المقدمة
"خيـ...ـاء ليـ..ـوفيـ..."
من هو هذا
الفخ
عراك!
حفلتها الأخيرة.
أن نكون أبطالا.
شبح القديسة.
من عَلٍ
عواصف
الوجه الآخر
هالة البدر المكتمل
نشيد المحاربين
تحية
حفلتها الأخيرة.
الفصل 04: حفلتها الأخيرة.

"إن جينوا حمقاء، أكره اندفاعها منقطع النظير تجاه المشاكل، ولكن ماذا عساي أفعل، أنا لا أستطيع التخلي عنها.. إنها صديقتي المقربة، فايوليت صديقتي أيضا، وكايا، وأوليفر وإيفان .. لست أفهم لماذا تتجنبهم جينوا منذ أكثر من سنة، كنت أظن الأمر هينا ولكن بعدما رأيته اليوم، تأكدت تماما من أن ذلك أكبر مما يبدو عليه، هناك شيء غامض ... جينوا تكذب كثيرا كلما جئت على ذكر أحدهم .. وهذا الصِدام الذي حدث بينها هي وفاي للتو وردودهما المبهمة، كانت أشبه بالطلاسم، بماذا تتهامسان؟ ولماذا؟"

******

"توقفي" .. صرخت إيفا بذلك في وجه جينوا وسحبت معصمها من قبضتها..

"ألن يحاول أحد منكم شرح ما جرى هنا للتو، فاي؟" نظرت نحو فايوليت وكأنها توجه السؤال لها خاصة..

ارتبكت فايوليت ولكنها لم تجب ..

-"كايا؟ إيفان؟ أوليفر؟.. بالله عليكم ماالذي يجري؟" واصلت إيفا بإحباط ..

-"اسألي جينـ-.." حاولت فاي توريط جينوا مكانها، لكن إيفا قاطعتها بغضب :

-"ليس هي! لوأن ذلك أجدى نفعا لما سألتكم أنتم .. " ..

خرست حناجرهم جميعا .. امتزج إحباط إيفا مع شعورها بالغضب من امتناعهم عن قول شيء ..نظرت نحو الأرض بشرود ووجهها الشاحب مكتس بملامح محطمة .. لم تتقبل الأمر في البداية، ولكنها أوشكت على الاستسلام للأمر الواقع .. لم يعد بوسعها البقاء مع أصدقاء لا يثقون بها لدرجة تركها الوحيدة التي لا تعلم بسرهم اللعين .. وجينوا ضمنهم ..

-"عيد ميلاد سعيدا كايا، وشكرا لكم لأنكم أنقذتم جينوا من التعرض للضرب المبرح .. أعتقد أن هذه آخر-.."

-"سأخبرك!"

أسرعت جينوا وقاطعت ما بدى مثل خطاب الوداع من إيفا، أمسكت معصمها مجددا، سحبتها بعيدا عن البقية وأكملت "أعدك أنني سأخبرك بكل شيء، بالتفصيل.."

-"حقا؟"

أردفت إيفا بنبرة صحوة بعض الشيء بعدما عاد الدم لوجهها ..

-"نعم أنا جادة، ولكن علينا المغادرة الآن.."

التمعت عينا إيفا الفضوليتان وهزت رأسها إيجابا..

-"ستفعلين؟"

سأل أوليفر مستغربا .. خطر بباله لوهلة أنها ستكذب، ولكنها بدت جادة حقا..

-"نعم، هل لديك مانع؟"

أجابت جينوا بجدية أكبر، ناظرة نحوه بطرف عينها ..

-"لا"

-"جيد"

مضت جينوا مسرعة نحو مخرج القاعة، والذي كان يفصلها عنه جماهير غفيرة.. تسحب إيفا التي حاولت أقصى جهدها لتجاريها وعلامات الاستفهام تحوم حول رأسها، تظهر واحدة جديدة كلما أطالت النظر في قفاها ..

ارتفع ضجيج المدعوين عندما اخترقت جينوا معية إيفا حشودهم وبدأوا بإصدار هتافات ساخرة تجاهها، أو هذا على الأقل ما ظنته هي، والتي كانت في الواقع أقرب إلى التهليل منه إلى صياح عشوائي هازئ .. أنزلت رأسها و فعلت ما تجيد فعله أكثر من أي شيء آخر: الغرق في التفكير وسط الفوضى ..

"ماذا ينوي يا ترى؟ أهي قنبلة؟ قنبلة أو ربما هجوم مسلح؟.. ربما شيء أكبر؟ .. لا أستطيع التفكير في شيء أسوء، أجزم الآن أنها قنبلة!" و هي على تلك الحال تصطدم بالجميع وتمر متجاهلة ذلك كله مستسلمة للتوتر الذي اجتاحها.. تظغط بقوة أشد على معصم إيفا دون أن تنتبه إلى أنها تؤلمها..

راقبتهما كايا وهما تبتعدان عنها... شعرت بالضيق لرؤية كل هؤلاء الأشخاص يعرقلونهما، لذا التفتت نحو "الدي جاي" ولوحت بذراعها صارخة عليه "دي جاي !!" .. والذي نفذ أمرها في طرفة عين وأضحت القاعة تهتز على صخب الموسيقى مجددا، نجح ذلك تدريجيا في إعادة الحفل إلى أجوائه وإلهاء المدعوين عن مضايقة جينوا ..

"هل أنت بخير؟"، وجهت كايا سؤالها لفايوليت بعدما رأته من شرود على وجهها وحبات العرق الضئيلة المتماسكة على جبينها..

أيقظ ذلك فايوليت من سهوها، التفتت نحو رفاقها الثلاثة لتجدهم ينظرون نحوها بصمت، اتخذت عذرا مقتضبا ثم أشارت لهم بالصعود إلى الشرفة.

****************************************

-" توقفي أرجوك... للحظة فقط .."

-"لا"

-"لماذا أنت مستعجلة.. "

-"لا تتحدثي، سيري فقط.."

