نشيد المحاربين
الفصل 11: نشيد المحاربين
"ماذا لو دمجنا القصتين، هل سنحصل على التاريخ الحقيقي؟.."
******************************
-العاصمة الملكية يورد | وسط المدينة-
مثل ما هو متعارف عليه، أكبر مدينة في المملكة وأكثرها ازدحاما، العاصمة يورد؛ ما تزال تعج بضجيج الطريق الرئيسي وسكك الحديد، وحتى الضوضاء البشرية.. لا يعتبر فيها الفارق بين النهار وساعات الليل المتأخرة شيئا كبيرا..
ولكن على غير العادة.. قد ساد صمت و ترقب حثيثان أرجاء أحد أهم مرافق المدينة، مبنى مركز شرطة العاصمة..
في الرواق الرئيسي، تجمع عدد لا بأس به من مختلف الموظفين في أسلاك الشرطة على اختلاف أزيائهم الموحدة في أجواء هادئة ومشحونة في الوقت ذاته على نحو غير مألوف، بعضهم يجلس مشبكا أصابع كفيه في ترقب، بعضهم الآخر يتكئ على الجدران و يتفقد هاتفه أو ساعة يده بين الفينة والأخرى، يتبادلون همسات متباينة اللهجة بين القلق والتشاؤم، يصوب جميعهم نظراتهم المترقبة ناحية شخص محدد..
رجل كهل شاحب الوجه جالس على أحد المقاعد مسندا رأسه على كفه التي اقتحمت أناملها خصلاته السوداء المبعثرة، تنبئ هيئة جلوسه المتكورة بشكل جلي عن مقدار الخوف والقلق الذي كان ينتابه لحظتها.. لا يختلف زيه الأزرق الداكن المميز بسترة سوداء مضادة للرصاص عن النفر المحيطين به أقرب من البقية.. كان أقربهم إليه شرطي آخر ذو شارب متصل بلحية خفيفة مماثلة لشعره البني الداكن الذي يتخلل حوافه بعض الشيب، وكان يبدو أكبر سنا بقليل من الآخر.. يشد على كتف صاحبه بإحكام ويرقب في وجل ما الذي سيحدث تاليا..
أمسك الأول بيده هاتفا محمولا، أدبر يقربه من أذنه تارة، ثم ينزله لأسفل نصب عينيه الخضراوين الشاردتين تارة أخرى.. يحاول أن يرصد ولو بصيص أمل خافتا من الاتصال المرجو، والذي تأخر حتى ألفى العرق يتخذ أماكن انطلاقه على جبينه و خلف عنقه..
صحيح أنه لم يفصل بين تلك اللحظات العصيبة التي كان يمر بها آن ذاك وبين آخر اتصال أجراه مع مكتب استقبال مشفى فيلدسباث سوى بضع دقائق.. ولكنها مرت مثل ساعات.. في انتظاره كي تأتي له موظفة الاستقبال التي أجابته في البداية بالشخص الذي ينشد التحدث إليه، بعدما تركت الاتصال معلقا فأمضى وقته يتفقد إذا ما انقطع أم ليس بعد..
-"مرحبا؟"
اتسعت عيناه وارتجف قلبه رجفة عنيفة، بمجرد أن أغدق سمعه صوت أنثوي هادئ انطلق من سماعة الهاتف، فاندفع مجيبا وقد شرعت قطرة من العرق تسلك مسارها عبر وجنته الشاحبة..
-"يِلفيا!.. أين هي جيني؟!"
-"إنها.. إنها هنا في المشفى.. لقد تعـ-"
أردفت يلفيا مجيبة. رغم أنها حرصت على الحفاظ على نبرة صوتها هادئة، إلا أن محدثها، غوستاف كان قد تجاوز مرحلة حادة من القلق حتى لم يعد في مقدوره الصبر حتى يطمئن على حال ابنته، فاندفع مقاطعا..
-"المشفى! ماذا حل بها؟!.. كيف هي حالتها الآن؟!"
استنفر كل من كان متجمعا في الرواق الرئيسي، وساد الاضطراب تلك الأجواء التي أحاطت أولئك الذين يشاركون غوستاف حيرته..
-"أرجوك فلتهدأ.. إنها في حالة مستقرة، لقد خرجت سالمة لذا اطمئن، أنا أعتني بها هنا.."
استرخت تعابير غوستاف المنقبضة شيئا، استقام في جلوسه ثم مرر كفه على جبينه وعاد ليجيب بهدوء حتى يتفهم من يحيطونه أن أسوء مخاوفه قد دُحض، بعد أن صمت لبضع ثوان حاول أثناءها تدارك أعصابه..
-"أتقولين أنها مصابة؟"
بمجرد أن نبس غوستاف بذلك حتى تشارك زملاؤه جميعا موجة زفير شاملة تنبئ عن اطمئنانهم بأن المعنية بِحَيرتهم حية على الأقل.. ثم أدبروا جميعا ينتظرون التأكيد الأخير لصحة ظنونهم المتفائلة..
-"في الحقيقة.. إنها لم تسلم من التعرض للإصابات، ولكنها لحسن الحظ ليست خطيرة جدا، لقد كُسرت ذراعها اليمنى، ولديها ثلاثة أضلع مكسورة أيضا.."
أردفت يلفيا في شيء من التردد، فهي لم تُفاجأ حقا عندما أجابها صوت غوستاف الهامس المحتقن غيضا قائلا "سحقا.."..
هي حتما لم تكن تعي ما قد يخالج ذهنه في تلك اللحظة، ولكنها ثبتت على يقينها بأنه حتما لن يقف مكتوف اليدين حتى يأخذ بثأر ابنته من المتسب..
ساد التوتر والاضطراب زوايا المكان، كان الشرطي المقرب من غوستاف واقفا مثله مثل الباقين ينتظر انتهاء الاتصال حتى يطمئن دون أن يقاطعه، ولكنه سرعان ما انحنى لما سمع صوتا خافتا أشبه بتحطم صفيحة رفيعة من مادة هشة، حتى وصل مستوى غوستاف الجالس بجانبه فإذا بعينيه تتسعان في رهبة لما واجه ملامحه الساخطة..
لقد كان الرجل شاردا تماما، انحسرت مقلتاه الخضراوان وشرعتا في الارتجاف، حتى بدت تلك النظرات التي وجهها لا شعوريا نحو الأرضية وكأنه يوشك على ارتكاب جريمة قتل.. لم يكن يفرج ما بين شفتيه ولكن ارتجاف فكه كان كافيا لتصور أنه قد يحطم أضراسه في أي لحظة من الضغط الشديد عليها، مثلما حطم شاشة الهاتف..
".. أيمكنني التحدث إليها؟"
استرسل غوستاف مجددا، بعد أن كف عن حدج كل ما في طريقه على ذلك النحو المخيف، متداركا أنه قد صمت بما يكفي تاركا يلفيا تنتظر رده في توتر، فلم تدخر هي وقتا و أجابت ببعض الاندفاع..
-"اه.. إنها نائمة الآن، سوف نتصل بك مجددا عندما تستيقظ.."
-"لا بأس.. اتركيها ترتاح الآن، سأعاود الاتصال غدا صباحا.."
-"كما تشاء.. تصبح على خير"
-"تصبحان على خير.."
.
.
أبعدت يلفيا سماعة الهاتف الثابت عن أذنها و شرعت تعرضها نصب عينيها، ثم أعادتها إلى مكانها بعد لحظات معدودة من التحديق في انعكاسها على سطح السماعة اللماع، وقد شرع التضايق ومسحة من الحزن يسطران ضلالهما على ملامحها المنهكة بمجرد أن انقطع الاتصال.. التفتت إلى الرواق ذي الإضاءات الخافتة خلفها وركزت بصرها على باب حجرة لم تكن بالبعيدة جدا، ثم أفرجت عن نفس طويل كان يضيق الخناق على قلبها ومضت نحو الغرفة المطلوبة قابضة على كفها والقلق يعتصر فؤادها..
لم يحمل أحد تعابير مستبشرة بعدما أظهره غوستاف من انفعال فشل في ضبطه، واستمر الحال على ذلك الوضع للحظات أخرى بعد أن لم يرفع حاجبيه الغاضبين واستمر في التجهم بحنق، فهو بغير انتباه منه، قد أحكمت أفكار عقله الباطني سيطرتها على ذهنه.. لم يرفع بصره تجاه المترقبين حوله حتى رجه صاحبه من كتفه، مناديا عليه بانزعاج غلب عليه القلق ..
