المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
عواصف
الفصل 08: عواصف

"صدقا، لو طلب مني أحد أن أصف له ذلك الشعور لقلت أنه بدا وكأنني قد صدمتني شاحنة، مع أنني لم يسبق لي أن صدمتني واحدة. ورغم صعوبة تلك اللعنة، إلا أن الأمر حدث بسرعة.. لذا أعتقد أن الشعور بعظامي تتحطم جراء حادث مفاجئ أرحم من مراقبة حدوث ذلك ببطء وترقب، على يد والدتي بالذات من بين كل الألوف التي تقطن في هذه البلدة .. "
******************************
محكما قبضته على مقود السيارة بانفعال جلي، حَدَّث أرنست مستمعه بصوت مهتز ضاغطا على نواجذه بعنف، تشتته المكالمة الطارئة التي كان يجريها عن تمييز الطريق من رصيف المشاة، بينما تمسك زوجته ماديسون الهاتف تحاول تثبيته عند أذنه، أقصى مسعاها الحفاظ على مقلتيها المرتجفتين جافتين و زم صوتها الذي وضح ارتجافه  من أنفاسها المضطربة، منتظرة بفارغ الصبر أن يخالج مسمعها الضمان الأكيد من المتحدث الآخر بأن مخاوفها ليست سوى هباءً..
"لم يتصل أحد.. ولكنها لم تعد بعد، الحادث تصدر عناوين الأخبار الوطنية وهي لم تعد إلى البيت حتى الآن!" أردف أرنست متحججا بغضب مكتوم، ليضيف بنبرة أشد حزما وهدوءً بعد أن لم يتلقَّ سوى تنهدا ثم صمتا مطبقا من محدثه عبر الهاتف، متيقنا بأنه هو الآخر مهما حاول تهدئتهما فلن يصل لنتيجة، كونه هو نفسه لا يدري ما يقول ليدحض مخاوفهم المتشاركة.. "إن الأمر أخطر مما تعتقد يا سكوت!.. لقد خَذَلَتنا القدرة الرئيسية مرة مع دانيال، لا أنت ولا غيرك يضمن أنها لن تخذلنا مع ابنته أيضا!"
-"أرجوكما تماسكا، أثق أنها لن تخذلنا هذه المرة.." رد الآخر باقتضاب حتى لا يظهر ارتباكه، متداركا أنه قد بالغ في الصمت، إذ ألقى بأول حجة واهية طرقت دماغه دون تفكير..
-"توقف عن التحدث هكذا! اعترف أنك فقدت السيطرة وحسب!"
-"أعرف ما تفكر فيه يا أرنست ..لا تقارن آناركا بدانيال، لقد كان يمسك زمام القدرة الرئيسية طواعية، أما آناركا فلن تستطيع كبحها.. هذا ما سيحدث وهذا ما كان يجب أن يحدث الليلة، وإن لم يكن الليلة فقد كان سيحدث بكل الأحوال.."
-"متهور! فقط تعال إلى هنا أيها الوغد!"
"أَحِيطاها بالرعاية فستكون في انتظاركما.. أنا أوشك على الوصول بالفعل"
استرسل المدعو سكوت مقاطعا تذمُّر أرنست بحمحمة سريعة، ثم أغلق الخط.. تاركا خلفه ماديسون تحدق في شاشة الهاتف بجزع، وأرنست يقطب جبينه بانزعاج، أوشكت كفه أن تنزلق عن المقود لشدة ما طفح عليها من العرق إثر حالة التوتر غير المعتادة التي انتابته..
أثناء ذلك، انحنى الشاب الجالس على المقعد الثاني بجانب سائق شاحنة البضائع الصغيرة، مقحما رأسه بين كفيه، يعبث في امتعاض بجذور خصلات شعره البني المبعثر مثبتا نحو قدميه عينيه اللتين غيرت ظلمة المكان لونهما فلم يعد بالإمكان استيضاح شيء حيالهما، سوى الشرود والبريق الخافت الذي إن أنبأ عن شيء فإنما هو ينبئ عن تمهيد لعاصفة من الأفكار الفوضوية اجتاحت ذهنه وقلبته رأسا على عقب..
تنهد مرة ثم أتبعها بنفس مثقل أشد إحباطا، ليقرر بعد ضياعِ ثوانٍ في متاهة من الهواجس أن يعتدل في جلوسه و يحدق إلى الأمام بصمت، حيث بدأت رؤوس الجبال المحيطة ببلدة فيلدسباث الريفية تتراءى له من بعيد..
"تحلى بالهدوء يا سيدي، سنصل بعد نصف ساعة على الأكثر.. لم أرك تتوق إلى الديار هكذا يوما" نطق السائق ضخم الهيئة ذو اللحية الشهباء ممازحا، ساعيا لدفع الشرود و قلة الحيلة عن ملامح مرافقه.. ليرد له بهزة خفيفة من رأسه، ثم أردف هو الآخر راسما ابتسامة منهكة على محياه "لأنها ليست الديار يا سيد كارل"
****************************************
ذرات الغبار المتأرجحة في الجو، شرعت تتسلل بين فينة و أخرى إلى جوف أحد أولئك العالقين خلف جزء من مخلفات البشر عديمة النفع، لتغذي معزوفة مزعجة من أصوات العطس و السعال التي أخذت تكسر حدود الصمت لبضع لحظات، لا يغذيها صدًى بل تُدفن كما وُلدت تسرق من شفاههم منطق الكلمات، بعد أن أفلحت يلفيا في إعادة عظام المرفق خاصة جينوا إلى نصابها ثم أسندتها بالعصى الرفيعة التي جلبتها معها، ولفتها بالضماد بإحكام ..