-"لماذا تهربين منهم، لا أرى أحدا يركض خلفنا"

-"لست أهرب من أحد، تحركي واصمتي"

-"ما مشكلتك؟!"

توقفت إيفا عن السير و سحبت جينوا من كم قميصها مقطبة جبينها في استياء.

جعل ذلك جينوا تتأرجح وتوشك على الوقوع...عندما استعادت توازنها التفتت نحو إيفا وقد أوشكت أوعية عنقها على الانفجار غضبا من إصرارها –إيفا- على البقاء وقتا أطول ..

-"كفي عن طرح الأسئلة المزعجة، سبق وقلت أنني سأخبرك بكل شيء عندما نغادر من هنا.."

-"لماذا تريدين أن نغادر بهذه السرعة، هدئي أعصابك وتناولي بعض المثلجات .. ماذا عن الكعكة؟ اعتقدت أنها السبب الوحيد لقدومك هنا"

تحدثت إيفا باستعطاف محاولة سحب الغضب من جينوا، لكن ذلك أتى عليها بنتيجة مناقضة..

نفضت جينوا جسدها رافسة بقدمها الأرض ثم أمسكت رأسها الذي أوشك على الانفجار، صاحت على إيفا نافثة أنفاسا ساخنة مع كل كلمة تخرج من حلقها "اللعنة على الكعكة واللعنة على هذا الحفل اللعين وكل هؤلاء اللعناء و اللعنة علي لأني استمعت إليك أيتها اللعـ-"..

.. ابتلعت جينوا تلك الكلمة الأخيرة عندما لمحت دمعة تتدحرج على خد إيفا..

ضيقت إيفا عينيها ورفعت ذقنها محاولة تجفيف مقلتيها قبل انطلاق سيل غزير منهما، تراجعت جينوا خطوة للخلف وعضت على شفتها السفلى ثم أخفضت نظراتها وكتفيها باحباط ..

"أنا آسفة" قالت إيفا أثناء تجفيفها تلك الدمعة بباطن كفها، ثم أكملت بذات الصوت المرتجف "أنا لم أراع شعورك بعدما حدث معك منذ قليل .. كل ما أردته هو أن تتصالحوا جميعا ولكن-"

"أنت لست لعينة أنا اللعينة الوحيدة هنا.." قاطعتها جينوا، اعتراها شعور عارم بالخزي لانفجارها بتلك الطريقة في وجهها، لذا نفضت ذلك الاحباط عنها وبدأت بالتفوه بمبررات عشوائية لإيفا بالمقابل في محاولة لتدارك غلطتها.

أضافت باحراج تحك عنقها وتلفظ كلماتها بسرعة "أنا مجرد قطعة قمامة لم يستغرق مني الأمر أكثر من ثلاث دقائق على وجودي هنا قبل أن تنقلب الدنيا على وجهها وعثت في الحفل فسادا، و هذا كله لأن كيس الملاكمة ذاك وصفني بالظريف وحاول أن يسرق أموالي غير الموجودة أساسا، لو كان جادا لأصبحت قيمة ثروتي بالسالب..." ثم أخذت تتحدث بجدية حول إفلاسها وكيف أن والدتها تتعامل معها مثل البنك مع فوائد بالمقلوب، لم يسع إيفا أن تجد تفسيرا لذلك الاستهبال المفاجئ، لتنفجر ضاحكة حتى عادت الدموع لتسيل مجددا .. ليس بسبب حديث جينوا التافه بقدر ما هو بسبب تعابيرها المنكسرة على نهب أموالها، وكيف خرجت عن الموضوع فجأة..

-"هل تستمعين إلي حتى؟"

أمسكت إيفا ببطنها وانحنت مطلقة ماتبقى من القهقهة العالقة في جوفها..

بمجرد أن كفت جينوا عن الثرثرة، عاد إليها ذلك التوتر مجددا، ولكنها اطمأنت نوعا ما لإنهائها سوء الفهم ذاك بسرعة.. وقفت إيفا باستقامة وأخرجت زفيرا عميقا، قابلها وجه جينوا الذي لم تفهم تعابيره .. كانت تبتسم لها ولكن حاجبيها معقودان في قلق..

أمسكت جينوا يدها برفق وطلبت منها أن تغادرا بهدوء.. لم تمانع إيفا وتبعت سيرها المستقيم نحو المخرج..

بعد هنيهة قصيرة أصدرت حمحمة من حلقها وسألتها بفضول "لماذا علينا أن نغادر بهذه السرعة، هناك شيء يضايقك وأنا لا أعرفه؟"

تنهدت جينوا في ارتياح ثم التفتت نحوها وأجابت مباشرة بوجه صحو بعد أن لم يعد يفصلهما عن المخرج سوى أمتار قليلة "وعدت بأن أبوح لك بكل شيء على أي حال.."

توقفت مكانها واقتربت من إيفا بالقدر الكافي حتى لا يسمع أحد ما كانت توشك على قوله..

-"عندما تحدثت إلى فاي.. أخبرتني بأن هناك هدفا خفيا وراء إقامة هذا الهراء في هذا المكان .."

-"هدف خفي؟... أهو ما يجعلك متوترة هكذا؟ .."

- "أجل... نوعا ما، لست متأكدة ولكن.. أيا يكن لا يجدر بنا البقاء هنا فالقاعة سوف-"

تلك العبارة، الكلمة، أو الجملة، أيا كان الذي أوشكت جينوا على قوله .. اهتزت لأجله أركان المكان، عبر ذلك المدلول عن نفسه حرفيا ولم ينتظر جينوا لتتفوه به على لسانها..

في خضم تلك الفوضى والأصوات الصاخبة الملتهية، انطلق صوت ارتطام مدو جدا من خارج القاعة، أما مصدره فهو على الأرجح بعيد عنها ببضع مئات من الأمتار وسط الغابة المجاورة ..

ارتجت إثر ذلك أساسات وجدران المبنى وارتج معها كل من كان هناك.. كانت هزة واحدة سريعة ولكنها بثت الرعب في قلوب الجميع، لن أقول بثت الرعب في قلب جينوا، كان شيئا يتجاوز الرعب ببضعة أضعاف.