-"غوستاف! ماذا هناك؟!"
-"..إنها بخير.."
أجاب غوستاف بهدوء من غير تكلف، وقد شرعت ابتسامة طفيفة تزيح عبوسه بعدما ألقى كل من على رأسه قبعةٌ خاصَّتَه في الهواء واندفع الجميع مهللين بصخب فرحا لأجله حتى أمست أركان المبنى تصدح بصدى صياحهم الجماعي..
-"حمدا لله.. لقد جعلتنا نتوتر جميعا يا غوستاف، أخبرتك أن لا تبالغ في قلقك.."
-"أنت تعلم أنها كل ما تبقى لي يا أولغارد.."
صمت الاثنان برهة وسط كل تلك الفوضى المحيطة بهما، حتى عاد المدعو أولغارد ليواصل مازحا..
-"ما زلت أتذكر آخر مرة رأيت فيها جيني الصغيرة، كانت بطول إطار سيارة.. أخبرني كيف هي الآن؟"
حالت ابتسامة أولغارد إلى التلاشي لما قابله غوستاف بصمت مطبق، آخذةً ترمقُ نظراتُه الجانبيةُ أحدَهم في ريبة، فلما التفت ليرى ما الذي سحب رفيقه إلى غياهب عقله الشارد مجددا حتى لمح إحدى زملائهما تقف بعيدا نسبيا عن مركز التجمع، كانت شابة ذات بشرة قمحية بملامح انسيابية رزينة طُبع عليها مزيج من الاستياء والتوتر، عينان حادتا المظهر، وحاجبان رفيعان معقودان في غضب..
كانت تضع مقدارا لا بأس به من مساحيق التجميل على وجهها وترتدي سترة قصيرة من الجينز الأزرق مفتوحة الأزرار فوق زيها الخاص الذي كان يختلف عن خاصة غوستاف وأولغارد إذ لا بد وأنها تنتمي لفرع مختلف عنهما..
اهتز أحد حاجبي أولغارد الكثيفين في استغراب كاد ينزاح أكثر فأكثر إلى ما يشبه الغضب، فبينما انقض الجميع على غوستاف يهنئونه ويصافحونه جاعلين إياه ينسحب من شروده مضطرا، كانت تلك الشرطية تقف مكانها آخذة طرف ذراع نظارتها الشمسية تقضمه بين أنيابها في ما بدى له كمحاولة منها لكبح عاصفة من الردود المتضاربة، لم تكن هي ذاتها تعي أن نظراتها الساخطة تجاه كل ما حولها كانت كفيلة بفضح كل ما يدور بخلدها..
-"ما بال هذه المرأة؟.."
أدبر أولغارد هامسا لغوستاف في استياء، ليجيبه الآخر دون أن ينظر إليها حتى، أو يظهر أي اهتمام بشأنها..
-"دعها تعبأ بشؤونها الخاصة.."
ثم واصل متمتما بينه وبين نفسه تزامنا مع إرساله نظرة حادة سريعة ناحيتها "حتى أتَيقَّنَ من بعض الأمور.."
لاحظ أولغارد تلك النظرات المتفرسة الخاطفة ثانيةً، فاسترسل مستفهما في حيرة..
-"ماذا قلت للتو؟"
-"لا تشغل بالك.. كل ما في الأمر أنني لن أكتفي حتى أقتلع رأس المسؤول عن ذلك الانهيار عندما أقبض عليه.. لا أكثر."
صمت أولغارد محافظا على منظره الهادئ دون أن يضيف شيئا على كلام غوستاف، يمكن القول بأنه معتاد بشكل ما على تلك اللهجة السادية التي يصطبغ بها حديث زميله أحيانا..
لكنه لم يستطع منع نفسه من دحرجة مقلتيه بين الفينة والأخرى في فضول، حينا يحدق ناحية غوستاف الذي لم يشغله التفاعل مع زملائه عن مراقبة تلك الشرطية بطرف عينه، وحينا آخر كان أولغارد يقلب نظراته ناحيتها هي، حيث عكف يحدق خفية مستغربا في ما كانت تفعله بوقوفها معزولة، أحيانا تطرق بقدمها طرقات سريعة على الأرض وأحيانا تسحب هاتفها المحمول لتتفقده ثم تعود لطي ذراعيها بشكل أقرب إلى معانقتها لنفسها.. كان الفضول يأكله حقا لمعرفة ما يُوَتِّرها، أو لِمَ تستمر في الوقوف مكانها ومراقبة الجميع وكأنها تنتظر شيئا ما..
جايدين مارسِل، هكذا كانت تُدعى.. عندما باغتها صوت اهتزاز المحمول في جيبها، سحبته باندفاع.. حدقت في شاشته مليا ثم أطفأته و أرجعته إلى جيبها، دون أن يظهر تغيير واضح على ملامحها الصارمة سوى حركة خفيفة من حاجبيها نحو الأعلى، أشاحت عنها شيئا من الاضطراب الذي كانت تبديه تعابيرها.
التقطت نفسا عميقا، وبمجرد أن أفرجته أردت عنها تلك الهيأة المترددة. بحركة خفيفة من كفها؛ أبعدت عن كتفها خصلات شعرها الداكنة التي تتخللها بعض الأشرطة الفضية المربوطة في شكل ذيل حصان طويل، رفعت أنفها في ثقة حتى بلغ علوه الأقصى وشرعت تسير مقحمة يديها في جيوب سروالها، اتجهت نحو المخرج بخطوات رشيقة فيها قدر هائل من التعالي و الاختيال دون أن تعير اهتماما لمن حولها.. ولكنها لما أوشكت على الوصول إلى الباب الرئيسي، أخرجت كفها من أحد جيوبها فوقعت مجموعة المفاتيح أرضا دون قصد منها..
قطبت جايدين جبينها ودحرجت مقلتيها في اشمئزاز، ثم انحنت بشق الأنفس فقط كي تأخذ مفاتيحها من الأرض، وكأن الانحناء سينقص من عمرها عاما أو عامين..
مدت أناملها النحيلة كي تلتقط ما وقع منها محاذرة حتى لا تخطئ فتكسر أحد أظافرها الثمينة المصبوغة بلون رمادي لماع مماثل للخصلات الملونة من شعرها، ولكنها ما أوشكت تستقيم واقفة حتى أحست بطيف غريب يحلق فوق رأسها، استشعرت منه وخزة باردة جعلتها تنفر فزعة وترفع رأسها لا إراديا.. فإذا بشلل مفاجئ يصيب أعصاب حدقتيها لما التقت بقداحتي الشرر الزمرديتين خاصة غوستاف..
أجفلت جايدين مجددا بعد أن أشاح عنها شبح نظرات غوستاف الباردة في غير اكتراث، بدا وكأنه حقا لم يأبه لدهشتها بعدما عاد لمحادثة زملائه والابتسام وكأَنْ لم يبدُ منذ لحظة أنه ينوي رمي رصاصة في منتصف جبهتها..
التقطت مفاتيحها واندفعت تجر خطواتها السريعة نحو الخارج دون أن تلتفت إلى الخلف، لم تدخر جايدين وقتا حتى وطئت قدماها سلالم عتبة المبنى، نزلت الدرج الخارجي الذي لم تكن تربو درجاته الطويلة عن العشر، ثم سلكت زقاقا فرعيا حتى وصلت إلى الساحة المسيجة بجانب مبنى المركز، حيث خصصت تلك المساحة ليركن فيها الموظفون سياراتهم.
التفتت بسرعة نحو زاوية من زوايا المساحة أين ركنت سيارتها النفعية السوداء، وعلى نفس القدر من الاندفاع مضت تزداد خطاها إسراعا كلما اقتربت من المركبة، وإن دل صوت تصادم المفاتيح الأشبه بالأجراس على شيء فإنما هو الاضطراب البالغ الذي قيد أصابعها عن العثور على مفتاح السيارة، والذي ما إن التقطته أخيرا حتى كبست زر القفل و سحبت باب السيارة بعنف، ثم ارتمت داخلها و صفعت الباب خلفها، أوصدت الأقفال و لم تنتظر حتى ربع ثانية ريثما تلتقط أنفاسها اللاهثة بعدما طفق قفصها الصدري ينقبض ويرتخي بسرعة إثر ما ولجت السيارة، بل قامت مباشرة بإقحام المفتاح في موقعه وشغلت المحرك، انقضت على المقود بقبضتين مشدودتين وداست البنزين!
