقبالهم حارس آخر يحمل بيده رمحا ذا رأس مدبب صغير، على خلاف سابقيه، وكذلك ثيابه كانت أكثر رسمية، أشبه بالحرس الملكي الفعلي.. عندما لاحظ هذا الأخير اقتراب الضيوف ناحيته، داس الأرض بقوة ثم استقام في وقوفه مثل التمثال ورفع رأس رمحه حتى ذقنه، وعندما وصل صاحب البدلة السوداء قبالته اندفع محَيِّيًا..
-"السير جيريمي كارتر، تفضل سيدي!"
هز الآخر رأسه ثم أردف مشيرا له بالاستراحة..
-"فلتُعلم السيد الحاكم أنني قد وصلت.."
-"إنه في انتظارك بالفعل سيدي!"
أدبر الحارس في حزم موجها عينيه نحو السماء حتى لا تلتقيا مع خاصتي المدعو 'جيريمي كارتر' حتى وإن كانت تعابيرهما مخفية خلف ذلك القناع.. مد إحدى ذراعيه ودفع دفة الباب بهدوء، ثم أضاف مع انحناءة بسيطة..
-"رجاء فلتتفضلوا"
ولج الثلاثة إلى الحجرة دون تلكؤ، يتبع الاثنان ظهر جيريمي في خطوات ثابتة، حتى توقف هو فكفَّا هما عن السير وثبتا أماكنهما منتظرين إشارة منه..
-"طاب يومك، جلالتك"
نبس جيريمي بلهجة رسمية ثم انحنى انحناءة بسيطة، بعد أن خلع القناع من على وجهه وطوى إحدى ذراعيه للخلف، بينما قدم الأخرى واضعا كفه المحجوبة داخل قفاز أسود على صدره، بعدها استقام ثم سار خطوتين للجانب وأشار خافضا كفه لمرافقيه بأن ينحنيا..
-"تحياتي جلالتك، أوسولوت تحت خدمتك"
ألقت الفتاة الشقراء تحيتها، بعد أن خلعت قناعها وجعلت كفها على صدرها، مثل جيريمي تماما.. ثم تبعها صاحب القبعة و أردف مترددا، فقد كان على نحو ما شاردا في التحديق إلى رخام الأرضية المزين حتى نسي نفسه..
-"تـ..تحياتي جلالتك! نِييُو آكسل تحت خدمتك!"
ثم انحنى وفعل مثلما فعل الآخران..
لمن يقدمون تحيتهم يا ترى؟.. أيا يكن فقد أبدى المدعو جيريمي احتراما أقل قيد شعرة من الآخرَيْن، فبينما استقام من انحنائه سريعا، بقي مرافقاه على وضعيتهما ذاتها..
لا تفكر أسولوت في شيء البتة، إن لها عينا لشدة فراغها تبدو كقرص من لحاء الشجر البني الجاف، لا تتحرك رموشها الذهبية ولا كأن لها ردات فعل طبيعية أو قلبا ينبض، عينها الأخرى–.. لا بل نصف وجهها الأيمن بأكمله مستتر خلف خصلة ذهبية منسدلة بشكل مرتب من مقدمة رأسها..
أما آكسل فكان ينبض بالحياة، لتوتر أو لقلة حيلة، أو ربما لحيرته.. كان الوحيد في تلك الغرفة من تتحرك مقلتاه في محجريهما مثل إنسان طبيعي، وكتفاه يرتجفان بين الحين والآخر كونه استعسر البقاء منحنيا بتلك الوضعية لمدة تتجاوز الخمس ثوان، أمضاها يحاول تحريك رأسه ببطء حتى يتسنى له إلقاء نظرة خاطفة على مضيفهم الغامض..
حركه درجة ثم درجة تليها، في تريث وحذر حتى وصل الزاوية الكافية التي التمعت بلورتا الكراميل الحادتان خاصته إعجابا بما رأته عندها، حينما حظي بالنظر إلى صاحب أكبر نفوذ على الأراضي المسماة بمملكة إيلدينغار، الرجل الذي تتسع كل الموازين في قبضته.. 'الحاكم'.
