من عَلٍ
الفصل 07: من عَلٍ
"التعرض للإنكار من أقرب الموثوق بهم كان أمرا قاسيا، ولربما اتضح أنني أخطأت عندما انسحبت بهدوء، فقط جعلت ذلك الخدش السطحي أعمق، وقشرته مرارا وتكرارا لأنني ظننت دور المنبوذ يليق بي.. لا أعتقد أنني أكرههم بعد كل تلك الجلبة عديمة النفع على رأسي، وإنني لأشعر بالحيرة، فقد عاد الخدش إلى سابق عهده سطحيا، ثم إنه قد بدأ يلتئم دون أن آذن له...لكنني سأحتفظ ببعض الكبرياء ولنتظاهر جميعا أنني من أنقذت إيفا.. وليست هي التي أنقذتني، تحسبا فقط... فالخدش لم يلتئم تماما بعد"
************************
لا يمكن الجزم بحقيقة أن الجزء الأسوء قد انقضى، فما هي إلا لحظات عابرة حتى أدرك الجميع أنهم محاصرون في مساحة ضيقة بين أكوام الإسمنت المفتتة على أرضية غير ثابتة. انهيار ما تبقى ثابتا من آثار المبنى فوق رؤوسهم ليس سوى مسألة وقت، ولا سبيل للخروج سوى تجاوز بقايا واجهة المبنى تسلقا نحو الأعلى، وهو الأمر الذي بدا مستحيلا نظرا لحالة جينوا المؤسفة، فهي رغم إمساكها عن الشكوى، إلا أنها حاولت عبثا منع الدموع من التسلل من بين أجفانها لما لحق بها من الآلام الفظيعة جراء إصاباتها، و التي ما كانت لتزداد سوءا لو أنها بقيت مستلقية مكانها منذ البداية..
كان بوسعها أن تلمح شيئا من التعابير المنكسرة التي ارتسمت على وجْهَيِّ إيفا وكايا بقربها كلما حاولت فتح عينيها، ولكنها سرعان ما تعود لإغلاقهما باحكام ..
كايا أخذت منديلها الذي كانت آثار دماء جينوا منذ شجارها مع ثيو لا تزال عالقة به ، وحاولت تنظيف وجهها بحرص. بينما انحنت إيفا قريبا منهما تراقب بصمت، ثم ما لبثت أن أسندت جبهتها على كفها وأغمضت عينيها محاولة إيقاف الصداع المزعج الذي ما برح يزداد سوءا مع كل لحظة تمر..
أما أوليفر، فاكتفى بالتحديق إلى الفتحات في الأعلى و أطرق يفكر بالطريقة التي سيتم انتشالهم بها بعد أن أضحت ضوضاء سيارات الإسعاف و الحماية تصم الآذان، بجانبه إيفان مقرفص مكانه يراقب جينوا شبه المحتضرة شاردا بعينين دامعتين.
وليس ببعيد جدا عنهم، لم يعد بوسع فاي إمساك الخيط الذي يوصلها إلى الأجوبة على التساؤلات التي عصفت بذهنها أثناء تحديقها إلى بقايا الآلة، بعد أن اختلطت أمواج الضوضاء البشرية وصفير السيارات الصاخبة الصادرة من الخارج مع سلاسل أفكارها، كاد ذلك التشتيت أن يسبب لها الصداع، لولا أنها خففت عن نفسها العناء و قررت أن تسأل جينوا مباشرة بدلا من محاولة التصرف كالمحققة المحنكة.
"هاي جيني!" ...
.. استثارت بين ثنايا نفوس الجميع خاصة إيفا، أحاسيس مضطربة غير مرحبة بالنبرة الجافة اللاودودة التي كسرت بها فايوليت صمتهم المطبق بينما تسير نحوهم طارقة بعنف على الأرض بقدميها، و كأنها تحاول الحفاظ على السحب العاصفة بداخلها محبوسة بإحكام؛ فغضبها من تدخل جينوا عديم الفائدة وتخريبها لنظام الإخلاء لم يهدأ قيد أنملة، دون الوقوف على ذكر كلامها المستفز قبل كل شيء، وهو ما لم تفكر فيه طويلا لأنها كانت تدرك بشكل ما أن كلامها كله قد تحقق بالضبط .. ولنكون أكثر واقعيةً، فكرة أن جينوا المتشائمة محقة بحد ذاتها تجعلها تغلي من الداخل..
واصلت التقدم مسرعة بخطواتها الثقيلة متجاهلة النظرات المعاتبة التي لاحقتها، ثم أردفت آمرة: "أريد تفسيرا لما حدث هنا فورا–.."
.. خرست فايوليت في منتصف حديثها، عندما انزاحت كايا عن مكانها قليلا ليقابلها منظر جينوا الذي يفطر القلب..
وجهها الممتقع وذراعها الملتوية المحاطة بكدمة ذات أثر مُزْرَقّْ، ثم منديل كايا الذي استحال لونه إلى الأحمر القاني.. ارتجفت مقلتاها و هي تحصي الأضرار بعينيها حتى لم تتمالك نفسها وأصدرت شهقة مرتفعة شعرت على أثرها وكأنها على وشك ابتلاع قصبتها الهوائية، ثم أشاحت بهيئتها كلها عن الجميع ووجهت لهم ظهرها، انحنت بسرعة وسدت أنفاسها المضطربة بكفها ،انتهى بها المطاف تسعل بشدة حتى انقطع نفسها ..
لقد كانت محظوظة جدا إلى الآن، كونها تجاوزت كل تلك اللحظات العصيبة منذ البداية دون أن يغمى عليها، و لكن حظها نفد في هذه اللحظة..
أسرعت إيفا فزعة نحوها و أمسكت بها قبل أن تسقط على وجهها ثم أمالت لها رأسها للخلف، أعقبتها كايا و بدأت تفتش في جيوب سترتها عن بخاخة الربو خاصتها، ثم انضم إليهم إيفان و أمسك بيديها حتى يوقفها عن شد عنقها بإحكام، حاثًّا إياها على التماسك..
"اثبتي مكانك!" صرخ أوليفر في وجه جينوا، بعدما ثبتها على الأرض ومنعها من محاولة النهوض، فهي على غرارهم جميعا استنفرت لما سمعت شهقات فايوليت المختنقة وسعالها الجاف المفاجئ ..
.. بعد لحظات أرخت فايوليت ضغط أصابعها على يد إيفان و أفلتته، ثم بدأ شحوب بشرتها يتلاشى و عادت أنفاسها إلى طبيعتها.. أسندتها إيفا على ذراعها حتى تسترخي قليلا ريثما تستعيد عافيتها تماما..
اعتدلت فايوليت في جلوسها ثم أومأت للحيارى الملتفين حولها بأنها بخير، ما جعلهم تعابيرهم الشاحبة تسترخي ..
بعدها التفتت نصف التفاتة لتتسع عيناها فجأة عندما لمحت جينوا تحدق فيها بطرف عينها، التي ما إن شعرت بها تراقبها حتى أشاحت بوجهها وعادت لإغماض عينيها بارتياح..
لفت فاي وجهها ثانية ناحية إيفا وكايا، ثم أخفضت رأسها و أردفت معتذرة بصوت منخفض أوضح جليا مقدار ندمها على تسرعها ..
ثم أخرجت المنديل المطوي بعناية عند طرف جيب سترتها و قدمته لكايا و أشارت لها باتمام ما كانت تفعله قائلة "خذي" ..
هزت كايا رأسها موجبة و عادت حيث تركت جينوا. طوت المنديل طوليا ثم ثبتته على مكان الجرح في رأسها وبقيت تضغط عليه بصبر ليتوقف النزيف، حتى فاجأتها جينوا مستفهمةً: "هل هي بخير؟"
أجفلت كايا في البدء عند سماعها صوت جينوا، جالت ببصرها خلفها و في كل الاتجاهات باحثة عن أي أحد بقربها، و لكن نظرات جينوا الضجرة لم تكُن موجهةً سوى نحوها ..