.
.
.. "كفى كلاما فارغا... لن يعرف.. يستحيل أن يعرف.. لا هو ولا.. غيره... ليس.. ليس الآن على الأقل.."
قاطع زفيرها المرتجف تلك الكلمات التي نبست بها شفتاها كرزِيَّتَا اللون بصوت هامس، بعد أن كبحت الإطارات بمجرد أن انطلقت. الشيء الذي صوب لها رشدها لم يكن إلا صوت الاحتكاك الذي أصدره هيكل السيارة بعدما صدمتها في سيارة أخرى كانت مركونة بجانبها بسبب انطلاقتها العشوائية..
أراحت ظهرها في إعياء على المقعد و أغمضت عينيها حتى تتيح لأعصابها أن تهدأ قليلا، بعدها ترجلت من السيارة و التفت حولها كي تقدر حجم الأضرار، والتي لم تكن سوى خدوشا واضحة على الطلاء، دون وجود أي انبعاج..
زفرت جايدين نفسا ثقيلا بينما فتئت تحدج الخدوش بنظرة مشمئزة لأقصى حد، ثم عادت أدراجها إلى مقعد السائق دون أن تكلف نفسها عناء تفقد السيارة الأخرى.. شغلت المحرك مجددا وأدارت زر الصوت الخاص بالراديو، ثم وضعت كفيها على المقود وحدقت قليلا في زجاج السيارة، متيحة بضع ثوان حتى يسخن المحرك.. ثم انطلقت بأقصى سرعة واتجهت مباشرة نحو الطريق السريع مخترقة الزحام بتهور..
.
.
*************************
تلك الجدران المطلية بلون أزرق فاتح، مع الإضاءة الخفيفة ذات اللون الأبيض، والصوت الطفولي الخافت الذي يدمدم .. مجلبة للنعاس..
-"ارفعوا أسلحتكم، ورددوا النشيد.. الحرب هنا، لقد انتظرنا طويلا.. استعدوا يا إخوتي فالمعركة ستبدأ.. وحينما نموت، سوف تُخلد أسطورتنا.. حين يسقط القمر المهول.. سنبقى جنبا إلى جنب، حتى نهاية الأيام، حتى تتحطم نِصالنا-"
..
أحد أروقة المشفى، توزعت على جانبيه بضعة أبواب مؤدية إلى غرف المرضى.. ذلك الطابق بالذات كان هادئا نوعا ما، لم يخلُ إلا من صوت طرق كعب حذاء يلفيا على رخام الأرضية ناصع البياض، والتي أبطأت خطواتها في حرص حتى لا تتسبب في إيقاظ أحد من المرضى.. كلما اقتربت من باب وجهتها زاد اهتمامها بالهمهمة غير المفهومة وأصوات الصفير الموسيقية التي كانت تصدر من هناك..
لم يكن الباب مغلقا، بل اكتفت يلفيا بدفعه في روية حتى ولجت الغرفة دون أن تنتبه لها جينوا التي كانت مستلقية على السرير مثل القتيلة، تصفر وتحدق عيناها الفارغتان في السقف دون أن تحيد عن بعض آثار الرطوبة الداكنة فوق رأسها.. مجصصة الذراع مضمدة الجبين بعدة لفات من الضماد الأبيض النظيف، لم تكن منتبهة لوجود يلفيا حتى نطقت قائلة..
-"من الأرض إلى جينوا، حول.."
رفعت جينوا رأسها للأمام فجأة من غير أن تحرك جذعها وسألت في اندفاع..
-"أين هو؟!"
أبت يلفيا أن تجيب، أخفضت نظراتها في شيء من الإحباط ثم أشاحت تماما عن جينوا حتى تتفهم هي الأمر بنفسها.. ولم يظهر عليها أي نية للشرح أو التبرير حتى خفت حماس جينوا واصطبغت ملامحها بالضجر وخيبة الأمل..
-"بالطبع.. لماذا أسأل أصلا.."
نبست بذلك ساخرة من حالها، ثم أفلتت رأسها ليستقر متثاقلا على الوسادة ورمت الغطاء على وجهها..
-"جينوا-"
-".. أيقظيني بعد موتي.."
أردفت جينوا مقاطعة بوادر تعاطف والدتها بصوت مشوش بسبب الملاءة التي دخلت في فمها.. فلم يكن من يلفيا قليلة الحيلة إلا أن نفثت ملئ رئتيها مستسلمة للمحادثة التي تتكرر كثيرا بينهما..
تناولت مقعدا و جلست بجانب السرير، ثم مدت يدها ووضعت راحتها في يد جينوا اليسرى، والتي كانت متدلية على جانب السرير مزرقة الأصابع بسبب الوضعية التي كانت تعيق وصول الدم إلى أطرافها.. ثم أمسكت طرف الغطاء وأبعدته عن وجهها، لتقابلها نظراتها المتبرمة، كانت تحكم شدّ عضلات وجهها حتى تبدو غاضبة قدر المستطاع..
-"عزيزتي.. كوني مراعية لوالدك، عمله يحتم عليه البقاء في العاصمة مدة طويلة.. إنه يفكر بك دائما، وهو قلق جدا عليك الآن.."
أغمضت جينوا عينيها و أرخت حاجبيها الكثيفين وشفتيها المضمومتين بإحكام، ثم أعادت رفع أحد حاجبيها محيلة ذلك الحنق إلى التهكم..
-".. إنه هناك يلاحق لصوص الخضروات ويسبب زحمة مرور مع رفاقه، لا بد أنه يحظى بالكثير من الوقت الممتع.."
-"لا تقللي من شأن جهود رجال الشرطة يا ابنتي، يفترض بك أن تكوني أشد من يقدرهم!"
-"هل لدى جميع رجال الشرطة أطفال مساكين لا يرون وجوه آبائهم لأشهر دون أن يعرفوا ما الذي يفعلونه هناك بحق الجحيم... إذا كنت ستجيبين بنعم، فأنا سوف-"
أوشكت تلك النبرة السريعة والمندفعة التي كانت جينوا تتحدث بها على أخذ صيغة صاخبة نوعا ما، وحتى لما شرعت يلفيا تشير لها بيديها أن تخفض صوتها، لم تستجب لها جينوا حتى أخرستها شخرة غريبة صوتها أشبه بمحرك طائرة يحترق، جعلت كلتيهما تستنفران فزعتين..
-"صه! أنظري إلى نفسك! كيف ترفعين صوتك في هذا الوقت المتأخر، في المشفى؟!.. هناك عجائز في الغرفة.."
همست يِلفيا موبخةً على نحو يجعلها تبدو وكأنها تعاني من التهاب في الحلق، ولكن جينوا بدت أغبى من أن تفهم ما الخطأ فيما فعلته..
-"لا يمكنني رؤية نفسي يا سيدتي، خذي اقلعي عيني وضعيهما صوب وجهي هكذا.."
ردت عينا يلفيا العابستان على تهكم جينوا الذي كان في غير محله، ما جعلها تبادلها نظرات مشابهة، ولكن الاستغراب بدأ يتداخل مع كل ما سبق ونتج تعبير غريب على ملامح جينوا.. عندما أخذت يلفيا تضيق عينيها مدققة النظر في حيرة على منتصف وجهها تماما..
-"معجبة بي؟!"
-"من أين لك بهذه الكدمة؟"
استفهمت يلفيا مشيرة بسبابتها محو بقعة منتفخة زرقاء على أنف جينوا في ارتياب أدركت هذه الأخيرة معه أن والدتها على وشك جرها إلى الاعتراف بالمعركة التي خاضتها ضد المدعو ثيودور، وهو الأمر الذي لم تكن تنوي التطرق إليه وأهملته من غير انتباه حتى ألقت بنفسها في وضع لم يُتح لها فيه التملص من الموضوع برمته..
-"لقد-.. إنها مجرد إصابة مثل البقيـ-"
-"جينوا!"
خرست جينوا وأشاحت بعينيها دون نية لقول المزيد.. نبرة يلفيا الغاضبة جعلتها تفكر مرتين قبل أن تقرر الشروع في تأليف الأكاذيب..