توقفت الموسيقى وانطلق عوضا عنها صياح بعض الفتيات.. ثم هدأ الحال فجأة .. كانت إيفا ناصبة عينيها على سقف المكان متمسكة بمرفق جينوا، ما إن التفتت نحوها حتى اتسعت عيناها تفاجؤا من ملامحها المكفهرة.. حاجباها مرتفعان في ذهول وفكها متدلٍ.. ومقلتا عينيها جاحظتان تظهر عروقها الرفيعة المتشابكة بوضوح عند أطرافها..

ضمت جينوا فكيها وعبست في قنوط رافعة رأسها إلى السقف، ثم قالت بصوت شبه مسموع ما جعل تلك التعابير ذاتها تغزو ملامح إيفا .."فات الأوان... تأخرنا"

صمتت إيفا قليلا مانحة لنفسها بضع ثوان لتربط الأمور ببعضها وتفهم ما تقصده جينوا ..

ولكن.. ذلك الشيء في الخارج لم يراع موقفها .. لم تمر أكثر من دقيقتين على الهزة الأولى حتى اهتزت الأرض مجددا أسوء من السابق على وقع دوي أعلى، انقطعت جراء ذلك الكهرباء لأقل من ثانية ثم عادت.. بدأت إضاءة المصابيح في التذبذب و شرع الجميع في الصراخ و التحرك هلعا بعشوائية في أرجاء المكان بعد أن ثبت أن الهزة الأولى لم تكن هزة عابرة ..

تيبست ساقا إيفا مكانهما.. رغم أنها حاولت تمالك أعصابها إلا أن الفوضى التي انفجرت بعد الهزة الثانية أوقعت قلبها أرضا، أخذت تلف رأسها في كل الاتجاهات نية تخمين مصدر الصوت، بالتأكيد لتفر في الاتجاه الآخر ..

"كل هؤلاء .. كل هؤلاء.. لماذا قامت بدعوة كل هؤلاء، هل دماغها في مؤخرتها أم ماذا؟"

أخذت جينوا تقلب عينيها بين وجوه كل أولئك الأشخاص المنتشرين حولها في أرجاء المكان مثل قطيع بلا قائد.. آلمتها ناصيتها من تلك الأجواء المشحونة بالتوتر، انبطحت جالسة القرفصاء، وضعت رأسها بين ركبيتيها وغطت أذنيها بيديها، ثم ظغطت على عينيها بقوة حتى تستطيع استجماع شتات أفكارها ..

"إن لم يخب ظني، وبما أنه لم يخب مرة واحدة حتى الآن... الاختبار هو تدريب على الإخلاء، أنا واثقة .. نعم إنه تدريب على الإخلاء وكل هذه الفوضى مدبر لها بطريقة ما، شيرمان يعرف ما يفعل، نعم هو يعرف ما... اللعنة عليه"

أخرجت نفسا عميقا ومسحت العرق عن جبينها، ثم نطت من مكانها بسرعة ودون مقدمات شرعت في جر إيفا إلى المخرج صارخة عليها بثقة مصطنعة "تمالكي نفسك يا فتاة الأمر مجرد تدريب على الإخلاء.."

-"كيف تعرفين هذا؟" ردت إيفا متفاجئة ..

-"أخبرتك أنني أعرف ما يحدث بالظبط.. إن كل ما يحدث الآن مختلق، علينا أن نغادر وحسب.."

-"لقد اهتزت الأرض من تحتنا للتو.."

-"لا تفكري في الأمر كثيرا، الأهم أن لا نكون أنا وأنت جزءا من هذا.."

-"ولكن ماذا عن كل هؤلاء، هل سنهرب ونتركهم هكذا فقط؟.."

اهتزت الأرض مرة ثالثة، وانقطع معها التيار الكهربائي تماما... توقفت جينوا عن الحركة، اهتز قلبها وتجمد جسدها عندما مرت عبارة فايوليت في ذهنها مباشرة عقب سؤال إيفا .. "لن أجبرك على البقاء، ولكن تذكري أنك مسؤولة أيضا عن ما سيحدث.."..

"هل هذا مختلق أيضا؟!" صاحت إيفا بهلع مشيرة في قولها إلى الهزة الثالثة..

لم تجب جينوا، بل لم تنتبه لصوت إيفا حتى.. خُيل لها طيف بين عينيها ترى نفسها فيه واقفة فوق كتلة ركام تحيطها أجساد خالية من الحياة، تحمل بيدها شيئا متوهجا كان بوسعه إنقاذهم جميعا..

فركت عينيها وحاولت تبين وجه إيفا، ولكن العتمة لم تسمح لها برؤية موطئ قدمها حتى.. لذا، بدلا من ذلك أغمضت عينيها وأصغت السمع، كانت تلك الهمسات المرتعبة وأصوات وقع الأقدام العشوائية حولها تنهش أذنيها..

"لا داعي لهذا الهراء، لم يمت أحد بعد"، تمتمت جينوا، ثم ضربت على كتفي إيفا وهزتهما بيديها وقالت لها بصوت حازم ومسموع "إيفا، لدي واجب صغير لا أستطيع تجاهله الآن، أريدك أن تحافظي على هدوئك، غادري بسرعة ولا تنتظريني"، ثم رفعت كفيها عن كتفي إيفا وتسللت مبتعدة عنها..

اتسعت عينا إيفا تعجبا من الشيء الذي تفوهت به جينوا للتو.. استغرق منها الأمر لحظات قبل أن تفقد الشعور بها قربها...

انتفضت صارخة باسمها لعلها تجيبها، لكن كلما حصلت عليه هو هتاف منها آت من بعيد "إياك أن تقتربي من السلالم"

بعد بضع ثوان، تلت الهزة الأخيرة رابعة ثم خامسة.. واستمر تواترها في التسارع ..

