الفخ
الفصل 02: الفخ
قبل أن ينطق ذلك الفتى متدلي البطن بحرف واحد ، التفتت جينوا إليه بسرعة وقد صفعت يده بعيدا عن كتفها .. ثم ردت باستهجان شديد "ماذا تريد؟ !"
صمت الولد و حدق فيها بأعين مستغربة ، كان يصب كل تركيزه على النظارة الشمسية التي تغطي عينيها بشكل جزئي.. وضع يده على ذقنه وفركه بإبهامه ،تلك الحركات أوصلت جينوا إلى آخر مراحل اليأس..
ضيق عينيه في شك وقال متسائلا: "أنا أعرفك... أنت .." ثم أشار إليها بابهامه وتعابير وجهه ما تزال على تلك الحال ..
دبت في جسد جينوا رعشة ارتجت لها عظامها ، لم تدخر وقتا وصرخت في وجهه مباشرة:" أنا لم قابلك في حياتي !"
لم يتزحزح نيكيتا شعرة بل استمر في حركاته المتدلية وقال بتراخٍ " لماذا تصرخ يا .." .. ولكنه فجأة انتفض حتى اهتزت كل شحمة في جسمه وضرب قبضته بكفه .."عرفتك !!"... ماتت جينوا ..
أكمل نيكيتا "أنت إيفان فانغارد أنا واثق ... ولكنك ألم تكن أطول قليلا؟"
صمتت جينوا ، ثم بعد لحظات بدأت في إصدار صوت غريب "هاه .. هاه هاه .. اااعععـ" واستمرت في الضحك بهستيرية على نفس ذلك النمط ..
توقفت بعدها وأخذت تشهق وتزفر بقوة " لقد ، قلت ، لك ... أنا لم أقابلك في حياتي ولست إيفان فانغارد ولا أعرف من هو !!.." استشاطت غضبا عليه حتى احمر وجهها، التفت لذلك الصراخ بعض من كانوا قريبين منهما .. ولكن لحسن الحظ لم يكن ذلك لافتا جدا بسبب صوت الموسيقى المرتفع ..
-"هل أنت بخير .. وجهك أصبح منتفخا .. لا تسىء فهمي كل ما أردته هو تعريفك على أصدقائي هناك " قال ذلك الولد، ثم أشار إليهم ،" رأيناك منذ بداية الحفل ولم يتعرف عليك أحد لذا فكرنا في أنك قد تحب التسكع معنا قليلا .."
همست جينوا لنفسها مازحة وقد استفزتها طريقته المتناعسة في الكلام بما يكفي "إنه فخ"
-" ماذا تقول؟"
-"لقد قلت إنكم تبدون رفاقا جيدين وأنا أوافق بكل رجولة على الانضمام إليكم .. والآن هيا بنا إلى أولئك المحترمين " ..
تتحدث وتتعرق، بينما كان الذي تقصده في رأسها غير ذلك الكلام... "إني أراني سأتعارك الليلة .. هوفف.."
-"سمعتك تقول شيئا ما مجددا، توقف عن الهمس لنفسك هكذا .."
-" أنت تتخيل أشياء.. يا نيكيتا .." قالت ذلك رافعة أحد حاجبيها باستهزاء ..
أردف الولد متعجبا "مـ..ماذا.. أنت تعرفني؟ .."
-"نعم أعرفك و أعرف الجميع هنا ، لا داعي للتفاجؤ هكذا .."
-" أها وتعرف أنهم ينادونني بالدب-.."
-" نعم نعم أعرف ذلك و ينادونك بالدب لأنك سمين .."
-"في الواقع ينادونني هكذا لأنني قوي وليس-.."
-"أجل أجل أيا يكن، بالمناسبة أنا أدعي جين و ينادونني بقلب الأسد لأنني لا أقهر .."
صمد نيكيتا لبعض الوقت ، محاولا عدم إظهار تعجبه من عدوانية جين -الذي هو جينوا- ووقاحته المفاجئة .. كان يسير خلف خطاها المتسارعة محاولا اللحاق بها وفتح موضوع عادي معها حتى يستطيع التعرف إليها جيدا ، ولكن ردودها اللاسعة وهالتها المتعجرفة تلك قد نالت من صبره ..
فجأة توقف عندما وصلا إلى زاوية بعيدة بعض الشيء عن مركز القاعة - هناك لم يكن أحد لينتبه حتى لو حدثت جريمة قتل- ،انتظر من جينوا أن تلتفت .. لاحظت تخلفه عنها فالتفتت مثلما أراد تماما ، كانت مستمرة في محاولة استحقاره بنظراتها المتكبرة المدعية و لكنها سرعان ما كفت عن التظاهر وتبخرت تلك الثقة التي كانت تسير بها ، عندما لمحت تلك الابتسامة الباردة التي ارتسمت على وجهه فجأة.. تغيرت نبرته الناعسة إلى كلام هجومي مباشرة "لقد وصلنا إلى وجهتنا أيها المتعجرف الصغير.."
لم يكد ينتهي من تلك العبارة حتى وجدت جينوا نفسها محاطة بمجموعة شبان أصغرهم يكبرها بسنتين أو ثلاث ، الواحد فيهم بطول ثلاجة ، التفتت متوجسة يمينا ويسارا ولكن لم تستطع أن تلمح من بينهم حتى منفذا صغيرا لتنسل منه..
نطق أحدهم: "كان يبدو أقصر من بعيد .. ظريف .. " ..