ليس قبل أن أوشكت طبلة أذنها تنفجر من صرخة جينوا المتألمة، والتي بثت موجة من الارتياع في قلوب رفاقها، من اكتفوا في التحديق بصمت، حتى أشدهم تماسكا و أقلهم اكتراثا منهم ضم أجفانه في عجز عن مشاهدة المزيد..
ثم ما انفكت جينوا تحدق نحو الأعلى بعينين جاحظتين مرخية أطرافها باستسلام ومسترسلة في التنفس ببطء بعد أن أمضت بضع ثوان تحاول تذكر ما إذا كان يجب أن تشهق أو تزفر..
"جيني؟.. عزيزتي، لقد تم الأمر بسرعة كما أخبرتك تماما، أليس كذلك.." همست يلفيا بصوت حنون ومتعب، موجهة نظراتها المشفقة تجاه جينوا وهي على أتم المعرفة بمقدار الإنهاك الذي لحق بها نظرا لشحوبها وارتخائها وكأنها على وشك النوم، لذا فقد كان كل ما تنتظره منها إيماءة طفيفة على الأقل.. ولكن جينوا لم تعقب على كلمات والدتها سوى بطرفة أو طرفتين من عينيها الذابلتين، فسريعا ما أطبقت جفنيها مرخية عنقها أخيرا ليقع رأسها بثقله في حجر والدتها..
انقبض قلب يلفيا للحظة وكأنه ينبئُها بشيء ما غير اعتيادي، فهي شرعت تصبُّ كل تركيزها على الاِصغاء بحرص وترقب لأنفاس جينوا التي أخذت تتباطأ باستمرار، لتفاجأ لدى التفاتها للخلف استجابةً لا إراديا لذلك الوخز الذي مر مثل السراب خلف عنقها، من نظرات إيفان الشاحبة التي انتصبت على وجه جينوا دون سواه، على الرغم من أن الذهول و الشفقة لم تترك تعابير أي أحد من أولئك المتواجدين إلا وغيرتها، فإن إيفان الذي أفلت ساق جينوا و شد على عظم ساعده الأيمن بقوة حتى أمسى يرتجف وكأنه ممسوس، بدا أسوء حالا منهم جميعا، بل إن أوليفر ذا الملامح بالغة الاندهاش قد أوشك على لفظ قلبه خارج جوفه لما سمع شهقة غريبة صدرت من حلق إيفان، لم ينتبه لها غيره كونه حررها تزامنا مع صياح جينوا، حتى اعتقدت يلفيا أنه مصاب هو الآخر إصابة بالغة وخشي أن يتحدث..
"أيقظيها!"
استرسل إيفان بصوت مرتعب لم يفهم أحدٌ مغزاه، ليضيف صارخا بنفس الكلمة مجددا ما هز قلب يلفيا فالتفتت فزِعة نحو جينوا .. بل لم تكد تدير وجهها حتى، فإذا بإيفان يقفز من مكانه و يستقر منبطحا بجانب جينوا، آخذا بكتفيها يرجهما رجاً، مناديا إياها باحتقان و الدموع تتسرب كالوديان من عينيه ..
ولم يهدأ له بال حتى أتاه الرد من جينوا سريعا، على هيئة فقاعة مخاط انتفخت قليلا ثم فرقعت، مصحوبة بساقية من اللعاب اتخذت طريقها على ذقنها بعدما انسدل فكها دون وعي منها، ليتراجع أخيرا متيقنا بأنها لم تمت بل غفت وحسب، تاركا الاستغراب يسطر خطوطا عريضة على نظرات الجميع نحوه..
أدبرت يلفيا تسأله باستنكار لما أفزعها، نية الاطمئنان على حاله أساسا "إيفان يا بني ما الذي جرى معك؟!.. هل أنت مصاب في مكان ما؟"
مع أن الشحوب انسحب عن بشرته سريعا، إلا أن شيئا من الشرود ظل يغزو عينيه، فهو استدرك في لحظة ما أنه كان يهذي لما تخيل أنه يقاسم جينوا شعورها بالألم دون سبب يذكر، حتى أنه لم يسعه الإتيان بتفسير صريح لما داهمه فجأة فأردف بعد ثوان معدودة من الصمت قائلا بتحفظ "لا.. أنا واثق من أنني بخير ولكن.." .. فصل حديثه محدقا في عيني يلفيا مباشرة.
قطع إيفان الشك باليقين أنه لا يجدر به إخبارها بشأن الصوت الداخلي الذي أوهمه أن جينوا ماتت من الألم لما انهارت مرتخية فجأة. تَمَسُّك يلفيا بها وإحكامها الضم على رأسها ثم إيماءات ناظرتيها الحزينتين اللتين شاركتاه هو و ابنتها القدر نفسه من القلق والاهتمام، أشعره وكأنه ... اقترب أكثر من اللازم ربما..
قطب إيفان جبينه و دعك عينيه حتى يوقف الحكة التي أكلتهما، ممررا بعشوائية كم قميصه على وجهه ليمسح الخطوط المبللة على وجنتيه، ثم أضاف بابتسامة صحوة جعلت يلفيا تبادله مثيلتها بارتياح "آسف حقا! أعتقد أنني انفعلت بسبب صراخها، وصوت فرقعة العظام جعل جلدي يخزني.."
"لا عليك يا بني، المهم أنك بخير الآن.." أردفت يلفيا مطَمْئنة إياه بأن لا ضير من انفعاله، فبغض النظر عن واقع أن الواجبَ الأخذُ بعين الاعتبار حالتهم النفسية نظرا للوضعية الاستثنائية التي مروا بها؛ فإنها خير من يدري أن إيفان يعتبر واحدا من أشد أصدقاء جينوا قربا ومَعَزَّةً لديها منذ أن كانا في سن السابعة أو الثامنة، لذا من الطبيعي أن ينتابه شيء أقرب للهاجس من فقدانها ..