-"ما قصة هذه الملابس.. لماذا لم ترتد الثوب الأزرق المركون في الخزانة منذ ذكرى ميلادك قبل الماضية.. مؤسف حقا، أنت وإيفا كنتما ستبدوان متناسقتين-"
-"لم أخطط للذهاب أساسا.."
فوجئت يلفيا لدى سماعها لذلك، رفعت حاجبيها في ذهول ولم تتابع كلامها حتى استغرقت بضع ثوان ترتب أفكارها التي بعثرتها حجة جينوا، والتي هدمت شيئا من الطمأنينة والثقة التي اكتسبتها يلفيا منذ آخر محادثة دارت بينها وبين من تعتبرهم أصدقاء ابنتها المقربين..
-"لماذا؟.. تفرطين في دعوة ثمينة من أصدقائك؟.."
-"لأنني-.. ارتديت هكذا لأنني ظننت أن لا أحد سيتعرف علي إذا تنكرت مثل الصِبيان، هذا كل ما في الأمر.."
أردفت جينوا مجيبة في ضجر وتململ علها تُفهِم والدتها أنها حقا لا ترغب في التحدث عن الأمر، ولكن ذلك لم يزد يلفيا إلا فضولا، بل وصل بها الأمر إلى الإجفال فيما يبدو أقرب إلى الصدمة التي رافقت حديثها..
-"مثل الصبيان؟.. جينوا.. "
صمتت قليلا آخذة في التحديق في عيني جينوا في حيرة، سعيا منها لقراءة ما تخفيه خلف ذلك الصمت والتعابير اللامبالية التي ترافقه..
-"هل كنت تحاولين التظاهر بأنك جيـ-"
-"إنه جين.. هكذا أطلقت على نفسي.. إنني أعرف، هذا ليس إبداعا.."
قاطعت جينوا أمها مجددا، جعلتها كل الأفكار المتقاطعة التي كانت الاثنتان تتشاركانها تأبى في كل مرة أن تمنح فرصة لوالدتها بقول استنتاجاتها الجزافية، هي لم تعجل بالتطرق إلى الاسم المستعار الذي لقبت به نفسها إلا لتمنع والدتها من الغوص في معضلة أخرى كانت ستغرقها فيها إغراقا لو تركتها تتم نطق الاسم الذي زاحم توقعاتها..
-"جيني.."
-"ما بال هذه النظرة؟!"
أردفت جينوا متصنعة البلادة حتى توحي ليلفيا محزونة التعابير بأنها ليست معكرة المزاج كما تظن.. رغم أنه معكر طوال الوقت كأمر بديهي فقط..
-"وهل استطاع أحد ما معرفة أنك فتاة؟"
أدارت جينوا رأسها ببطء ثم جعلت على محياها ابتسامة يائسة تسخر من واقع حالها.. حتى بادرت يلفيا بصك جبينها من شدة خيبتها في ابنتها الميؤوس من أمرها قبل حتى أن تسمع الإجابة..
-"لا أعتقد أنني سأخرج من البيت وأُري الناس وجهي حتى العام القادم.. على أفضل تقدير"
-"يا إلهي.. هل تعرفين كم عدد الصبيان الأشقياء الذين يأتون في كل مرة مزرقي الوجوه بالكدمات المشابهة لهذه التي على أنفك؟.."
-"هذا ليس له معنـ-"
-"من الذي تجرأ وضربك على وجهك؟!"
تأففت جينوا ثم أردفت متبرمة، قد أضحى من المنهك مجاراة مهارة يلفيا في استنطاقها كل مرة بِرَدات فعلها شديدة الانفعال حتى على الأمور التافهة..
-"أمي.. توقفي عن القلق حيال كل شيء، لم أرغب بالتسبب في شجار ولكنني لم أكن لأقف مكتوفة اليدين و أترك أحدا يحاول استفزازي دون أن أدافع عن نفسي.. أنا فتاة نعم، ولكن لا شيء يمنعني من أن أكون رجلا حين يستلزم الأمر.."
-"لا أريد أن تصبح مكانتك كابنتي فارغة، هل تحملين هذا الجانب الذكوري.. لأنك تحاولين تعويض جيمـ-"
-"ليس لجيمي علاقة بالأمر!"
اتسعت عينا يلفيا في ذهول لما صاحت جينوا متذمرة ثم جزت على أسنانها في حنق جلي، لقد أدركت متأخرة أنها كانت تحاول دفعها للابتعاد عن ذكر هذا الموضوع منذ البداية..
جعلها ذلك تتفهم أن لا طائل محاولة قراءة أفكار جينوا فقد أثبتت لها أن ظنونها خاطئة تماما، لذا حظيت بلحظة عابرة من شعور غامر بالرضى حتى انزاح كل أثر للقلق و الترقب عن ملامحها، وإنما نفضت شكوكها بعيدا وانحنت لتقبل جبين ابنتها التي بدأت عيناها تذبلان رويدا..
مسحت بحركة ناعمة من كفها على وجنة جينوا ثم أردفت وفي صوتها الرقيق شيء من التفاؤل..
-"أريدك أن تكوني نفسك وحسب، إذا كان التصرف كـ'جين' والتشاجر مع الصبية أكثر راحة لك فافعلي ما تشائين، ولكن لا تهملي حذرك أبدا.. ستظلين دائما فتاتي الصغيرة جيني، أجمل وأظرف وأرق فتاة على وجه البسيطة.."
بدت بوادر الاسترخاء تتلافى بسرعة عن ملامح جينوا وتحول إلى بضع تعابير مشمئزة بادلت بها كلمات والدتها الحالمة عن كونها ظريفة ورقيقة وما إلى ذلك ..
-"سوف أحرق ذلك الفستان على سبيل الرقة والظرافة.. جديا كم عدد السيناريوهات المخجلة التي اختلقت لي بمخيلتك الوردية يا ترى؟.."
-"لن أخبرك أبدا.."
لطالما اعتبرت يلفيا استفزاز ابنتها بتلك العبارات أمرا ممتعا، وقد استضاح ذلك لجينوا من الابتسامة اللعوبة التي حالت إليها ملامح والدتها، لذا عمدت إلى محاولة مجاراتها بإظهار تعابير القرف والضيق ساخرة..
-"إذا.. أيهما تفضلين؟.."
حملقت جينوا في وجه يلفيا المتحمسة باستغراب، ولكنها لم تستنفذ وقتا كثيرا حتى فهمت ما ترمي إليه فأردفت متضجرة..
-"ذلكما البائسان؟.. معاييري تفوقهما بسنوات ضوئية.. انسي الأمر واخلدي للنوم.."
-"وإن ذهبت وتركتك هل ستخلدين إلى النوم أيضا؟"
-"بالطبع سأفعل.. ما الذي تقصدينه من هذا؟"
-"لقد سمعتك تدندنين نشيد المحاربين منذ قليل.. من أين جاءتك هذه الروح الوطنية فجأة؟"
أخذت تلك الروح المازحة تتلاشى من نبرة يلفيا تدريجيا، بينما لم تكلف جينوا نفسها عناء فهم السبب وراء اهتمام والدتها المفاجئ بأمر تلك الأغنية التي كانت تغنيها من باب قتل الملل لا غير، لذلك بدت غير مكترثة نوعا ما عندما أجابت تساؤلها..
- "أعتقد.. أن كلماتها لا تمت للواقع بِصِلة تذكر .. أنا فقط لا أفهم ما المغزى من جعلها نشيدا وطنيا.. هذا كل ما في الأمر.."
-"قصة الحراس الثلاثة الذين يحمون الملك، النشيد يتحدث عنهم.."
-"إذن فالمحاربون المقصودون هم أولئك الحراس؟.. هل أمجاد إيلدينغار قليلة لدرجة أن يجعلوا أسطورة لا أساس لها من الصحة رمزا وطنيا لها؟.."
-"منذ متى يشغل الأمر بالك؟.."
من هنا بدأت جينوا تتدارك اهتمام والدتها بالأمر، فباشرت من غير اعتراض بطرح جزء لا بأس به من الشكوك التي طفقت تتجدد في كل مرة يمر فيها سطر من سطور تلك الأغنية بين أفكارها.. علها تشفي فضول يلفيا الذي جعل بريق عينيها شديد الترقب على نحو غير مألوف..