"ماذا بك؟" .. سألت جينوا مجددا، هازَّة حاجبيها ساخرة من وجه كايا المبتسم ببلادة.. و لكن تعابير السخرية تلك انسحبت لتحل محلها الدهشة والاحراج، عندما التمعت زرقاوا كايا مهللة بفيض جارف من السعادة..
ومن غير مقدمات ولا تمهيد، سحبتها كايا إلى عالمها اللطيف عندما دفعت رأسها بقوة إلى حضنها مصدرة أصواتا طفولية غريبة، كانت على ما يبدو كلمات بلغة ما لم تفهمها جينوا، ولم تعبأ بمحاولة ذلك عموما .. فلا كايا كان بوسعها أن تعانق غير رأس جينوا، ولا جينوا كان بوسعها الاعتراض.. خالجتها رغبة في الضحك بقوة ومبادلتها حضنها الدافئ لولا أنها معتادة على وضع لافتة وهمية على وجهها مكتوب فيها "لا قُبَل، لا أحضان، دعني وشأني، عليك اللعنة"...
كما انها كادت تختنق ..
"أبعدي صدرك عن وجهي!"
أردفت جينوا بصوت مبطن وكأنها تتحدث واضعة رأسها في وسادة، و لكن كايا لم تستجب سريعا لذا دفعتها للخلف، ثم التقطت نفسا عميقا وزفرته بغضب متصنع في وجهها .. ما جعل كايا تنفجر ضاحكة.. ثم أضافت بلكنة لعوبة بينما أخذت تضايق جينوا بالعبث بوجنتها: "أرأيتِ، الأحضان الدافئة تخفف الشعور بالألم.. و أعتقد أنك تحبين ذلك!"
"بالحديث عن الألم.. ليته يغمى علي الآن.." استطردت جينوا بصوت متقطع، وسريعا ما عادت إلى الارتعاش و رص أسنانها بقوة .. أما كايا فانصرفت مجددا إلى الاعتناء بها فبدأت بمسح العرق عن وجهها بطرف كُمِّ ثوبها بعد أن تأكدت من انخفاض حدة النزيف، ثم شرعت تدلك راحة يدها السليمة بلطف، وكانت من حين لآخر تمرر كفها على شعر جينوا حتى تهدئها ولو قليلا..
إيفا كانت تفعل المثل على ظهر فايوليت، تمسح عليه برفق. أما فاي الهادئة كالجماد فقد لاحظت قلق إيفا على جينوا من تحديقها المستمر ناحيتها، دون أن تملك أدنى فكرة عما كان يدور في ذهنها ..
"تحاول التظاهر بالقوة حتى وهي في تلك الحال" أردفت فاي ثم أتبعت ذلك بقهقهة منخفضة أيقظت إيفا من شرودها..
التفتت نحوها، ثم ما انفكت تحدق فيها دون تعابير محددة، كانت يقظة غير تامة أو هي ربما لم تستوضح ما قالته فايوليت لذا لم تتجاوب مع دعابتها.. لتضيف فاي مستدركة ذلك الأمر "أخبريني يا إيفا، ما الذي جرى لكما بعد انهيار المكان.. هل رأيتِ ما الذي سبب ذلك؟.."
راقبت فايوليت بهدوء شديد تغير تعابير إيفا، إيماءاتها، و تحريكها لعينيها في عدة اتجاهات، ثم ترددها في الإجابة عقب سؤالها مباشرة.. لتُهَمْهِمَ بابتسامة هادئة مؤكدةً لها على اهتمامها و إصرارها لمعرفة الإجابة..
" أ..أنا لا أتذكر حقا.. " ردت إيفا باقتضاب، و القلق من التفوه بكلام خاطئ جَلِيُّ الوضوح على ملامحها، فهي كانت ماتزال تقلب بين أفكارها طلب جينوا الحريص بألا تخبر أحدا عما تتذكره من أحداث تلك الليلة.. وقفت بعد ذلك بسرعة و أوشكت على السير مبتعدة عندما تمسكت بها فايوليت ونهضت هي الأخرى، ثم استوقفتها بسؤال إضافي حتى تصقل شكوكها جيدا:
"ألم تري جينوا.. ربما، كما لم تعهديها من قبل؟"
اتسعت عينا إيفا المثبتتان على الأرض، ثم ما لبثت ترفع رأسها بمحاذاة فايوليت مستفهمة باستغراب دون أن تنطق بحرف..
"أه آسفة، لا بد أنه سؤال غريب حقا.. " أضافت فايوليت و هي ما تزال محافظة على ابتسامتها المشرقة، دون علم منها بأنها لا تزيد إيفا إلا نفورا.. فعلى عكس الأثر المريح الذي كان يفترض بتلك الابتسامة أن تبثه في نفسها، إلا أن جل ما ضايق إيفا هو مقدار التصنع الذي كشفته رغبة فايوليت المُلِحَّة في الإحاطة بالمعرفة الشاملة بشأن كل ما يتعلق بجينوا، دون مراعاة لخصوصيتها أو أهمية إبقاء بعض الأسرار أسراراً..
"لا لا.. ليس الأمر كذلك، أنا فقط أظن أنني قد فقدت الوعي لوقت طويل بعض الشيء لذلك لست أذكر ما جرى بالضبط.."
وهكذا ظنت إيفا أنها تملصت من ذلك الحوار الذي يستحيل أن ينتهي دون خسائر معنوية من ناحيتها.. إلا أن فايوليت كانت عند حسن ظنها تماما، ليس بوجه حسن ولكن عموما لا بد من أن معرفتهما ببعضهما دامت زمنا كافيا حتى تحفظ إيفا شخصية فايوليت فتجزم قطعا بأنها لن تصمت حتى تحصل على منالها، و كافيا حتى تحفظ فايوليت شخصية إيفا فتحزر بالتحديد ردودها وتجهز لها حوارا كاملا يشبع فضولها هي..
"هكذا إذا.. هذا مؤسف حقا.. تمنيت لو أنك تعرفين ولكن، يبدو أن جينوا وحدها من تعرف.."...
عضت إيفا على شفتها السفلى و أبت إلا أن تشيح بوجهها عن فايوليت عل معجزة تهبط من السماء وتشغلها عنها، اتخذت قطرات العرق الباردة التي أطلق توترها العنان لها مواقعها على عنقها و وجنتيها لأن معجزتها المنشودة تأخرت لبعض الوقت.. غير أنها حضرت في نهاية المطاف..
لم يسع فايوليت سوى أن ترطب شفتيها دون أن تحظى بفرصة لطرح المزيد من الأسئلة، عندما اندفع مع نسمة باردة صيحة جهورة من الأعلى حيث رفع الجميع رؤوسهم دهشة لمنظر السيدة ذات الرداء الأبيض، تطل عليهم من عَلٍ..
لم يكن من الصعب التعرف إليها على أي منهم، فهي أشبه ما تكون إلى جينوا مع تجاعيد طفيفة أسفل عينيها، لا تختلف عنها سوى في لونهما البني و حاجبيها الرفيعين..
عدا جينوا، التي لم تقدر على رفع رأسها شبرا، فصفعت فخذ كايا، فاغرةِ الفاه باندهاش زاحمته السعادة، لتلتفت إليها و ترفع لها رأسها حتى ترى من هذه الزائرة المفاجئة التي ثقبت طبلة أذنها بندائها الصاخب باسمها..
أحكمت يلفيا قبضتها على صدرها و أفرجت عن نفس متعب ظل يسد حلقها مذ قرأت الأسماء على القائمة، عندما تحركت جينوا أخيرا و بادلت نظراتها القلقة بخاصتها البلهاء المتوشحة بالصدمة، و كأنها لا تفكر في شيء سوى تأليف كذبة فاخرة حول ذراعها المكسورة بأسرع ما يمكن، في ظل الظهور غير المتوقع لوالدتها، وبتلك الطريقة الغريبة، فأول ما تبادر إلى ذهنها وهي تراقب إسقاط ظلال القمر على ثيابها وتمايل خصلات شعرها القصير مع النسيم البارد أنها أشبه بباتمان ..
ثم إنها قد شعرت وكأنه لا بد من تغيير الجو وقول شيء ما قبل أن تصبح والدتها عاطفية أكثر من اللازم، لذا ودون حاجة لبذل جهد، شرعت تتفوه ببعض الكلام الفارغ عشوائيا، يشغلها لعب دور الثرثارة عن انتقاء كلماتها بحكمة..