"أنا حقا ممتنة لأنكم جميعا بخير، لقد مضى وقت طويل حقا منذ أن رأيتكم آخر مرة حتى اعتقدت أن جينوا تمنعكم من زيارتها.. لم أتخيل أبدا أن نلتقي في موقف فظيع كهذا.." ..
بما أن مشكلة جينوا قد حُلَّت، و الأوضاع أخذت منحىً هادئاً حتى ذلك الحين، اعتبرت يلفيا تلك فرصة مناسبة لتستفسر دون إلحاح عن سبب انقطاع جينوا عن زيارة أصدقائها منذ مدة طويلة، رغم أن ما رأته من اهتمامهم و مبادرتهم لمساعدتها نفى عنها تماما فكرة أنها تعاديهم، لذا ارتأت أنه من الأحسن أن تكون لَيِّنةً معهم قدر الإمكان، فرغم كل شيء، ما تزال تراهم مثيرين للريبة بشكل غريب خاصة في ذلك الموقف بالضبط، حيث علق ستتهم بالذات دون غيرهم تحت الركام مع أنه لا يوجد أي تفسير منطقي لعدم فرارهم رغم إمكانية ذلك من البداية ..
"لا تدعي ذلك يشغل بالك يا سيدتي، إنه ليس بالأمر الذي يضايقنا.. نحن ما نزال أصدقاء كما العادة، ولكن كل ما في الأمر أن كلا منا يحتاج إلى وقت خاص لنفسه من حين لآخر، وهذه رغبة جميعنا نحترمها بالطبع .."
أردف أوليفر بصدد إقفال كل مخرج أمام يلفيا قد يؤدي بها إلى مزيد من الأسئلة، بعد أن لاحظ عدم فهم كايا و إيفان لمقصدها الحقيقي من وراء كلامها، وتوتر فايوليت من قول شيء قد يخيب ظنها أو يؤدي إلى إعطائها تلميحات عن سرهم الصغير بالخطأ.. بينما لم يكن لديه أدنى تخوف من ردة فعل إيفا، فقد واصلت الابتسام وهز رأسها دون التفوه بأي شي، ولأخذه بعين الاعتبار سلامتها وصمتها رغم كل ما جرى معها، وكَفَّها عن الالحاح بخصوص الأمور المبهمة التي يخفونها عنها،  وثِق بأنها لن تبوح بأي شيء طالما توصيها جينوا بالحرص على ذلك، غالبا..
"جينوا عزيزة علينا جميعا!.. لذا لا تقلقي عليها أبدا طالما تكون برفقتنا" أضافت كايا مؤكدة على وجهة نظر أوليفر بحماسة، ولكنها سريعا ما أطرقت تحدق أرضا بنظرات محتارة لمَّا قابلتها ملامح كل من إيفا، فايوليت و إيفان الساخرة، مشيرين إلى أن جينوا لم تكن لتصاب لو أنها لم تحضر الحفل أساسا، لتأخذ الضحكة بيلفيا فشرعت تهز كتفيها محررة بعض القهقهة من بين أصابع كفها، ما جعل إيفان يفرقع ضاحكا، و أعقبه البقية بدورهم..
ثم أضافت يلفيا بامتنان "كلام سديد يا أوليفر وكايا، سعيدة لأنكم جميعا حريصون على بعضكم البعض"
كان من المريح تصديق تلك الكذبة السخيفة ، فهي كانت أملا ساطعا في نظر كايا وإيفان عَلَّ خلاف جينوا المبهم معهم قد انتهى بالفعل، بينما شاركتهم فايوليت الابتسام و الضحك مجاملة لوالدة جينوا، فهي الأرجحُ إلى معرفة السبب الحقيقي الذي دفع جينوا إلى ركلهم خارج مساحتها الشخصية، بينما اكتفى أوليفر بسحب مشاعره إلى الداخل وكبتَ تفاجأه و السعادةَ التي غمرته عندما التقط أملا فعليا بأن جينوا ما تزال تهتم لأمرهم، ما دامت يلفيا تحفظ اسمه فلا شك أن جينوا تثرثر عنهم كثيرا.. أنزل رأسه وابتسم لنفسه دون أن يراه أحد، عدا إيفا التي قطع حبل أفكارها المعقد بتعابيره السعيدة نادرة الحدوث..
أشاحت مخفية شبح ابتسامة أوشك على الارتسام على شفتيها حتى لا تضايق أوليفر إذا ما أدرك أنها لاحظته، ثم زفرت نفسا أثقله مواجهة الأمر الواقع وأطرقت تفكر بينما تحدق بشرود نحو جينوا في تلك الكلمات القليلة التي همست بها لها عندما كانت كايا بصدد عناقها.. 'إذا سألك أحدهم عن كيف نجونا، فإياك أن تخبريهم بما حدث..' ..
كانت تلك الهمسات، أسئلة فايوليت، ذكريات ذات خلفية باردة عن اللحظات التي ظنتها الفاصلة بين عالمي الحياة و الموت، تهتز بين ثنايا عقلها مثل أوراق واهنة تعبث بها رياح عاصفة هوجاء ..
'ما الذي كان يضيء بقوة ثم اختفى كأن لم يكن، كيف نجونا؟ سؤال خاطئ أليس كذلك... جينوا..' ..
'أكان ذلك السؤال تضليلا؟ هل جينوا تستطيع أن تروي فضولي حقا؟ و إن كان ذلك صحيحا فأنى لها ذلك؟'..