كان غريبا.. هيئته تبدو لشاب في مقتبل العمر، يرتدي بدلة رمادية مع سترة خضراء داكنة بلا أكمام فوق قميص أبيض مكوي بعناية، تدلت حتى أسفلِ كتفيه بقليل خصلات شقراء خفيفة، الجزء العلوي منها مربوط في شكل ذيل حصان قصير، والأسفل مُسدَلٌ لحاله..
عندما دخل الفتى أحمر الشعر تلك الغرفة في البداية لم يرفع رأسه عمدا، ليس احتراما بقدر ما هو احتراز منه كي لا تلتقي نظراته مع نظرات ذلك الرجل، فقد اعتقد في مخيلته أنه سيستقبلهم جالسا بخيلاء على كرسي فاخر في وسط الحجرة ذات الطراز الملكي بأرائكها الحمراء ذات الحواف الخشبية اللماعة، والسجاد الباهض الذي يزين الأرضية الخشبية بمقاييس مضبوطة بدقة، إلا أنه فاجأهم بانبطاحه جالسا القرفصاء عند زاوية الغرفة، لم يبدُ كأنه أحس بقدومهم حتى.. على الرغم من استعداده مسبقا -حسب قول الحارس-، أو تحيات ضيوفه اللبقة والصبورة..
أوشك آكسل على الاستقامة واقفا بعد أن يئس من محاولة التماسك منحنيا، ولكنه ما فتئ أن عاد لإخفاض رأسه في خضوع بعد أن شعر بجيريمي يحد ناحيته نظراته اللاسعة بطرف عينه..
حدقتاه الجافتان ذواتا اللون البني المحمر ظلتا مثبتتان على ظهر الحاكم بصبر وتعابير باهتة كأنه معتاد حقا على سلوكاته الغريبة التي لا تمت للبروتوكولات الخاصة بأي صلة تذكر، ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها بالصمم على الأرجح..
-"أهلا بكم، رجاء فلتجلسوا أين يحلو لكم.."
لقد تحدث أخيرا، قال ذلك بصوت فيه بحة خفيفة أدبر بعدها يحمحم منظفا حلقه، ثم تابع قائلا بعد أن استقام واقفا، ما يزال لم يقابلهم بوجهه بعد، ويداه كانتا منضمتين لبعضهما وكأنه يحمل شيئا ما بحرص..
-"شكرا على التزامك بالموعد، جيريمي.."
-"أرجو من جلالتك أن تناديني باسمي العملي، 'ديفا'.."
تنحى الشاب الأشقر بضع خطوات إلى الجانب حتى توقف أمام الشرفة التي كانت أبوابها مفتوحة منذ دخول ضيوفه، ثم مد ذراعيه وفرج أصابع كفيه، فإذا بدعسوقة برتقالية تنفض أجنحتها وتندفع محلقة بعد أن أعطاها دفعة انطلاق.. اتضح أن ما كان يثير اهتمامه عند زاوية الغرفة لم يكن سوى حشرة ملونة، لم يطلب منه أحد أن يحررها، ولكن لا بد وأنه كان سعيدا برؤيتها تحلق بحرية، فقد همس بصوت خفيض وكأنه يحدثها قائلا.. "عودي إلى ديارك سالمة"..
تنهد بعمق، مستمرا في التحديق بصديقته الصغيرة حتى اختفى أثرها وسط زرقة السماء، بعدها أوصد باب الشرفة وأسدل الستائر حتى حجبت المنظر الخارجي بالكامل.. ثم التفت وأردف معقبا على رغبة جيريمي في أن يناديه باسمه الذي نعرفه منذ البداية بـ'ديفا'..
-"أُفضل أن نتحدث بحرية، لذلك لا داعي للرسميات.."
لم يظهر جيريمي -ديفا- أي رد فعل وإنما اكتفى بالصمت تعبيرا عن عدم رغبته في الاطناب بشأن الطريقة التي يناديه بها الآخر، هذا الأخير اتخذ مجلسه على إحدى الأرائك كانت تتوسط الحجرة محاطة بالمزيد من الأثاث المشابه، أشار للجميع بيده كي يجلسوا، ثم استطرد مرحبا بلهجة لبقة هادئة..