لم تستطع جينوا إغلاق فمها وردت بعصبية "ظريف ؟.. من تنعت بالظريف ؟؟"
"و الآن أصبح غاضبا .." أضاف أحد آخر ساخرا، ثم افرنقع ضاحكا هو ومن معه، بينما ظلت جينوا واقفة وسطهم تشد قبضتيها بإحكام وذراعاها ترتجفان ليس خوفا وحسب، ولكن عروقها أوشكت على الانفجار من سخافة الموقف الذي أقحمت نفسها فيه ..
"اسمع اسمع .. لن نؤذيك أيها الطفل الرعديد، شيء واحد بسيط و سنضمن لك أن لا تتشوه ثيابك الأنيقة.. " مد يده ، الشخص الذي نطق وقد بدى أنه قائدهم كونه يحيط نفسه بهالة متفاخرة مزعجة وسط خضوع واضح من البقية ، ثم أضاف "هات .. أفرغ ما في جيوبك .. ولا تحاول العبث معي، سوف أنفضك بنفسي إذا تطلب الأمر"
صمتت جينوا برهة، ثم أردفت وحلقها يصدر حشرجة خشنة من شدة حنقها "تريد شيئا؟ إذا تعال وخذه أيها الجبان ..."
رفعت رأسها، وسط دهشة أولئك من اجترائها على التلفظ بتلك الأشياء أمامهم، ثم أخفضت النظارة الشمسية قليلا ووزعت عليهم فردا فردا نظرات جافة..
أضافت مستنكرة في وجه الفتى نفسه الذي هددها منذ قليل " تبدو متفاجئا .. كما توقعت منك، لست سوى مُدٌَعٕ سافل .." ..
.
.
" ولكن ... ماهذا ؟ ما الذي تفوهت به للتو ؟؟ لا تأتِ لا تأتِ أنا لم أكن أعني- "
ذلك كان آخر ما فكرت فيه جينوا قبل أن تتلقى لكمة مفاجئة على أنفها جعلتها تنام وتصحو مجددا في لحظة ، طرحها ذلك الذي نعتته بالمدعي السافل أرضا ، وقعت إثر ذلك القبعة وانفك رباط شعرها ..
توقفت الموسيقى والتفت الجميع إلى تلك الناحية ...
... "ما هذا .."
استنكر بعضهم في الوقت ذاته وتعالت الهمسات فيما بينهم حتى أصبحت مسموعة..
" فتاة.."
.."يا إلهي !! ، هذه فتاة .."...
كانت لحظات عصيبة لجينوا، لم تدر فيها ما حل بها فجأة..
"ما الذي جاء بي إلى هنا؟" ..
"كيف انتهى بي المطاف هكذا؟" ..
"لماذا يحدث هذا معي؟" ..
دبت هذه التساؤلات وغيرها الكثير في ذهنها، تلك الأفكار شغلتها نوعا ما عن كل الضجيج الذي أثير من حولها حتى أصبحت لا تسمع سوى ضوضاء عشوائية، ظلت جاثمة على ركبتيها ونظرها موجه نحوهما، ودون انتباه منها ، كان أنفها ينزف ببطء، لم تجرأ على رفع رأسها ، لقد عرفوا أنها فتاة والآن إذا رفعته ، سينزاح شعرها عن ملامحها وستنكشف هويتها ... ثم ستصير بعد ذلك مجرد اضحوكة على ألسنة الجميع ..
"هذا لم يكن بالظبط ما خشيته يا إيفا .. يبدو أسوء بقليل .. "..
.. "ثيو أنت تضرب فتاة .." صرخ أحدهم ساخرا في وجه صديقه ، ليرد عليه الآخر غاضبا "اخرس ! .. من يعبث معي ينال هذا الجزاء سواء أكان فتاة أو ولدا ، بشرا أو حيوانا ، الجميع سيتعرض للضرب"
ويبدو أنه لم يعتبر هذه الضجة شيئا ومازال مصرا على معاركتها ولكن يا لسوء حظه..
"هذا يكفي!" ..
قوطعت سخريته فجأة وعم الصمت بمجرد أن انطلقت تلك الصيحة ، التفت الجميع إلى مصدر الصوت، كانت تسير بخطى سريعة مخترقة الحشد الذي تجمع حول المكان، أجفل الجميع وهم يراقبون الحسناء ذات العينين الزرقاوين المستديرتين والشعر الكثيف المموج على جانبي وجهها، مع تلك الغرة المصففة بعناية و ذيل الحصان ذي الخصلات الطويلة المنحنية والمتدلية ذهابا وإيابا مع خطواتها الرتيبة و.... أين كنا ..
-كما قيل- أجفل جميع المدعوين لدى رؤيتهم لتلك الفتاة الحسناء تفرق تجمعهم وتسير بكبرياء.. لقد ظهرت أخيرا ملكة هذا الحفل "كايا فالكفورت" بنفسها .. إنها غير راضية ..
"ثيودور وفرقته !! دعوتكم إلى هنا من أجل تنشيط الحفل وليس لإثارة الفوضى والاعتداء على ضيوفي.." وقفت أمامه مباشرة ونهرته بحزم رغم أنها تبدو مثل هامستر أمامه، ثم أشارت إلى المخرج وازدادت عبوسا .. "غادروا فورا" ..
أشاحت وجهها عنه بسرعة وهبت قلقة نحو جينوا التي لم تتحرك منذ أن وقعت من أجل أن تتفقدها، ولكنه مد ذراعه في وجهها ثم اعترض طريقها بجسده ووضع كلتا يديه في جيوبه .. رفعت كايا رأسها لتجده ينظر إليها نظرة غريبة تنم عن شيء من الاحتقار، تراجعت بضع خطوات للوراء وهي تراقب بحذر سلوكه الغريب .. نطق أخيرا دون أن يزيل تلك التعابير "وماذا إن رفضت.." ..