أدركت إيفا متأخرة أن الفضول لن يجلب إلا المزيد من الأسئلة، فتسطير عنوان رئيسي لقائمة تساؤلاتها المملوءة عن آخرها، لهو أمر لم يسعها تداركه، فقد قاطعها الصوت الجهور الذي انبعث من حنجرة السيد أوغست رئيس قسم الحماية المدنية، مناديا عبر مكبر الصوت من الجانب الآخر للجدار..
"انتباه! السيدة يلفيا سيلفاني، أرجو من حضرتك الابتعاد عن الركام قدر الإمكان، أكرر، فليبتعد الجميع عن مقدمة البناية، سوف تتم إزالتها بالجرافات بعد خمس دقائق من الآن، إذا كان هناك أي مانع فأرجو أن تحاولي الاتصال بهاتف المصلحة.."
و استمر التكرار بضعة مرات، كانت كافية لإخراج يلفيا بالأخص من حالة الإجفال التي راودتها للحظات عندما وصل مسمعها صوت أوغست المألوف.. نهضت من مكانها على عجل و أشارت للجميع المنشغلين بتحري مصدر الصوت باستغراب حتى يتراجعوا إلى الخلف، ثم انحنت وحملت جسد جينوا بين ذراعيها من دون عناء..
"جرافات؟ هل سيهدمون المكان فوق رؤوسنا؟!.." تساءلت كايا بنبرة مرتعبة من صوت اقتراب المحركات .. فاستطردت يلفيا ملوحة لها بالاقتراب منها "لا داعي للقلق، علينا الابتعاد كما طُلِب منا وحسب "
تراجعوا جميعا إلى أقصى الخلف متجمعين بتأهب في كتلة واحدة، أخذت يلفيا تضم جينوا إلى صدرها و تحكم إحاطتها بذراعها، بينما تمرر كفها الأخرى على كتف كايا التي التصقت بها تحاول من دون فائدة إمساك بلورات الدموع من التدحرج على خديها و الارتجاف خوفا .. تضمها فايوليت من الجهة الأخرى، بينما اتكأت إيفا على كتف يلفيا ضامة راحة يدها إلى يد جينوا السليمة، على شاكلة كايا فهي لم تكن أشد تماسكا منها، أما أوليفر فجلس يطوي ركبتيه و يحيطهما بذراعيه دون أدنى حركة، تاركا المجال لإيفان الذي جلس بجانبه على نفس النحو، غير أنه كان منسحبا قليلا للخلف و كأنه يحتمي بصديقه، دون أن يمانع الآخر.. و ما هي إلا برهة من الزمن حتى بدأ العُمال بتنفيذ عملهم..
***************************
تحت ظلال أعمدة الإنارة المتساقطة على الطريق المعُبَّد، أخذت عجلات سيارة سياحية رمادية اللون تثير عباب الغبار وتنثره في أرجاء الشارع، لتدرك بعد لحظات وجهتها مخترقة حشود الأهالي و العمال المنقبضة قلوبهم في ترقب، موجهين أبصارهم ناحية مبنى القاعة الذي أمسى ركاما، ثم ما لبثت تلك الضوضاء الصاخبة لبوق السيارة أن فرقتهم ليلتفت من كان يسعه أن يفعل إلى السيدة النحيلة ذات الملامح الشاحبة و الأنفاس اللاهثة، تترجل من السيارة باندفاع دون أن تنتظر المكابح لتنهي عملها حتى، على غرار مرافقها الذي ركن السيارة في منتصف الطريق لا يدرك بصره إلا زوجته تندفع دون وجهة، ليلحق بها ساحبا إياها من خصرها قبل أن تنهار على ركبتيها في وهن هد أملها مثلما انهد فوق رأس ابنتها ذلك السقف المهتز..
"ماديسون!.. أرجوك تماسكي.."
استطرد أرنست ممسكا بزمام يدي ماديسون التي انتفخ و احمر جلد وجنتيها و أجفانها من وفرة الدموع التي ما انفكت تنهمر حسرة على مصير ابنتها، محدقة بعجز إلى الجرافات التي أخذت تهوي بكل ما يواجهها بعنف و جبروت..
أسندها أرنست برفق لتثبت واقفة على قدميها ثم ضمها إليه، تاركا إياها تُدني رأسها من عنقه مغمغمة بصوت تخنقه غصة أليمة سدت حلقها بأنها لا ترغب في النظر، ليهز رأسه مصرا على قولها، ثم اكتفى بالتحديق مترقبا بعينين متسعتين ما يلبث يطبق عليها بأجفانه للحظات محاولا إزاحة الغمامة الضبابية التي تستمر في التشكل، معقود الحاجبين، فلولا مُدافعته نفسه للتماسك لهوى أرضا هو الآخر من هول ما خالج خلده.. لم يسعه سوى ضبط ضربات قلبه الذي أوشك على الاندفاع خارج صدره، لما عصفت بكيانه تلك الأوهام التي حملت كلمات ثقيلة جدا .. لَشَدَّ ما رغب في الافصاح عن ما اعتصر فؤاده حينها، لولا أنه آثر الصمت فليس لماديسون قِبَل بالمزيد من الأسى
"لا أستطيع.. لا قدرة لي إخلاف وعد آخر، أرجوك يا إيفا، فلتعيشي.."
.
.
ليس ببعيد عن مكان وقوف أرنست وماديسون، بل خلفهما مباشرة، تقدم صاحب المعطف الأسود الطويل ببضع خطوات ثم ثَبُت واقفا مكانه، و راح ينصب مقلتيه المخفيتين خلف نظارة شبه معتمة على موقع الحادث.. فرق الانقاذ، الجرافات، المركبات مختلفة الأحجام ذات الأضواء الوامضة، والمدنيون المتناثرون في أرجاء المكان بعشوائية..