-" نحن نعرف بعضنا البعض من قبل ولكن لا بأس بتقديم نفسي مجددا، أدعى آلان هانسمورتن، سعيد برؤيتكم هنا اليوم.."
صوته كان مريحا جدا بشكل ما، إنه يبتسم على الأرجح، ولكن لن تستطيع التحقق من ذلك، ولا أحد يستطيع، فهو كان يرتدي قناعا يغطي وجهه بالكامل..
أجل، على ذكر هذا.. سطح ذلك القناع أملس فضي، تشوبه بعض الخدوش الواضحة، ولكنه بقي محافظا على لمعانه الشديد كأنه مرآة زجاجية.. لم يخلعه الحاكم عن وجهه ولم يُبدِ نيةً لذلك، بل استمر في التحدث بشكل عادي موجها كلامه إلى أوسولوت وآكسل إذ أنه التفت ناحيتهما حتى أصبح بمقدورهما رؤية انعكاسهما واضحا على قناعه..
-"أردت مقابلتكما، إنكما تبدوان بصحة جيدة.. أنجيلا وكريس.."
أجفل آكسل لما استدرك أن الرجل يحدثه هو مناديا إياه بـ'كريس'، خلع قبعته عن رأسه وكورها في قبضته، ثم أردف مخفضا رأسه في إحراج..
-"شـ..شرف لنا جلالتك.."
بعدها التفت قليلا وهمس لمرافقته جامدة التعابير معاتبا، والتي كانت على خلافهم جميعا ما تزال واقفة، ترفض مشاركتهم في الجلوس أو الحديث دون سبب واضح..
-"أنت، أنجيلا!.. لماذا تقفين، اجلسي!"
تجاهلته ذات العين الواحدة ولم تبادله النظر حتى، وكانت ماضية على نيتها في تجاهل صوت جيريمي أيضا عندما اندفع آمرا..
-"أوسولوت–.."
ولكن الحاكم قاطعه قبل أن يتاح له قول شيء غير اسمها..
-"جيريمي رجاء.."
ثم وجه كلامه نحوها ، كما يفضل أن يسميها 'أنجيلا'، بصوته الهادئ اللطيف..
-"تفضلي بالجلوس يا أنجيلا، من فضلك فحديثنا مهم جدا"
طرفت عينها مرة واحدة، بعد لحظة مرت عليها وهي تحدق في شرود إلى انعكاسها على قناع هانسمورتن، ثم أخفضت بصرها وانسحبت لتجلس على مقعد بجانب آكسل دون اعتراض..
-"حسنا إذا، لا بد أن جيريمي أخبركما لماذا استدعيتكما.."
التفت آكسل إلى أنجيلا حتى وسعه أن يتبادل معها بعض النظرات المرتابة، بعدها عاد كلاهما ليحدقا بصاحب القناع الفضي في ترقب لما سيضيفه على المعلومات المتواضعة التي يحوزان عليها.. صرح آكسل في تردد مجيبا..
-"سوف.. تكلفنا بمهمتنا الأولى!.."
هز الحاكم رأسه مؤكدا، ثم تابع وقد بدأت نبرته المشرقة تبهت إلى غاية بلوغها حدا من الجدية بعيدا عن اللهجة الودودة التي افتتح بها الحوار آنفا..
-"صحيح، إنها خطوة غاية في الأهمية، إن مصير إيلدينغار يعتمد على نجاحكما.."
فصل كلامه للحظات، بدا لوهلة وكأنه مستمتع بالتوتر الذي بدأ يتراءى على ملامح محدثيه، آكسل بدرجة أشد.. أما جيريمي فكان خارج الإطار، مقعده أساسا كان منفصلا عن الآخرَين، وقد كان منشغلا بترتيب أكمامه وقفازاته السوداء غير مكترث كثيرا لتلك المحادثة، بيد أنه جلي الوضوح كونُه مسبقا يحيط علما بكل ما قاله الحاكم، وكل ما سيقوله تاليا..