حسنا، تلك الكلمات جعلت كايا تتسمر مكانها ، هي في حفلها، على أرضها وبين جمهورها .. ولكن ماذا عساها تفعل لهذا الكائن وهي لم تعد له سوى الكلمات القليلة التي قالتها بالفعل، حدق الجميع بها منتظرين منها ردا مما زادها ارتباكا ، اتسعت عيناها و اظطرب تنفسها ..
أثناء ذلك كله كان هناك أحد ما في الخلف يدفع الأشخاص المتجمعين بعنف محاولا الوصول بأقصى سرعة إلى مركز تلك الفوضى ..
وما تزال كايا على تلك الحال حتى تدخلت لحسن الحظ صديقتها "فايوليت" في اللحظة المناسبة، تقدمت إلى الأمام ودفعت كايا خلفها برفق، وقفت مسندة كفها على خصرها وقد أخذت تعبث بإحدى ظفيرتيها السوداوين بعدم اكتراث..
وجهت هاتفها نحو وجه "ثيو" وكلمته بهدوء.. "راقب كلماتك جيدا ، إذا قمت بأي حركة طائشة فسوف أتصل بالشرطة.. غادر الآن قبل أن أفعل" ..
قطب جبينه ورمقها بعيون حانقة، بينما أظهرت نظرات بقية الحضور غير ذلك، كانت الآنسة فايوليت محط إعجاب الجميع لسرعة بديهتها، بمن فيهم جينوا التي كانت تسترق النظر من خلال خصلات شعرها المبعثرة..
صمت ثيو مجددا ، لسبب ما كانت تعجبه حركة الهدوء ما قبل العاصفة، يصمت قليلا ثم فجأة ينطق بكلام هجومي عشوائي، هذا ما فعله بالظبط ..
مجددا، رفع صوته فجأة قائلا " أغربي عن وجهي !" ثم أخرج يده بسرعة من جيبه ولوح بها باتجاه وجه فايوليت محاولا تسديد لكمة لها هي الأخرى .. ولكن، محاولته باءت بالفشل.. لم توشك قبضته على الوصول حتى اصطدم به شيء ما جعله يسقط سقوطا حرا نحو الأرض ...
استغرق الأمر منه ثانية واحدة ليقف على قدميه مثل الدب وهو يصرخ مستشيطا غضبا في وجوه الجميع، ما جعل ذلك الحشد يتراجع إلى الخلف، حتى رفاقه أولئك لم يسلموا من صراخه..
لم يكف عن ضجيجه حتى لمح بوضوح نظرات غاضبة مصوبة نحوه، ملامح الشخص الذي جاء راكضا من بعيد ودفعه ، كان ذلك الولد واقفا مكانه، يحدق فيه بترقب ونفاد صبر ..
" ما الأمر يا راينهارد، أستستمر بالتحديق إلي هكذا دون قول شيء كعادتك .." قال ثيو ساخرا، بعد أن كف عن الصراخ وهدأ ضجيجه ..
" سببت ما يكفي من الفوضى، غادر وحسب وكف عن إحراج نفسك " رد عليه الآخر ،المدعو "أوليفر راينهارد" .. بلهجة أقل سخرية واكثر هدوءا ..
.
.
... وعلى غير المتوقع، عمت السكينة .. يبدو أن ثيو قد تأدب وقرر أن ينقلع أخيرا، لم يضف كلمة أخرى ولم يحاول التفكير في رد حتى، التفت نحو المخرج وسار خطوتين أو ثلاثا بكل أدب.. ولكن ..
هكذا فجأة، غير اتجاهه وقبض على عنق أوليفر وشد شعره بكل وحشية ..
-إن ثيو قليل حياء، لا تكن مثل ثيو-
بنفس السرعة ، مع استغلال عنصر المفاجأة بالقدر ذاته، انتفضت جينوا من مجلسها ذاك و صرخت "إلى الجحيم!.." .. تزامنا مع إرسالها ركلة أكروباتية في الهواء ..
كف أوليفر عن محاولة فك نفسه و أرخى ثيو يديه قليلا ، التفت كل من كان على قيد الحياة إلى جينوا .. ما بالها الآن؟
للأسف، ركلتها العجيبة لم تصل إلى ثيو.. قيدها أحدهم من الخلف بيديه قبل أن تقف بشكل سوي حتى، عندما حاولت تبين وجهه وضع كفه على رأسها ودفعه نحو الأسفل.. انحنى قليلا وهمس لها محاولا تجاهل كل تلك العيون المحدقة.. "أخفضي رأسك أيتها الغبية سوف تكشفين نفسك .." ..
" يا ..؟" ..
توقفت عن محاولة دفعه بعد أن تعرفت على صوته.. أجابته همسا هي الأخرى "جين ، قل إن اسمي جين اختلق شيئا بسرعة .."
رفع رأسه بسرعة وابتسم بلطف نحو ثيو محاولا تخفيف احتقان الجو : " أرجوك سامحه يا ثيو، إنه جين ابن ابنة عم والدتي الذي مات منذ يومين وهو عصبي جدا لهذا السبب.. أعرف أنه يبدو مثل الفتيات لأن شعره طويل ، هو ولد أؤكد لك " ..
جعل ذلك الصمت المخيف ابتسامته تتحول مع كل ثانية تمر من لطيفة إلى ملونة .. تجمد مكانه وبدأ يتعرق .. "إنهم لا يصدقونني .. انشقي يا أرض وابلعيني .."
"هاي إيفان ..هاي أنت، توقف عن الابتسام وقل شيئا .. قل شيئا إنهم لا يصدقونك" همست جينوا مجددا، ثم ركلته على ركبته ..
