المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
شبح القديسة.
الفصل 06: شبح القديسة
"أخاف الظلمة .. أكره البرد.. لا أريد أن أتألم... الشعور بالألم، يخيفني ... عندما انهار العالم من حولي، لم أرَ الظلام، عيناي لا تلمحان إلّا النور.. لم أشعر بالبرد، يداي دافئتان جدا.. لم أتألم، أنا أطفو... أنا، لست خائفة..."
********************
اهتز مستشفى فيلدسباث على حالة استنفار قصوى بعد أن ورد التقرير الأولي لخسائر انهيار المبنى المعزول الذي يقع عند المدخل الشرقي للبلدة.
وسط الازدحام و ضجيج الممرضين و العمال الذي سيطر على الأروقة، التحفت تلك السيدة ذات الشعر الكستنائي القصير والملامح الحازمة بمئزرها الناصع و أخذت تعدل ياقتها و أكمامها بينما تسابق الزمن لتلحق بآخر سيارة إسعاف توشك على الانطلاق، حيث شرع الممرضان بدفع الحمالات إلى الصندوق الخلفي للسيارة، حتى فوجئا بالطبيبة "يلفيا سيلفاني" تقتحم العربة و تتخذ لها مكانا على عجل، منهمكة في إجراء مكالمة هاتفية ...
لم يستطيعا قول شيء لإقناعها بالبقاء في المشفى لاستقبال المصابين، فهي مُصِرَّة على الذهاب دون أن توضح دافعها الذي أحال نفسيتها الصامدة إلى مشاعر مهتزة بين القلق و التشاؤم حين لم تتلق إجابة من الشخص الذي تحاول الاتصال به، ورغم ذلك لم تيأس من المحاولة مرارا وتكرارا، غير مدركةٍ أن ابنتها قد تركت هاتفها في المنزل، وهو الآن يرن فوق المكتب وسط غرفتها المظلمة دون أن يتواجد أحد في الجوار ليجيب..
وماهي إلا دقائق حتى دوى في أرجاء طريق فيلدسباث الرئيسي صفارات سيارات الاسعاف، التي انطلقت تباعا نحو موقع الحادث ..
**************************
تسلل الألم إلى أعصاب جفنيها بعد أن أمضت تلك الثواني القليلة تظغط عليهما بشدة، مكتفية بالتحديق إلى السواد فقط، لا شريط حياتها مر ولا أضواء النعيم أطلت.. و لكن ذلك لا يعد شيئا أمام الألم الذي هبط على ذراعها اليمنى ..
عندما أحست جينوا بالأرض تلامس ظهرها برفق تفقدت مرفقها بحذر لتكتشف أنه ملتوٍ تماما.. ذراعها كُسِرت.. فقط.
نعم فقط، إن جسدها هوى من ارتفاع اكثر من ثلاثين مترا، كان من المفترض أن يتفتت هيكلها العظمي كله إلى أجزاء صغيرة بمجرد أن تصطدم أرضا، ولكن كل ما شعرت به كان انخفاضا مفاجئا في سرعتها ثم شعور دافئ وخز لحمها.. وبعدها بلحظات أمست مطروحة على الرخام بسلام لا تعاني سوى من ذراع و بعض الأضلاع المكسورة، والرضوض، والخدوش، وجبينها مقسوم .. قطعا هذه الحال أفضل مما كان يمكن أن يحدث.. بكثير.
و رغم كل ذلك، ظلت مغمضة العينين.. داهمها النوم فلم تأبه لشيء وقررت أن تدخل في غيبوبة ولينته العالم! .. غير أن السكينة والسلام الداخلي لن يتحققا أبدا طالما هي فوق تلك البقعة الملعونة من الأرض ...
بينما فايوليت و الآخرون على الجانب الآخر تعبث بأذهانهم الحيرة بسبب أصوات الارتطام المبهمة التي عادت لتجعل أركان المكان ترتج مجددا، كانت جينوا تشعر بها وسط أذنيها، كل مرة ينطلق فيها الصوت يمينا أوشِمالا تهتز جمجمتها.. رافق تلك الأصوات ضوء ساطع جعل أوعية الدم تحيل لون السواد في جفنيها إلى الأحمر..
ظنت في البداية أنه ضوء القمر فوجهها موجه نحو السماء لذا لم تبالي، ولكن لما أخذ ذلك الوهج يدنو ويخبو على نحو مريب ومزعج، فتحت عينيها تدريجيا ببطئ شديد، عندها بدأ مشهد ضبابي بالتشكل مثل خلفية سوداء يحجبها نور فضي يسطع بشدة ثم يختفي، ويعود ليسطع مجددا وهكذا.. عندما استعادت تركيزها و أدركت أن ما تراه شيء غير منطقي وبلا معنى، وسعت عينيها لترى بشكل أوضح، مشهدا جعلها تشهق تعجبا ثم تشرع في عصر رئتيها بسعال جاف..
دون أن تتحرك شبرا، وهي قطعا لا تستطيع حتى لو أرادت، ثبتت نظراتها المنبهرة على المنظر العجيب الذي فوق رأسها، جعلها ذلك تشك في أنها ربما تهلوس ..