"يا للهول ما الذي تفعلينه هنا–..أه.. أوه صحيح أنت طبيبة.."
.
.
" لا هذا لا يفسر ما تفعلينه ..اه.. كيف وصلت إلى هناك؟"
على الأقل اطمأنت يلفيا إلى أن جينوا بكامل قواها العقلية، نوعا ما..
"قطة بسبعة أرواح.."
أجابت يلفيا مازحة خلافا لتعابيرها الجادة.. ألقت نظرات سريعة على الخمسة الآخرين، ثم ابتسمت برضى بعد أن تأكدت من أنهم جميعا يبدون بحالة جيدة، ولم يبق شيء ليزعجها سوى العثور على مسار سالك لتستطيع النزول إليهم.
التفتت حولها، ثم طرقت بكعب حذائها على المكان الذي كانت تقف عليه، أدى ذلك إلى تفتت بعض الحصى و تدحرجها للأسفل..
بدى عليها وكأنها لم تعتبره شيئا، انحنت ثم تمسكت ببعض النتوءات البارزة من كومة الحجارة و حاولت النزول ببطء .. مع كل خطوة تخطوها كان لا بد حصول اهتزاز خفيف يجعل بعض الحصى تتفتت و تترك مكانها..
راقب الجميع محاولتها البطيئة لأخذ خطوة صغيرة ثم تراجعها عدة مرات بقلق شديد، كانوا يظنون أنها لن تستطيع إتباع خطوتين ببعضهما حتى... لم يتفطنوا إلى أن يلفيا كانت تحاول الوصول إلى جزء من المنحدر يشبه الدرج، فبمجرد أن وطئت قدماها المكان المطلوب، أفلتت يديها وشرعت تركض وتقفز بسرعة مذهلة حتى أضحت تقف أمامهم مباشرة دون عناء..
"تسلقت كل هذه المسافة ونزلت مجددا، بهذا الحذاء.. هل أنت نينجا؟"
نطقت جينوا فجأة، مقاطعة بذلك ذهول البقية على سبيل تخفيف أثر الصدمة على يِلفيا عندما ترى إصاباتها، عن طريق محاولة إلقاء ما يبدو مثل دعابة و التصرف باستغباء، فقط لتبدو بخير قدر المستطاع، ولكن عضلات وجهها المشدودة و أنفاسها الثقيلة التي فصلت كلماتها عن بعضها البعض؛ حالت دون بث التأثير المطلوب على والدتها، فهي لم تستجب لمزاحها بل احتفظت بتعابيرها المنزعجة والقَلِقَة أثناء اندفاعها نحوها بسرعة، حتى بدت وكأنها لم تسمع شيئا مما قالته ريثما تصب تركيزها كله على سلامتها، فاستلقاؤها بتلك الطريقة وصوتها المتشنج ليس مبشرا بالخير على الإطلاق..
بينما لم يسع جينوا سوى تتبعها بعينيها، خائبة الظن مقطبة الجبين بانزعاج لعدم نفع أسلوبها في الحديث لتهدئتها، وكم تمنت لو أنها تستطيع أن تشيح بوجهها عنها حتى لا ترى رد فعلها عندما تلمح ذراعها المصابة و الجرح الذي في رأسها..
أثناء تسلسل تلك الأفكار الأخيرة في ذهنها، أمست يلفيا منحنية بجانبها بالفعل، تصب تركيزها على حدقتيها الزُّمردِيَّتين مباشرة دون تعليق منها، ثم أبعدت بضع خصلات من شعرها عن بعضها لينكشف لها ذلك الجرح العميق وقد بدأت الدماء الملوثة بالتخثر على سطحه..
"يا إلهي .. لم أحضر معي أي معقمات أو ضمادات.." قالت يلفيا بصوت مُجهد أثناء تفحصها لأطراف جينوا، وقد اعتلى ملامحها التوتر و الحيرة حيال عدم مقدرتها على فعل شيء بشأن الجروح المعرضة للغبار والجراثيم دون أدوات الإسعاف الضرورية..
أمالت رأسها قليلا و فركت خدها محدقة بشرود إلى الكسر في ذراع جينوا، كانت بصدد التفكير علها تعثر على حل لمعضلتها.. ودون طلب منها تجمع البقية حولها يفكرون في الشيء ذاته، أي شيء يمكنها استعماله كضمادة..
حتى أن كايا أوشكت على اقتراح استخدام المناديل كبديل ولكنها سرعان ما أطبقت على فمها عندما استذكرت أن كل المناديل المتوفرة قد أضحت متسخة..
"يجب أن أعيده إلى مكانه قبل أن يبدأ بالالتئام.."
استرسلت يلفيا مشيرة إلى ذراع ابنتها، ثم قامت من مكانها بسرعة وأمسكت بطرف ردائها الأبيض محكمة يديها في استعداد لتمزيقه إلى أشرطة، بعدما كان هذا آخر حل ممكن.. غير أن إيفا أوقفتها مباشرة عندما صاحت مقاطعة "لقد تذكرت!.. أحضرنا معنا ضمادات" .. ثم التفتت نحو جينوا لتجدها تحدق بها هي الأخرى متسعة العينين تحرك رأسها يمينا وشِمالا بشكل طفيف، مشيرة لها بأن تصمت.. ولكن إيفا استنكرت من ذلك و واصلت كلامها بحزم أشد "الكثير منها في الواقع.." موجهة نظرة غاضبة إلى جينوا لامتناعها عن الكلام رغم أنها تعرف مقدار قلقهم الشديد عليها..
-"أين؟" ..
وجهت يلفيا سؤالها لإيفا بعد لحظات معدودة من الصمت أخذت أثناءها تلف ناظريها بين إيفا وجينوا متسائلة باستغراب، وكذلك فعل البقية دون أن ينطقوا..
انتاب إيفا شيء من الحيرة فهي لم تعرف كيف تقول ذلك أمامهم دون أن تتسبب في إحراج جينوا، لذا التزمت الصمت وهزت رأسها مشيرة ناحيتها.
رفعت يلفيا حاجبيها في اندهاش لما ألقت نظرة سريعة على جينوا من الأعلى للأسفل لتنتبه أخيرا إلى أنها ترتدي ملابس رجالية، ومن غير عناء انحنت حتى أوشك وجهها على الالتصاق بوجه جينوا، ثم استرسلت بصوت منخفض تحدجها بعينين متسعتين مرعبتي التعابير "سنتحدث عن هذا لاحقا.."، حينها لم يسع جينوا سوى إظهار ابتسامتها الصفراوية معلنة استسلامها..
و من دون أن تأبه يلفيا لشيء أمسكت ياقة قميصها بيديها وفكت أزراره دفعة واحدة..
"مهلاً مهلاً!.."
صاحت جينوا في والدتها.. ولكن يلفيا تجاهلتها وانهمكت في فك الضمادات التي كانت تحيط بخصرها وصدرها، بينما كانت إيفا تسندها من الخلف لتساعدها على الجلوس باعتدال، تصدر حنجرتها صوت شخير متقطعا من حين لآخر إثر محاولتها الفاشلة لكتم ضحكها كلما تأملت وجه جينوا المنزعج و المحمر خجلا، تراقب بطرف عينها إيفان وأوليفر الذين أصبحا فجأة عند حافة العالم يتأملان الصخور موجهين ظهورهما إلى البقية، يمسك أحدهما برأس الآخر حتى لا ينفلت صمام عنقه فيلتفت ..
أشاحت جينوا بنظراتها الساخرة عنهما، واصفة إياهما بين طيات أفكارها بالأحمقين، فهي لسبب ما كانت تضع بالحسبان احتمال وجود ضرورة لاستخدام تلك الضمادات لذلك عمدت بمساعدة إيفا إلى وضعها فوق قميص آخر بدلا من لفها مباشرة على جلدها..
على كلٕ، ما كان يحرجها حقا هو ضحكات إيفا، كايا وفاي المكتومة التي أخذت تطن حول رأسها، والتي سرعان ما تحولت إلى قهقهة مكشوفة صاحبتها كايا بالذات بإرسال الدموع من عينيها ممسكة ببطنها، لا يدري المرء أهي تضحك أم تسعل.