-"لديكما مهمتان لا ثالث لهما، وأنتما لن تعودا حتى تنجزاهما.. ولكن قبل أن نتطرق إليها، سأزودكما ببعض التفاصيل حتى لا تتوها أثناء بحثكما.."
صمت لحظة قيد ما التقط أنفاسه، ثم تابع الشرح بعد أن عدل وضعية جلوسه إذ أسند مرفقيه على ركبتيه وانحنى للأمام قليلا في حركة متعمدة كتلميح لضرورة التركيز مع كل كلمة سيقولها..
-"لقد كان بحوزة الأسرة الحاكمة كتاب، كاتبته هي المؤسسة الأولى للفرع الحاكم الجديد 'إيفيلين ليتوفيتشينكو'.. لقد دونت فيه بعض المعلومات التي استطعت استغلالها للعثور على مفتاح مخططنا الأساسي، المخطوطة والأختام..، مهمتكما الأولى تقتضي العثور على هذه المخطوطة.."
-"ماذا عن الكتاب في حد ذاته؟"
تجاوز آكسل تردده واندفع مستفسرا، كل ما كان يجول بباله حينها هو كسب ما يكفي من المعلومات ودفع الشكوك حتى يجنب نفسه تبعات ارتكاب الأخطاء، آلان هانسمورتن كان كريما في ري فضول الفتى، رغم ما بدى على نبرته من امتعاض طفيف تجاه السؤال، إذ أنه زامن حديثه مع ضمة شديدة أشبك فيها أصابع كفيه كأنما يحاول الحفاظ على هدوئه من التلاشي..
-"ليس لنا حاجة بذلك الكتاب في الوقت الراهن، كما أنه ليس بحوزتنا الآن.. ولكنني استفدت منه بما يكفي.. الأهم هو أن المعلومات التي يحتويها عن المخطوطة تحت رحمتنا.. إنها الآن بلا شك مدفونة بين دفتي أحد كتب الخيمياء المحفوظة في أرشيف المكتبة التي بنتها إيفيلين بنفسها، فحسب ما جاء في كتابها سالف الذكر، فإنها قد دفنت المخطوطة في المكان الذي عاشت فيه بقية حياتها حتى توفيت.. 'فيلدسباث'.."
قام الحاكم من مكانه وسار بضع خطوات ملتفا حول الطاولة المستديرة التي كانت تفصل المقاعد عن بعضها البعض، ثم استقر واقفا مقابل باب الشرفة، أزاح الستارة مقدارا ضئيلا بأطراف أصابعه وتابع شرحه غير عابئ بضرورة رفع صوته كونه يرتدي قناعا ويبدو كمن يحدث الجدار لإشاحته عن ضيوفه..
-"بناء على هذا؛ ستحضران لي المخطوطة، هذا هو الأمر الأول.. سوف تحصلان على تصاريح بهويتيكما المسجلتين للبحث في الأرشيف، وبهذا نتفادى احتمال كشف التزوير، فهدفنا هو الحصول على المخطوطة دون أن يلاحظ أحد اختفاءها، ولا بد أن مدة شهرين ستكون كافية لهذا.. أمامكما يوليو وأغسطس، لا بد من تنفيذ المهمتين قبل بداية الموسم الدراسي القادم بعد ثلاثة أشهر من الآن.."
..
-'قال مهمتان، هل قال مهمتان؟!..'
كان ذلك آكسل يحدث نفسه هامسا، أغفلته حيرته عن الاحتراز حيال قول ذلك بصوت مسموع، كذلك لم يظهر الحاكم أي جانب عدائي أو مبالغ في الصرامة مثل ديفا الذي تنهد متبرما وما زال يسند وجهه على قبضته في ضجر، بل إنه التفت واستغرق في الكلام مباشرة بعد سماع السؤال..
-"معك حق يا كريس، يبدو أنني أسهبت في التحدث عن أمر المخطوطة.. إن الأمر الثاني الذي أريد منكما التحقق منه هو.."