لقد كانت أجزاء الجدران المحطمة و الصخور العملاقة وكل ما يصلح لسحق شيء ما عن بكرة أبيه، كل تلك الأجسام الضخمة محاطة بالهالة الفضية المضيئة تطفو فوق رأسها، تتحرك بسرعة من كل الاتجاهات نحو وجهة واحدة .. المكان الذي انهارت فيه الآلة بعد أن فقدت توازنها ..
لقد رأتها بأم عينيها، تُسحق ثم تُدفن تحت أطنان من الركام الذي أحدثته، عندما حنت رأسها للخلف دون أن ترفعه، لتدرك بوضوح كم أن الجهد الذي بذلته كان ضئيلا وعديم الجدوى مقارنة بالأضرار التي ألحقتها هذه القوى الغريبة بهيكل الآلة، أخذت الصخور تتهاطل عليها بعنف شديد لدرجة أنها غطت على الانفجارات و أصوات الصرير و جعلت كل ما حولها مطموسا بالدخان و الغبار الكثيف حتى أضحت العين لا ترى ما خلفها ..
ورغم أن ضجيج الآلة خمد تماما بعد سلسلة من الانفجارات  إلا أن تلك الهالة استمرت في تطيير الحجارة عشوائيا وكأنها خرجت عن السيطرة، حتى أن أحدها ارتطم بجدار الركام الذي يسد منتصف القاعة و فتته إلى قطع صغيرة... ثم فجأة اختفت الهالة ووقع ما بقي طافيا على الأرض لا يهيج سوى المزيد و المزيد من الغبار و الضوضاء.
كانت جينوا لتهلع، أو تفقد صوابها لو أنها تذكرت أن خلف ذلك الجدار شخصا ما أو عدة أشخاص قد تم سحقهم بسبب تلك الرمية الطائشة على الأغلب وهي بذلك قد فشلت في حمايتهم، لولا أن جوارحها و أفكارها كلها خضعت لشيء آخر، لقطة شغلتها عن كل شيء آخر في هذا العالم، حرفيا..
الوهج الذي ظل ثابتا منذ أن فتحت عينيها، لم يتزحزح قيد شعرة حتى التفتت جينوا إلى مصدره.. ظل بشري نحيل و مألوف، شأنه شأن تلك الأجسام الضخمة، يطفو محاطا بنفس الهالة، و لو أن أشد الضوء توهجا كان الذي يصدر من يديها وعينيها فقط، كانت بذلك المظهر أقرب شيء إلى شبح قديسة، مع شعرها وثيابها المتأرجحة بشدة و كأنها وسط عاصفة هوجاء..
ثم ما لبثت أن فقدت مظهرها الرائع الذي يحبس الأنفاس و تلاشت الهالة اللعينة ليَخِرَّ جسدها أرضا بعد أن تدحرج مثل جذع شجرة خاوٍ على تلة الركام التي كانت قد دُفنت تحتها منذ دقائق..
لم يكن يشوب جسمها خدش واحد، خرجت من تحت الأنقاض بطريقة ما كالشعرة من العجين .. بغض النظر عن الرضوض التي أصابتها عندما تم دفعها أرضا قبل انهيار المكان، أو الخدوش التي خربشت جلد ساقيها و ذراعيها عندما تدحرجت نحو الأسفل.. ثم وقعت على وجهها و انتفض ثوبها ليغطي رأسها ونصفها العلوي بالكامل، كاشفا عن ساقيها و السروال الضيق القصير ذي الألوان الغريبة الذي كانت ترتديه تحت الفستان ..
جعل ذلك وجه جينوا ذا تعابير الذهول و الرهبة منبعجا بشكل ما، لم تدر أتفرح لرؤية إيفا سليمة وكأنها كانت تغفو فوق وسائد قطنية، أو تستغرب بسبب الما هذا الذي حدث للتو، أو تضحك على طريقة وقوعها و وانكشاف ملابسها الداخلية المزركشة .. أو تصرخ ألما بسبب ذراعها التي أصدرت فرقعة عندما حاولت تحريكها ...
ولكن رغبتها في الضحك أوشكت على التلاشي عندما تجمدت إيفا بتلك الوضعية المحرجة و كأنها جثة هامدة، عقفت حاجبيها في ترقب، عل هناك أملا .. ولما شعرت برغبة شديدة في الاقتراب منها، قاومت بجهد و حاولت التقلب على جانبها الأيسر السليم، ثم اتكأت على ذراعها اليسرى و نهضت بصعوبة، كأنها عجوز في التسعين .. عندما وقفت على قدميها انتابها دوار مفاجئ و أوشكت على الوقوع..
لم يكن هناك من شيء يمكنه أن يخرجها من حيرتها إلا انتفاض إيفا مستقيمة الظهر فجأة من مكانها بعد بضع ثوان من التحجر، و الذي كان على الأغلب متعمدا منها لكي تأمن على رأسها من الإصابات حتى تتأكد من انتهاء جولات الدحرجة.. أو ربما كانت فاقدة للوعي حقا و استيقظت في تلك اللحظة فقط... من يدري..
إيفا لم تر سوى الظلام حتى وهي متأكدة من أن عينيها مفتوحتان.. حدقت نحو الفراغ في حيرة لا تدري أين هي أو من هي.. إلى أن شعرت بيد احدهم ترفع تنورة ثوبها المنتفخة عن وجهها.