صفعت فايوليت جبهتها وتمنت لو أنها لم تكن هناك ولم تتعرف على هذين التافهين يوما ، نفدت حلول الأرض و الأمر متروك للاتصال بالشرطة، كانت على وشك الاتصال بالشرطة فعلا، حتى صاح نيكيتا فجأة، ومازال الجميع يحركون رأوسهم ذهابا وإيابا باتجاه كل صراخ مفاجئ ...
قال نيكيتا وكأنه اكتشف شيئا ما ، موجها ابهامه نحو إيفان "صحيح! لهذا ظننت أنه يشبهك عندما رأيته.."
ترك إيفان ركبته الملتوية ونظر نحو نيكيتا ثم إلى جينوا .. "اه؟.."
نظرت إليه جينوا بشق عين وهي ما تزال مخفضة رأسها "لا تنظر إلي لا شأن لي"
زفر ثيو عميقا، وقد شغله ذلك الذي كان يحدث قليلا عن خنق أوليفر حتى الموت "إذا ، انتهت هذه المسرحية ..أين كنـ-.."
و هوب! لم يكد يكمل جملته حتى وجد نفسه مرميا بجانب قدمي نيكيتا ..
استغل أوليفر انشغال ثيو بالالهاء الذي سببه إيفان وجينوا وفاجأه بركلة على معدته بكلتا قدميه جعلتهما ينفصلان وكل فرد يطير في اتجاه ..
سعل ممسكا برقبته التي كاد ثيو يفصلها عن مكانها، ثم ما لبث أن نهض مشيرا لكايا وفايوليت بالابتعاد عنه و وقف باستعداد لأي حركة إضافية من الآخر؛ ثيو، الذي نهض ببطئ شديد ممسكا بمعدته وهو لا يكف عن إصدار زفير ثقيل، اقترب منه نيكيتا ثم همس له ببضع كلمات مشيرا إلى جينوا وقد اعتلت وجهه تلك الابتسامة الخبيثة ثانية ..
لبث ثيو ثوان معدودة يستمع إلى حديث نيكيتا، ثم إذا بابتسامة شيطانية تعلو وجهه وقد أشاح به عن أوليفر متجاهلا إياه ..
"لم أتوقع هذا منك" قال بهدوء..
ثم أضاف بصوت أعلى وأكثر وضوحا " .. يا فتاة شطائر اللحم " .. و انفجر ضاحكا، تبعه نيكيتا في ذلك، ثم انتقلت العدوى إلى الجميع بعد أن كانت بضع ضحكات مكتومة منذ البداية..
شعر إيفان بالهزيمة..
"آسف يا جين .. كانت كذبة فاشلة " أردف متراخيا وقد أُحبِطت هِمَّته حزنا على جينوا ..
لكن، نظراته هو، أوليفر، وكايا المليئة بالشفقة والتعاطف تجاهها تلاشت بسرعة عندما أخفضت رأسها وبدأت قبضتاها المشدودتان بالارتجاف، كان واضحا جليا أن خلف ذلك الشعر المبعثر غضب مريع وابتسامة شيطانية أخرى لا تقل بشاعة عن ابتسامتي ثيو ونيكيتا ..
أصدرت شهقة صاخبة، متعمدة ذلك لإسكات من حولها.. رفعت رأسها بهدوء حتى استقام ظهرها ثم رفعت شعرها عن وجهها، كله للأعلى دفعة واحدة بكفها، بينما كانت تضع يدها الأخرى في جيب سروالها المغطى بالغبار .. في مشهد درامي فخم ..
كانت في الواقع تقلد شخصية من فيلم ما.. لولا الغضب الذي كان يحرق عروقها من الداخل لانفجرت ضاحكة على تقليدها المبتذل ..
نعم إنها فتاة، وكما قال نيكيتا لثيو، إنها نفسها تلك الطفلة الجبانة التي كانا يسرقان غداءها في الابتدائية، لم يظهر على وجهها ولا قطرة خجل، على خلاف المتوقع كانت تصوب نظرات متعالية نحو كل من كان في مجال رؤيتها، تجعدت جبهتها وهي تحاول الحفاظ على حاجبيها معقوفين، قالت بثقة وقد أوشكت على تصديق كذبة هي كذبتها "فخور بنفسك لأنك كنت تستقوي على الفتيات في المرحلة الابتدائية؟ أترى نفسك حققت إنجازا أيها المغفل التافه؟ انظر إلى نفسك وحسب، ديناصور بعقل عصفور..انضج ! " ..
و ركزت بقوة على كلمة "انضج"، ثم طوت ذراعيها أمام صدرها بكل ثقة وأوشك فكها على التشنج بسبب ابتسامة البطل الواثق من نفسه، ابتسامة شماتة بلا هدف ..
ظلت على تلك الوضعية للحظات منتظرة أن يملأها شعور عارم بالنصر ... ولكن سرعان ما قطبت جبينها ثانيةً واستقامت في وقفتها بشكل طبيعي وقد كفت عن تصنع البرودة .. أسدلت يديها ثم نظرت إليهما باستياء، كانتا ترتجفان ..
"لماذا لا يجعلني هذا أشعر بتحسن .. بدا لي شيئا عظيما "
شغل هذا التساؤل ذهنها عن صيحات السخرية الموجهة إلى ثيو ، والتي ما كادت تنهي كلماتها تلك حتى اهتزت القاعة على وقعها ..
ألقى أوليفر نظرة متسائلة نحو إيفان ، وكأنه يسأله من أين لها بهذا اللسان بحق الجحيم ، إيفان على شاكلته لم يكن منه إلا أن هز كتفيه باستغراب ..