اتسعت عينا آكسل وابتلع ريقه في رهبة لما فاجأه هانسمورتن برده السريع، ثم أخذت تعابيره بالمضي نحو أمارات الصدمة لما التفت الحاكم ناحيته ورفع كفه، ثم قبضها بقوة تزامنا مع تصريحه الحازم الذي جعل حتى أنجيلا المتبلدة تجفل..
..
"هويات حراس الجيل السادس."
.
.
––––––––––––––––––––––––––––
-بعد مرور ثلاثة أيام-
..
-"أين هي، أين هي.. أين هي الآن؟! قالت أنها ستكون هنا عند التاسعة صباحا ولكنها الواحدة ظهرا! سأتأخر كثيرا على هذا المعدل.."
متخذة مسارا مستقيما على طول غرفة المعيشة، أخذت يلفيا تذرع أرجاء المكان جيئة وذهابا، تتذمر وتحرك ذراعيها في الهواء تنفيسا عن الاغتياظ الذي اجتاحها لسبب ما..
في الآن ذاته كانت جينوا مستلقية على كنبة مقابلة للتلفاز، تطوي ساقا وتدلي الأخرى، تعانق صحنا كبيرا من رقائق البطاطا ثبتته على جبيرتها الصلبة حتى لا يتدحرج بعيدا.. على عكس والدتها، كانت أعصابها فاترة جدا، أنظارها منصبة على محطة إخبارية منذ الصباح الباكر على غير عادتها، حتى أوشك الملل ينال منها.. أردفت في خمول على شكوى يلفيا التي لم تكن توجهها لها أساسا..
-"ما بالك متفاجئة من تأخرها وكأنها المرة الأولى.. أنسيت أنها أخبرتك بأنها ستأتي يوم الاثنين، إننا في الخميـ–"
كفت جينوا عن الكلام ورفعت أحد حاجبيها متسائلة بشأن إشارات والدتها المفاجئة لها بأن تسكت. بعد ثانيتين من الصمت انطلق للمرة الثانية صوت طرقات ضعيفة على الباب الخارجي للبيت، عندها انفرجت أسارير يلفيا وصاحت في ابتهاج..
-"لقد جاءت!"
ثم اندفعت تهرول لفتح الباب..
..
-"إيفا؟"
شعرت يلفيا بخيبة أمل لم تفلح في إخفاء أثرها عن تعابير وجهها، لما وجدت الطارقة إيفا وليست عمتها العجوز التي تنتظر قدومها منذ أسبوع كي تعتني بجينوا في غيابها..
إيفا من جهتها شعرت بالبلادة والاحراج عندما لم تستوعب سبب ذلك الاحباط على وجه يلفيا فصاحت لا شعوريا..
-"صباح الخير!"
.
.
-"حسنا تذكري، حبة وسط العشاء، وهذا قبل النوم، والحقنة بعد الغداء.. رددي"
أدبرت يلفيا تحدث جينوا، وقد كانت تمسك بيديها علبتي دواء صغيرتين وعبوة معهما، أخذت تشير إليها بالتناوب أثناء شرحها.
بينما إيفا تقف بجانب الكنبة وتركز باهتمام على كلام يلفيا، أردفت جينوا دون أن تزيح عينيها عن التلفاز..
-"قبل العشاء وسط العشاء بعد العشاء.."
ثم أصدرت فرقعة بأصابعها وغمزت لوالدتها.. هذه الأخيرة تشنجت مكانها وطفقت تحدق في ابتسامة جينوا الصفراء بملامح منهكة و فارغة..
-"انسي الأمر، ستبدأ مناوبتي بعد قليل.."
تنهدت في استسلام، ثم وضعت الأدوية بجانب التلفاز. علقت حقيبتها على كتفها، وتابعت مضيفةً..
-"حين تصل عمتي اتصلي بي كي أشرح لها مواعيد الأدوية.."
-"حسنا"
أجابت جينوا، بعد ذلك همت يلفيا بالمغادرة و أضافت أخيرا عندما بلغت عتبة الباب..