رفعت رأسها ببطئ لتجد جينوا تقف عند رأسها، ترقبها من الأعلى بوجه حزين، تعض شفتها السفلى كعادتها عندما تنتابها مشاعر قوية، أجفانها منتفخة وعيناها محمرتان، انسدل منهما خيط رفيع من الدموع اختلط مع الدماء و العرق و الغبار التي صبغت وجهها الشاحب وجعلتها تبدو كالمشردة... ساقاها ترتجفان، تمسك بيدها اليسرى ذراعها اليمنى المصابة و تضمها إلى جسدها.. تستمر في التحديق بصمت..
أما إيفا، فجعلت توشك على البكاء مع كل تفصيل صغير تلحظه على ملامح جينوا، وثيابها المتسخة و الممزقة، وشعرها المنكوش المغطى بالغبار، وطريقة وقوفها غير الثابتة... وصمتها المطبق.
بعد ثانيتين من التحديق المتواصل عاد ذلك الدوار ليهز رأس جينوا، أغمضت عينيها بسرعة وفتحت فمها لتلتقط نفسا عميقا لكنها لم تفلح في الحفاظ على ثباتها وانهارت على ركبتيها، جعل ذلك إيفا تصرخ باسمها بصوت مرتفع خوفا عليها من سقوطها المفاجئ..
لم تدرك بعد أن صراخها هو ما أثلج صدور أولئك الأربعة الذين أوشكوا على الاستسلام ورمي جهدهم المبذول في مزبلة التاريخ.. لفرط الفرحة اندفعوا جميعا إلى مصدر الصوت دفعة واحدة.. عدا أوليفر الذي كان أكثر هدوءا و أشد قلقا، لم يفكر سوى في أمر واحد سلبي بما يكفي ليجلب إلى ذهنه أفكارا أشد سوءا .."إن كان ذلك حقا صوت إيفا، فلماذا تنادي على جينوا بهذه الطريقة، ولماذا لم تجبها جينوا إلى الآن؟.."
عندما لاحظت فايوليت تخلفه عنهم والانزعاج البادي على وجهه، أخمد همتها نفس الشعور..
لشدة ثقل رأسها، شعرت جينوا وكان عنقها لا يقوى على حمله فارتمت منهكةً نحو الأمام حتى أسندته على كتف إيفا.. ثم تمتمت بصوت متعب "شكرا لك.."
أجابت إيفا بتردد و قد كانت تنتظر بفارغ الصبر من جينوا أن تنطق بأي شيء حتى تستطيع مبادرتها بالسؤال عن ما حل بالمكان وما حل بها ..
- “ما الذي حدث معك؟ لماذا جبينك ينزف؟!"
- "ما نزال نتنفس، وقلوبنا تنبض، هذا هو ما يهم... كنت سأرقص رقصة النصر ولكنني مفككة .."
اجابت جينوا بنفس الصوت الناعس، و معظم ردها كان أنفاسا وتنهدا بدل الكلمات .. حاولت ان تعانق إيفا ولكنها لم تستطع رفع ذراعيها او تحريكهما في أي اتجاه.. ثم صرخت بغتة في أذنها حتى جعلتها تصفر عندما لمست ذراعها المكسورة خطأ..
"أنا آسفة!!" صاحت إيفا بفزع.. ثم استطردت بقلق أشد بعد أن هدأت جينوا ولاحظت طريقة إمساكها بذراعها .. "مكسورة؟!"..
أومأت جينوا..
"يجب أن تستلقي على الأرض، الانحناء هكذا سيزيد حالتك سوءا .." أضافت إيفا معاتبة ثم أسندتها على الأرض برفق..
بعد أن توقفت جينوا عن نفث الهواء بعنف لمحاولتها عدم الصراخ، انحنت إيفا وأوشكت على سؤالها عما يفترض بها فعله حتى تستطيع تقديم أي شكل ممكن من أشكال المساعدة، كان ذلك يشغلها تماما عن التساؤل بشأن ما حدث وكيف انتهى بهما المطاف على تلك الحال، فالوقت غير مناسب على ما يبدو.. ولكن صوت نداء كايا خلفهما أوقفها وجعلهما تجفلان من المفاجأة ..
جينوا لم تستطع الالتفات ولكن إيفا فعلت، أول ما وقعت عليه عيناها هو منظر كايا المزري، بثوبها الأحمر الذي غطى الغبار على بريقه، و شعرها المنتفخ أسوء بكثير من حالة شعر جينوا الخفيف، خلفها كل من فيوليت وإيفان وأوليفر مرمدون في الغبار مثل قطع الحلوى المغطاة بالكاكاو، يقفون متسمرين كالفزاعات عند الفجوة التي تسللوا منها...
لمعت عينا كايا عندما التقت نظراتها بخاصة إيفا و شرعت تركض نحوهما مثل العداءة وكأنها تشاهد واحة مياه بعد ضياع أيام في الصحراء.. غير مكترثة لعدد المرات التي تعثرت فيها قبل أن تصل إليهما،  خلفها كان إيفان لا ينقص حاله عن حالها شيئا، لحق بها راكضا هو الآخر باتجاههما.. بينما تردد كل من أوليفر وفيوليت واكتفيا بالترقب من بعيد ينتظران بفارغ الصبر رؤية ردة فعل إيجابية من الاثنين الآخرين حتى يتشجعا للانضمام إليهم...
الجدير بالذكر أن فاي حقا صبورة، على عكس أوليفر الذي ما انفك يهتز مكانه من شدة التوتر قبل أن يلحق بكايا و إيفان عدوا..