.
.
عندما انتهت يلفيا من فك كل الأشرطة ولفتها حول معصمها حتى لا تتسخ، طلبت من إيفا مساعدة جينوا على الاستلقاء مجددا بينما نهضت هي من مكانها و بدأت بالتفتيش حولها عن عصا رفيعة مَعِيَّةَ كايا التي استعملت إضاءة هاتفها لاستيضاح أركان المكان، كانت مثل تلك القطع المحطمة من المقاعد و الطاولات مرمية في كل الأرجاء لذا لم يأخذ منهما البحث عن عصاً مناسبة الوقتَ الكثير.
"أهذه مناسبة يا خالتي؟"
أدبرت كايا مستفسرة يلفيا عما إذا كانت العصا الرفيعة التي التقطتها ملائمة، لتومئ لها بالإيجاب قائلة بامتنان بعد أن استلمتها من يد كايا "إنها مثالية، أحسنت عملا!"
ابتسمت كايا بفخر رغم بساطة المديح الذي تلقته، وقد كان ليلفيا نصيب كبير من الاسترخاء والطمأنينة التي تبثها روح كايا المشرقة حولها بابتسامتها العفوية تلك، كما أنها لفتت انتباهها عن غير قصد منذ البداية إلى مدى انزعاجها من شعرها الكثيف الذي انفك وانتفخ كأنه مظلة، عندما أخذت تحاول بلا فائدة دفعه للخلف وإبعاده عن وجهها وعينيها.
وضعت يلفيا العصا أرضا ثم اقتربت من كايا ونفضت لها غرتها من الغبار بلمسة خفيفة، ثم فكت ربطة شعرها وارتدتها في معصمها..
"استديري، يبدو لي أنه يضايقك كثيرا.." أردفت يلفيا مشيرة لكايا بسبابتها كي تلتف نحو الخلف، ليجيبها صوتها المتردد بعد أن انصاعت لها فورا ملتفتة كما طُلب منها "لـ.. ليس حقا، أنا معتادة عليه، إنه.. فقط ليس ناعما.."
همهمت يلفيا متفهمة ثم استطردت قائلة أثناء تمرير أصابعها بين تلك الخُصَل المموجة ذات اللون النحاسي لتفك العقد العالقة بها "أعتقد أنه جميل جدا، الشعر المموج أجمل من المسترسل في رأيي"
إيجابا هزت كايا رأسها أثناء انشغالها بالعبث بأطراف أصابعها مخفضة عينيها في خجل..
جينوا كانت صامتة تراقب ملامحُها المتوترة والدتَها بصمت، أحيانا ترمق العصا بنظرة خاطفة فتداهمها رعشة باردة تجبرها على ضم أجفانها بشدة.. ومن دون أن تلاحظ، اقتربت فايوليت منها و جلست القرفصاء بجانبها، لتقاطع سخريتُها المصحوبةُ بابتسامة لعوبة شرودَ جينوا..
-"غيرة؟"
ضمت جينوا حاجبيها في امتعاض، ثم ردت باقتضاب "أيفترض بي أن أجيبك على هذا؟" ، بعد ذلك مباشرة أطبقت أجفانها متجاهلة رد فايوليت أيا ما كان، مرسلة زفرة سريعة أقرب ما تكون إلى بصقة في الهواء..
"لا، ليس هذا ما تهمني إجابته.." أردفت فاي التي انمسحت الابتسامة عن ملامحها واستُبدِلت بنظرات جانبية باردة، ثم قامت من مكانها بعد أن أيقنت أن جينوا لن تقدم لها الإجابات التي تبحث عنها على طبق من ذهب، ليس وهي لا تكاد تطيق نطق حرف واحد موجه لها..
سريعا ما فرغت يلفيا من جمع شعر كايا المبعثر في شكل كعكة منتفخة بحجم كرة، لتُفاجَأ بوابل من عبارات الامتنان العفوية التي أمطرتها كايا بها، و التي ما انفكت تهز ذقنها و السعادة جلية على مُحيَّاها لأن رأسها أصبح أخف..
هزت رأسها هي الأخرى بارتياح، تكاد تغرق في ظرافة كايا متناسية للحظات ما جلبها إلى ذلك المكان في المقام الأول.
التقطت يلفيا العصا من الأرض وعادت أدراجها تجاه جينوا، استندت على ركبتيها، بدأت أولا بلف الضمادات حول رأسها ثلاث لفات بالتحديد، ثم مزقتها و عقدتها بإحكام. بعد ذلك أمسكت ذراعها المكسورة بحرص شديد حتى أنها لم تشكُ من أي ألم، تفقدتها بأطراف أصابعها دون الضغط عليها بقوة ثم أشارت إلى البقية كي يتجمعوا حولها..
"لا لن تفعلي.."
استرسلت جينوا التي اصفر وجهها حتى عاد مثل ليمونة ناضجة و بدأت أطرافها تتنمل فزعا مما كانت تنوي يلفيا فعله، وهي تعلم بالضبط ما تنوي فعله.. فقد سبق لها وأن رأت شيئا مشابها من قبل.. غير أنها لم تضع يوما في الحسبان أن ينتهي بها المطاف في موقف معقد مثل ذلك، حيث تُكسر ذراعها مجددا كي تعود العظام إلى أماكنها.. ليس حرفيا ولكنها تدرك كم أن ذلك مؤلم في العادة..
"إذا بقيتِ ثابتة ولم تقاومي، فسينتهي الأمر بسرعة ولن يكون مؤلما كما تتصورين، اتفقنا؟"
ردت يلفيا ببسمة حازمة وشديدة الهدوء، منتظرة من جينوا الاستجابة المطلوبة لذلك التحفيز البسيط الذي غالبا ما ينجح مع الأطفال، غير أن جينوا لم تزدد إلا اصفرارا حتى وصلت إلى مرحلة الشمام، بينما أخذت دموع الفزع تتجمع حول مقلتيها في مقاومة يائسة منها لا تكاد تذكر..
"أسمع صرخاتهم في رأسي!"
أضافت جينوا مستنجدة، تشير في كلامها المبهم إلى ذكرياتها المبعثرة عن رجال كبار شهدتهم يصرخون ألما لما عوملوا بالطريقة ذاتها، فما بالها بنفسها وهي ليست سوى طفلة في الخامسة عشرة..
"أنتما ثبتا ساقيها"
أشارت يلفيا نحو إيفان و أوليفر، متجاهلة بصبر حثيث ترجيات جينوا، كل ما شغلها لحظتها هو إنهاء الأمر بسرعة قبل أن ينفطر قلبها.. وهو الأمر الذي لم تسمح له بالاتضاح على ملامحها بأي ثمن، حفاظا منها على تماسك البقية..
"ألا تحملين معك مخدرا؟!"
استرسلت جينوا صارخة مجددا وقد جعلت إيفان و أوليفر يمران بأسوء لحظات حياتيهما محاولين تثبيت ساقيها المترنحتين..
"رجاء فلتمسك إحداكن بذراعها اليمنى"
و في لمح البصر استجابت ثلاثتهن لأمر يلفيا و انهلن على ذراع جينوا اليسرى يثبتنها بإحكام دفعة واحدة دون اتفاق مسبق، ما جعلها تهز رأسها في استغراب لتنطق إيفا على عجل "صدقيني يا خالة، لا نضمن أن هذا كافٍ"
"حسنا، لا بأس" أضافت يلفيا..
دون وجود ضرورة لطرح المزيد من التوجيهات، أمسكت ذراع جينوا اليمنى من أسفل مرفقها ومن أعلاه، ثم التقطت نفسا عميقا، لم يكن يجدر بها الالتفات إلى جينوا أو النظر في عينيها الدامعتين، ولكنها فعلت ..
أرخت يلفيا رأسها وحررت ذلك النفس، ثم ضغطت على كفيها، سحبت العظم وأدارته بسرعة في لحظة خاطفة، قبل أن تنصاع لقلبها الذي همس لها مترجيا أن تكون أكثر رفقا بابنتها الوحيدة..