***************************
.
.
قبل أن ينطق ذلك الفتى متدلي البطن بحرف واحد ، التفتت جينوا إليه بسرعة وقد صفعت يده بعيدا عن كتفها .. ثم ردت باستهجان شديد "ماذا تريد؟ !"
صمت الولد و حدق فيها بأعين مستغربة ، كان يصب كل تركيزه على النظارة الشمسية التي تغطي عينيها بشكل جزئي.. وضع يده على ذقنه وفركه بإبهامه ،تلك الحركات أوصلت جينوا إلى آخر مراحل اليأس..
ضيق عينيه في شك وقال متسائلا: "أنا أعرفك... أنت .." ثم أشار إليها بابهامه وتعابير وجهه ما تزال على تلك الحال ..
دبت في جسد جينوا رعشة ارتجت لها عظامها ، لم تدخر وقتا وصرخت في وجهه مباشرة:" أنا لم قابلك في حياتي !"
لم يتزحزح نيكيتا شعرة بل استمر في حركاته المتدلية وقال بتراخٍ " لماذا تصرخ يا .." .. ولكنه فجأة انتفض حتى اهتزت كل شحمة في جسمه وضرب قبضته بكفه .."عرفتك !!"... ماتت جينوا ..
أكمل نيكيتا "أنت إيفان فانغارد أنا واثق ... ولكنك ألم تكن أطول قليلا؟"
صمتت جينوا ، ثم بعد لحظات بدأت في إصدار صوت غريب "هاه .. هاه هاه .. اااعععـ" واستمرت في الضحك بهستيرية على نفس ذلك النمط ..
توقفت بعدها وأخذت تشهق وتزفر بقوة " لقد ، قلت ، لك ... أنا لم أقابلك في حياتي ولست إيفان فانغارد ولا أعرف من هو !!.." استشاطت غضبا عليه حتى احمر وجهها، التفت لذلك الصراخ بعض من كانوا قريبين منهما .. ولكن لحسن الحظ لم يكن ذلك لافتا جدا بسبب صوت الموسيقى المرتفع ..
-"هل أنت بخير .. وجهك أصبح منتفخا .. لا تسىء فهمي كل ما أردته هو تعريفك على أصدقائي هناك " قال ذلك الولد، ثم أشار إليهم ،" رأيناك منذ بداية الحفل ولم يتعرف عليك أحد لذا فكرنا في أنك قد تحب التسكع معنا قليلا .."
همست جينوا لنفسها مازحة وقد استفزتها طريقته المتناعسة في الكلام بما يكفي "إنه فخ"
-" ماذا تقول؟"
-"لقد قلت إنكم تبدون رفاقا جيدين وأنا أوافق بكل رجولة على الانضمام إليكم .. والآن هيا بنا إلى أولئك المحترمين " ..
تتحدث وتتعرق، بينما كان الذي تقصده في رأسها غير ذلك الكلام... "إني أراني سأتعارك الليلة .. هوفف.."
-"سمعتك تقول شيئا ما مجددا، توقف عن الهمس لنفسك هكذا .."
-" أنت تتخيل أشياء.. يا نيكيتا .." قالت ذلك رافعة أحد حاجبيها باستهزاء ..
أردف الولد متعجبا "مـ..ماذا.. أنت تعرفني؟ .."
-"نعم أعرفك و أعرف الجميع هنا ، لا داعي للتفاجؤ هكذا .."
-" أها وتعرف أنهم ينادونني بالدب-.."
-" نعم نعم أعرف ذلك و ينادونك بالدب لأنك سمين .."
-"في الواقع ينادونني هكذا لأنني قوي وليس-.."
-"أجل أجل أيا يكن، بالمناسبة أنا أدعي جين و ينادونني بقلب الأسد لأنني لا أقهر .."
صمد نيكيتا لبعض الوقت ، محاولا عدم إظهار تعجبه من عدوانية جين -الذي هو جينوا- ووقاحته المفاجئة .. كان يسير خلف خطاها المتسارعة محاولا اللحاق بها وفتح موضوع عادي معها حتى يستطيع التعرف إليها جيدا ، ولكن ردودها اللاسعة وهالتها المتعجرفة تلك قد نالت من صبره ..
فجأة توقف عندما وصلا إلى زاوية بعيدة بعض الشيء عن مركز القاعة - هناك لم يكن أحد لينتبه حتى لو حدثت جريمة قتل- ،انتظر من جينوا أن تلتفت .. لاحظت تخلفه عنها فالتفتت مثلما أراد تماما ، كانت مستمرة في محاولة استحقاره بنظراتها المتكبرة المدعية و لكنها سرعان ما كفت عن التظاهر وتبخرت تلك الثقة التي كانت تسير بها ، عندما لمحت تلك الابتسامة الباردة التي ارتسمت على وجهه فجأة.. تغيرت نبرته الناعسة إلى كلام هجومي مباشرة "لقد وصلنا إلى وجهتنا أيها المتعجرف الصغير.."
لم يكد ينتهي من تلك العبارة حتى وجدت جينوا نفسها محاطة بمجموعة شبان أصغرهم يكبرها بسنتين أو ثلاث ، الواحد فيهم بطول ثلاجة ، التفتت متوجسة يمينا ويسارا ولكن لم تستطع أن تلمح من بينهم حتى منفذا صغيرا لتنسل منه..
نطق أحدهم: "كان يبدو أقصر من بعيد .. ظريف .. " ..