عندما أوشكت إيفا على النهوض شدتها جينوا من ثوبها و أشارت لها لتنخفض حتى تستطيع سماعها. عندما انحنت إيفا بما يكفي همست لها جينوا ببضع كلمات جعلتها تومئ بالإيجاب وعلى وجهها تسللت تعابير الحيرة شيئا فشيئا..
بعدها وقفت مستقبلة عناق كايا ودموعَها الرقراقة ثم أسئلتها التي ابتلعت نصف كلماتها مع غصة البكاء "هل أنتما بخير؟! هل كل شيء على ما يرام؟؟ .. ماذا حدث و كيف نجوتما؟!" ...
ومن غير أن تمنح إيفا فرصة للإجابة التفتت إلى جينوا المصروعة بجانبهما... شحب وجهها في تلك اللحظة التي لمحت فيها الدماء على وجهها و عيناها مغمضتان بإحكام دون أن ترمش لثانية..
انفعلت في لمح البصر فانهارت على ركبتيها و سدت فمها بكفها محاولة ألا تنفجر باكية ظنا منها أن جينوا ميتة..
لحظتها اقترب منهن إيفان وعقد حاجبيه في قلق لما رأى جبين جينوا المدمى وهي مستلقية كالجثة، طوى ركبتيه ثم تزحلق على الأرض مستندا عليهما تحركه السرعة التي جاء راكضا بها، توقف بالضبط عند رأس جينوا و دون أن يطرح أي أسئلة بادر مباشرة إلى رفع جفنيها بأصابعه ليتأكد من أنها على قيد الحياة، تيبست ساقا أوليفر عندما أوشك على الوصول فلم يقو على الاقتراب أكثر، شحب هو الآخر وانقبض قلبه على شحوب كايا و إيفان ..
ولكن عينيه اتسعتا ذهولا ثم استرخى أخيرا وطرد تلك الأفكار من رأسه عندما انطلقت ذراع جينوا اليسرى -السليمة- لتصرع إيفان فجأة بلكمة جانبية على خده رمته بها أرضا... أجفلت كايا و أوشكت على إلقاء شتيمة، لست أدري أمِنَ الفزع بسبب تحرك الميتة فجأة أو لأنها سعيدة بإفراط..
تدحرج إيفان ممسكا بفكه ظانا بأنه انفلت من مكانه، ثم اعتدل وجلس بعيدا عنها خوفا من أن تضربه مجددا، وأردف متصنعا الشعور بالألم "قوية حتى وأنت ميتة.."
"اخرس .."، أجابت جينوا، بصوت يمكنك سماعه إذا استعملت سماعات خاصة..
انفجر ضاحكا وكأنه سمع أشد النكات إضحاكا على وجه الأرض، ثم نظر إلى ذراعها الملتوية، لينفجر ضاحكا مجددا على منظر مفصلها المُعْوَجّ... لكن ما لبث أن ازرق وجهه عندما استوعب أن ذراعها مكسورة ..
واصل أوليفر السير نحوهم ببطئ وارتياح حتى لمح تعابير إيفا شديدة الاستغراب و الضياع.. لربما ظن أنها متفاجئة من ردود أفعال الأحمقين غير السوية، خاصة إيفان..
وضع كفه على كتفها برفق ليخرجها من شرودها، وعندما نظرت نحوه بنفس تعابيرها المنفعلة سألها بلطف "ألديك أي إصابات؟" .. أومأت له بالنفي، ثم أردفت مشيرة إلى الخدوش السطحية على ذراعيها "هذه فقط.."..
هز أوليفر رأسه بارتياح ثم فرك شعرها و طلب منها أن تهدأ..
مثل المعتاد، أوليفر غالبا ما يعامل أصدقاءه جميعا كأنهم إخوته الأصغر، فأحيانا ما ينتابه شعور قوي بالمسؤولية تجاههم كونه أكبرهم سنا، كما أنه معتاد على التعامل مع مثل هذه الظروف والحالات مع إخوته الفعليين..
انحنى بعد ذلك ليتفقد نبض جينوا من عنقها.. لتفاجئه هو الآخر بصفعها ليده مبعدة إياها عن رقبتها دون أن تفتح عينيها .. أجفل لوهلة ولكنه زفر بارتياح ونهض مبتعدا دون أن يقول شيئا..
فايوليت.. شاهدت ما يكفي لتطرد الأنفاس المضطربة من جوفها، و لم تكترث كثيرا للسؤال عن حال جينوا طالما هي على قيد الحياة وما تزال قادرة على ضرب الآخرين..
ما شغل تفكيرها فعلا في تلك الأثناء هو كومة الصفيح المشتعلة تحت أكداس من الحجارة .. تأملتها بشرود لبعض الوقت حتى داهمتها فكرة غريبة عليها جعلت عينيها البنيتين الضيقتين تتسعان أكثر من أي وقت مضى، قطبت جبينها منصاعة للشكوك التي راودتها فهي حينا تحدق في بقايا الآلة وحطامها المحترق وحينا تزيح أنظارها نحو جينوا، وإذا زاغت إلى إيفا دحرجت عينيها في محجريهما ساخرة من كمية الهراء الذي سيطر على أفكارها .. التي انقطع حبلها بعنف عندما طرق مسامعها صوت صفارات الإنذار الخاصة بسيارات الإسعاف.. والذي أخذ يعلو شيئا فشيئا حتى أصبحوا جميعا يشعرون بالضجيج يكتسح واجهة المبنى، من الجانب الخارجي لبقايا الجدران و السقف المكدسة في هيئة هضبة مرتفعة أخفت أثرهم عن الأنظار..