-"أظن أنه مثير للاهتمام، في الواقع.. إيفا هي من أثارت هذا التساؤل لما ذكرت في إحدى المرات قصة الحراس و الأسلحة هذه قبل بضعة أيام فقط.. قالت إنها عثرت في علية بيتهم على مقال حول هذا الأمر مقصوص من جريدة يعود تاريخها إلى .."
فصلت حديثها لبضع ثوان ريثما شرعت تعد على أصابعها، ثم تابعت..
"عشرة أعوام مضت.."
اتسعت عينا يلفيا في إجفال طفيف، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى الاصغاء باهتمام أشد، بينما استمرت جينوا دون أن تلاحظ ذلك التغير على تعابير أمها..
-"منذ ذلك الحين وأنا أفكر.. في البداية لم أظن الأمر مشوقا جدا، ولكنني مؤخرا أحببت فكرة أن يكون المرء حارسا و بطلا مشهورا، يعمل في البلاط الملكي ويعرف كل ما تخفيه دسائسهم.. المعرفة وحدها ممتعة بشكل ما.."
-"هل يجعلك التفكير في شيء كهذا ترغبين في أن تصبحي حارسة؟"
-".. ربما كنت فعـ-"
حبست شهقتها المجفلة قبل أن تترك حلقها، لما أدركت تلكؤها في وزن ألفاظها قبل أن تنطق بها.. فقد شعرت بشيء غريب في خزرات والدتها لما عمدت إلى استراق نظرة خاطفة نحوها بطرف عينها، بدت لها يلفيا و كأنها تسعى للتأكد من أمور تعرفها مسبقا لا غير... هذا ما أحست به جينوا ذاتها، ربما لم يكن ظنها صحيحا بالضرورة، ولكنها اندفعت مناقضة أقوالها بأي حال، نية طرد نظرات الشك من عيني والدتها بأي وسيلة..
-"هذا إذا كان الأمر حقيقيا أساسا! ... أعني؛ لماذا لا يوجد أي معلومة كاملة عن أولئك الحراس، حتى التاريخ المسجل يقلل من شأنها كثيرا مقارنة بالحكاية الشعبية، أو النشيد.. لماذا قصتهم مهملة هكذا؟"
لم تظهر يلفيا أي ردة فعل متفاجئة من اندفاع جينوا في وجهها، وإنما جعلت تفرك كفيها ببعضهما، محدقة إليهما في شرود واضح بينما استطردت مجيبة ..
-"ربما هناك أشياء يتم التستر عنها، قد تكون القصة حقيقية بالفعل، ومع هذا فلا أعتقد أن من المجدي التفكير في الأمر في منتصف الليل... نامي الآن واطردي هذا الحوار الغريب من رأسك"
ثم نهضت من مكانها بهدوء وانحنت كي تساعدها لتستلقي على جنبها الأيسر، محاذرة حتى لا تضغط بقوة على ذراعها اليمنى التي كانت ملفوفة بجبيرة عدلت وضع وسادتها ثم أمسكت بطرف الغطاء القطني وسحبته حتى كتفيها..
-"ليس وكأنني تحدثت عن شيء محرم.."
-"علمي علمك يا عزيزتي، كل ما نعرفه أن الأسطورة تقول بأن أحد ملوك إيلدينغار قد ألغى رتبة الحراس و أخفى الأسلحة لسبب ما، زمنهم قد اندثر منذ ذلك الحين بالفعل.. نامي الآن"
-"حاضر.. "
أضافت جينوا في تبرم متظاهرة بكونها تتجاهل ضحكات والدتها المكتومة ريثما انتهت من تغطيتها من كل الزوايا حتى تضمن أنها لن تتزحزح من مكانها.. ثم اتجهت صوب الباب و أوشكت على المغادرة..
-"ااه قبل أن أنسى!"
توقفت يلفيا والتفتت نحوها هازة رأسها باستفهام..
-"بما أن أبي لن يأتي، هل ستطلبين إجازة؟"
-"لا أستطيع أخذ إجازة في هذا الوقت من السنة.. لكن لا تقلقي، العمة سوزن ستكون هنا في فيلدسباث بحلول مساء الغد، لقد اتصلت بها وأخبرتني أنها متفرغة للاعتناء بك.."
بمجرد أن نطقت بذلك حتى انتفضت جينوا واتسعت عيناها في ارتعاب..
-"ما الأمر؟"
-"اتصلي بها فورا!.. أخبريها أن لا تحضر معها جروها الرخيص القذر!"
شخرت يلفيا لفشلها في إمساك نفسها عن القهقهة بصوت مرتفع عندما سمعت ذلك، فلم يسعها سوى تغطية فمها بكفها لبضع ثوان حتى تتمالك نفسها..
-"لا تفزعي، لقد وعدتني أنها لن تجلبه معها.. ليس بعد أن قضم مؤخـ-"
ولم توشك تنهي قولها حتى انتفضت جينوا صارخة "ليلة سعيدة!!".. ثم دفنت رأسها داخل الملاءة.. متجاهلة ترجيات والدتها لها بأن تخفض صوتها..
التفتت يلفيا ملقية نظرة سريعة على عجوز كانت تنام في سرير مجاور لجينوا، ثم زفرت بارتياح لما تيقنت من أنها ما تزال تشخر..
-"حاذري من الاتكاء على جانبك الأيمن.."
أضافت يلفيا هامسة، ثم انصرفت وأغلقت الباب خلفها.. بينما عكفت جينوا على التكور في مكانها كاليرقة منتظرة سماع خطواتها تبتعد، ولكنها تأخرت بضع ثوان حتى بدأ صوت كعب حذائها بالطرق مجددا على الأرضية، فيما بدا وكأن يلفيا قد وقفت تفكر قليلا أمام الباب قبل أن تشرع في السير..
حينذاك أزاحت جينوا الغطاء عن وجهها ببطء حتى وصلت إلى أنفها فتوقفت، ثم أنشأت تحدق هائمة إلى كوب شفاف كان ممتلئا تقريبا بمياه صافية، موضوع على الطاولة الصغيرة التي كانت بجانب رأسها..
كانت هناك ذبابة، تتحرك على سطح الطاولة، وأحيانا تستقر على حواف الكأس الزجاجي وتبدأ بالطوف حوله.. مع كل حركة بسيطة منها، كانت خضراوا جينوا الذابلتان تلاحقانها بلا كلل، حتى وإن لم يشغلها ذلك المشهد المنتظم في تكراره عن استحضار بنات أفكارها المتلاطمة في ذهنها كالزوابع بل عزز حملقتها الشاردة..
'قوس الرماية، والسيف... ماذا عن الأسلحة الأخرى، وماذا بشأن الرمح أيضا, لسنا نعرف كيف يبدو حتى.. ربما تكون إيفا حاملة الرمح المزعوم.. رغم أنني لم أرها تحمل رمحا... كما أني لا أذكر أن الرواية ذكرت شيئا عن كون تلك الأسلحة سحرية أم عادية..'
...
تباينت تعابيرها بين العبوس ثم الاستغراب، كلما انتقلت من استنتاج لآخر .. وهكذا دواليك دون شعورها بحركات عضلات وجهها اللاإرادية..
'ربما قمت بربط القصتين بشكل خاطئ.. أعني ما هذا السخف، ما الذي يأتي بالأسلحة اللعينة التي تخص الأسرة الحاكمة، وما أدراك من هؤلاء.. إلى أشخاص عشوائيين من بلدة ريفية لا أحد يعرف كيف ينطق اسمها..'
..
' مصادفة.. حتى أنه لا نوع الأسلحة ولا عددها يتطابق بين القصة والواقع-'..
-"هاه!"
أجفلت جينوا عندما استعادت الصورة التي بدأ الضباب يتشكل حولها وضوحها، حيث انزلقت الذبابة وشرعت تتخبط وسط الكوب مصدرة أزيزا مزعجا، دام ثوان معدودة حتى همدت..
'لقد كانت تحوم حوله ولا تدري أنه مرقدها الأخير.. لا شيء يحدث مصادفة، من الذبابة التالية يا ترى..'
عقدت حاجبيها في قلة حيلة بعد أن أوشك النعاس ينال منها، ثم أغلقت جفنيها، تاركة حبل أفكارها معلقا حتى أجل آخر..