لم تستطع جينوا إغلاق فمها وردت بعصبية "ظريف ؟.. من تنعت بالظريف ؟؟"
"و الآن أصبح غاضبا .." أضاف أحد آخر ساخرا، ثم افرنقع ضاحكا هو ومن معه، بينما ظلت جينوا واقفة وسطهم تشد قبضتيها بإحكام وذراعاها ترتجفان ليس خوفا وحسب، ولكن عروقها أوشكت على الانفجار من سخافة الموقف الذي أقحمت نفسها فيه ..
"اسمع اسمع .. لن نؤذيك أيها الطفل الرعديد، شيء واحد بسيط و سنضمن لك أن لا تتشوه ثيابك الأنيقة.. " مد يده ، الشخص الذي نطق وقد بدى أنه قائدهم كونه يحيط نفسه بهالة متفاخرة مزعجة وسط خضوع واضح من البقية ، ثم أضاف "هات .. أفرغ ما في جيوبك .. ولا تحاول العبث معي، سوف أنفضك بنفسي إذا تطلب الأمر"
صمتت جينوا برهة، ثم أردفت وحلقها يصدر حشرجة خشنة من شدة حنقها "تريد شيئا؟ إذا تعال وخذه أيها الجبان ..."
رفعت رأسها، وسط دهشة أولئك من اجترائها على التلفظ بتلك الأشياء أمامهم، ثم أخفضت النظارة الشمسية قليلا ووزعت عليهم فردا فردا نظرات جافة..
أضافت مستنكرة في وجه الفتى نفسه الذي هددها منذ قليل " تبدو متفاجئا .. كما توقعت منك، لست سوى مُدٌَعٕ سافل .." ..
.
.
" ولكن ... ماهذا ؟ ما الذي تفوهت به للتو ؟؟ لا تأتِ لا تأتِ أنا لم أكن أعني- "
ذلك كان آخر ما فكرت فيه جينوا قبل أن تتلقى لكمة مفاجئة على أنفها جعلتها تنام وتصحو مجددا في لحظة ، طرحها ذلك الذي نعتته بالمدعي السافل أرضا ، وقعت إثر ذلك القبعة وانفك رباط شعرها ..
توقفت الموسيقى والتفت الجميع إلى تلك الناحية ...
... "ما هذا .."
استنكر بعضهم في الوقت ذاته وتعالت الهمسات فيما بينهم حتى أصبحت مسموعة..
" فتاة.."
.."يا إلهي !! ، هذه فتاة .."...
كانت لحظات عصيبة لجينوا، لم تدر فيها ما حل بها فجأة..
"ما الذي جاء بي إلى هنا؟" ..
"كيف انتهى بي المطاف هكذا؟" ..
"لماذا يحدث هذا معي؟" ..
دبت هذه التساؤلات وغيرها الكثير في ذهنها، تلك الأفكار شغلتها نوعا ما عن كل الضجيج الذي أثير من حولها حتى أصبحت لا تسمع سوى ضوضاء عشوائية، ظلت جاثمة على ركبتيها ونظرها موجه نحوهما، ودون انتباه منها ، كان أنفها ينزف ببطء، لم تجرأ على رفع رأسها ، لقد عرفوا أنها فتاة والآن إذا رفعته ، سينزاح شعرها عن ملامحها وستنكشف هويتها ... ثم ستصير بعد ذلك مجرد اضحوكة على ألسنة الجميع ..
"هذا لم يكن بالظبط ما خشيته يا إيفا .. يبدو أسوء بقليل .. "..
.. "ثيو أنت تضرب فتاة .." صرخ أحدهم ساخرا في وجه صديقه ، ليرد عليه الآخر غاضبا "اخرس ! .. من يعبث معي ينال هذا الجزاء سواء أكان فتاة أو ولدا ، بشرا أو حيوانا ، الجميع سيتعرض للضرب"
ويبدو أنه لم يعتبر هذه الضجة شيئا ومازال مصرا على معاركتها ولكن يا لسوء حظه..
"هذا يكفي!" ..
قوطعت سخريته فجأة وعم الصمت بمجرد أن انطلقت تلك الصيحة ، التفت الجميع إلى مصدر الصوت، كانت تسير بخطى سريعة مخترقة الحشد الذي تجمع حول المكان، أجفل الجميع وهم يراقبون الحسناء ذات العينين الزرقاوين المستديرتين والشعر الكثيف المموج على جانبي وجهها، مع تلك الغرة المصففة بعناية و ذيل الحصان ذي الخصلات الطويلة المنحنية والمتدلية ذهابا وإيابا مع خطواتها الرتيبة و.... أين كنا ..
-كما قيل- أجفل جميع المدعوين لدى رؤيتهم لتلك الفتاة الحسناء تفرق تجمعهم وتسير بكبرياء.. لقد ظهرت أخيرا ملكة هذا الحفل "كايا فالكفورت" بنفسها .. إنها غير راضية ..
"ثيودور وفرقته !! دعوتكم إلى هنا من أجل تنشيط الحفل وليس لإثارة الفوضى والاعتداء على ضيوفي.." وقفت أمامه مباشرة ونهرته بحزم رغم أنها تبدو مثل هامستر أمامه، ثم أشارت إلى المخرج وازدادت عبوسا .. "غادروا فورا" ..
أشاحت وجهها عنه بسرعة وهبت قلقة نحو جينوا التي لم تتحرك منذ أن وقعت من أجل أن تتفقدها، ولكنه مد ذراعه في وجهها ثم اعترض طريقها بجسده ووضع كلتا يديه في جيوبه .. رفعت كايا رأسها لتجده ينظر إليها نظرة غريبة تنم عن شيء من الاحتقار، تراجعت بضع خطوات للوراء وهي تراقب بحذر سلوكه الغريب .. نطق أخيرا دون أن يزيل تلك التعابير "وماذا إن رفضت.." ..