*
*
*************************
منزل آل سييف كان هادئا جدا تلك الأمسية، لا يُسمع في أرجائه سوى صوت التلفاز المنخفض و خطوات ذات وقع سريع.
اكتفى رب البيت، أرنست سييف الصامت كالحجر، بتقليب صفحات جريدته والتحديق فيها بعينيه الرماديتين الخمولتين، متكئا بكسل شديد على أريكته المفضلة في غرفة المعيشة، لا يتزحزح عن مكانه حتى وإن ضرب البلدة تسونامي، كان واضحا من شعره الأسود المبعثر و ملابس النوم الواسعة التي كان يرتديها انه أمضى اليوم بأكمله نائما..
على خلافه، أخذت زوجته ماديسون تذرع في أرجاء الغرفة جيئة وذهابا، تعلو وجهها تعابير القلق و التوتر، تارة تفرك ذقنها وتستغرق في التفكير، وتارة أخرى تشد خصلات شعرها البني الطويل وتهز رأسها حتى تطرد تلك الأفكار منه، فتفشل و تشتعل غضبا لمنظر زوجها غير المكترث و تبدأ بلومه على بروده، ليرفع هو رأسه و يبتسم نحوها مثل طفل بليد ثم يعود ليدفن وجهه في الجريدة، فتيأس هي وتتركه في حاله ريثما تنتابها المزيد من الهواجس المشؤومة و الأفكار المزعجة..
وهكذا استمرت هذه الحلقة بالتكرار عدة مرات إلى أن فاض كأس ماديسون .. سارت نحو أرنست بخطوات غاضبة وسحبت منه الجريدة وألقتها في الهواء لتنتثر كل صفحة في اتجاه، ثم انحنت نحوه بسرعة و أمسكت رأسه بكفيها ورفعته حتى مستوى عينيها الغاضبتين، انصاع لها أرنست بخضوع و ظل يحدق في وجهها المخيف بضجر، أخذ الشرر يتطاير من عينيها، بينما رمشت عيناه عدة مرات حتى أوشك على النوم..
-"انهض و اذهب لإحضار ابنتك أيها المهمل!" صرخت ماديسون آمرة..
- "لقد ذهبت بنفسها، إذن يمكنها العودة بنفسها.." رد أرنست بثقة، ليس معتادا على القلق على ابنته فهو يعلم أنها ليست من النوع المتهور الذي يمكنه أن يتورط في المشاكل..
- "ولكنها الثامنة ليلا، ما الذي تفعله إيفا خارجا في هذا الوقت!!"
- "دعيها تستمتع بوقتها، المراهقون في مثل سنها يحبون الاحتفال حتى ساعات الليل المتأخرة .. اتصلي بها بدل الوقوف هكذا و النق على رأسي"
-"هاتفها لا يرن! أتظن انني لم أفكر في ذلك"
- "كفي عن المبالغة، إنها مجرد حفلة، ماذا يمكن أن يحصل–.."
ولحظه، لم يوشك أرنست على إتمام جملته حتى نطق مذيع نشرة الاخبار مقاطعا "نبأ عاجل.."
*
*
********************
انتابت الأجواء فوضى عارمة، لقد كان عدد المصابين كبيرا جدا، وحالتهم النفسية المضطربة شكلت عائقا أسوء من الإصابات الجسدية التي لا تكاد تذكر لِكَون معظمها سطحية و لا تشكل خطرا محتملا..
اندفعت يِلفيا خارج سيارة الإسعاف بمجرد أن ركنها السائق، كان لديها رؤية مسبقة لموقع الحادث من بعض الصور التي انتشرت كالنار في الهشيم، ولكن ذلك لم يحصنها من الشعور بالرهبة لدى وقوفها مقابل المبنى المنهار، لسبب ما كان لديها شيء أشبه بالفوبيا من حطام الأبنية، أو مجرد ذكريات سيئة تكررت في هيئة صور أطلال عشوائية  مشوشة بذهنها ..
ضمت أجفانها و مسحت بكفها على جبينها، مزيحة مع التوتر الذي طفح على وجهها بلورات عرق أشعرتها بالوخز لالتقاطها برودة النسيم القادم من بحيرة البلدة القريبة من المكان..
ألقت يِلفيا نظرات خاطفة تستطلع ملامح وجوه من حولها علَّ ضالتها تلوح لها، إلا أنها لم تفلح في العثور على أي أثر لها..
التقطت نفسا عميقا وتمسكت بطرف خيط أملها الوحيد عندما لمحت شابا من رجال الحماية المدنية ينهض مبتعدا عن أحد الناجين  بعد أن انتهى من استجوابه وتدوين شيء ما على اللوح الذي كان بيده .. ويبدو من هرولته السريعة مبتعدا عن موقع الحادث أنه قد انتهى مما كُلف بفعله..