'شيرمان.. يعلم شيئا ما حتما.. ولكن كيف أستطيع التأكد، أنا.. لن أعود بهذه البساطة.. إذا كان يستطيع أن يجيب عن هذا، فهو حتما لن يغفل عن إيفا أيضا، أليس كذلك.. '..
.
.
******************************
-إقليم يورد | مقاطعة هودينغتون-
ربما ليس هنالك من داعٍ للتذكير بأن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.. ولا شيء غير الظلام يلتهم الأجواء الموحشة لغابة المقاطعة، غابة 'هودينغتون' المعروفة بين سكان المنطقة باسم "وكر الأشباح"..
على عكس إقليمي 'هيفي ستون' و'ستانيسلافا' الغربيين، فإن إقليم 'يورد' الذي يضم أهم مقاطعة في المملكة -وهي مقاطعة العاصمة- يأخذ حيزا مناخيا مغايرا، حيث أن كل فصول السنة تأتي في وقتها.. وبما أنها مشارف فصل الصيف فإن الجو كان دافئا ومسالما جدا.. لا رياح ولا برد .. فقط سكينة تغشى ثنايا تلك البقعة الموحشة، يقاطعها من حين لآخر أصوات الطبيعة المتباينة بين أزيز الحشرات، حفيف أوراق الأشجار متداخلة الأغصان، أو نقيق الضفادع التي تتخذ المستنقعات المتناثرة مساكنا لها..
هناك، حيث لا يجرأ عاقل على أن تطأ قدماه مكانا مشابها، استقر قصر ذو جناح واحد مكون من أربعة طوابق، مشيد بين جذوع الصنوبر و السرو الشاهقة التي تمنح الرائي منظر أدغال مطيرة كثيفة، بناية فارهة المظهر رغم تقدم العمر بجدرانها المتصدعة ذات الحواف المتآكلة، والمقيدة بخيوط سميكة ورفيعة متداخلة من النباتات المتسلقة، استقرت حوله آثار ذابلة لما بدى وأنه كان الحديقة الخارجية للقصر، يحيطها سياج معدني صدئ ذو تصاميم متناسقة..
إن هذا المسكن المهجور ليس مهجورا... ليس وتلك السيارة السوداء مركونة هناك أمام البوابة الخارجية للمبنى، رغم أن لونها الداكن كان يحول دون رؤيتها بوضوح وسط العتمة، إلا أن تفصيلا صغيرا واضحا كان كفيلا بتمييزها؛ لقد كان أحد البابين الخلفيين.. مخدوشا ..
..
على أريكة وثيرة ذات تصميم عتيق مثل كل تفصيل صغير داخل تلك الغرفة ، تربعت جالسة عليها في اختيال، ممسكة بين سبابتها والوسطى سيجارة مشتعلة.. امرأة في مقتبل الثلاثينيات، صدحت حنجرتها بضحكة ماكرة رنانة في الأرجاء، حتى الأروقة حملت صداها لأماكن أبعد..
-"تخيل تعابير وجهه الآن كوردي~.. كم أن ذلك مثير للشفقة حقا-"
استرسلت في لكنة ساخرة ثم انفجرت ضاحكة ثانيةً حتى أوشكت تذرف الدموع، وهذه المرة قد شاركها ضحكة نصرها صوت خشن أكثر صخبا منها بأضعاف، كان ذلك محدثها الذي جلس مقابلا لها يبادلها أطراف الحديث، رجل نحيل تتفرق على جانبي عنقه وتحجب ملامحه خصلات قذرة تصل حتى منتصف صدره طولا، يجلس محني الظهر لدرجة تجعله يبدو أحدب نوعا ما.. وكان في يده عُبوة زجاجية تحوي مشروبا، جعل يتجرع منها كل ما كف صوت ضحكه ليلتقط أنفاسه..
-"مذهلة كالعادة آيفي!.. سوف تحظين بترقية فاخرة لنظامك بلا شك بعد هذا النجاح الباهر-"
أردف مادحا ثم احتسى مقدارا معتبرا أطلق فحيحا مزعجا لدا ما ابتلعه، مبالغا في إظهار انتعاشه..
أما تلك التي يدعوها بـ'آيفي'، فتمددت في خمول على مقعدها ثم هزت ذقنها لأعلى باسمة بفخر، نفثت بضعة رشفات من سيجارتها ثم أضافت متصنعة التضايق كطفلة مدللة..
-"من المؤسف أنني لا أحظى بالكثير من المهام الممتعة مؤخرا، كما أن مجاراة كل هذه الأدوار أمر مرهق للغاية .."
ثم التفتت نصف التفاتة نحو زاوية مختلفة من الغرفة، تابعت وقد ازدادت ابتسامتها حدة وخبثا..
-"هاي أوسولوت عزيزتي، لماذا تقفين وحيدة هناك~.. تعالي وارتشفي بعض العصير معنا.."
انزاح طرف شفة الرجل أحدب الظهر قليلا إلى الخلف كاشفا في ابتسامة خبيثة واسعة تصل حتى أذنيه، عن أسنانه المصفرة المثيرة للاشمئزاز.. التقط من الأرض كأسا زجاجيا صغير الحجم كان موضوعا بجانب قدمه ومده إلى الأمام، مشيرا إلى الشخص الذي كانت آيفي تقصده بكلامها.. كانت تلك فتاة طويلة القامة، ذات شعر قصير أشقر ترتدي سترة جلد وتنورة تصل ركبتيها جلدية الخامة سوداء مثل عازفي الموسيقى الشبابية الصاخبة، كانت تقف بجانب النافذة هادئة كالنسيم، تسترق نظراتها الجامدة عديمة التعابير إلى المنظر المظلم في الخارج عبر زجاج النافذة الضبابي، غير مكترثة قيد شعرة إلى ما كان يحدث في تلك الغرفة أساسا..
-"لا تستمعي إليها.. ذلك ليس عصيرا يا أنجيلا، إنها تحاول الإيقاع بك.."
ضاما يديه على صدره، اقتحم محادثتهم صوت باهت انبعث من حنجرة أحد ما، كان يقف عند زاوية مختلفة من الغرفة مثل ظل صامت منذ البداية..
اقترب بضع خطوات مبتعدا عن المساحة المظلمة التي كان جالسا فيها بمفرده، ثم استقر واقفا لما وطئ موضعا مضاء، حيث أسقطت بعض الأنوار الضعيفة على ثيابه المكونة من قميص أبيض بسيط تعلوه سترة رياضية داكنة وسروال أسود لا يحوي تفاصيل كثيرة، رغم منظره شديد البساطة فقد كان لافتا للنظر لدرجة الإعماء بسبب خصلات شعره ذات اللون الأحمر الملتهب والي كان منسجما مع الإضاءة الخافتة التي لم يكن لها من مصدر سوى شمعدانان فضيان موضوعان على الطاولة التي تشاركتها آيفي و الآخر..
'أوسولوت' والتي ناداها هو بـ 'أنجيلا'، لم تستثنه من برودها فلم تعتبر تحذيره لها شيئا واستمرت في جمودها المخيف.. أما هو فلم يظهر على تعابيره شيء من الامتعاض من جهتها، بل سريعا ما أشاح عنها بهدوء متقبلا تجاهلها دون اعتراض..
لم يكن يحتسب أن هناك كأسا تطير نحو رأسه بسرعة البرق على حين غرة حتى انتفض في آخر لحظة ملتقطا إياها بقبضته مثل كرة غولف..
..
-"اخرس وحسب أيها الصعلوك.."
استطرد ذلك الرجل النحيل مستهزئا بعد أن رمى العبوة التي أفرغها أرضا، نهض من مكانه ووقف مقابلا لصاحب الشعر الأحمر ثم جعل يرمقه بازدراء..
اتسعت عينا آيفي تفاجُأً من ذلك الذي حدث أمامها للتو، ولكن لم تلبث أن عادت للاسترخاء على مقعدها متجاهلة أمر ذلكما الاثنين، فقط اكتفت بنفض تلك الخصائل الرمادية عن كتفيها، ونفث الدخان من فمها وفتحتي أنفها في سأم.. أما أوسولوت تلك فما تزال على وضعيتها نفسها حالها حال الأشجار في الخارج.. وحال أعمدة القاعة الرئيسية للطابق السفلي، السميكة ذات الزخارف المتماوجة والباهتة لقدمها، والتي رغم عتاقتها احتفظت بالبناء قائما، وكذلك احتفظت بسعتها على بث رجع الصدى في أرجاء القاعة شاسعة المساحة مهما بلغ خفوت الصوت الصادر، مثل صوت الخطوات الرتيبة التي كانت تتقدم مجتازة الأروقة.. في تلك اللحظة بالذات..
