Ch 십삼 (Christmas)
الخامس عشر من مايو/ آيار 1966~
اليوم..
الطعام لذيذ على غير العادة،
الجو دافئ على غير العادة،
الحُراس يبتسمون على غير العادة،
الجميع سعيد و مبتهج و مستعد للتسامح و العطاء و نسيان الماضي و البدأ من جديد.. على غير العادة..
فـاليوم..
السيدة "كنغزلي" ستغادر الى أبد الآبدين.
الفكرة في حد ذاتها تشرح الصدر.
كما لو أنه الكريسماس~
بجدية يعتقد أنه لولا الحرج لكان الناس علقوا الزينة و باركو هذه الصبيحة بالتحايا على شاكلة (يوم -إحالة للتقاعد- مجيد)
منذ خروجه من غرفة المعلم للفناء بكتفه المخلوع أمام الجميع ذاك اليوم و ما لبثت أن بدأت الهمسات و اللمزات تتسرب في المكان ک رائحة حذاء نتن لا يمكن التحكم به نهائياً، و وحده الرب يعلم كم أن الرائحة أزعجت المرأة حتى كادت تموت في مكانها إختناقاً.
الهمسات أصبحت بموجب العادة أعلى صوتاً و أكثر غضباً و بدأت تشتعل ثورة مُصغرة في الأفق تشي بأيام حالكة لمستقبل و سمعة المرأة..
ما هذا؟ المديرة تضرب أطفال الملجأ؟
أجل، لكنه "كين" نحن لا نهتم.
لا نهتم.. لكن لننتهز الفرصة حتى آخر قطرة.
أحد المتحمسين اللذين آذتهم المديرة سابقاً قدّم بلاغاً لمصلحة الشئون الإجتماعية و ما لبثت لجنة أكثر حماساً تقتحم المكان برسمية مبالغ فيها لتخرب بيت المرأة و تتوعدها بألف عاقبة و ألف غرامة و ألف سنة سجن.
ثم في لحظة جزع حضر محاميٍ للدفاع عنها ممولاً بالأموال الشحيحة الخاصة بكل من عاونها يوماً في مصائبها على مدار السنوات.
إذا خسرت المرأة فستتكلم كثيراً جداً على سبيل 'إن كنت سأغرق فستغرقون قبلي' و هذا سيطيح بعدة رؤوس بالطبع.
لكن ما حدث هو أن المرأة إستسلمت بشكل كلي و مفاجئ، رفعت الراية البيضاء في أول جلسة في المحكمة مطيحة بعمل المحامي التعس على مدار شهر كامل عرض الحائط.
تراجعت بصمت و هدوء مُطبق و إعترفت بضربها لأحد أطفال الميتم بمساعدة حارسيين مُرغمين لذا لم تذكر أسماءهم و نهضت بإرستقراطيتها المعتادة و بشجاعة غير مسبوقة طلبت من القاضي إنزال أقوى العقوبات بها.
ثم أتبعت هذه المسرحية بخطاب مُتخم بإنجازاتها منذ توليهما الإدارة بالكامل عام 1952 تاركة هيئة المحلفين تكاد تبكي تأثراً.
النتيجة؟
حكم نهائي بإحالة مبكرة للتقاعد و غرامة تبلغ ألف جنيه إسترليني و هي بذلك تعتبر أتفه غرامة في تاريخ محاكم مقاطعة سكاربورو بأكملها.
لم يكن الفتى سعيداً بهذا، بدا له الأمر غريباً جداً كونها نفذت من الموقف بجلدها هكذا.
ماذا؟ ألن تسلخوها حية ک الحرباء؟
ألن تلقوها في النار لتحترق ک ساحرات العصور الغابرة؟
ألن ترجموها بالحجارة ک الزانية؟
ستتركونها تذهب كهذا فقط بسبب قدراتها في التمثيل؟!
لكن جُل ما أغضبه في هذا كله هو أن أحداً لم يعره إهتماماً..
كان المفترض أن يُستدعى الى المحكمة بصفته المجنى عليه كما أفهمته الفتاة الصهباء، كان من المفترض أن يدلي بشهادته و يريهم كل قذارتها و كل ما فعلته به في عشر سنوات، كان من المفترض أن يتمّ إتهامها بالتسبب في حالة رُهاب إجتماعي له و إبعاده عن منزله و عدم تصديق قصة إختطافه و خاصة أن لديه دليل الآن..
"ليزلي"
إنها دليل حى موجود مستعد على إثبات أنه لم يكن يستحق كل هذه الصفعات فيما مضى.