*
*
*
*****
"التعرض للإنكار من أقرب الموثوق بهم كان أمرا قاسيا، ولربما اتضح أنني أخطأت عندما انسحبت بهدوء، فقط جعلت ذلك الخدش السطحي أعمق، وقشرته مرارا وتكرارا لأنني ظننت دور المنبوذ يليق بي.. لا أعتقد أنني أكرههم بعد كل تلك الجلبة عديمة النفع على رأسي، وإنني لأشعر بالحيرة، فقد عاد الخدش إلى سابق عهده سطحيا، ثم إنه قد بدأ يلتئم دون أن آذن له...لكنني سأحتفظ ببعض الكبرياء ولنتظاهر جميعا أنني من أنقذت إيفا.. وليست هي التي أنقذتني، تحسبا فقط... فالخدش لم يلتئم تماما بعد"
************************
لا يمكن الجزم بحقيقة أن الجزء الأسوء قد انقضى، فما هي إلا لحظات عابرة حتى أدرك الجميع أنهم محاصرون في مساحة ضيقة بين أكوام الإسمنت المفتتة على أرضية غير ثابتة. انهيار ما تبقى ثابتا من آثار المبنى فوق رؤوسهم ليس سوى مسألة وقت، ولا سبيل للخروج سوى تجاوز بقايا واجهة المبنى تسلقا نحو الأعلى، وهو الأمر الذي بدا مستحيلا نظرا لحالة جينوا المؤسفة، فهي رغم إمساكها عن الشكوى، إلا أنها حاولت عبثا منع الدموع من التسلل من بين أجفانها لما لحق بها من الآلام الفظيعة جراء إصاباتها، و التي ما كانت لتزداد سوءا لو أنها بقيت مستلقية مكانها منذ البداية..
كان بوسعها أن تلمح شيئا من التعابير المنكسرة التي ارتسمت على وجْهَيِّ إيفا وكايا بقربها كلما حاولت فتح عينيها، ولكنها سرعان ما تعود لإغلاقهما باحكام ..
كايا أخذت منديلها الذي كانت آثار دماء جينوا منذ شجارها مع ثيو لا تزال عالقة به ، وحاولت تنظيف وجهها بحرص. بينما انحنت إيفا قريبا منهما تراقب بصمت، ثم ما لبثت أن أسندت جبهتها على كفها وأغمضت عينيها محاولة إيقاف الصداع المزعج الذي ما برح يزداد سوءا مع كل لحظة تمر..
أما أوليفر، فاكتفى بالتحديق إلى الفتحات في الأعلى و أطرق يفكر بالطريقة التي سيتم انتشالهم بها بعد أن أضحت ضوضاء سيارات الإسعاف و الحماية تصم الآذان، بجانبه إيفان مقرفص مكانه يراقب جينوا شبه المحتضرة شاردا بعينين دامعتين.
وليس ببعيد جدا عنهم، لم يعد بوسع فاي إمساك الخيط الذي يوصلها إلى الأجوبة على التساؤلات التي عصفت بذهنها أثناء تحديقها إلى بقايا الآلة، بعد أن اختلطت أمواج الضوضاء البشرية وصفير السيارات الصاخبة الصادرة من الخارج مع سلاسل أفكارها، كاد ذلك التشتيت أن يسبب لها الصداع، لولا أنها خففت عن نفسها العناء و قررت أن تسأل جينوا مباشرة بدلا من محاولة التصرف كالمحققة المحنكة.
"هاي جيني!" ...
.. استثارت بين ثنايا نفوس الجميع خاصة إيفا، أحاسيس مضطربة غير مرحبة بالنبرة الجافة اللاودودة التي كسرت بها فايوليت صمتهم المطبق بينما تسير نحوهم طارقة بعنف على الأرض بقدميها، و كأنها تحاول الحفاظ على السحب العاصفة بداخلها محبوسة بإحكام؛ فغضبها من تدخل جينوا عديم الفائدة وتخريبها لنظام الإخلاء لم يهدأ قيد أنملة، دون الوقوف على ذكر كلامها المستفز قبل كل شيء، وهو ما لم تفكر فيه طويلا لأنها كانت تدرك بشكل ما أن كلامها كله قد تحقق بالضبط .. ولنكون أكثر واقعيةً، فكرة أن جينوا المتشائمة محقة بحد ذاتها تجعلها تغلي من الداخل..
واصلت التقدم مسرعة بخطواتها الثقيلة متجاهلة النظرات المعاتبة التي لاحقتها، ثم أردفت آمرة: "أريد تفسيرا لما حدث هنا فورا–.."
.. خرست فايوليت في منتصف حديثها، عندما انزاحت كايا عن مكانها قليلا ليقابلها منظر جينوا الذي يفطر القلب..
وجهها الممتقع وذراعها الملتوية المحاطة بكدمة ذات أثر مُزْرَقّْ، ثم منديل كايا الذي استحال لونه إلى الأحمر القاني.. ارتجفت مقلتاها و هي تحصي الأضرار بعينيها حتى لم تتمالك نفسها وأصدرت شهقة مرتفعة شعرت على أثرها وكأنها على وشك ابتلاع قصبتها الهوائية، ثم أشاحت بهيئتها كلها عن الجميع ووجهت لهم ظهرها، انحنت بسرعة وسدت أنفاسها المضطربة بكفها ،انتهى بها المطاف تسعل بشدة حتى انقطع نفسها ..
لقد كانت محظوظة جدا إلى الآن، كونها تجاوزت كل تلك اللحظات العصيبة منذ البداية دون أن يغمى عليها، و لكن حظها نفد في هذه اللحظة..
أسرعت إيفا فزعة نحوها و أمسكت بها قبل أن تسقط على وجهها ثم أمالت لها رأسها للخلف، أعقبتها كايا و بدأت تفتش في جيوب سترتها عن بخاخة الربو خاصتها، ثم انضم إليهم إيفان و أمسك بيديها حتى يوقفها عن شد عنقها بإحكام، حاثًّا إياها على التماسك..
"اثبتي مكانك!" صرخ أوليفر في وجه جينوا، بعدما ثبتها على الأرض ومنعها من محاولة النهوض، فهي على غرارهم جميعا استنفرت لما سمعت شهقات فايوليت المختنقة وسعالها الجاف المفاجئ ..
.. بعد لحظات أرخت فايوليت ضغط أصابعها على يد إيفان و أفلتته، ثم بدأ شحوب بشرتها يتلاشى و عادت أنفاسها إلى طبيعتها.. أسندتها إيفا على ذراعها حتى تسترخي قليلا ريثما تستعيد عافيتها تماما..
اعتدلت فايوليت في جلوسها ثم أومأت للحيارى الملتفين حولها بأنها بخير، ما جعلهم تعابيرهم الشاحبة تسترخي ..
بعدها التفتت نصف التفاتة لتتسع عيناها فجأة عندما لمحت جينوا تحدق فيها بطرف عينها، التي ما إن شعرت بها تراقبها حتى أشاحت بوجهها وعادت لإغماض عينيها بارتياح..
لفت فاي وجهها ثانية ناحية إيفا وكايا، ثم أخفضت رأسها و أردفت معتذرة بصوت منخفض أوضح جليا مقدار ندمها على تسرعها ..
ثم أخرجت المنديل المطوي بعناية عند طرف جيب سترتها و قدمته لكايا و أشارت لها باتمام ما كانت تفعله قائلة "خذي" ..
هزت كايا رأسها موجبة و عادت حيث تركت جينوا. طوت المنديل طوليا ثم ثبتته على مكان الجرح في رأسها وبقيت تضغط عليه بصبر ليتوقف النزيف، حتى فاجأتها جينوا مستفهمةً: "هل هي بخير؟"
أجفلت كايا في البدء عند سماعها صوت جينوا، جالت ببصرها خلفها و في كل الاتجاهات باحثة عن أي أحد بقربها، و لكن نظرات جينوا الضجرة لم تكُن موجهةً سوى نحوها ..
"ماذا بك؟" .. سألت جينوا مجددا، هازَّة حاجبيها ساخرة من وجه كايا المبتسم ببلادة.. و لكن تعابير السخرية تلك انسحبت لتحل محلها الدهشة والاحراج، عندما التمعت زرقاوا كايا مهللة بفيض جارف من السعادة..