ارتجفت قبضة الفتى أشد ما ارتجاف وجز على أسنانه حتى آلمه فكه، أفلت ذلك الكأس فوقع أرضا دون أن يخدش حتى، كونه سميكا.. وهو لم يكن غافلا عن ذلك الأمر فلم يسمح للكأس بالتدحرج بعيدا، بل بمجرد أن طرق الأرض ثبته تحت راحة قدمه وداس عليه للحظات، حتى أرداه أشلاء متناثرة، بعضها علق على حذائه ومعظمها انتثر على السجاد..
حدق الرجل ذو العمود الفقري المنحني بنظرات طفقت تميل إلى سخط عارم كلما اقترب من استيضاح نظرات البغض و التحدي التي صرحت بها عينا الفتى أحمر الشعر..
-"ما الأمر، أتريد العراك أيها الجرذ.."
أردف الأول، ثم سار بضع خطوات بطيئة مقتربا شيئا فشيئا من الآخر على سبيل جعله يتراجع أو ينطق بأي شيء يدافع به عن نفسه، ولكن الولد لم يتزحزح بل لبث يبادله هالة الاشمئزاز والضغينة التي تحيط به.. وفي لحظة ما، عندما اقترب أحدهم من الآخر بما يكفي، استنفرا مندفعين في الآن ذاته وأوشكا على الاشتباك..
ولكن ذلك العراك انتهى قبل أن يبدأ حتى، بمجرد أن انفتح باب الغرفة على مصراعيه فجأة.. جفل أولئك الأربعة الذين لا يربط بينهم أي نوع من الصلات المألوفة، وشرعت أعينهم لا تترقب سوى ولوج محسوبهم المنتظر، صاحب الظل الذي وقف عند عتبة الباب للحظات وكأنه يفسح المجال لهيبته بالدخول معه..
أرجع دفة الباب ثم سار بضع خطوات رزينة ذات تواتر ثابت..
-"كورديسبس، تراجع.."
نبس في نبرة خالية من المشاعر مشيرا إلى الرجل النحيل الذي يدعى 'كورديسبس'، فما كان من هذا الأخير إلا أن تراجع نحو مقعده مكرها، يحشو الحقد بصره بعد أن خسر فرصته في إبراح ذلك الفتى ضربا..
عندما توقف ذلك السيد عن السير، كان قد اتخذ موقعه في قلب الغرفة بالضبط حيث يحيطه أولئك الأربعة يترقبون ما أتى به من أخبار.. كان شابا متوسط القامة، يوشك على اختتام عشرينات عمره.. ذو ملامح هادئة لا تدرك درجة البرود ولكنها في الآن ذاته فارغة مثل نبرة صوته..
كان معتدلا في كل شيء، حتى هندامه بسيط ومرتب من غير تكلفة، بذلة سوداء بالكامل، من غير سترة أو ربطة عنق.. وتسريحة أنيقة فرق فيها شعر ناصيته الأسود على جانبي جبينه بينما سرح بقية شعره للخلف في شكل منتظم..
-"إن الحاكم لا يستطيع أن يحضر اليوم، لذا فتعليماته بحوزتي.."
فصل حديثه لبرهة ريثما يمنحهم فرصة محدودة لتفهم الوضع، ثم تابع قائلا بعد أن صوب نظراته الجامدة على آيفي من غير أن يحرك رأسه..
-"آيفي، من الأفضل أن تكفي عن تفاخرك.. مهمتك لم تف بالغرض المطلوب-"
-"لم تفِ بالغرض؟!.. لقد فعلت كل ما طلب مني! أمضيت كل هذا الوقت أتعقب زعيمهم وخاطرت بكشف هويتي حتى استطعت نزع تلك الشريحة من الآلة اللعينة، ثم تأتي أنت وتحكم على عملي؟!"
انفجرت آيفي مقاطعة كلامه في اغتياظ وحنق جارفين حتى برزت عروق جبينها.. ولكن تعابيره لم تتحرك قيد شعرة..
-"اصمتي.. صحيح أن آناركا تنغستن ما تزال على قيد الحياة ولكن، بفضل مهمتك فقد ضمنا بأن مركز التهديد موجود في تلك البلدة من ريف هيفي ستون.. أي أننا قطعنا شوطا كبيرا من مسعانا بفضلك.."
-"أنتَ!.. ما المغزى من قولك أن مهمتي لم تف بالغرض المطلوب.. ديفا.."
التفت 'ديفا' نحوها بالكامل وحدجها بأعين شوساء كبديل طفيف عن ملامحه الفارغة المعتادة، ثم أردف مزدريا منظرها..
-"هذا ما هو عليه الأمر.."
بعدها أشاح عنها غير عابئ على الإطلاق بتعابيرها المنهارة.. وهذه المرة وجه حديثه ناحية أوسولوت والفتى الآخر..
-"أوسولوت، آكسل.. أنتما اتبعاني، لقد تم تكليفكما بمهمة خاصة جدا.. سوف تقابلان السيد هانسمورتن أولا، لقد قرر إرسالكما إلى فيلدسباث.. هذا كل شيء."
بينما لم يظهر أي أثر للتفاجؤ على وجه أوسولوت المتحجر وشرعت تسير خلف ديفا الذي هم بالانصراف دون أدنى تساؤل أو اعتراض، اتسعت عينا آكسل في ذهول لما خالج مسمعه أمر المهمة وما تبعها من أقوال ديفا، ولما أخذت أسئلته تتصادم محدثة فوضى عارمة في ذهنه، التقط إحداها مصادفة فاندفع متسائلا قبل أن ينسى ذلك الأمر الذي أوشك يؤرقه من الحيرة..
-"أخبرني.. أين هما الطفلان اللذان كانا برفقتك صباح هذا اليوم؟"
-"لا تتدخل في أمور لا تعنيك آكسل.."
-"وماذا بشأني؟!.."
صاح كورديسبس متذمرا بعد أن كتم غيضه لما يتجاوز حدود صبره، عندها وقف ديفا قيد ما أنبأه رامقا إياه بطرف عينه .."سنتحدث لاحقا.."..
ثم واصل سيره دون انتظار إجابة من الآخر.. خلفه كل من أوسولوت وآكسل يرافقانه في صمت..
كالعادة، حضوره يجعل الجميع يفكرون مليا.. كانت آيفي ترتعش غضبا من أحكامه المقيتة رغم ما تبذله من مجهود.. كورديسبس يراقب مغادرته بعينين تنضحان حقدا و احتقارا، شاركه آكسل في شيء منها رغم ما غلب عليه من التوتر بشأن المهمة المزعومة.. أوسولوت كالجماد لا تظهر أي نوع من المشاعر تجاه أي شيء حولها..
عندما أدرك ديفا عتبة الباب، وقف هنيهة ليختم حديثه بعبارة قد حفرت على جباههم لكثرة ما يرددها..
-"التمرد يعني الموت، الزعيم مستعد لاستبدالكم كما يستبدل أحذيته، تذكروا هذا جيدا."
.
.
******************************
-ريف إقليم هيفي ستون | فيلدسباث-
مضت بضع ساعات على انتهاء دوريات الإنقاذ من القيام بعملهم.
بعد انقضاء أكثر جزء مثير من تلك الليلة؛ أخيرا انسحبت الحشود شيئا فشيئا حتى أوشك موقع الحادث يخلو تماما، إلى أن انعدمت الحياة على تلك البقعة..
في ذلك الوقت المتأخر.. بل من الأصلح القول: الوقت المبكر من الصباح التالي.. أبى أحد المتسكعين إلا أن يقتحم السكينة التي خيمت على أرجاء أكداس الحطام.. بمفرده..
وطئ بحذر على صفائح الاسمنت المتأرجحة عند الفجوة التي أحدثتها الجرافات منذ بضع ساعات، ثم نزل إلى الداخل رويدا حتى استقر واقفا على الأرضية الثابتة، حيث سطرت أشعة القمر المنعكسة ظله الطويل المميز بتهاديات أطراف معطفه يمينا ويسارا مع كل خطوة يخطوها..