لكن المُعلم "ألفريد" تطوّع مكروهاً على رفع الستار عن حقيقة ما هنالك (أنتَ يا بني مُختلف.. من عِرق مُختلف، إن ظهرت في المحكمة فستقوم قائمة الحكومة في غنى عنها، الأمر ليس إستخفافاً بك، لكنه إستسهال منهم، الأمر ک اوووه إذاً هو آسيوي؟ إذاً أبعدوه عن الأضواء و الويل كل الويل إن علمت الصحافة! البلاد الآن في أزمة فظيعة بسبب قواتها في قناة السويس في مصر و لربما يكون هناك مظاهرات إحتجاجاً على الحرب الغير قانونية، آخر ما تريده الحكومة هو أن يستشيط المهاجرون غضباً على إبنهم الذي يُضرب في ملجأ ما واضعين الجزولين على عود كبريت يشتعل على إستحياء)
(لكنني بريطاني)
(آسف بني.. وجهك لا يخدم هذا النقطة)
بعد هذا الحوار حبس نفسه في حمام المهجع العلوي المهجور و بدأ بالصراخ بأعلى صوته حتى كاد يفقده، حطم الأحواض بقبضته العارية و قذف الحجارة على اي مرآة تجرأت على عكس ملامحه على صفحتها.
كل ما يحدث له بسبب وجهه!
هذا الوجه اللعين و تلك الملامح الصفراء الكريهة!
أنه يكره نفسه.. يكرهها.
إندفعت شجذية زجاجية نحو خده فشوهته.
جلس بسكينة على الأرض في النهاية بعد نوبة هستيريا هزت كيانه و إمتصت طاقته، ثم سمح لشجرة الحياة على منديله بتذوق طعم الدم لأول مرة.. كان متأكداً أنه لسعها قليلاً فدمه كان يغلي غضباً و قهراً.
لكن كان هناك يد خفية إنبثقت من مخيلته لتربت على رأسه و تخبره بـ (لا بأس.. تحمل عام آخر بعد، بعدها ستعود للمنزل و تحكي لهم بسعادة كم كنت تعيساً)
و مع ذلك.. هذا لم يمنع حقيقة أن جزئياً صغيراً به إنفصل عن الأغلبية الساحقة الغاضبة و تحرر ليشعر بالسعادة.
فـاليوم..
الطعام لذيذ على غير العادة،
الجو دافئ على غير العادة،
الحُراس يبتسمون على غير العادة،
الجميع سعيد و مبتهج و مستعد للتسامح و العطاء و نسيان الماضي و البدأ من جديد.. على غير العادة..
فـاليوم..
السيدة "كنغزلي" ستغادر الى أبد الآبدين!
↭◎쇼◎쇼◎↭
الرابع و العشرون من ديسمبر /كانون الثاني 1967~
السادسة ليلاً~
الشمس تتحضّر للموت الأصغر و الظلام يشى بهيمنته المُقبلة لكنهما مع ذلك يقفان في شرفة الطابق العلوي و يشاهدان المعلمين و الحُراس و هم يزينون أشجار الفناء بينما يغنون بصوت عالي و نشاذ، الأطفال الأصغر سناً يتجمهرون حولهم و يتضاحكون بملائكية تشي بسعادتهم بالعيد.
صحيح أن الشرفة ضيقة لكنهما حشرا أجسادهم هناك بعناد ليتمكن كلاهما من الحصول على زاوية مناسبة لمتابعة ما يحدث إذعاناً لرغبتها، فيما مضى كان ليبكى ذعراً لأن أحدهم يلتصق به هكذا، لكنه لا يُمانع بتاتاً الآن كونها.. هي~
(أنتَ مُتحمس؟ يالاهي انا متحمسة كثيراً!)
(اممم.. أحاول ان أصاب بعدوى الحماس منكِ، امم.. أعتقد؟)
(لا تكن مُملاً كين! سيكون الكريسماس هذا العام رائعاً!)
(ليزلي.. انه كريسماس آخر نقضيه في ملجأ للفقراء و الأيتام يحمل إسم قسيس مات منذ مائة عام، كيف يكون هذا رائعاً بحق الرب؟)
(لأننا سنقضيه معاً)
كلمات "ليزلي" جعلت قلبه يعدو في ماراثون أبدي، إنها تعرف إذاً؟ تعرف أن لها هذا التأثير عليه.. تأثير ساحر مُسبب للإبتهاج.
يالا الفضيحة!