زاد الوضع سوءا وتحولت الحركة العشوائية للحاضرين إلى ركض وارتطامات وتخبط في الأرجاء، وإيفا في خضم ذلك تتمايل ذهابا وإيابا جراء اصطدامها بأولئك المرتعبين الذين شرعوا يدورون في دوائر ..

كانت جينوا قد ابتعدت بعض الشيء حينها.. اتجهت نحو المكان الذي تركت فيه فايوليت والباقين، تتحسس طريقها بيديها وسمعها متمسكة بالجدران حتى لا تقع أرضا بسبب الهزات المتتالية، تحاول قدر المستطاع تجنب الاصطدام بالآخرين.

عندما بدأ بعضهم بتشغيل مصابيح هواتفهم أصبحت الرؤية أسهل..

استطاعت الوصول بسرعة، ومثلما توقعت .. لم تجد غير الكرسي مرميا على الأرض، غالبا تعثر به أحد ما في الظلام.. نظرت حولها يمينا ويسارا حتى وقعت عينها على شخص قريب، سحبته من كم قميصه وسألته في عجل "المعذرة، هل رأيت إلى أين ذهبت كايا فالكفورت ومن معها؟"

أجابها الآخر بأنه رآهم يصعدون السلالم عند الزاوية، لم تدخر جينو اوقتا ولحقت بهم متجاوزة الشريط الذي ثُبِّت عند حافة الدرج لمنع الأشخاص من الصعود للشرفة الداخلية..

*************************************

-"جميع المفاصل ضعيفة، إنها أكثر نقطة ضعف مكشوفة، وكذلك المولد تحت الحجرة العلوية..."

قال صوت رجل انطلق من سماعة الهاتف، ثم أكمل بعد أن التقط أنفاسه، وقد بدى وكأنه كان يركض، أو يهمس لشخص ما في الخلفية "ركزوا على الإخلاء، تجنبوا التورط في مواجهة ذلك الشيء مهما كان الوضع، لا أريد منكم بطولات فردية ولا جماعية .. سوف أصل قريبا"

-"هل.. هل أنت واثق بأنها لن تصل إلى الأحياء السكنية.. إذا تركناها تتقدم بهذه السرعة فسوف-" .. كانت تلك فايوليت تحاول دفع الشخص خلف سماعة الهاتف إلى إعطائها تفاصيل أكثر، قبل أن يقاطعها مستعجلا..

-"يكفي يكفي، سينفد مني الرصيد... من الأحمق الذي اقترح مكالمة هاتفية بهذه الخردة" ..

نطق صوت غليظ من جهة المتصل "أنا فعلت سيدي.."..

رد الآخر عليه مجددا بعد أن صمت للحظات: "آسف"..

-"يا معلم، المكالمة لا تزال تعمل.."

-"ماذا.. تبا لكم أما تزالون واقفين في أماكنكم؟! انتشروا أيها الحمقى!" أجاب ذلك الشخص بصوت غاضب بعد أن أدرك أنه نسي إنهاء المكالمة، ثم انقطع الاتصال..

*****

كان جالسا على مقعد السيارة منحني الظهر يصب اهتمامه على الهاتف النقال ذي الحجم الصغير الذي كان بين يديه، أطلق زفيرا ثقيلا وشقلب ذلك الهاتف في الهواء وأمسكه مجددا، ثم اعتدل في جلسته مسندا ظهره على المقعد وأعاد الهاتف إلى جيبه..

-"لقد كان مكبر الصوت يعمل ... أتظنهم سمعوا ذلك.." قال بضجر ..

-"..نعم"، أجاب الآخر..

-"... يا إلهي .. "

صمت الاثنان للحظات، إلى أن نطق الأول مجددا "أخبرني يا سيد كارل ... أيهما أسرع، شاحنتك أم القطار.."

شغل الرجل الذي كان يجلس في مقعد السائق محرك الشاحنة، ثم التفت نحوه وأجاب مبتسما بثقة .."أغلق الباب واربط حزام الأمان"

*****

-"هل أغلق الخط؟... لقد أغلق الخط.."

-".. هل سنقف هكذا ونحدق في وجوه بعضنا البعض فقط.."

-"لا أستطيع رؤية وجهك بالمناسبة.."

-"ولا أنا.. تبردلت"

أجاب أوليفر ثم أطلق صوت نفخ غريبا بفمه محاولا كتم ضحكه، لينفجر إيفان ضاحكا بعده ويرسل ضربة عشوائية بكفه نحو الفراغ ..

-"لما فعلت هذا؟ من فعل هذا ؟!" صرخت كايا متألمة بعد أن وقعت على الأرض بسبب دفعة إيفان..

-"أنا .. ظننتك أوليفر"

أجاب إيفان متأسفا ثم حنى ركبتيه وجذعه ومد ذراعيه في الهواء باحثا عن كايا ليساعدها على النهوض، فإذا به يرتطم بعمود ويقع أرضا هو الآخر..

تمسك أوليفر بأحد أعمدة الأساس حتى لا يسقط أيضا بسبب الهزات وأخذ يشخر ضحكا .. ودون أن ينتبه أحد كانت جينوا خلف الستائر بالقرب من مكان تجمعهم تضحك بصمت ..

-"إنه لا يحاول حتى إيهامنا بأننا سنسيطر على الوضع ونتجنب وقوع كارثة ... استمروا في الضحك حتى يقع السقف على رؤوسنا جميعا يا وجوه البؤس" قاطعت فايوليت ذلك الجو الساخر بصوت مختنق من شدة غضبها، حتى أنها أوشكت على طي هاتف كايا الحديث لشدة إحكامها لقبضتها عليه..

-"سوف تكسرينه!"

أردفت كايا متذمرة، ثم أخذت الهاتف من يد فايوليت وشغلت الإضاءة..

فايوليت: "يا للإزعاج، أخرجا هاتفيكما أنتما أيضا ما الذي تنتظرانه؟"

إيفان: "البطارية منخفضة.."

أوليفر: "نسيته في البيت.."

أجابها الاثنان ببرود وقد ضجرا من عصبيتها، والتي اعتقدا بكل غباء أنها لا داعي لها ...