ومن غير مقدمات ولا تمهيد، سحبتها كايا إلى عالمها اللطيف عندما دفعت رأسها بقوة إلى حضنها مصدرة أصواتا طفولية غريبة، كانت على ما يبدو كلمات بلغة ما لم تفهمها جينوا، ولم تعبأ بمحاولة ذلك عموما .. فلا كايا كان بوسعها أن تعانق غير رأس جينوا، ولا جينوا كان بوسعها الاعتراض.. خالجتها رغبة في الضحك بقوة ومبادلتها حضنها الدافئ لولا أنها معتادة على وضع لافتة وهمية على وجهها مكتوب فيها "لا قُبَل، لا أحضان، دعني وشأني، عليك اللعنة"...
كما انها كادت تختنق ..
"أبعدي صدرك عن وجهي!"
أردفت جينوا بصوت مبطن وكأنها تتحدث واضعة رأسها في وسادة، و لكن كايا لم تستجب سريعا لذا دفعتها للخلف، ثم التقطت نفسا عميقا وزفرته بغضب متصنع في وجهها .. ما جعل كايا تنفجر ضاحكة.. ثم أضافت بلكنة لعوبة بينما أخذت تضايق جينوا بالعبث بوجنتها: "أرأيتِ، الأحضان الدافئة تخفف الشعور بالألم.. و أعتقد أنك تحبين ذلك!"
"بالحديث عن الألم.. ليته يغمى علي الآن.." استطردت جينوا بصوت متقطع، وسريعا ما عادت إلى الارتعاش و رص أسنانها بقوة .. أما كايا فانصرفت مجددا إلى الاعتناء بها فبدأت بمسح العرق عن وجهها بطرف كُمِّ ثوبها بعد أن تأكدت من انخفاض حدة النزيف، ثم شرعت تدلك راحة يدها السليمة بلطف، وكانت من حين لآخر تمرر كفها على شعر جينوا حتى تهدئها ولو قليلا..
إيفا كانت تفعل المثل على ظهر فايوليت، تمسح عليه برفق. أما فاي الهادئة كالجماد فقد لاحظت قلق إيفا على جينوا من تحديقها المستمر ناحيتها، دون أن تملك أدنى فكرة عما كان يدور في ذهنها ..
"تحاول التظاهر بالقوة حتى وهي في تلك الحال" أردفت فاي ثم أتبعت ذلك بقهقهة منخفضة أيقظت إيفا من شرودها..
التفتت نحوها، ثم ما انفكت تحدق فيها دون تعابير محددة، كانت يقظة غير تامة أو هي ربما لم تستوضح ما قالته فايوليت لذا لم تتجاوب مع دعابتها.. لتضيف فاي مستدركة ذلك الأمر "أخبريني يا إيفا، ما الذي جرى لكما بعد انهيار المكان.. هل رأيتِ ما الذي سبب ذلك؟.."
راقبت فايوليت بهدوء شديد تغير تعابير إيفا، إيماءاتها، و تحريكها لعينيها في عدة اتجاهات، ثم ترددها في الإجابة عقب سؤالها مباشرة.. لتُهَمْهِمَ بابتسامة هادئة مؤكدةً لها على اهتمامها و إصرارها لمعرفة الإجابة..
" أ..أنا لا أتذكر حقا.. " ردت إيفا باقتضاب، و القلق من التفوه بكلام خاطئ جَلِيُّ الوضوح على ملامحها، فهي كانت ماتزال تقلب بين أفكارها طلب جينوا الحريص بألا تخبر أحدا عما تتذكره من أحداث تلك الليلة.. وقفت بعد ذلك بسرعة و أوشكت على السير مبتعدة عندما تمسكت بها فايوليت ونهضت هي الأخرى، ثم استوقفتها بسؤال إضافي حتى تصقل شكوكها جيدا:
"ألم تري جينوا.. ربما، كما لم تعهديها من قبل؟"
اتسعت عينا إيفا المثبتتان على الأرض، ثم ما لبثت ترفع رأسها بمحاذاة فايوليت مستفهمة باستغراب دون أن تنطق بحرف..
"أه آسفة، لا بد أنه سؤال غريب حقا.. " أضافت فايوليت و هي ما تزال محافظة على ابتسامتها المشرقة، دون علم منها بأنها لا تزيد إيفا إلا نفورا.. فعلى عكس الأثر المريح الذي كان يفترض بتلك الابتسامة أن تبثه في نفسها، إلا أن جل ما ضايق إيفا هو مقدار التصنع الذي كشفته رغبة فايوليت المُلِحَّة في الإحاطة بالمعرفة الشاملة بشأن كل ما يتعلق بجينوا، دون مراعاة لخصوصيتها أو أهمية إبقاء بعض الأسرار أسراراً..
"لا لا.. ليس الأمر كذلك، أنا فقط أظن أنني قد فقدت الوعي لوقت طويل بعض الشيء لذلك لست أذكر ما جرى بالضبط.."
وهكذا ظنت إيفا أنها تملصت من ذلك الحوار الذي يستحيل أن ينتهي دون خسائر معنوية من ناحيتها.. إلا أن فايوليت كانت عند حسن ظنها تماما، ليس بوجه حسن ولكن عموما لا بد من أن معرفتهما ببعضهما دامت زمنا كافيا حتى تحفظ إيفا شخصية فايوليت فتجزم قطعا بأنها لن تصمت حتى تحصل على منالها، و كافيا حتى تحفظ فايوليت شخصية إيفا فتحزر بالتحديد ردودها وتجهز لها حوارا كاملا يشبع فضولها هي..
"هكذا إذا.. هذا مؤسف حقا.. تمنيت لو أنك تعرفين ولكن، يبدو أن جينوا وحدها من تعرف.."...
عضت إيفا على شفتها السفلى و أبت إلا أن تشيح بوجهها عن فايوليت عل معجزة تهبط من السماء وتشغلها عنها، اتخذت قطرات العرق الباردة التي أطلق توترها العنان لها مواقعها على عنقها و وجنتيها لأن معجزتها المنشودة تأخرت لبعض الوقت.. غير أنها حضرت في نهاية المطاف..
لم يسع فايوليت سوى أن ترطب شفتيها دون أن تحظى بفرصة لطرح المزيد من الأسئلة، عندما اندفع مع نسمة باردة صيحة جهورة من الأعلى حيث رفع الجميع رؤوسهم دهشة لمنظر السيدة ذات الرداء الأبيض، تطل عليهم من عَلٍ..
لم يكن من الصعب التعرف إليها على أي منهم، فهي أشبه ما تكون إلى جينوا مع تجاعيد طفيفة أسفل عينيها، لا تختلف عنها سوى في لونهما البني و حاجبيها الرفيعين..
عدا جينوا، التي لم تقدر على رفع رأسها شبرا، فصفعت فخذ كايا، فاغرةِ الفاه باندهاش زاحمته السعادة، لتلتفت إليها و ترفع لها رأسها حتى ترى من هذه الزائرة المفاجئة التي ثقبت طبلة أذنها بندائها الصاخب باسمها..
أحكمت يلفيا قبضتها على صدرها و أفرجت عن نفس متعب ظل يسد حلقها مذ قرأت الأسماء على القائمة، عندما تحركت جينوا أخيرا و بادلت نظراتها القلقة بخاصتها البلهاء المتوشحة بالصدمة، و كأنها لا تفكر في شيء سوى تأليف كذبة فاخرة حول ذراعها المكسورة بأسرع ما يمكن، في ظل الظهور غير المتوقع لوالدتها، وبتلك الطريقة الغريبة، فأول ما تبادر إلى ذهنها وهي تراقب إسقاط ظلال القمر على ثيابها وتمايل خصلات شعرها القصير مع النسيم البارد أنها أشبه بباتمان ..
ثم إنها قد شعرت وكأنه لا بد من تغيير الجو وقول شيء ما قبل أن تصبح والدتها عاطفية أكثر من اللازم، لذا ودون حاجة لبذل جهد، شرعت تتفوه ببعض الكلام الفارغ عشوائيا، يشغلها لعب دور الثرثارة عن انتقاء كلماتها بحكمة..