حسنا، تلك الكلمات جعلت كايا تتسمر مكانها ، هي في حفلها، على أرضها وبين جمهورها .. ولكن ماذا عساها تفعل لهذا الكائن وهي لم تعد له سوى الكلمات القليلة التي قالتها بالفعل، حدق الجميع بها منتظرين منها ردا مما زادها ارتباكا ، اتسعت عيناها و اظطرب تنفسها ..
أثناء ذلك كله كان هناك أحد ما في الخلف يدفع الأشخاص المتجمعين بعنف محاولا الوصول بأقصى سرعة إلى مركز تلك الفوضى ..
وما تزال كايا على تلك الحال حتى تدخلت لحسن الحظ صديقتها "فايوليت" في اللحظة المناسبة، تقدمت إلى الأمام ودفعت كايا خلفها برفق، وقفت مسندة كفها على خصرها وقد أخذت تعبث بإحدى ظفيرتيها السوداوين بعدم اكتراث..
وجهت هاتفها نحو وجه "ثيو" وكلمته بهدوء.. "راقب كلماتك جيدا ، إذا قمت بأي حركة طائشة فسوف أتصل بالشرطة.. غادر الآن قبل أن أفعل" ..
قطب جبينه ورمقها بعيون حانقة، بينما أظهرت نظرات بقية الحضور غير ذلك، كانت الآنسة فايوليت محط إعجاب الجميع لسرعة بديهتها، بمن فيهم جينوا التي كانت تسترق النظر من خلال خصلات شعرها المبعثرة..
صمت ثيو مجددا ، لسبب ما كانت تعجبه حركة الهدوء ما قبل العاصفة، يصمت قليلا ثم فجأة ينطق بكلام هجومي عشوائي، هذا ما فعله بالظبط ..
مجددا، رفع صوته فجأة قائلا " أغربي عن وجهي !" ثم أخرج يده بسرعة من جيبه ولوح بها باتجاه وجه فايوليت محاولا تسديد لكمة لها هي الأخرى .. ولكن، محاولته باءت بالفشل.. لم توشك قبضته على الوصول حتى اصطدم به شيء ما جعله يسقط سقوطا حرا نحو الأرض ...
استغرق الأمر منه ثانية واحدة ليقف على قدميه مثل الدب وهو يصرخ مستشيطا غضبا في وجوه الجميع، ما جعل ذلك الحشد يتراجع إلى الخلف، حتى رفاقه أولئك لم يسلموا من صراخه..
لم يكف عن ضجيجه حتى لمح بوضوح نظرات غاضبة مصوبة نحوه، ملامح الشخص الذي جاء راكضا من بعيد ودفعه ، كان ذلك الولد واقفا مكانه، يحدق فيه بترقب ونفاد صبر ..
" ما الأمر يا راينهارد، أستستمر بالتحديق إلي هكذا دون قول شيء كعادتك .." قال ثيو ساخرا، بعد أن كف عن الصراخ وهدأ ضجيجه ..
" سببت ما يكفي من الفوضى، غادر وحسب وكف عن إحراج نفسك " رد عليه الآخر ،المدعو "أوليفر راينهارد" .. بلهجة أقل سخرية واكثر هدوءا ..
.
.
... وعلى غير المتوقع، عمت السكينة .. يبدو أن ثيو قد تأدب وقرر أن ينقلع أخيرا، لم يضف كلمة أخرى ولم يحاول التفكير في رد حتى، التفت نحو المخرج وسار خطوتين أو ثلاثا بكل أدب.. ولكن ..
هكذا فجأة، غير اتجاهه وقبض على عنق أوليفر وشد شعره بكل وحشية ..
-إن ثيو قليل حياء، لا تكن مثل ثيو-
بنفس السرعة ، مع استغلال عنصر المفاجأة بالقدر ذاته، انتفضت جينوا من مجلسها ذاك و صرخت "إلى الجحيم!.." .. تزامنا مع إرسالها ركلة أكروباتية في الهواء ..
كف أوليفر عن محاولة فك نفسه و أرخى ثيو يديه قليلا ، التفت كل من كان على قيد الحياة إلى جينوا .. ما بالها الآن؟
للأسف، ركلتها العجيبة لم تصل إلى ثيو.. قيدها أحدهم من الخلف بيديه قبل أن تقف بشكل سوي حتى، عندما حاولت تبين وجهه وضع كفه على رأسها ودفعه نحو الأسفل.. انحنى قليلا وهمس لها محاولا تجاهل كل تلك العيون المحدقة.. "أخفضي رأسك أيتها الغبية سوف تكشفين نفسك .." ..
" يا ..؟" ..
توقفت عن محاولة دفعه بعد أن تعرفت على صوته.. أجابته همسا هي الأخرى "جين ، قل إن اسمي جين اختلق شيئا بسرعة .."
رفع رأسه بسرعة وابتسم بلطف نحو ثيو محاولا تخفيف احتقان الجو : " أرجوك سامحه يا ثيو، إنه جين ابن ابنة عم والدتي الذي مات منذ يومين وهو عصبي جدا لهذا السبب.. أعرف أنه يبدو مثل الفتيات لأن شعره طويل ، هو ولد أؤكد لك " ..
جعل ذلك الصمت المخيف ابتسامته تتحول مع كل ثانية تمر من لطيفة إلى ملونة .. تجمد مكانه وبدأ يتعرق .. "إنهم لا يصدقونني .. انشقي يا أرض وابلعيني .."
"هاي إيفان ..هاي أنت، توقف عن الابتسام وقل شيئا .. قل شيئا إنهم لا يصدقونك" همست جينوا مجددا، ثم ركلته على ركبته ..