-"فلتذهبا إلى الجحيم .. ما يهمنا الآن هو كيفية التخلص من السبعة آلاف رأسٍ الموجودين في الأسفل دون أن يموت أحد.." قالت فايوليت، وهي لا تنفك تبتسم بتشنج نحو كايا، التي أشاحت بوجهها وبررت لها متمتمة بصوت منخفض "آسفة.. فقدت السيطرة على قائمة المدعوين.."

واصلت فايوليت بحزم أكبر بعد أن أوشكت على اليأس من محاولة شرح خطورة الوضع لأولئك الحمقى الثلاثة: "إليكم الخطة: كايا، عليك إنهاء الحفل بطريقة ما، سريعا!.. وأنت أوليفر ساعد في تنظيم الإخلاء، يجب أن يخرج الجميع من هنا بأقصى سرعة.. إيفان، قم بتشغيل المولد الاحتياطي ثم انضم إلى أوليفر وقوما بعد الأشخاص الذين يغادرون.. "

لم توشك على اختتام كلامها، حتى أخذت بعض جزيئات الغبار تتهاطل على رؤوسهم من السقف الذي اهتز بما فيه الكفاية إلى أن بدأت الشقوق بالتشكل عليه وعلى سطوح الجدران ..

انفصل الأربعة عن بعضهم واتجه كل منهم إلى مهامه ...

أوانَ ذلك، كانت جينوا التي تسللت خفية وسمعت ما يكفي لتفهم مايجري، بدءا من الاتصال الهاتفي الذي لم تلحق سوى بنهايته.. ما تزال مختبئة بالقرب منهم تحاول كتم أنفاسها، منتظرة ابتعادهم وعودة الكهرباء لتستطيع التحرك بسهولة ..

***************************

بعد فترة وجيزة عادت الكهرباء، بدأ الناس بالمغادرة بعد أن ظهرت كايا وأعلنت عن انتهاء الحفل وبدء حالة الإخلاء، وبمساعدة من فايوليت استطاعت إقناع بعض المدعوين الذين كانوا على قدر كاف من التماسك والمسؤولية بتطويق الباقين وتنظيمهم في مجموعات صغيرة... ثم تم توجيههم بالترتيب إلى مخرج الطوارئ، والذي كان في الاتجاه المخالف تماما للمخرج الرئيسي، حيث كانت إيفا تقف مكانها، رافضة التقدم لسببين في نفسها، أولا أنها كانت تشعر بالمسؤولية تجاه الأشخاص الذين نال منهم الرعب كونها استطاعت السيطرة على أعصابها بخلاف معظمهم، لذا رأت أنه من الأفضل ترك الأولوية لهم بالمغادرة ولتجنب حدوث التدافع..

والسبب الثاني كان جينوا، حتى عندما بدأ عدد الأشخاص في الانحسار، لم تتقدم إيفا وبقيت واقفة مكانها قرب المخرج الرئيسي تنتظر عودة جينوا... من سابع المستحيلات أن تغادر من دونها، أو أن تأخذ قولها لها بأن تغادر وحدها على محمل الجد ..

في الوقت ذاته، تركت جينوا مخبأها خلف الجدار الذي علقت في أعلاه ستائر حمراء رثة محملة بالغبار.. واتجهت مباشرة نحو النوافذ المطلة على الواجهة الخارجية للمبنى، والتي كانت تقع مقابل غابة البلدة، لا يتجاوز البعد بينهما أكثر من أربعمئة متر على الأكثر ..

ألقت برأسها من عدة نوافذ، كلما تفتح نافذة يندفع نسيم بارد من خارجها يرج دفتيها ويجعل الستائر القديمة تنفض غبارها فوق شعر جينوا وداخل عينيها وبين جيوبها الأنفية، جعلها ذلك تعطس حتى أوشك أنفها على الانفصال من مكانه..

الجدار كان مائلا على نحو لم يسمح لها بتبين الشيء الذي يدفع الطيور والخفافيش، إلى ترك مخابئها وأعشاشها وسط الغابة والتحليق في أسراب عشوائية متتابعة ...

*******

في الأسفل، بينما يتم إخلاء الأشخاص بانتظام، لاحظت فايوليت تشتت إيفان والتفاته إلى الخلف –حيث سلالم الشرفة- باستمرار، نادت عليه و فرقعت أصابعها مشيرة له بالانتباه إلى ما كلفته بفعله.

عندما لاحظها لوح نحوها بيده، ثم أشار إلى أذنه، وبعدها أشار نحو الأعلى بابهامه وهز رأسه مستغربا.. في البدء لم تفهم فايوليت إشاراته وحاولت دفعه لتوضيح ما يقصده، ولكن الضجيج المرتفع لم يسمح لها بسماع ما كان يحاول قوله، لذا تركت موقعها واندفعت نحوه بسرعة ..

-"ما الذي يجري؟" تساءلت فايوليت في عجل نافدة الصبر ..

*******

شيئا فشيئا.. بدأ طرف الغابة الذي ينطلق منه الهدير يظهر، إلى أن تمكنت جينوا من الحصول على زاوية نظر مناسبة من آخر نافذة قرب إحدى زوايا الجدار.. وهناك رأت المشهد كاملا، ظل هائل الحجم يتحرك ببطئ بين الأشجار، كلما اقترب خطوة اقتلع إحداها وألقى بها أرضا...

تدلى فك جينوا وارتعشت فرائصها عندما انهارت آخر شجرة تسد طريق ذلك الشيء الضخم، ليظهر لها معتما، لا تستوضح منه سوى بعض الانعكاسات الفضية على هيكله، يهيج الغبار حوله ويتقدم نحو المبنى بسرعة مرعبة.. عندها عاد إلى ذاكرتها ذلك الاتصال الهاتفي، الجزء الأخير الذي سمعته تحديدا .."مفاصل... مولد... هل هو جاد؟!.."

*******

-"في الأعلى.. أسمع أصواتا .." أجاب إيفان..