"يا للهول ما الذي تفعلينه هنا–..أه.. أوه صحيح أنت طبيبة.."
.
.
" لا هذا لا يفسر ما تفعلينه ..اه.. كيف وصلت إلى هناك؟"
على الأقل اطمأنت يلفيا إلى أن جينوا بكامل قواها العقلية، نوعا ما..
"قطة بسبعة أرواح.."
أجابت يلفيا مازحة خلافا لتعابيرها الجادة.. ألقت نظرات سريعة على الخمسة الآخرين، ثم ابتسمت برضى بعد أن تأكدت من أنهم جميعا يبدون بحالة جيدة، ولم يبق شيء ليزعجها سوى العثور على مسار سالك لتستطيع النزول إليهم.
التفتت حولها، ثم طرقت بكعب حذائها على المكان الذي كانت تقف عليه، أدى ذلك إلى تفتت بعض الحصى و تدحرجها للأسفل..
بدى عليها وكأنها لم تعتبره شيئا، انحنت ثم تمسكت ببعض النتوءات البارزة من كومة الحجارة و حاولت النزول ببطء .. مع كل خطوة تخطوها كان لا بد حصول اهتزاز خفيف يجعل بعض الحصى تتفتت و تترك مكانها..
راقب الجميع محاولتها البطيئة لأخذ خطوة صغيرة ثم تراجعها عدة مرات بقلق شديد، كانوا يظنون أنها لن تستطيع إتباع خطوتين ببعضهما حتى... لم يتفطنوا إلى أن يلفيا كانت تحاول الوصول إلى جزء من المنحدر يشبه الدرج، فبمجرد أن وطئت قدماها المكان المطلوب، أفلتت يديها وشرعت تركض وتقفز بسرعة مذهلة حتى أضحت تقف أمامهم مباشرة دون عناء..
"تسلقت كل هذه المسافة ونزلت مجددا، بهذا الحذاء.. هل أنت نينجا؟"
نطقت جينوا فجأة، مقاطعة بذلك ذهول البقية على سبيل تخفيف أثر الصدمة على يِلفيا عندما ترى إصاباتها، عن طريق محاولة إلقاء ما يبدو مثل دعابة و التصرف باستغباء، فقط لتبدو بخير قدر المستطاع، ولكن عضلات وجهها المشدودة و أنفاسها الثقيلة التي فصلت كلماتها عن بعضها البعض؛ حالت دون بث التأثير المطلوب على والدتها، فهي لم تستجب لمزاحها بل احتفظت بتعابيرها المنزعجة والقَلِقَة أثناء اندفاعها نحوها بسرعة، حتى بدت وكأنها لم تسمع شيئا مما قالته ريثما تصب تركيزها كله على سلامتها، فاستلقاؤها بتلك الطريقة وصوتها المتشنج ليس مبشرا بالخير على الإطلاق..
بينما لم يسع جينوا سوى تتبعها بعينيها، خائبة الظن مقطبة الجبين بانزعاج لعدم نفع أسلوبها في الحديث لتهدئتها، وكم تمنت لو أنها تستطيع أن تشيح بوجهها عنها حتى لا ترى رد فعلها عندما تلمح ذراعها المصابة و الجرح الذي في رأسها..
أثناء تسلسل تلك الأفكار الأخيرة في ذهنها، أمست يلفيا منحنية بجانبها بالفعل، تصب تركيزها على حدقتيها الزُّمردِيَّتين مباشرة دون تعليق منها، ثم أبعدت بضع خصلات من شعرها عن بعضها لينكشف لها ذلك الجرح العميق وقد بدأت الدماء الملوثة بالتخثر على سطحه..
"يا إلهي .. لم أحضر معي أي معقمات أو ضمادات.." قالت يلفيا بصوت مُجهد أثناء تفحصها لأطراف جينوا، وقد اعتلى ملامحها التوتر و الحيرة حيال عدم مقدرتها على فعل شيء بشأن الجروح المعرضة للغبار والجراثيم دون أدوات الإسعاف الضرورية..
أمالت رأسها قليلا و فركت خدها محدقة بشرود إلى الكسر في ذراع جينوا، كانت بصدد التفكير علها تعثر على حل لمعضلتها.. ودون طلب منها تجمع البقية حولها يفكرون في الشيء ذاته، أي شيء يمكنها استعماله كضمادة..
حتى أن كايا أوشكت على اقتراح استخدام المناديل كبديل ولكنها سرعان ما أطبقت على فمها عندما استذكرت أن كل المناديل المتوفرة قد أضحت متسخة..
"يجب أن أعيده إلى مكانه قبل أن يبدأ بالالتئام.."
استرسلت يلفيا مشيرة إلى ذراع ابنتها، ثم قامت من مكانها بسرعة وأمسكت بطرف ردائها الأبيض محكمة يديها في استعداد لتمزيقه إلى أشرطة، بعدما كان هذا آخر حل ممكن.. غير أن إيفا أوقفتها مباشرة عندما صاحت مقاطعة "لقد تذكرت!.. أحضرنا معنا ضمادات" .. ثم التفتت نحو جينوا لتجدها تحدق بها هي الأخرى متسعة العينين تحرك رأسها يمينا وشِمالا بشكل طفيف، مشيرة لها بأن تصمت.. ولكن إيفا استنكرت من ذلك و واصلت كلامها بحزم أشد "الكثير منها في الواقع.." موجهة نظرة غاضبة إلى جينوا لامتناعها عن الكلام رغم أنها تعرف مقدار قلقهم الشديد عليها..
-"أين؟" ..
وجهت يلفيا سؤالها لإيفا بعد لحظات معدودة من الصمت أخذت أثناءها تلف ناظريها بين إيفا وجينوا متسائلة باستغراب، وكذلك فعل البقية دون أن ينطقوا..
انتاب إيفا شيء من الحيرة فهي لم تعرف كيف تقول ذلك أمامهم دون أن تتسبب في إحراج جينوا، لذا التزمت الصمت وهزت رأسها مشيرة ناحيتها.
رفعت يلفيا حاجبيها في اندهاش لما ألقت نظرة سريعة على جينوا من الأعلى للأسفل لتنتبه أخيرا إلى أنها ترتدي ملابس رجالية، ومن غير عناء انحنت حتى أوشك وجهها على الالتصاق بوجه جينوا، ثم استرسلت بصوت منخفض تحدجها بعينين متسعتين مرعبتي التعابير "سنتحدث عن هذا لاحقا.."، حينها لم يسع جينوا سوى إظهار ابتسامتها الصفراوية معلنة استسلامها..
و من دون أن تأبه يلفيا لشيء أمسكت ياقة قميصها بيديها وفكت أزراره دفعة واحدة..
"مهلاً مهلاً!.."
صاحت جينوا في والدتها.. ولكن يلفيا تجاهلتها وانهمكت في فك الضمادات التي كانت تحيط بخصرها وصدرها، بينما كانت إيفا تسندها من الخلف لتساعدها على الجلوس باعتدال، تصدر حنجرتها صوت شخير متقطعا من حين لآخر إثر محاولتها الفاشلة لكتم ضحكها كلما تأملت وجه جينوا المنزعج و المحمر خجلا، تراقب بطرف عينها إيفان وأوليفر الذين أصبحا فجأة عند حافة العالم يتأملان الصخور موجهين ظهورهما إلى البقية، يمسك أحدهما برأس الآخر حتى لا ينفلت صمام عنقه فيلتفت ..
أشاحت جينوا بنظراتها الساخرة عنهما، واصفة إياهما بين طيات أفكارها بالأحمقين، فهي لسبب ما كانت تضع بالحسبان احتمال وجود ضرورة لاستخدام تلك الضمادات لذلك عمدت بمساعدة إيفا إلى وضعها فوق قميص آخر بدلا من لفها مباشرة على جلدها..
على كلٕ، ما كان يحرجها حقا هو ضحكات إيفا، كايا وفاي المكتومة التي أخذت تطن حول رأسها، والتي سرعان ما تحولت إلى قهقهة مكشوفة صاحبتها كايا بالذات بإرسال الدموع من عينيها ممسكة ببطنها، لا يدري المرء أهي تضحك أم تسعل.