أسرعت الخطى نحوه لتلقي عليه بعض الأسئلة عله يكون مطلعا بما يكفي، ولكنها لم توشك تقترب منه حتى، فإذا به يُستدعى من طرف شخص آخر، يقف ضمن مجموعة تضم أربعة أشخاص، متجمعون بعيدا نسبيا عن المبنى بجانب السيارة الزرقاء ذات الاضاءة الوامضة بالأزرق والأحمر، اثنان منهم يرتدون الزي الموحد للشرطة، والآخران يرتديان بدلات رسمية ذات ألوان داكنة، قطبت جبينها في امتعاض لما قابلتها الملامح المألوفة لأحد هذين الأخيرين، كان رجلا مجعد الوجه ذو لحية داكنة و ناصية صلعاء إلا من بعض الخصلات المفرقة على جانبي رأسه، منتصب القامة يثرثر ويبتسم مرتاح البال معلقا سترته الطويلة بذراعه.. صدحت حنجرته بقهقهة مدوية أثناء حديثه حتى بدى كأنه يسترخي في مقهى ما..
أشاحت يلفيا عن منظره باشمئزاز، و قد أوشكت على الركض نحو الشاب أملا في اللحاق به قبل أن يصل إلى الشرطي الذي استدعاه، إلا أنه كان أقرب منها إليه، مما أوقعها في حيرة خاطفة، تجاهلتها مزيحة عواطفها جانبا.. وعزمت على التدخل وإن كانت لا تطيق ذلك الرجل..
وكذلك، ذلك الكهل المتأنق قد لمحها قادمة أثناء تفحصه القائمة بيد عون الحماية بعينيه، لذا استقبلها من بعيد بابتسامة خبيثة، وكأنه يتوق لرؤية تعابير وجهها عندما يبلغها بالأمر..
وقفت أمامه بثبات و رفعت أنفها حتى يتسنى لها دحجه بنظرات شوساء من الأعلى، بدا قصيرا حتى بالنسبة لها..
خاطبته بنبرة جافة لا تنم عن أي أثر للاحترام، ولكن دون تجاوز منها. ألقت التحية، ثم عرفت عن نفسها متجاهلة إيماءاته الخفية بأنه يعرفها بالفعل ويستحيل أن ينسى ذلك الوجه، من غير أن تلحظ إجفال الشاب -عون الحماية المدنية الذي اتضح أنه كان يسجل الأسماء ويحصي الناجين والمفقودين- عندما سمع اسمها الأخير..
حاول الآخر -الشرطي- أن يتظاهر مكرها أمام جلسائه بأنه تعرف إليها للتو، قدم نفسه بشكل رسمي قائلا: " المحقق جيفيرسون بينيديكت، تشرفنا أيتها الطبيبة"..
ثم مد يده ليصافحها ليُفاجأ بها تتعمد إهماله وتنصب عينيها بحذر على القائمة بيد الشاب..
-".. أريد الاطلاع على القائمة من فضلك."
نبست بسرعة و مدت يدها لتأخذها دون أن تنتظر الإذن.. استجاب لها الشاب بتردد لما لاحظه من إصرارها الشديد من جهة، و أسلوب المحقق الحذر في مخاطبتها من جهة أخرى ..
بمجرد أن أوشك على تسليمها إليها، أصدر بينيديكت حمحمة خشنة من حلقه ثم نشل الأوراق من يد الآخر، تبعته عينا يلفيا لا إراديا حتى وجدت نفسها تمد ذراعيها لتحصل على تلك القائمة بينما أخذ هو يرفعها للأعلى مبعدا إياها عن يديها، موجها نحوها نظرات مبطنة بالسخرية..
تراجعت يلفيا و ووقفت باستقامة قابضة على كفها بغضب فشلت وداعة عينيها في إخفائه، شهقت بهدوء وزامنت ذلك مع رفعها لأحد حاجبيها منتظرة تفسيرا مقنعا لهذا السلوك الطفولي السخيف قبل أن تفقد أعصابها وتنهال عليه ضربا..
ليجيبها صوت بينيديكت الرخيم بينما جعل ينفض الأوراق بيده وكأنها مغطاة بغبار وهمي "سيدة سيلفاني، لا أظن أنه مصرح لك تفقد هذه الوثيقة، كما أنك لا تملكين الصلاحيات التي تخولك إلقاء الأوامر عليَّ أو على أي عون في أي سلك من أسلاك الدولة.."
مطت يلفيا شفتيها في صبر هش أوشك على النفاد متمسكة بخيوط أعصابها المحترقة خلف تعابير كاسحة كالجليد.
سكت بينيديكت لبرهة، ثم أضاف مغيرا لكنته من رسمية إلى استهزاء صريح "لست شرطية أو محققة، لذا أرجو منك عدم عرقلة سير عملنا–"
كان بينيديكت ينوي التفوه بالمزيد من الكلام الفارغ الذي سيرديه أرضا على يد سيدة أوشكت أذناها على نفث الدخان، ولكن صياحا أجش غاضبا ظهر فجأة من العدم مقاطعا له " وهل منحتك أمك الصلاحية لتتدخل في عمل مرؤوسي أيها الفاشل الأصلع؟!" ..
استدار المحقق هلِعا نحو مصدر الصوت ليجد قبضة مشدودة تشق طريقها نحو وجهه، تراجع في وضعية دفاعية مثيرة للشفقة مكتفيا بإغماض عينيه استجابة لشعوره المفاجئ بالصدمة..