-"هل أنت واثق من أنك لا تتوهم؟ لم يكن هناك أحد غيرنا.."

-"أقسم لك، أنا متأكد مما أقوله.."

صمتت فايوليت للحظة تفكر فيم قاله إيفان، ثم إذا بها تجفل فجأة و وترفع نظراتها المتوجسة نحوه .."هل ... رأيت جينوا و إيفا تغادران؟"

حبس إيفان نفسه لما أحس الشرر يتطاير من عينيها .. لم يرغب في الكذب لذا نفى ذلك مجبرا، ثم أردف بسرعة قائلا "ولكنني أثق بأنهما ذهبتا قبل أن تنقطع الكهرباء، لذا لا داعي-.."

-"ما تزال هنا"

قاطعته فايوليت بصوت باهت .. مزقت الشريط وخطت درجة نحو الأعلى ثم توقفت .. تبعها إيفان بعينيه، ثم رفع رأسه إلى أن وقع نظره على جينوا الواقفة في الأعلى، شاحبة الملامح .. تلهث بشدة ..

لم تلتقط أنفاسها حتى، بل أخذت تصيح على الجميع بفزع أثناء نزولها من الدرج ركضا:"اركضوا جميعا غادروا المكان بسرعة! إنه يقترب، سيسحق كل شيء في طريقه!!"

لقد لاحظ الجميع بالفعل أن الأرض أصبحت تهتز أسوء من السابق بأضعاف، ورغم ذلك سارت الأمور في نظام ورتابة شديدة بعد أن نجحت كايا في إقناعهم بضرورة التحلي بالهدوء، ولكن صراخ جينوا الفزع ضرب بذلك كله عرض الحائط وبث في قلوبهم الرعب..

-"اهدأوا!! رجاء انتظموا في صفوفكم!"..

صاحت فايوليت في ذلك الحشد، ولكن لا أحد في تلك اللحظة كان يعبأ بغير نفسه، الجميع يريدون الفرار أولا.. لم يستمع أي أحد إليها، اختلط الحابل بالنابل وتكدست الأجساد فوق بعضها البعض حتى أصبح الأمر أشبه بيوم الحشر..

أوشكت فايوليت على الانهيار من تلك الفوضى التي اندفعت حولها، وإيقانها بحقيقة أن أمرهم قد انتهى بالفعل على ذلك النحو.. ألقت باللوم كله على جينوا، فهي التي أدت إلى تخريب مخططها برمته ..

اقتربت جينوا منها، هي بدورها كانت ترتعش خوفا بعد الذي رأته بعينيها من نافذة الطابق الثاني.. مدت يدها نحو فايوليت نية سؤالها عما إذا رأت إيفا تعبر من المخرج .. ولكنها لم توشك حتى على نطق حرف واحد.. إلا وقد قصفت فايوليت وجهها بصفعة جعلت عظم عنقها يفرقع..

******

اهتزت الأرض، ثم اهتزت مجددا، ومجددا.. ومجددا.. فجأة سيطرت الفوضى على الصفوف الأولى، ثم انتقلت مثل العدوى إلى الصفوف التي تليها وهكذا على التوالي..

كانت إيفا واقفة مكانها بثبات، تتحرك وفق توجيهات السلامة دون أدنى اعتراض، بل كانت تشعر بالارتياح لدى مراقبتها لسير عملية الإخلاء بسرعة وسلاسة.. ولكن مع تقدم صفها بدأ القلق يتسلل إليها، لم يكن هناك أي أثر لجينوا في الأرجاء..

زاد الطين بلة عندما انهار ذلك النظام وتحول المكان في لمح البصر إلى ساحة قتال، الفائز فيها هو من يخطو نحو الخارج أولا..

انسحبت إيفا من ذلك الصف، الذي لم يعد له وجود أساسا... تراجعت بضع خطوات للخلف عكس اتجاه التدافع والتفتت حول نفسها علها تجد أثرا لجينوا..

ما هي إلا ثوان معدودة حتى توقفت الهزات المنقطعة ولكن... المصيبة لم تنته بعد... لقد وصلت ذروتَها وحسب.

ارتجت العظام حتى أوشكت على إفلات أماكنها، اخترقت الشقوق هيكل المبنى وأساساته ... أصبحت مسألة وقت قبل أن يقع السقف على قاطنيه، احتل الفزع مكان كل شكل من أشكال المشاعر في قلوب الجميع... عندما حررت الأرض تلك الهزة، كانت أطول فترة وأشد قوة... ولكن الأرض ليست الملامة، الطارق لم يكن الأرض...

وسط موجة الذهول والهيجان الجامحة، وجدت إيفا نفسها ملقاة على الأرضية بعد أن تلقى قفاها لطمة من كوع أحدهم جعلت جسدها يهوي ... طرقت رأسها أصوات القرع على البلاط، البكاء، الصراخ والشتائم، و هدير الأرض الذي تحول إلى مزيج من أصوات انهيار أعمدة الأساس مع خطوات الزائر المجهول...

حاولت الاستنجاد بأي شخص ليساعدها على الوقوف، ولكن لا أحد نظر خلفه ... بل إنها لمحظوظة إذا تجاوزها دون أن يركلها بقدمه أو يشتمها لأنها تعرقله...

لم يسعفها جسدها النحيل المنهك سوى على القيام بانحناءة متعبة على الأرض، ضمت ساقيها إلى صدرها و سدت أذنيها بأصابعها... ثم أرسلت دموعها لتبلل الأرض في صمت وقلبها ما ينفك يعبث بها، يمنحها الأمل تارة لتفتح عينيها فلا ترى سوى نفس المشهد الضبابي للأقدام تتخاطف مواطئا لها... فتغلقهما ثانية مسلمة نفسها لقدرها، وليفعل بها ما يشاء..

"ماما، بابا... أرجوك يا إلهي أن أجدهما بجانبي عندما ينتهي هذا الكابوس"

******

"أحسنت أيتها البلهاء! ... كل ما يحدث الآن سببه أنت!"