-"ابقيا آمنتين، اعتني بها جيدا إيفا"
-"حاضر! لا تقلقي عليها.."
.
.
انطلق صوت انغلاق الباب معلما بمغادرة يلفيا وخلو البيت من أي أحد عدا جينوا التي انمسح الخمول عن ملامحها حالا، وإيفا التي لم تتحرك من مكانها ولم تدخر وقتا حتى أزاحت تلك الهيئة اللبقة عن نبرتها، طوت ذراعيها واستطردت مستفتحة الكلام ببعض الغموض..
-"إذن.."
كانت جينوا ما تزال مستلقية مكانها، وضعت الطبق أرضا ثم مدت ذراعها السليمة لإيفا..
-"ساعديني على الوقوف.."
-"لماذا؟"
-"سوف أبدأ بقول أشياء.. غريبة، ضعيني نصب عينيك وركزي.."
هزت إيفا ذقنها متفهمة، ثم أسندت جينوا ببطء وحرص حتى سحبتها لتستقر واقفة هي الأخرى، ليس قبل أن قامت بالتمدد وفرقعة مفاصلها الواحد تلو الآخر بعد أن أمضت ثلاثة أيام مستلقية بنفس الوضعية..
بعدها ومن غير سبب وجيه، وقفت تحدق في إيفا دون قول أي شيء لمدة دقيقة كاملة، في البدأ بادلتها هذه الأخيرة التحديق ظنا منها أنها تستجمع شتات أفكارها لا غير، ولكن مع كل ثانية تمر أخذت تزداد اقتناعا بأن جينوا لا تنوي على خير من تلك النظرات الفارغة التي سريعا ما تحولت إلى تعابير شخص تافه يحاول كبح ضحكه..
-"بربك! كفي عن المماطلة وانطقي!.. "
صاحت إيفا في وجه جينوا بعد أن نفد صبرها من الانتظار، ولكنها بمجرد أن فعلت ذلك؛ جادت عليها جينوا بضحكة من أعماق معدتها.. حصلت جراء ذلك على لطمة عنيفة على ساقها أحالت ضحكها إلى صراخ..
-"أنا أكاد أفقد عقلي من التفكير، وأنت تضحكين وكأن لا شيء من هذا يعنيك!!.."
زجرتها إيفا ثانية، وقد استحال حاجباها ملتصقين بمقلتيها لشدة عبوسها. عند ذلك فقط كفت جينوا عن التألم واستعادت هيئتها الحازمة، حمحمت منظفة حلقها وأشارت لإيفا بالجلوس، وبعد كل ذلك الاستعداد الجاد، عادت للتحدث بلكنتها المتناعسة المازحة..
-"لا أدري من أين أبدأ يا عزيزتي–"
-"اصمتي عليك اللعـ!... اه.. اسمعي، فلنتظاهر بأننا ما نزال في ليلة الاثنين، وأننا غادرنا الحفل قبل أن تصب علينا اللعنة.. ماذا، كنتِ سوف تخبرينني بحق السماء؟!"
-"صحيحٌ!.. لقد كنتِ درامية جدا حينـَ–"
-"أدخلي في صلب الموضوع!"
-" حسنا حسنا لا تصيحي، سأبسط الأمر لتستوعبيه جيدا.. نحن، أي أنا والآخرون، نخفي عنك شيئا صغيرا.."
فصلت جينوا حديثها لما شرع أحد حاجبي إيفا يرتفع شيئا فشيئا.. أدركت حينها أنها تحاول تقزيم الموضوع دون فائدة. لذا أضافت مصححةً ما اعتبرته إيفا التباسا بنظراتها الشوساء الغاضبة والمشككة..
-"..كبيرا قليلا.."
-"ما هذا العمق والعظمة لم أكن أعلم!.. قولي أشياء لا أعرفها!"
-"أشياء لا أعرفها–"
-"جينوا!!"
بدا وكأن جينوا تستمتع بإغاظة إيفا على ذلك النحو، كونها سريعة الغضب في العادة ويسهل استفزازها.. استجابت لزجرها الغاضب باعتذار مقتضب تتخله ضحكة أخيرة فشلت في كبتها–... لا، تعمدت ذلك..