لكن بجدية و كأن هذا ليس حقيقياً، إن أحضر أحد هؤلاء الأطفال المتجمهرين عند الشجرة هناك و سأله عن إن كان يبدو سعيداً جداً لأنه معها لكان الطفل هز رأسه بقوة و إبتسم بخبث.
أم أن هذا ليس قصدها؟
هل تقصد أنه هو من يسعدها مثلاً؟
صفع نفسه داخلياً.. أكبر كتلة تشاؤم وجدت يوماً تظن فجأة أنها قد تُسعد أحدهم.
تأملها لثانية سريعة خاطفة حيثُ كانت شاردة الذهن في عملية تزيين الشجرة، كيف لشخص هنا أن تلمع عيناه هكذا؟ إنه أول كريسماس دون والديها، ستقضيه وسط كل هذا الفراغ الروحي و الأيام الآلية و صقيع المشاعر..
كيف لها أن تبتسم؟
لكم شعر بالفخر لأنه صديقها.
(لما تبتسم؟) سألته بفضول.
وضع كفه دون وعي على شفتيه ليتحسسها..
ماذا؟!
متى إبتسم؟!!
حاول نفض الأمر بإحترافية (تذكرت شيئاً هذا كل ما في الأمر)
(إذاً لتتذكر هذا الشئ دائماً.. أريد رؤية إبتسامتك النادرة هذه من وقت لآخر) قالت الفتاة الصهباء بنبرة ضاحكة ثم تجاوزته و رحلت.
إرتعش جسده فجأة بسبب فقدان حرارتها من حوزته، راقبها بطرف عينه و هي تبتعد و تنزل الدرج، ثم تحرك الى نافذة مُختلفة ليستطيع رؤيتها و هي تخرج من بوابة المبنى ليطمأن عليها بشكل خفي.
لكنه تفاجأ كثيراً كونها توقفت في منتصف طريقها لتنظر الى نافذته بثقة و لوحت و كأنه كان واقفاً هناك طيلة الوقت، لوّح لها بذهول و هو مقطوع الأنفاس من الضحك بسبب إلتفاتتها هذه.
فكر: هي لن تكفّ عن جعله يشك في نفسه طوال الوقت بأكثر الطُرق إثارة للإعجاب.
إسترسلت ذكرياته عن العشر شهور الأخيرة في تقليب جعبتها و محتوياتها بينما يراقب بوابة مهجع الفتيات تبتلع قوامها.
كانت عشر شهور بوزن عشر سنوات.
لها تأثير ساحق عليه لن يستطيع الإنكار، لقد جعلته يثق بنفسه من جديد و لهذا كان شاكراً لها و ممتناً.
فجُل ما كان بحاجة له هو صديق.
و قد أحسن قدره الإختيار.. لمرة
قبل مغادرة السيدة "كنغزلي" كان هناك قوانين صارمة من عدم الإختلاط بين مهجع الفتيات و الصبية و كانت وقت الشاي هو الوقت الوحيد المُتسيب الذى إستغله الجميع، لكن مع وقوع الإدارة في يد مساعدتها أصبح التسيب أكثر تسيباً كونها كانت آنسة جامحة متسامحة و مرحة، الدروس أصبحت مختلطة لتوفير الوقت و إستغلاله في النشاطات الترفيهية مما أعطا الصديقين فُرص متجددة يومياً للقاء و الحديث عن كل شيء و لا شيء.
أحاديثهم كانت ودية، حيوية، سخيفة و مضحة، لم تكن تخلو من النميمة و السخرية على هذا او ذاك، ذلك النوع من الأحاديث الذي ينعش الأرواح و يجعل المرء يبتسم حتى تتقلص عضلات وجنتيه و يصبح الأمر مؤلماً.
لكن رغم ما كان يُغلف ألسنتهم من إنطلاق كان هناك مُحرمات في أحاديثم..
التطرق الى الماضي خط أحمر ملتهب و من يتعثر و يتجاوزه سهواً فإن التجاهل او الخصام هو رد الفعل.
هذا القانون لم يُعلن بصوت عالي و لو لمرة لكنه فقط يُستَشعَر، فقط موجود هناك و هما يحترمانه ک قُدس الأقداس.
الغريب أن هذا القانون الصموت هو محور كل شيء، على أساسه لا تتحدث أبداً عن والديها و على أساسه لا تناديه بالإسم الذي يفضله كلاهُما.. و على أساسه لم يسأل على أهل بيته.
كل هذه كانت مواضيع من البديهي أن يتطرقوا إليها، لكن أحداً لم يفعل.