صرخت فايوليت ملئ أنفاسها على جينوا، بعد أن رمتها بصفعة محرقة...

جينوا، لم تتحرك قيد شعرة منذ أن ارتمت إلى الجانب وتشنجت رقبتها جراء الصفعة، كانت تثني ركبة وتمد ساقها الثانية حفاظا على توازنها.. أفلتت الكلمات من لسانها فهي لم تتوقع شيئا مثل ذلك، لذا اكتفت بمسح وجنتها بكفها، زائغة عيناها نحو فايوليت في قلق ممزوج بالذهول.. في الحقيقة لم يكن لديها وقت للغضب أو لإظهار أي ردة فعل من أي نوع...

بدأ خوف فايوليت يطغى على غضبها مجددا شيئا فشيئا عندما رأت جينوا تحدق نحو الأرض بوجه شاحب، دون أن تقف باستقامة حتى ..

"ماذا فعلت؟! فاي!" انتفض إيفان في وجه فايوليت، مسرعا أثناء ذلك إلى جينوا، شدها من ذراعها و سحبها بالقوة حتى استقام عمودها الفقري ثم أمسكها من كتفيها ورجها متسائلا بإلحاح عما رأته حتى ينتهي بها المطاف مرتعبة هكذا.. أجابته بتلعثم، وكأنها تعلمت النطق للتو.. تتخلل كلماتها المتقطعة أنفاس مظطربة..

-"إنه شيـئ هائل... أنا لا أعرف ما ذلك... أنا... لا أعرف.."

-"كيف لا تعرفين؟! هل عرفت مصدر الهزات؟"

-"هناك في الخارج.." كانت تتكلم بصوت منخفض ومتردد، قبل أن تتسع عيناها فجأة وتزداد شحوبا لتستطرد صارخة في وجه إيفان "إنه يتقدم بسرعة جنونية!-"

في تلك اللحظة، انهار أحد أعمدة الأساس عند المخرج الرئيسي.. مما جعل حالة الجدران أسوء وعجل بانهيار الباقي.. لم يبق هناك أي وسيلة لاستعادة السيطرة على ذلك الحشد المهول، كان أوليفر يفعل ما بوسعه لإبعادهم عن طريقه والعثور على أي أثر لرفاقه الذين اختفوا فجأة... لم يأخذ منه الوقت الكثير حتى يسمع صياح جينوا...

اصفر وجه إيفان بعدما جعلت جينوا أذنه تطن بسبب صراخها في وجهه ثم كلامها المشتت عن شيئ ضخم يحاول هدم المكان فوق رؤوس الجميع وصولا إلى علمها بأن إيفا لم تستمع إليها ولم تترك حفل النحس كما طلبت منها... انقلب الدور عليه وأصبح هو من يتم رجه من قبلها.. لم يسلم لا هو ولا فايوليت من شحنات التوتر والفزع التي وزعتها عليهما بدون قصد، فقط لكونها لا تعلم ما تفعل ..أخذت تصرخ عليهما عشوائيا علهما يأتيانها بحل قبل أن تفقد عقلها.. ولكن لو استمر الأمر على ذلك النحو لماتوا فزعا ثلاثتهم .. لولا أن أوليفر دفع جينوا وإيفان بعيدا عن بعضهما وصرخ فيهم ليكفوا عن الصراخ ... –يطفئ النار بالنار-

-"أين كايا؟"

وجهت فايوليت سؤالها إلى أوليفر، ليرد هو بغضب مكتوم:

-"إنها ليست هنا ... رأيتها عند مخرج الطوارئ توزع الابتسامات..على الأقل أحدكم هنا لم يفقد عقله... وأنت جينوا ما الذي دهاك!!"

صمتت جينوا ونظرت نحوه نظرة مترقبة، تأمل أن تسمع منه أي شيء قد يعيد لها صوابها..

-"قل لي أرجوك أنك رأيت إيفا مع كايا توزع ابتسامات أيضا.." أردفت جينوا، بنبرة هادئة.. ليس هدوءا فعليا، ولكن هدوء مريض نفسي مصحوب بابتسامة متشنجة..

لم يتردد أوليفر لحظة، بل أجابها مباشرة وعلى وجهه عبوس حازم "إيفا هنا، تحت هذا السقف معنا، والصراخ مثل المختلين لن ينقذها."

رفعت جينوا حاجبيها في ذهول، التفتت خلفها وأشارت إلى وسط القاعة، الذي أصبح تقريبا خاليا بعد أن احتشد الكل عند تلك الزاوية يتدافعون للظفر بفرصة للفرار.. ثم قالت لأوليفر بنبرة باردة للغاية، هو لم يتحدث معها يوما بهذا الجفاء.. ولا هي فعلت، ولكن كلامه بث فيها شيئا من التماسك رغم أنه أثار غضبها للوهلة الأولى...

-"تقول إن إيفا... هناك، صحيح؟"

-"بالظبط"

نظرت جينوا نحوه مجددا، بعيونها الناعسة المعتادة ثم أضافت بصوت متعب .."حسنا.. لقد فهمت"

وفي لحظة نطقها بذلك، أطلقت ساقيها للرياح وانطلقت نحو وسط القاعة مخترقة تلك الأجساد المتلاحمة مثل السهم ...

أخذت ترمي من يعيقها أرضا وتدفعهم بعنف شديد وكأنها لا تهتم لحياة أي منهم، دون أي اعتبار لصراخهم أو اعتراضهم، ولا اعتبارا لنداءات فايوليت لها بالتمهل، أو تذمر أوليفر من أنها فهمت قصده بالخطأ..

شقت طريقها بعناء، ولكن حتى ولو كان العبور بينهم أمرا خانقا، فإنه من دون أولئك الأشخاص المتلاصقين ببعضهم حولها لما استطاعت السير بشكل سوي حتى، بسبب الارتجاج تحت قدميها..