صفعت فايوليت جبهتها وتمنت لو أنها لم تكن هناك ولم تتعرف على هذين التافهين يوما ، نفدت حلول الأرض و الأمر متروك للاتصال بالشرطة، كانت على وشك الاتصال بالشرطة فعلا، حتى صاح نيكيتا فجأة، ومازال الجميع يحركون رأوسهم ذهابا وإيابا باتجاه كل صراخ مفاجئ ...
قال نيكيتا وكأنه اكتشف شيئا ما ، موجها ابهامه نحو إيفان "صحيح! لهذا ظننت أنه يشبهك عندما رأيته.."
ترك إيفان ركبته الملتوية ونظر نحو نيكيتا ثم إلى جينوا .. "اه؟.."
نظرت إليه جينوا بشق عين وهي ما تزال مخفضة رأسها "لا تنظر إلي لا شأن لي"
زفر ثيو عميقا، وقد شغله ذلك الذي كان يحدث قليلا عن خنق أوليفر حتى الموت "إذا ، انتهت هذه المسرحية ..أين كنـ-.."
و هوب! لم يكد يكمل جملته حتى وجد نفسه مرميا بجانب قدمي نيكيتا ..
استغل أوليفر انشغال ثيو بالالهاء الذي سببه إيفان وجينوا وفاجأه بركلة على معدته بكلتا قدميه جعلتهما ينفصلان وكل فرد يطير في اتجاه ..
سعل ممسكا برقبته التي كاد ثيو يفصلها عن مكانها، ثم ما لبث أن نهض مشيرا لكايا وفايوليت بالابتعاد عنه و وقف باستعداد لأي حركة إضافية من الآخر؛ ثيو، الذي نهض ببطئ شديد ممسكا بمعدته وهو لا يكف عن إصدار زفير ثقيل، اقترب منه نيكيتا ثم همس له ببضع كلمات مشيرا إلى جينوا وقد اعتلت وجهه تلك الابتسامة الخبيثة ثانية ..
لبث ثيو ثوان معدودة يستمع إلى حديث نيكيتا، ثم إذا بابتسامة شيطانية تعلو وجهه وقد أشاح به عن أوليفر متجاهلا إياه ..
"لم أتوقع هذا منك" قال بهدوء..
ثم أضاف بصوت أعلى وأكثر وضوحا " .. يا فتاة شطائر اللحم " .. و انفجر ضاحكا، تبعه نيكيتا في ذلك، ثم انتقلت العدوى إلى الجميع بعد أن كانت بضع ضحكات مكتومة منذ البداية..
شعر إيفان بالهزيمة..
"آسف يا جين .. كانت كذبة فاشلة " أردف متراخيا وقد أُحبِطت هِمَّته حزنا على جينوا ..
لكن، نظراته هو، أوليفر، وكايا المليئة بالشفقة والتعاطف تجاهها تلاشت بسرعة عندما أخفضت رأسها وبدأت قبضتاها المشدودتان بالارتجاف، كان واضحا جليا أن خلف ذلك الشعر المبعثر غضب مريع وابتسامة شيطانية أخرى لا تقل بشاعة عن ابتسامتي ثيو ونيكيتا ..
أصدرت شهقة صاخبة، متعمدة ذلك لإسكات من حولها.. رفعت رأسها بهدوء حتى استقام ظهرها ثم رفعت شعرها عن وجهها، كله للأعلى دفعة واحدة بكفها، بينما كانت تضع يدها الأخرى في جيب سروالها المغطى بالغبار .. في مشهد درامي فخم ..
كانت في الواقع تقلد شخصية من فيلم ما.. لولا الغضب الذي كان يحرق عروقها من الداخل لانفجرت ضاحكة على تقليدها المبتذل ..
نعم إنها فتاة، وكما قال نيكيتا لثيو، إنها نفسها تلك الطفلة الجبانة التي كانا يسرقان غداءها في الابتدائية، لم يظهر على وجهها ولا قطرة خجل، على خلاف المتوقع كانت تصوب نظرات متعالية نحو كل من كان في مجال رؤيتها، تجعدت جبهتها وهي تحاول الحفاظ على حاجبيها معقوفين، قالت بثقة وقد أوشكت على تصديق كذبة هي كذبتها "فخور بنفسك لأنك كنت تستقوي على الفتيات في المرحلة الابتدائية؟ أترى نفسك حققت إنجازا أيها المغفل التافه؟ انظر إلى نفسك وحسب، ديناصور بعقل عصفور..انضج ! " ..
و ركزت بقوة على كلمة "انضج"، ثم طوت ذراعيها أمام صدرها بكل ثقة وأوشك فكها على التشنج بسبب ابتسامة البطل الواثق من نفسه، ابتسامة شماتة بلا هدف ..
ظلت على تلك الوضعية للحظات منتظرة أن يملأها شعور عارم بالنصر ... ولكن سرعان ما قطبت جبينها ثانيةً واستقامت في وقفتها بشكل طبيعي وقد كفت عن تصنع البرودة .. أسدلت يديها ثم نظرت إليهما باستياء، كانتا ترتجفان ..
"لماذا لا يجعلني هذا أشعر بتحسن .. بدا لي شيئا عظيما "
شغل هذا التساؤل ذهنها عن صيحات السخرية الموجهة إلى ثيو ، والتي ما كادت تنهي كلماتها تلك حتى اهتزت القاعة على وقعها ..
ألقى أوليفر نظرة متسائلة نحو إيفان ، وكأنه يسأله من أين لها بهذا اللسان بحق الجحيم ، إيفان على شاكلته لم يكن منه إلا أن هز كتفيه باستغراب ..
***************************
.
.
Коментарі