أصدر عظم جمجمته فرقعة ذات صدى جعلت من حوله ينفجرون بضحكات مكتومة، عندما طرق غريب الأطوار بأصابعه على جبهة بينيديكت طرقة دقيقة جعلته يتأرجح، اتسعت عينا هذا الأخير لتلقيه لتلك الوخزة في منتصف جبينه بدلا من اللكمة.. ليستقبله منظر رئيس مصلحة الحماية المدنية الذي لم يتوقع أحد أنه رجل كبير في السن ..
.
.
عينان لامعتان ورأس كث الشعر كساه الشيب، يقف معتدل القامة رغم سنه، يحدق فيه مذبل الأجفان تعبيرا عن احتقاره لطريقته في التعامل مع السيدة، ومن غير مقدمات خطف مجموعة الأوراق المثبتة على اللوح من يده صارخا مجددا في وجهه، ليس غضبا مثل المرة الأولى ولكن تعابير وجهه المازحة إن كانت تدل على شيء فهو أن الرجل مستمتع حقا بالسخرية من بينيديكت: "هاتها! .. ماذا استفاد العالم من وجودكم عديم النفع هنا، سوى استعراض مصابيحكم الوامضة ، مصابيحنا أفضل.. أليس كذلك يا جيم؟!"
سأل العجوز، موجها كلامه إلى عون الحماية الشاب الذي تسمر مكانه متوترا من تهور رئيسه في التحدث إلى رجال الشرطة بذلك الأسلوب الفظ، ولكن عواقب ذلك مهما كانت وخيمة فهي في نظره لا تساوي شيئا أمام الصمود خمس ثوان أمام صراخ الرئيس المتذمر وعقوباته التعجيزية، لذا أجابه فورا، شاحب الوجه متعرقا بشدة خوفا من أن تكون إجابته خاطئة "ب..بلا سيدي!!"
زال توتره، فالسيد ابتسم له برضى، ولكنه مضطر الآن إلى الذهاب إلى شاحنة المصلحة وتشغيل أضوائها وصفارتها بناء على إشارة 'أوغست' له لفعل ذلك، صارخا بالطبع "شغلها يا جيم!!"...
جيم شعر بأنه أحمق كبير..
أوغست موهوب في جعل الجميع يخرجون الأحمق الذي بداخلهم.. لأنه أحدهم أصلا .. يلفيا نظرت عبر ذلك لتفهم أنه رجل نبيل بعد كل شيء.. عندما التفت نحوها باسما وسلمها الأوراق قائلا بلياقة وأدب "تفضلي أيتها الطبيبة، يسعك الاطلاع عليها بكل أريحية"..
ثم عاد ليرمق بينيديكت الصامت في حضرة إجراءاته الصارمة بنظرات شامتة، يهز رأسه بفخر مناديا على جيم عندما أطبقت صفارة الشاحنة و أضواؤها الوامضة على الفوضى العارمة فغذتها أكثر ''أحسنت عملا ياجيم!! لهذا أنت المفضل لدي! ..''
ثم أكمل صارخا في وجه بينيديكت بعد أن لم يعد بوسعه سماع صوته حتى  ''ما رأيك أيها المحقق، أبريل تجيد الصفير و أضواؤها مبهجة أكثر من سيارتك البالية، هاه!.."
ثم انفجر ضاحكا وعاد بخُطاه نحو يلفيا، مخلفا المحقق يغلي غيضا، أما مرافقوه فأحدهم قد ضجر من هراء أوغست منذ مدة واندس وسط السيارة مطفئا أضواءها، و الاثنان الآخران يتفحصان موقع الحادث من بعيد ويتناقشان فيما بينهما متجاهلين ما حدث. ارتدى بينيديكت سترته ثم أشار للآخرين ليلحقا به نحو السيارة، مرددا بصوت خفيض بين أسنانه المرصوصة" فلاحون .."
''هل وجدت ما تبحثين عنه؟!" سأل أوغست بفضول، لتجيبه يلفيا دون أن ترفع نظراتها المتوجسة عن الأوراق "لا، ليس بعد.. هناك الكثير من الأسماء هنا.."
صمت أوغست هنيهة يراقب تعابيرها الشاحبة و يديها المرتعشتين، لم يضيع وقته في التفكير طويلا قبل أن يدرك أنها ليست مهتمة بتلك الاحصائيات المتعلقة بالإصابات بصفتها مسعفة، بل أنها تبحث عن شخص ما نظرا للطريقة التي تقلب بها الأسماء بعينيها..
''ناوليني الأوراق من فضلك.. ما اسم الشخص الذي تبحثين عنه؟"
''إنها ابنتي، اسمها جيني سيلفاني، و.. و سأكون ممتنة إذا عثرت لي على اسم صديقتها إيفا سييف أيضا لو سمحت"
اعتقد أوغست أن بوسعه تهدئة أعصابها إذا أكد لها بأن ابنتها ليست مصنفة ضمن المفقودين، و بالتالي فسوف تضمن على الأقل بأنها على قيد الحياة و سيسهل العثور على اسمها في قائمة الناجين إذا ما هدأت يلفيا و بحثت بتأن.. قلب تلك الأوراق بهدوء بينما شرع يشرح الوضع لها بصرامة ..