جال صاحب النظارة الداكنة ببصره في الأرجاء متفقدا أركان المكان المتهالكة باهتمام.. حتى لمح ضالته تلمع عاكسة ما تسلل إليها من خيوط النور الرفيعة.. كان حطام الهادرة ما يزال على حاله مثلما عُثِر عليه منذ البداية..
واصل صاحبنا المتسكع تقدمه نحوها حتى ارتطم بقدمه شيء ما ثم ارتد ليقع على الأرض مصدرا صوت قلقلة متواصلة، لم تتوقف عن إحداث الجلبة حتى داس عليها وثبتها تحت قدمه، ثم سحب من جيبه كشافا صغير الحجم وأضاء به فوق تلك الصفيحة المعدنية، كاشفا عن الشعار المحفور عليها: 'هيغل'..
لم يستغرق طويلا في التحديق إليها وإنما عاجلا ما أزاح الإضاءة ناحية كومة الصفيح المسحوقة تحت أطنان من الركام، ثم أخذ يتفقدها من كل الزوايا باحثا عن منفذ صغير بين تلك النتوءات و الانبعاجات ولكنه لم يحظ بما أراده بتلك السهولة..
أرسل زفرة متأففة تبرما منه على ضرورة قيامه بمجهود كان هو في غنى عنه. خلع سترته عن كتفيه وعلقها على أحد القضبان المعدنية الناتئة من جوف أحد الأعمدة الهاوية أرضا.. بعدها شمر أكمام قميصه الرمادي و فرقع مفاصل أصابع يديه دفعة واحدة، ثم إنه لم يدخر وقتا بل اندفع راكضا حتى وطئت قدمه أقرب موضع ممكن للكومة ثم قفز عاليا حتى وصل إلى ارتفاع لا بأس به، وواصل التسلق على السطح المنحدر إلى أن أصبح في أعلى نقطة ممكنة..
تقدم إلى الأمام بحذر ثم توقف وجلس القرفصاء للحظات ريثما تفقد باستخدام مصباح الجيب خاصته ما كان ظاهرا خلف الشقوق التي كانت أسفله، بعدها استقام واقفا، تراجع قليلا إلى الخلف، رفع قدمه؛ ثم رفس بأقصى قوته إحدى أكبر قطع الاسمنت المكدسة تلك، رفسة كانت كفيلة بزحزحتها عن مكانها، بينما تولى وزنها الثقيل البقية فانزلقت على الأرض محدثة انهيارا جرف معه كل الحجارة الأصغر حجما..
أثناء ذلك، اكتفى الرجل بحجب الذرات المتطايرة عن وجهه بمرفقه، ولم يغادر مكانه حتى هدأت الضجة وخمدت سحب الغبار.. وثب لأسفل ثم انهمك بإزاحة ما بقي يحجب عنه غايته من أشلاء الجدران الأقل حجما بيديه العاريتين، وبعد مجهود دام ما يقرب العشر دقائق، نفد أخيرا من رمي آخر صخرة لتنضم إلى مثيلاتها التي كدسها جميعا بشكل عشوائي في ركن من أركان المكان..
نفض يديه من الغبار، ثم لف عنقه قليلا وحدق خلفه، حيث استقرت علبة صفيح مكعبة بحجم تلفاز صغير، ذات حواف متفحمة وجدران منبعجة، اثنان متقابلان منها كانا يحويان فجوتين متوازيتين ضئيلتي القطر، وقد بدأت بوادر ابتسامة طفيفة بالظهور أخيرا على ملامحه التي نسي أن يمسح قطرات العرق عنها، لما عثر على ضالته أخيرا؛ المولد..
اقترب منها بخطوات ثقيلة متعبة، ثم انحنى وأمسكها بيديه، قلبها على وجهها الأمامي وتفحصها متمعنا في الشقوق التي كانت تفصل أحرف شكلها حتى وقع بصره على صدع عميق، أقحم أطراف أصابع يديه الاثنتين ثم سحب بقوة في اتجاهين متعاكسين حتى انفصلت إحدى أوجه المكعب من مكانها وطارت في الهواء ثم وقعت بعيدا..
أعاد وضع الصندوق الثقيل على الأرض جاعلا الجهة المفتوحة من الأعلى، ثم اقترب أكثر وحاول رؤية ما بداخله مضيقا عينيه دون جدوى، فرغم أن بعضا من إضاءة البدر كانت كافية لتمييز أشكال الأجسام المحيطة به، إلا أنه كان يرى كل شيء حالكا أكثر مما يجب..
لذلك، شغل الكشاف الذي بدأت إضاءته تضعف وتتذبذب بسبب وشوك نفاد بطاريته، ثم خلع النظارة و علقها من ذراعها على ياقة قميصه غير المرتبة، كاشفا عن قزحيتين ذهبيتين كانتا تختبئان خلف تلك العدسات الدائرية شبه الداكنة طوال الوقت..
سلط الإضاءة على محتويات الصندوق وشرع يتفحصها عاقدا حاجبيه البنيين في ترصد.. كان جل ما تبينه شبكة متداخلة من الأسلاك مهولة العدد، معظمها ممزق بطريقة عشوائية شنيعة ومتفحم لدرجة التفتت.. أدخل يده إلى الداخل، ثم أخرجها مجددا ساحبا معها كل محتويات المولد من أسلاك و ألواح إلكترونية ورماها جانبا، ولم يترك في الداخل غير اللوحة الأم والتي كانت مثبتة على الهيكل المعدني..
أخرج بعدها ورقة مطوية رمادية اللون كانت في جيب بنطاله، ثم شرع يفك طياتها شيئا فشيئا حتى أضحت بحجم خريطة سياحية، بسطها على الأرض ونهض من مكانه متوجها نحو سترته المعلقة بعيدا عنه بضعة أمتار، ثم سحب من جيبها لوحة صغيرة ذات لون أخضر داكن تحوي خطوطا وتفاصيل باهتة وبعض النتوءات المعدنية؛ تراجع بعد ذلك حيث ترك صندوق المولد المعدني وجعل اللوحة الأم نصب عينيه، وبعد تمحيص دقيق على أحد المخططات المتداخلة التي رُسمت في تلك الورقة، استطاع أن يثبت الرقاقة الخضراء على أحد وصلات اللوحة الأم بنجاح...
-"هكذا انتهى بنا المطاف هنا إذا.. أسلوب رخيص.."
أدبر محدثا نفسه، بينما يحدق نحو تلك الرقاقة من الأعلى بازدراء، مشبكا ذراعيه أمام صدره لبرهة من الزمن..
بعدها لسبب يخصه، انتفض من مكانه وسحب الرقاقة بعنف ثم سحقها في قبضته مرة واحدة.. قهقهة جافة أخذت تعلوا شيئا فشيئا تزامنا مع ابتسامة نصر واسعة طفقت تتراءى على محياه، مفلتا من كفه آثار تلك القطعة المحطمة على الأرض.. بعدها ركل الصندوق حتى ارتد مفككا من الجدار المقابل، ثم التقط المخطط من الأرض ومزقه إلى قصاصات جمعها في قبضتيه ثم نثرها في الجو، مطلقا العنان لضحكة صاخبة ارتد صداها مرارا..
"حظا طيبا أيها السفلة، ستحتاجونه حتى تمسكوا بهذا الرجل.. لا أحد يستطيع الإمساك بِـسكوت تنغستن!"
صاح في حماس كالمخبول، حتى أفرج عن كل الطاقة التي اندفعت من أعماقه دفعة واحدة، ولكن سريعا ما استعاد وجهه التعابير المرهقة التي لطالما أخفتها نظارته وفقيدته القبعة الباهتة.. ثم التقط معطفه وهم بالمغادرة على عجل..
في الخارج، حيث تزينت السماء الحالكة بحلة احتفالية مستقبلة ذلك الهدوء الذي وقف يحدق به إليها، متوسطا حقل العشب المتراقص على وقع النسائم المضطربة، تاركا خلفه آثار عبثه متيقنا بأنه ليس سهل الإمساك، كانت حدقتاه الذهبيتان تنضحان ثقة أكثر من أي وقت مضى..
-"..عظيم! ها هي ذي، لعبة المطاردة الحقيقة تبدأ، فلنرى من سيمسك الآخر أولا.. "
*
*
*****
~نهاية الآرك الأول من المقطع الأول~
6929 كلمة🥴
تنويه: يحتوي المقطع الأول على آركين
Коментарі