منهم من يحدق بوَجَل، ومنهم يتبادل أطراف الحديث بغير اكتراث، منهم من يزاحم من أجل التقاط بعض الصور ومنهم من يصُدُّهم عن فعل ذلك.. كل تلك الفوضى والجلبة لم تملأ الفراغ الذي أحاطه، كل تلك الأجساد المتحركة لم تحجب عنه الريح الباردة التي أخذت تعصف به من كل اتجاه، تعبث بأطراف معطفه، محاولة في استماتة تقويض ثبات أقدامه.. ولكنه لم ينحنِ، بل ظل على ثباته صامدا يترقب بصمت وقلة حيلة زوال ذلك الجدار ، كان العجز أمرا تشاركه الكثيرون يومها.. فلم يسعه أن ينأى بلسانه عن صب اللعنات على جدار الحطام الذي رفض أن يستكين لمجارف تلك المركبات الثقيلة بسهولة.. حتى صفعته نسمة غاضبة لربما لطمته على تذمره الذي ليس في محله، ملقية بقبعته الباهتة بعيدا حيث تضمن أنه لن يسترجعها، ورغم كونها رفيقته التي ظلت تحمي رأسه من الشمس و الثلج و المطر و على الأرجح اعتمد عليها يوما في صد الشهب و النيازك لسنوات عدة، لم يمنحها من وقته غير نظرة وداع خاطفة، ثم التفت مجددا لتأخذ الريح خصلات شعره البني و تداعبها بعنف، مجففة جبينه الندي ..
*****************************
'السابع و العشرون من مايو... الساعة، التاسعة والنصف ليلا.. لقد مضت ساعة ونصف منذ أن بدأت عملية الانقاذ. الجو بارد جدا وموحش.. '
رفعت كايا ابهامها عن لوحة مفاتيح هاتفها و أخذت تحدق باستياء إلى الكلمات القليلة التي دونتها...
بعد تحديقها لدقيقة كاملة طرقت بظفرها بعنف على زر الحذف ثم دست الهاتف في حقيبة الكتف الصغيرة خاصتها دون أن تطفئه حتى..
"إنها مجرد ذكرى ميلاد .. من يهتم للاحتفال بخسارة عام من حياته.. " تمتمت بصوت خفيض من غير انتباه إلى أنها تصدر حسيسا مسموعا أثناء نطقها بذلك، تعتصر قبضتها مطبقة بفكها العلوي على شفتها السفلى ..
"هل قلتِ شيئا ما؟" استفسرت فايوليت التي كانت متكئة على كتف كايا بعد أن سمعت تلك الهمسة الغاضبة. أجفلت كايا مشيحة باتجاهها بعد أن ارتخت عضلة عضدها المشدودة بإحكام..
-"ظننتك نائمة.."
-"لا، لقد أغمضت عيني وحسب.."
أردفت فايوليت بصوت ناعس، ثم فركت عينيها، لتضيف بعد أن فرغت من التثاؤب بعمق:
-"إنني متعبة للغاية، ولكن لا أستطيع أن أغفو فالجو بارد.."
أومأت كايا بتفهم وقد بدأت عيناها هي الأخرى بالذبول ملتقطة عدوى التثاؤب من فايوليت.
-"لماذا الليلة بالذات حلت باردة جدا.. رغم أن الجو كان دافئا طوال الأسبوع الماضي.." استطردت فاي متذمرة، جلست باعتدال وطوت ركبتيها ثم أسندت ذقنها عليهما، آخذة في التحديق إلى الأمام بضجر، لا تنتظر من كايا إجابة محددة...
أدارت كايا رأسها نحو الأمام حيث بدأت الأضواء تخترق عتمة المكان عبر الشقوق الشاسعة، تَصْدر خلفها اهتزازاتٌ و هديرُ المحركات الصاخب الذي اعتادت عليه آذانهم في وقت وجيز، مُبَشِّرة باقتراب الفرج..
شرعت تراقب حركة الظلال على الأرض، تشوب عينيها مسحة من الفراغ الكئيب، ملتهما حتى الانعكاس اللامع لِطَيف الضوء المتسرب عبر الشقوق، تعصف بخيالها كل ذكرى ميلاد مرت عليها منذ نعومة أظافرها، و لقد كان هناك شيء مشترك يجمعها دون استثناء..
'كعكة كاملة، لم تؤخذ منها قضمة واحدة'...
.
.
'نعم، أحيانا أظن أنه كان يفترض بي أن أولد في الشتاء، ربما أنا من تجلب البرد في نهاية الربيع..' ..
حشرج حلقها مرسلا دُفعة من الهواء بدت كمقدمة لضحكة ما، أوشكت كايا على أن تصدرها استجابة لما تجلى لها من أفكارها الحمقاء التي ما تنفك تراودها، لتضيف مجيبة فايوليت بعد صمتها الطويل، معقبة على سؤالها الذي على الأرجح نسيت أنها سألته:
-"لطالما كان السابع و العشرون من مايو.. باردا هكذا"
.
.
-"اليوم يوم ميلادك، أليس كذلك يا كايا؟"
حركت كايا رأسها ببطء باتجاه صوت يلفيا الذي داعب أذنيها برِقة، لتقابلها ببسمة هادئة ونظرات دافئة.
أومأت لها كايا، محدقة بإمعان شديد إلى شفتيها، فإذا بصوت طفولي يبعثر أفكارها صارخا فجأة: 'الابتسام مجاني!'..