-"آسفة.. آسفة، أنظري.. سوف أتحدث بجدية الآن، أنا أعدك... وإذن.. أنا، والأربعة الآخرون، ومنذ أكثر من عامين، اكتشفنا أن–"
وعندما اشرفت جينوا على قول كلام مفيد أخيرا، قاطع شرحها صوتُ نقر على الباب، طرقات متناسقة ذات إيقاع موسيقي مرتب..
عم الصمت لبضع ثوان بين الاثنتين، رسمت وجوههما خلالها نظرات متبادلة تشابهت في تعبير جلي الوضوح عن مقدار طفيف من الصدمة.. اتسعت عيناهما واستطردتا في الآن ذاته..
"فايوليت!"
..
استمر القرع بضع مرات أخرى، حري بالذكر أن الطارق أيا كان فهو صبور جدا.. فقد شغل تلك الثواني التي توشك تعتد بالدقائق، جدال طارئ بين الفتاتين عن تقرير ما ستفعلانه حيال ما اعتبرته جينوا على نحو أشد بمثابة مصيبة..
اندفعت حتى أوشكت تلصق وجهها بخاصة إيفا وهمست لها بارتباك على غضب..
-"ما الذي جاء بها بحق الـ.. بحق الـ.."
ثم شرعت تنفض جسدها وتصول في الأرجاء وقد بدأت أنفاسها تتثاقل و عروق جبينها تحتقن... كانت بحاجة ماسة إلى الصراخ في تلك اللحظة.. لم تتوقف حتى شدتها إيفا من كتفها و أدبرت محاولة تهدئتها..
-"تمالكي نفسك، ستعرف بأنك هنا إذا استمريت في إحداث الجلبة بخطواتك الثقيلة.."
-"تبا.. بالطبع هي تعرف وإلا لما جاءت في هذا الوقت–"
أردفت جينوا في استسلام ثم رمت بنفسها على أقرب مقعد، حجبت عينيها بكفها وأنشأت تفكر في صمت لا يعكره سوى صوت تأففها المستمر مع كل نفس تطرحه، حتى عادت إيفا لتضيف في حزم..
-"ما زلت لا أفهم ما سبب رد فعلك الغريب هذا.. إذا لم تفتحي فسأفتح أنا–"
ولكن جينوا قاطعتها قبل أن تتم ذلك، انتفضت من المقعد مشيحة عن تعابيرها المتجهمة كفها وأردفت في الآن ذاته..
-"قفي خلف الجدار ولا تتحركي، لا تتكلمي.. ولا تتنفسي، أنت لست هنا.. حسنا؟"
شيئا فشيئا، اتسعت عينا إيفا لما فهمت المقصد من قول جينوا ونظراتها الحادة، فما كان منها إلا أن أومأت لها إيجابا..
.
.
في الخارج، وقفت صاحبة الضفيرتين السوداوين أمام عتبة الباب تتهادى ببطء للأمام والخلف، تشبك يديها خلف ظهرها وتتأمل في عبث تموجات فروع شجرة المشمش المحملة بالثمار الناضجة فوق رأسها، والتي كانت تتداخل مع محيط المنزل وتظلل الجهة الأمامية لكبر حجمها، تعلو ابتسامة لطيفة محيا الطارقة الصبورة..
أخذت نفسا عميقا من عبق الثمار النقي ثم أفرجته، بعدما انتهى عدها التنازلي للطرقة التالية، وقفت باعتدال و مدت أصابع كفها كي تعزف إيقاعها المميز الرتيب مجددا.. ولكنها ما أوشكت تلامس الباب حتى انسحب من أمامها تلقائيا، وأخذت الدفة تتراجع شيئا فشيئا، مثلما طفقت تلك الابتسامة تتمدد وتزداد اتساعا، ملقية على طريقتها الخاصة تحياتها لمن تكرمت وأظهرت نفسها أخيرا..
-"طاب يومك.. جينوا.."
*
*
*
*************
Коментарі