(أين كُنت طوال هذه السنين؟)
(هل عائلتي بخير؟)
(هل تعلم كم بكيتك؟)
(كيف هو تشانيول؟ أيبحث عني؟)
(الجميع كان يحسبك ميتاً!)
(ماذا عن چوزفين و السيد وينستون؟)
(هل تتذكر متجر العم جاكوب؟)
(كيف يبدو هوشو الآن؟)
(هل تتذكر كيف كنت تغني دائماً تلك الأغنية الكورية القديمة؟)
(كيف توفى والداكِ؟)
أسئلة بديهية جداً جداً جداً
لكن أحداً لم يسأل~
و كأن كلاهما يمثلان أن لقاؤهما الأول كان في غُرفة العقاب لا شيء الا لكي يعيشوا بضعة أيام ببال مُرتاح.
(ما الذي تفعله هنا سيد 'صيني'؟ الا تعلم أن الساعة على مشارف السابعة؟ لا تريد تفويت الإحصاء الليلي، أليس كذلك؟)
"چورچ" السخيف جداً السمج جداً الغبي جداً!
بالتأكيد هو كذلك! هل يعتقد أن أي آسيوي صيني؟ إن كان كذلك فهذا لأنه سخيف جداً سمج جداً غبي جداً!
(إنقلع من هُنا) لا.. لم يعد يهابه ک السابق، كلاهما الآن على نفس الكفة، متساويان، يوم له.. و يوم لـ"چورچ" هكذا مرت الشهور الأخيرة.
(هاي.. هدأ من روعك يا صديق، ما رأيك أن نسيـ..)
(إخرس!) زأر الفتى في وجهه و عروق رقبته برزت من مكمنها غضباً.
(لست صديقك!! كف عن هُرائك هذا!) هو ليس عصبياً أبداً لكن هالة "چورچ" من حوله تفوح بالأدرينالين.. الغضب.. العنفوان.. المنافسة، و هي معدية للأسف.
الأشقر يقف مبتسماً لكنها إبتسامة من النوع الشيطاني الذي يشى بكون كبرياءه يحاول تمثيل دور البارد ذو اليد العُليا، هو يعرف هذا النوع من المشاعر فما أكثر المواقف التى إستخدمه فيها.
(ما الذي كنتما تفعلانه وحدكما هاهنا، هممم؟) تسائل الأشقر و عيناه تعكسان ملائكية متضاربة مع أفكاره.
(أمور ليست من شأنك) قالها الفتى ثم دار على كعبيه و سار بإتجاه السلم لا لشيء سوى ليجعل كلمته هي الأخيرة.
و قد كان..
لكن ذهابه السريع لم يجعله يَشهد كيف أن "چورچ" أصبح ذو ملامح حزينة.
↭◎쇼◎쇼◎↭
الخامس و العشرون من ديسمبر /كانون الثاني 1967~
الثامنة صباحاً~
صبيحة العيد لاحت فجراً و أسعدت كل من قابلهم، كل صباح مشابه لما قبله الا صباح العيد، لسبب ما يبدو دائماً و كأنه يأتى للزيارة محملاً بلون فريد للسماء و عبق مختلف للأجواء و إحساس مُنعش في الأرواح.
الجميع نهض مبكراً لسماع ترانيم عيد الميلاد على جهاز الراديو الوضيع الذي نُقل الى البهو خصيصاً لهذه المناسبة، كانت عادة في الملجأ أن يستمعوا الى البث المباشر لـ الأوركسترا الخاصة بمدرسة 'الملكة إليزابيث الثانية' و هي تترنّم بالإنشاد اللاتيني لـ "نور الأُمم" ثم خُطبة القس و تمنياته بأن تحظى الأُمة البريطانية بعيد ميلاد مجيد و بأن تحظى الملكة بعمر طويل مديد.
لكن الفتى لم يكن يشعر بالعيد فعلاً الا عندما يتناول الإفطار المكوّن من الخبز المقلي و الفِطر و الجبن المطبوخ و الحلوى السوداء.
و ما أطرب قلبه بحق أن هناك إشاعة تسربت من مكان ما تشي بأن الغداء سيكون فطيرة اللحم.
مزّق من الحلوى و فوراً أغمض عينيه من نشوة المذاق، و الرب لولا الخجل لكان ذاب في مكانه.
و لسبب ما.. تذكر السيدة "روزماري"
لا يدري لما لكن إجتاحه شعور غريب بأن لها لمسة ما هنا.
ضحك على سخافة تفكيره و سقط قلبه و ضاعت شهيته لذكراها، لكم إفتقدها.