اتسعت عينا كايا لما ارتسم طيف ذكرى قديمة على مُحيا يلفيا، يذكرها بجينوا ذات الأعوام التسعة، تعبث بشعرها الداكن القصير بخجل خالجه الغضب بينما تحدثها ذات مرة عن كلمات أمها الملهمة، التي تحدت بها المنشأ الخاطئ الذي حُشِر في رأس كايا منذ تعلمت النطق، مفاده أن: 'كل شيء بثمن، حتى الابتسام هو وسيلة للانتفاع المادي، وكل بسمة يحسب لها ألف حساب..' ..
كانت تصرخ بغضب، توشك على ضربها..
'الابتسام ليس مشروطا!.. الابتسام مجاني، لا يمكنك الاستمرار في العيش بهذا الوجه المتحجر، أنت لست دمية!'
.
.
عادت كايا لوعيها بعد لحظات من السهو داهمتها إثر تجمع كل تلك الأفكار المشوشة.. هي تعرف نفسها وكانت تدرك بوضوح أنها في بعض الأحيان، تفقد بهجتها عندما تبدأ ذاكرتها بعرض الذكريات السيئة هنا وهناك عشوائيا.. ذلك كان شيئا أقرب إلى المطاردة المرهقة..
أضافت يلفيا بنبرة أشد ابتهاجا، سعيا منها لبث بعض النشاط في روح تلك الملامح التي أخذت توجم ثم تذبل، كاشفة عن آثار العاصفة التي جعلت تعبث بجوارحها.. "إذاً، أصبحت في الخامسة عشرة الآن على حد علمي"
حركت كايا رأسها نافية، ثم أردفت مصححةً الأمر الذي التبس على يلفيا "لقد ختمت الرابعة عشرة، في الواقع، حسب ما أذكر فإن مربيتي أخبرتني أنني ولدت ليلا في مثل هذا الوقت.. لذا، على الأرجح أكون قد أتممت أربعة عشر عاما للتو!"
و كانت أثناء ذلك تحرك أصابع يديها، تزداد نبرتها حماسة مع استمرارها في التحدث.. جاعلة يلفيا تهز رأسها باهتمام، لتوشك محادثة عشوائية بإطناب على أن تبدأ، لولا أنها قوطعت فجأة على وقع الموجة الصاخبة التي أعقبت وقوع كم هائل من قطع الاسمنت المكدسة دفعة واحدة، لتكشف غيمة الغبار العظيمة عن فجوة ذات قطر مهول..
لم يكن ليسبق شعور الغبطة بانتهاء تلك المحنة سوى وخزة جعلت قلوبهم تقف إثر ذلك الانهيار، حتى أن كايا ويلفيا قد وقف الريق في حلقيهما لهول الصدى الذي تبع أصوات الاصطدام، أما فايوليت فأجفلت شاهقة بعنف حتى حسِبت أن نوبة ربو أخرى قد انتابتها. بالنسبة لإيفا، فهي قد أمسكت الصرخة عند حافة حلقها، لتكتفي فقط بتحريك مقلتيها في كل الاتجاهات لاهثة بشدة..
عاد أوليفر الناعس إلى وعيه على صوت إيفان النَّشِزِ، رافعا رأسه في فزع لما صم أذنه صراخ صديقه المتحمس، و الذي لم يمنحه فرصة حتى يستوعب ما الذي هيج تلك الكتلة الباهتة من الغبار حتى باغته بصفعة على القفى جعلته يتلوى..
-"انهض يا أوليفر، تم إنقاذنا.. لقد تم إنقاذنا!"
كشر أوليفر عن أنيابه في حنق و أردف على تهليل صاحبه المبتهج بركلة عنيفة نحو ساقيه حتى طرحه أرضا..
"أهكذا توقظك والدتك كل يوم.. أشفق عليها.."
أدبر إيفان متألما، بينما يتحسس عموده الفقري متظاهرا بأنه لا يقوى على النهوض ليغيض أوليفر أكثر، ولكنه لم يكن ينتظر نتيجة بكل الأحوال، فسريعا ما استكان أوليفر وانحنى ليمد له يد المساعدة حتى ينهض "كف عن التمرغ كالدودة، ولا تفعل ذلك مجددا.."..
مد إيفان يده بالمقابل و أوشك على الإمساك بقبضة أوليفر، ولكن هذا الأخير سحب يده فجأة ليحجب بها ضوء الكشاف الساطع الذ وُجِّه ناحيتهم دون سابق تحذير، ليتركه يقع مجددا..
"أخفض الإضاءة رجاءً.." قال أوغست الذي كان يقف عند الحافة الخارجية للفجوة، آمرا أحد العمال بعدما لاحظ سريعا أن الإضاءة شديدة السطوع كانت تربك يلفيا و من هم برفقتها... بعد ذلك مباشرة رفع ذراعه ثم لوح و الابتسامة لا تفارق وجهه، لتبادله يلفيا التلويح من بعيد بعد أن تعرفت على وجهه و استرخت أخيرا ..
التفت أوغست للحظات نحو الخلف مشيرا إلى مجموعة من المسعفين و أعوان الحماية باتباعه، ثم ولجوا واحدا تلو الآخر، أوغست في مقدمتهم يمضي سريعا باتجاه يلفيا، محاولا الركض بسرعة لا بأس بها نظرا لكبر سنه.
عندما وصل بالكاد يتنفس، استطرد متحمسا بينما ينحني ليصل إلى مستوى يلفيا التي ظلت جالسة مكانها على خلاف البقية لتتجنب إيقاظ جينوا .."حمدا لله على السلامة أيتها الطبيبة، لقد كان ذلك الذي فعلته مبهرا حقا.."
هزت يلفيا رأسها يمينا وشمالا محافظة على ابتسامتها الفخورة لتضيف منكرة حقها في تلقي المديح "أقوم بواجبي وحسب، ثم إن الشكر لكم على تعبكم لأجلنا.."