.
.
عندما انتهت يلفيا من فك كل الأشرطة ولفتها حول معصمها حتى لا تتسخ، طلبت من إيفا مساعدة جينوا على الاستلقاء مجددا بينما نهضت هي من مكانها و بدأت بالتفتيش حولها عن عصا رفيعة مَعِيَّةَ كايا التي استعملت إضاءة هاتفها لاستيضاح أركان المكان، كانت مثل تلك القطع المحطمة من المقاعد و الطاولات مرمية في كل الأرجاء لذا لم يأخذ منهما البحث عن عصاً مناسبة الوقتَ الكثير.
"أهذه مناسبة يا خالتي؟"
أدبرت كايا مستفسرة يلفيا عما إذا كانت العصا الرفيعة التي التقطتها ملائمة، لتومئ لها بالإيجاب قائلة بامتنان بعد أن استلمتها من يد كايا "إنها مثالية، أحسنت عملا!"
ابتسمت كايا بفخر رغم بساطة المديح الذي تلقته، وقد كان ليلفيا نصيب كبير من الاسترخاء والطمأنينة التي تبثها روح كايا المشرقة حولها بابتسامتها العفوية تلك، كما أنها لفتت انتباهها عن غير قصد منذ البداية إلى مدى انزعاجها من شعرها الكثيف الذي انفك وانتفخ كأنه مظلة، عندما أخذت تحاول بلا فائدة دفعه للخلف وإبعاده عن وجهها وعينيها.
وضعت يلفيا العصا أرضا ثم اقتربت من كايا ونفضت لها غرتها من الغبار بلمسة خفيفة، ثم فكت ربطة شعرها وارتدتها في معصمها..
"استديري، يبدو لي أنه يضايقك كثيرا.." أردفت يلفيا مشيرة لكايا بسبابتها كي تلتف نحو الخلف، ليجيبها صوتها المتردد بعد أن انصاعت لها فورا ملتفتة كما طُلب منها "لـ.. ليس حقا، أنا معتادة عليه، إنه.. فقط ليس ناعما.."
همهمت يلفيا متفهمة ثم استطردت قائلة أثناء تمرير أصابعها بين تلك الخُصَل المموجة ذات اللون النحاسي لتفك العقد العالقة بها "أعتقد أنه جميل جدا، الشعر المموج أجمل من المسترسل في رأيي"
إيجابا هزت كايا رأسها أثناء انشغالها بالعبث بأطراف أصابعها مخفضة عينيها في خجل..
جينوا كانت صامتة تراقب ملامحُها المتوترة والدتَها بصمت، أحيانا ترمق العصا بنظرة خاطفة فتداهمها رعشة باردة تجبرها على ضم أجفانها بشدة.. ومن دون أن تلاحظ، اقتربت فايوليت منها و جلست القرفصاء بجانبها، لتقاطع سخريتُها المصحوبةُ بابتسامة لعوبة شرودَ جينوا..
-"غيرة؟"
ضمت جينوا حاجبيها في امتعاض، ثم ردت باقتضاب "أيفترض بي أن أجيبك على هذا؟" ، بعد ذلك مباشرة أطبقت أجفانها متجاهلة رد فايوليت أيا ما كان، مرسلة زفرة سريعة أقرب ما تكون إلى بصقة في الهواء..
"لا، ليس هذا ما تهمني إجابته.." أردفت فاي التي انمسحت الابتسامة عن ملامحها واستُبدِلت بنظرات جانبية باردة، ثم قامت من مكانها بعد أن أيقنت أن جينوا لن تقدم لها الإجابات التي تبحث عنها على طبق من ذهب، ليس وهي لا تكاد تطيق نطق حرف واحد موجه لها..
سريعا ما فرغت يلفيا من جمع شعر كايا المبعثر في شكل كعكة منتفخة بحجم كرة، لتُفاجَأ بوابل من عبارات الامتنان العفوية التي أمطرتها كايا بها، و التي ما انفكت تهز ذقنها و السعادة جلية على مُحيَّاها لأن رأسها أصبح أخف..
هزت رأسها هي الأخرى بارتياح، تكاد تغرق في ظرافة كايا متناسية للحظات ما جلبها إلى ذلك المكان في المقام الأول.
التقطت يلفيا العصا من الأرض وعادت أدراجها تجاه جينوا، استندت على ركبتيها، بدأت أولا بلف الضمادات حول رأسها ثلاث لفات بالتحديد، ثم مزقتها و عقدتها بإحكام. بعد ذلك أمسكت ذراعها المكسورة بحرص شديد حتى أنها لم تشكُ من أي ألم، تفقدتها بأطراف أصابعها دون الضغط عليها بقوة ثم أشارت إلى البقية كي يتجمعوا حولها..
"لا لن تفعلي.."
استرسلت جينوا التي اصفر وجهها حتى عاد مثل ليمونة ناضجة و بدأت أطرافها تتنمل فزعا مما كانت تنوي يلفيا فعله، وهي تعلم بالضبط ما تنوي فعله.. فقد سبق لها وأن رأت شيئا مشابها من قبل.. غير أنها لم تضع يوما في الحسبان أن ينتهي بها المطاف في موقف معقد مثل ذلك، حيث تُكسر ذراعها مجددا كي تعود العظام إلى أماكنها.. ليس حرفيا ولكنها تدرك كم أن ذلك مؤلم في العادة..
"إذا بقيتِ ثابتة ولم تقاومي، فسينتهي الأمر بسرعة ولن يكون مؤلما كما تتصورين، اتفقنا؟"
ردت يلفيا ببسمة حازمة وشديدة الهدوء، منتظرة من جينوا الاستجابة المطلوبة لذلك التحفيز البسيط الذي غالبا ما ينجح مع الأطفال، غير أن جينوا لم تزدد إلا اصفرارا حتى وصلت إلى مرحلة الشمام، بينما أخذت دموع الفزع تتجمع حول مقلتيها في مقاومة يائسة منها لا تكاد تذكر..
"أسمع صرخاتهم في رأسي!"
أضافت جينوا مستنجدة، تشير في كلامها المبهم إلى ذكرياتها المبعثرة عن رجال كبار شهدتهم يصرخون ألما لما عوملوا بالطريقة ذاتها، فما بالها بنفسها وهي ليست سوى طفلة في الخامسة عشرة..
"أنتما ثبتا ساقيها"
أشارت يلفيا نحو إيفان و أوليفر، متجاهلة بصبر حثيث ترجيات جينوا، كل ما شغلها لحظتها هو إنهاء الأمر بسرعة قبل أن ينفطر قلبها.. وهو الأمر الذي لم تسمح له بالاتضاح على ملامحها بأي ثمن، حفاظا منها على تماسك البقية..
"ألا تحملين معك مخدرا؟!"
استرسلت جينوا صارخة مجددا وقد جعلت إيفان و أوليفر يمران بأسوء لحظات حياتيهما محاولين تثبيت ساقيها المترنحتين..
"رجاء فلتمسك إحداكن بذراعها اليمنى"
و في لمح البصر استجابت ثلاثتهن لأمر يلفيا و انهلن على ذراع جينوا اليسرى يثبتنها بإحكام دفعة واحدة دون اتفاق مسبق، ما جعلها تهز رأسها في استغراب لتنطق إيفا على عجل "صدقيني يا خالة، لا نضمن أن هذا كافٍ"
"حسنا، لا بأس" أضافت يلفيا..
دون وجود ضرورة لطرح المزيد من التوجيهات، أمسكت ذراع جينوا اليمنى من أسفل مرفقها ومن أعلاه، ثم التقطت نفسا عميقا، لم يكن يجدر بها الالتفات إلى جينوا أو النظر في عينيها الدامعتين، ولكنها فعلت ..
أرخت يلفيا رأسها وحررت ذلك النفس، ثم ضغطت على كفيها، سحبت العظم وأدارته بسرعة في لحظة خاطفة، قبل أن تنصاع لقلبها الذي همس لها مترجيا أن تكون أكثر رفقا بابنتها الوحيدة..
*
*
*
*****
Коментарі