''أنت متوترة جدا على ما يبدو لذا أنت لم تفكري في تفقد قائمة المفقودين أولا.. لا داعي للقلق فلحسن الحظ ليس هناك وفيات مسجلة، ولكن حسب كلام الناجين فإن ستة أشخاص عالقين هناك، يقبع تحت أنقاض الواجهة شخصان.. للأسف حالتهما غير معلومة وفرصة نجاتهما ضئيلة، والأربعة الآخرون في حالة جيدة محاصرون في الجهة الخلفية للمبنى وهي ما تزال قائمة، و لكن بنيتها هشة، فقد حاولنا الوصول إليهم بما أن الطريق كان سالكا، ولكن اهتزازا مفاجئا جعل مخرج الطوارئ ينهار ولم نستط–.."
قطع أوغست حديثه مجفلا، رفع عينيه البارزتين في نظرة خاطفة نحو يلفيا، ولم يستطع الاستمرار في مشاهدة لون بشرتها يزداد اصفرارا مع كل ثانية تمر، لذا أرجع مقلتيه إلى حيث دُوِّن ذلك الاسم المحاط بعلامة شطب حمراء..  ابتلع ريقه بصعوبة ليواصل قائلا "إيفا سييف.. وجيني سيلفاني؟"
أومأت يلفيا، فإذا به يشيح بملامحه المكفهرة عنها و يلف الورقة الأخيرة نصب عينيها لتقرأ هي ما كتب عليها بنفسها.. أمسكت اللوح بيديها و قرأت المعلومات المدونة حرفا حرفا محركة أثناء ذلك شفتيها المرتعشتين بصعوبة، كانت ستة أسماء مكتوبة بخط رديء وكلها أسماء مألوفة على نحو غريب.. قراءتها وحسب جعلتها تغطي فمها بكفها استعدادا للمصيبة في أسفل القائمة ..
شعر أوغست بالعجز ولم يستطع أن ينبس بأي شيء قد يخفف صدمتها، مد ذراعيه نحوها مسرعا عندما أفلتت يدها اللوح ووقع أرضا، ظنا منه أنها على وشك الإغماء أو الوقوع منهارة على الأرض .. ولكن يلفيا كانت واقفة بثبات تام، ما جعله يصاب بالصدمة حقا هو تعابير وجهها غير المتوقعة.. كانت تضم حاجبيها و تنظر بشرود إلى الأمام حيث لا شيء محددا للتحديق فيه، كانت يلفيا تفكر.. غارقة في التفكير، ذلك الشحوب انزاح تدريجيا عن وجهها واتقدت عيناها بالعزم عندما استدارت وجعلت تقلبهما بين زوايا و نتوءات كتلة الركام المتماسكة على بقايا السقف و أعمدة الأساس، حيث لمحت تلك الفجوة في الأعلى على ارتفاع شاهق .. في اللحظة ذاتها أرسلت أول خطوة نحو الأمام باتجاه أكبر مخاوفها، متناسية أنه كذلك أساسا..
قبض أوغست على ساعدها وأوقفها  عن السير، ثم أردف قلقا "تمالكي نفسك يا ابنتي! ستصل الجرافة بعد قليل و سنخرجهم جميعا سالمين.."
حركت يلفيا رأسها نافية ثم أضافت بانزعاج "لقد انتظرنا بما يكفي.."، ثم سحبت يدها بقوة لتنفلت ذراعها بسرعة من قبضة أوغست.. وهو لم يكن يضع حسبانا لقوة ساعدها لذا لم يكن يمسك به بقوة..
صرخ عليها لتتوقف ولكنها استمرت في الركض متجاهلة إياه، لذا لجأ للمحيطين به وأخذ يصيح بكل من هب ودب ليوقفها عن التهور و رمي نفسها إلى التهلكة ولكن لم يلحق بها أحد، كانت سريعة كالبرق.. قفزت فوق طبقات الشريط الأصفر المحيط بموقع الحادث واندفعت إلى أقرب صفيحة إسمنت معلقة أمامها، قفزت فوقها وشمرت عن ذراعيها ثم بدأت بالتسلق.. لم يعرقلها شيء ولم تتلكأ بل بدلا من أن يحاول أحد اللحاق بها، فغرت أفواه من كان حاضرا يشاهد سيدة تجاوزت الأربعين تتسلق أطنانا من الحطام المكدس على ارتفاع عشرات الأمتار كأنها لاعبة جمباز ..
كانوا سيصفقون بحرارة لو كان ذلك عرضا ترفيهيا، ولكنها ليست سوى أم صدف أنها قوية جدا تحاول إنقاذ ابنتها الوحيدة.. وها هي بعد دقائق من التعلق في الهواء واقفة في أعلى نقطة ممكنة تمسح الغبار عن وجهها لترى بوضوح المنظر الذي كان ينتظرها في الجانب الآخر ..
*
*
******

.
.
.
.
و إذا بما أنكم وصلتم إلى هذه النقطة، قررت أن أبدأ بإضافة bonus في نهاية كل فصل ابتداء من الفصل القادم إن شاء الله كتعويض عن تأخري في النشر 👀💔..
الbonus يمكن يكون صور للشخصيات (من رسمي 🌚) أو معلومات عامة عن الأحداث أو القصة، كذلك يمكن أن تكون أشياء غريبة غير متوقعة .. حسب المزاج يعني🤦
في أمان الله👋✨


~سبحان الله و الحمد لله ولا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم و أستغفر الله العلي العظيم وأتوب إليه من كل ذنب عظيم~

© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
Коментарі