هز أوغست رأسه بإعجاب بينما بدل نظراته المليئة بالإصرار تجاه جينوا، حتى صيَّرته ملامحها المتعبة حزينا لأجلها..
أدبر قائلا بينما يبعد بأطراف أصابعه الخشنة خصلات شعر جينوا عن عينيها بحرص شديد "هذه جيني؟"
هزت يلفيا ذقنها بالإيجاب، ليضيف هو بنبرة أشد حزنا فلطالما كره رؤية آثار الأذية على ملامح الأطفال الأبرياء.. "يا لها من طفلة مسكينة، لا بد أنها أمضت وقتا عصيبا.."
همهمت يلفيا بصوت محتقن وقد بدأت الدموع بالتجمع حول مقلتيها.. حينها انفكت رباطة جأشها بعد تماسك حثيث و شرعت عيناها ترسلان الدموع بلا هوادة، مفرغة بانهمارها الضغط الذي حاصر فؤادها منذ وصل مسمعها ذلك الخبر المشؤوم..
بينما أسند أوغست إلى اثنين من المسعفين نقل جينوا إلى الخارج على الحمالات، ساعد يلفيا على الوقوف مربتا برفق على ظهرها، ثم أفلتها لتلحق بابنتها، شاكرا لها مجددا على مساهمتها الثمينة ..
التفت بعد ذلك إلى إيفا التي أخذت تحدق ناحية جينوا ووالدتها بعينين لامعتين من بقايا الدموع جراء تأثرها لدى رؤيتها دموع يلفيا لأول مرة في حياتها.. انحنى أوغست قليلا و سألها بابتسامته المعهودة عن اسمها، لتجيبه أثناء فركها أجفانها بيديها الاثنتين "إيفا سييف.."
ركز أوغست نظراته تجاه عينيها و حدثها بلطف شديد حتى تهدأ تماما قائلا "امسحي هذه الدموع الآن، صديقتك ستكون بخير، وكذلك فقد انتهى هذا اليوم على خير، عليك أن تكوني سعيدة لأجل هذا.. أليس كذلك يا إيفا–.."
امتثلت إيفا لكل كلمة قالها فلم يسعها سوى أن تكون ممتنة له بقدر يكفي حياتها كاملة، بادلته التحديق بتركيز مستمعة بإنصات إلى كلماته المشجعة، حتى فاجأها بإجفاله في منتصف حديثه.. عندما فتحت عينيها العسليتين بالكامل تحديدا..
وقف أوغست مبهوتا من ذلك البريق الذهبي النادر الذي يمازج لون عينيها الواسعتين.. وبعد هنيهة سألها بإصرار مفاجئ، دون أن يلحظ تغير حدة صوته إلى نبرة حازمة نوعا ما..
"ما اسم والديك يا ابنتي؟"
" أرنست سييف، ووالدتي ماديسون سييف" أجابت إيفا، و قد أوشك حاجباها المسترخيان على رسم تعابير مستغربة، حتى تفطن أوغست لذلك فاعتدل واقفا بسرعة و فرك شعرها بلطف ثم أردف بصوته المتحمس و بسمته المريحة كما عهد "حسنا إذا، لا بد أنهما بانتظارك الآن.. فلتكوني حذرة" ثم منحها دفعة تشجيعية نحو الأمام و أشار لأحد معاونيه بمرافقتها..
مكتفيا بملاحقة ظهرها بعينيه للحظات بينما شرعت في الابتعاد شيئا فشيئا برفقة الباقين، اكتنف أوغست إحساس بارد جعل بشرته تميل إلى الاصفرار، بينما اتسعت عيناه في قلق و غير تصديق، كان كمن شاهد شبحا ففقد النطق..
'عيناها ذهبيتان.. كيف تملك تلك الأعين؟!.. '
'ربما أنا مشوش فقط، لا أحد يملك تلك الأعين هنا.. يجب أن أتأكد لاحقا وحسب'
.
.
دلّك أوغست أطراف حاجبيه محاولا إزاحة ذلك التشويش مبدلا نظراته باتجاه إيفان الذي أخذ بالابتعاد متقافزا حول أوليفر، ليقاطع تلك الأفكار الجالبة للصداع مناديا عليه بصوت مرتفع "فانغارد! تمهل لحظة يا فتى!"
كف إيفان عن التقافز و التفت هو وأوليفر ناحية أوغست، الذي تقدم نحوه مسرعا بعدما تذكر أخيرا أمرا كان يشغله..
-"هل تحدثني يا سيدي؟"
-"أيوجد أحد هنا غيرك باسم فانغارد؟" أردف أوليفر بسخرية، ثم أدار ظهره وواصل السير ببطئ "سأنتظرك.."
-"أخبرني هل تربطك صلة مع شخص يدعى فيليكس فانغارد؟" استرسل أوغست متسائلا بعد أن أدرك إيفان .. الذي ما لبث أن اتسعت عيناه بتفاجُأ ليجيب أوغست فور سؤاله "إنه جدي! هل تعرفه؟"
ابتسم أوغست بارتياح لما سمع الإجابة، ثم أردف بصدد ري فضول إيفان "نعم هو أحد معارفي، لم نتقابل منذ زمن طويل ولم أكن أدري أنكم انتقلتم إلى فيلدسباث أيضا، يا لها من مصادفة.."، كان أوغست على وشك سؤال إيفان عن حال جده، ولكنه فضل الصمت و الترقب لما لاحظه من ذبول قد غشي ملامح الفتى فجأة ..