بعد دفع ورد استطاعت أن تنسل أخيرا من وسط تلك الفوضى.. لم توشك على رفع رأسها لتفقد المكان حتى اصطدمت بها فتاة ما ثم وقعت أرضا.. أنزلت جينوا رأسها ونظرت إليها بتفاجؤ من ارتطامها العنيف.. كانت فتاة ذات فستان أزرق .. وشعرها بني فاتح قصير..

انفرجت أسارير جينوا أملا، لقد جاءت إليها إيفا بقدميها ، أخيرا..

انحنت بسرعة ورفعت شعر الفتاة عن وجهها..

"إيفـ.."..

كانت شاحبة الوجه، تبكي بحرقة.. وعلى كتفيها آثار كدمات... عندما رأتها جينوا، شعرت بوخزة قاسية في قلبها... ساعدتها على النهوض ثم دفعتها نحو الحشد دون أن تستمع لشكرها أو تأبه لذلك..

حدثت نفسها بصوت منخفض يائس مقلبة عينيها بين تلك الوجوه المرتعبة التي اقتربت ناحيتها وتجاوزتها دون اهتمام "يا لي من مغفلة... كان علي أن أدقق في تفاصيل فستانها على الأقل .."

أغلقت عينيها وأفرغت رئتيها في حنق وقنوط شديدين ... شعرت بمعدتها تظطرب ورأسها يطن... الأرض تهدر، الجدران تهتز، زجاج النوافذ يتهاوى، صراخ عشوائي، سب وشتم بلا هدف، صوت فايوليت المزعج ما يزال يبحث عن رد منها، إيفان وأوليفر أشد إزعاجا.. ثم تلك الفتاة التي ختمت الازعاج تصرخ عليها من الخلف بصوت تخنقه دموعها مترجية إياها لكي تتراجع عن الوقوف مكانها لأن السقف سينهار في أي لحظة...

نبضت الأرض نبضة أشبه بقصف الرعد... فقدت جينوا توازنها وهوت على ركبتيها... عندما حاولت فتح عينيها تدريجيا بسبب الصداع، لم تنصاعا لها واتسعتا بسرعة لا إراديا... بعيدا عنها بأمتار عدة .. كان تلك التي تلبس ثوبا أزرق، الفتاة ذات الشعر البني القصير ، من جعلت رأسها يقع وهي تبحث عنها، ملقاة على الأرض لا حول لها ولا قوة.. "وأين يا حظي " ... في المكان ذاته الذي تركتها فيه منذ البداية، قرب المخرج الرئيسي..

في البداية لم تصدق جينوا، حتى ظنت أنها تراقب سرابا لا أكثر... "كيف بحق الله؟....كيف بحقك يا الهي؟" ..

نظرت إلى الخلف، إنها ما تزال هناك، تبكي بلا هدف... الفتاة التي ظنت أنها إيفا... ثم نظرت نحو الأمام، إنها ما تزال هناك أيضا، في المكان الوحيد الذي لا يفترض بها أن تكون فيه، إيفا ...

"أهذا مكان مناسب لأخذ قيلولة؟! إيفا!" صرخت جينوا نحو إيفا، ولكن لا جواب...

صرخت باسمها مرة، ثم مرتين، وثلاثا وأربعا ومرارا وتكرارا...

"إيفا.. إيفا....إيفا!!"

بدأ ذلك الصوت الذي بدى مثل صراخ من أعلى قمة جبل، يصبح أقوى وأوضح تدريجيا... أجفلت إيفا، على الأقل كان هناك رد فعل وهي ليست ميتة ..بعد..

شعرت بألم فظيع كلما حاولت تحريك ذراعيها أو ساقيها، بسبب التصلب الذي لحق بأطرافها جراء استلقائها على الأرض بتلك الوضعية غير المريحة... جاهدت نفسها حتى استطاعت رفع رأسها نحو مصدر الصوت..

لم تصدق إيفا عينيها، لا صراخ الجميع على جينوا لتعود أدراجها، ولا الهدير الذي طغى على كل ذلك، ولا حتى الألم الذي نخر عظامها... لا شيء من هذا كله حال بينها وبينها سعادتها الغامرة برؤيتها لجينوا بعد كل ذلك الشقاء...

نعم، إن جينوا لم تستطع الوقوف .. بعد عدة محاولات ووقوعها أرضا مرة بعد أخرى، أبت إلا أن تترك إيفا وحدها، لذا مضت نحوها زحفا على ركبتيها ويديها ..

"هيا! أسرعي يا إيفا!!" صاحت جينوا .. ولكن إيفا لم ترد..

"ماذا تفعلين؟! ابتعدي من هناك، تعالي إلي!"..

إيفا لم ترد،مجددا... طغت الفوضى على صوت جينوا، فلا إيفا ولا غيرها سمع ما كانت تقوله...

جينوا فهمت هذا، ولكن ما لم تستطع فهمه هو لمَ تستمر إيفا بالتحديق بها والابتسام وكأنها تمر بأسعد لحظة في حياتها.. لم تفهم، حتى أنها لا تبادلها الابتسام.. بل إنها لا تستطيع تخيل شكل وجهها أثناء ذلك، وحتى بعد مرور تلك اللحظة اللعينة..

حدث كل شيء في ثانية، بل ربما أقل... لحظة خاطفة... ومع ذلك، مرت ببطئ شديد حتى بدت وكأنها لن تنتهي..

انفجر الجدار و انهار بعرضه و ما اتصل به من السقف ... فوق رأسيهما ... نصف القاعة الملاصق للواجهة، قد محي من الوجود في لحظة.

*

*

*

*

*********

السلام عليكم، تحياتي إلى الجميع بمن فيهم الجميلين الذين يتابعون بصمت، والذين أهدي لهم هذا الفصل الذي انتهى بطريقة جميلة 🌚💖

عموما، كنت فقط فضولية لمعرفة رأيكم في الأحداث إلى الآن، وكيف أنها حرفيا لا تمت بأي صلة للمقدمة أو النبذة 😂 ؟
.
.
.

© Jiwo ,
книга «شيفرة ليتوفيتشينكو | LETO. cipher».
أن نكون أبطالا.
Коментарі