"لقد.. توفي جدي قبل سبع سنوات.." أردف إيفان بصوت محبط مخفضا عينيه إلى الأرض، لم يكن أشد حزنه على جده بمقدار حزنه على حال أوغست الذي انقلب شاحبا و انقبض قلبه في صدمة. عندما رفع إيفان رأسه نحو وجه الرجل تفاجأ بالحزن الذي بدى على محياه.
انحنى أوغست ثم أمسك بإيفان من كتفيه، و أضاف بصوت تشوبه الحسرة، محدقا نحوه بعيون غَشيها الحزن "آسف يا بُني، لم أعرف بالأمر فأنا لم أنتقل إلى هنا سوى في السنوات الأربع الأخيرة.. تمنيت حقا لو التقيت به قبل أن يرحل.."
ثم أضاف محاولا التخفيف عن إيفان الذي التمعت عيناه و احمر وجهه منذرا بوشوك انهمار دموعه مجددا للمرة لا أدري كم ..
"لم أعرف فيليكس خير المعرفة، ومع هذا فقد حفر اسمه في ذاكرتي بطيبة قلبه وسلامة مبادئه، أنا واثق من أنك ستنشأ رجلا صالحا مثله يا بني.."
أومأ إيفان الذي أخذت شفته السفلى بالارتجاف في محاولة لالتقاط دموعه فهو قد خالجه الضجر بالفعل من حساسيته المفرطة، ليأخذ بكم قميصه و يمسح أجفانه بسرعة مضيفا بصوت متقطع بينما يشفط المخاط ليعيده إلى أنفه "شكرا لك .. سيدي، أنا واثق .. من أن جدي كان فخورا بمعرفتك.. أيضا.."
"رجاء أوصل تحياتي إلى السيدة مارغريت، أخبرها أن أوغست لوي البستاني سعيد بسماع أخبارها، و إذا احتجتما أي شيء فلا تترددا في طلبه، سأكون معظم الوقت في مصلحة الحماية المدنية.."
أومأ إيفان مردفا على ابتسامة أوغست المتعبة بأخرى تنم عن قناعة وصبر تليد.. ثم ختم ذلك الحوار قائلا بامتنان "سأبلغها بكل سرور.."
انسحب بعد ذلك باتجاه أوليفر ملوحا لأوغست من بعيد بابتسامة نضِرة، فأجابه أوغست بمثيلتها، ثم ما لبث يراقب ابتعاد الولد برفقة صديقه بشيء من الشرود..
بعد لحظات أدخل يده إلى جيبه وسحب قلادة فضية، ثم فتحها لتقابله صورة باهتة لفتاة شابة، تشاركه في بعض من ملامحه اللطيفة ولون عينيه البنيتين..
'يوليا، فيليكس.. لقد كبر وهو بصحة جيدة، لذا أرجوكما.. فلترقدا في سلام ..'
قال همسا بينه و بين نفسه، ثم قبل الصورة بطرف شفتيه و أرجع القلادة إلى جيبه..
التفت قليلا إلى الخلف ليجد مجموعة من العمال وبعض أعوان الحماية متجمعين عند كومة هائلة من الركام المتكتل، لا يفعلون شيئا غير الوقوف أماكنهم وتبادل نظرات الشك و الحيرة، التقط نفسا عميقا ثم أطلق صيحة غاضبة في وجوههم  "عودوا إلى العمل جميعا! ما الذي تحدقون إليه؟!"
.. لم يكن من أحدهم إلا أن أشار له أن يأتي  بنفسه، فاقترب منهم بامتعاض متذمرا من براعتهم في اختلاق الأعذار ..وقف مسندا كفيه على خصره متسائلا في انزعاج وملل، ولكن جسده تجمد حرفيا، فاهه فغر و ملامحه تغيرت من فرط دهشته بمجرد أن قابله منظر الصفائح المعدنية المنبعجة، وآثار الهيكل المعدني العملاق مسحوقا بطريقة منظمة لا تمت للعشوائية بِصِلة.. انحنى و أزاح الغبار عن الصفيحة الأقرب لقدمه ثم قرأ الشعار المكتوب عليها "هيغل للصناعات الثقيلة.."
نطق أحد المحيطين بأوغست متسائلا "أيعقل أنها إحدى الهادرات التي كانت تستعمل في هدم الأبنية؟"
ليضيف آخر "ظننت استخدامها أمرا محظورا.."
و بينما هم يتبادلون توقعاتهم و استنتاجاتهم، فإذا بأوغست ينتفض فجأة شاحب الوجه ليلف بصره الثاقب باتجاه أولئك الأطفال الذين أنقذ حياتهم للتو.. ارتجفت مقلتاه أشد ما ارتجاف عندما اصطدمت بذهنه تكهنات أحد العمال العشوائية الذي قالها بشيء من المرح وعدم الاكتراث "أتظنون أن تدمير المبنى كان متعمدا؟"
فأردف آخر بحماس و كأنه استنتج شيئا ذا أهمية "أهاا! لهذا رأيت رجالا من شرطة العاصمة في موقع الحادث، كنت أتساءل حقا عما جاء بهم.. ماذا تظن أيها الرئيس؟.."
ثم صمتوا جميعا منتظرين ردا من أوغست، فهو في العادة يحب الثرثرة عن المؤامرات.. ولكنه لم يأبه لهم بل ظل ثابتا يحدق بعينين زائغتين باتجاه إيفا ومن معها، والذين سريعا ما اختفوا عن الأنظار.. ليعصف ذلك التساؤل الذي لم يرغب في نطقه على الملأ بذهنه، مفضلا تركه حبيس رأسه تحسبا فقط..
'من يكون هؤلاء؟!'
.
.
*

*
*
*
*****

© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
الوجه الآخر
Коментарі