لأسباب ک هذه لا يحبذ الأعياد دائماً، إنه اليوم الذي يجعل حقيقة كونك وحيد و أنك فقدت أحدهم واضحة ک الشمس.
تذكر رائحتها المخلوطة دائماً مع شيء ما و عناقها القطني و كيف كانت تعامله ک شخص ثمين.
إنعطف تفكيره بشكل فطرى إتجاه صديقته كونها الشخص الذي إستبدل القدر بها فقدان السيدة "روزماري" و شعر بالشفقة على حالها، تخيّل كيف تشعر الآن في أول عيد بعيد عن مائدة منزلهم قُرب المدفأة، كان يصلى بألا يتجاوز الأمر معها حد البكاء و أن تنجح في كتم حزنها، حتى الطعام لن يبهجها كثيراً مثله؛ فهي تمقت اللحم بشدة.
لكن مع إعادة التفكير فإنها سخافة ليفكر هكذا، بالتأكيد هي تضحك الآن و تثير الضوضاء في بهو مهجع الفتيات ک عادتها، ذكّر نفسه بأن يسألها بحذر عن حالها بعد الإفطار، لربما تقول شيئاً مناقضاً لتلك الجملة التى تلوكها ليل نهار.. انا بخير.
عندما إنتهى البث أغلق أحد الحراس المذياع و حمله بعيداً كي لا يعبث أحدٌ به و يتلفه، ثم نهض المُعلم "ألفريد" الذي كان الوحيد المتواجد من هيئة التدريس اليوم كون الباقين في أجازة و بدأ بسرد قصة ميلاد يسوع و بأننا يجب أن نلتزم بالوصايا العشر الخاصة به و نخطو خُطاه و نتبع نهجه، ثم جلس و أكمل إفطاره بشهية ضائعة بسبب فتور جمهوره.
مشكلة المُعلم "ألفريد" أنه شخص طيب مُثقف مُتدين.. لكنه مُحاط بمجموعة مراهقين تافهين.
نهض الفتى من إفطاره عندما شعر بالإمتلاء ثم إتجه مباشرةً الى الطابق العلوى حيثُ سيتم اللقاء كما إتفق الصديقان.
أخذ يتسلى بقفز الدرجات و إختبار طول ساقيه بعدد الدرجات التى يستطيع صعودها مرة واحدة ثم يقف ليرقص قليلاً بطريقة مضحكة و يكمل، ما باله في مزاج جيد هكذا؟ ألم يكن مكتئباً منذ دقائق.
ربما هو غريب الأطوار كما يؤمن الجميع فعلاً.
عندما وصل الى الدور العلوى عاد الى كونه كيان طبيعي يسير بطريقة طبيعية، لكنه سمع صوتاً جعله يتسمر مكانه.
(فكري بالأمر، حسناً؟) دون أن ينظر هو يعرف، فـ و الرب لا أحد يملك هذا الصوت اللزج سواه.
(حسناً.. ها أنا أفكر.. امممم.. لا!)
ماذا؟!
"ليزلي"؟
تُحدّث "چورچ"؟
إقترب بحذر شديد من حافة الحائط ليسترق النظر للمشهد و إنتباهه يتحفز بالطاقة القصوى، و كما توقع عقله الباطن.. لم يعجبه ما رآه كثيراً.
(للأسف انا لا أقبل بـ لا ک إجابة) الوغد الدنس الحقير ينتهك مساحتها الشخصية مع كل كلمة تخرج من فمه.
(و للأسف أنت لا تتمتع برفاهية الإختيار) كاد يصفق إعجاباً على ردها.
هو لا يعى ما الذي يحدث لكن من الجلي أنها تقوم بعمل جيد في إفحامه، و صحيح أن هذا لا يبدو وقتاً مناسباً أبداً لكنه لم يستطع عدم ملاحظة أنها ترتدي فستاناً جديداً.
(هل ترفضينني بسببه؟) صوته بدأ يتبلور الى غضب و ک العادة هالة هذا الدنئ تعديه دون وعي.
(لا أنا أرفضك بسببك.. لا أدري كيف لم تلاحظ هذا لكنك لست شخصاً جيداً جداً) أنهت جملتها ثم رفعت إحدى حاجبيها الأحمران بإستنكار.
حينها قرر أنه لن ينتظر حركة "چورچ" القادمة بل سيقتحم الموقف إقتحاماً (ما الذي يحدث هنا؟) سأل بينما يقترب منهما بحركات واسعة، كان يأمل حقاً أن عيناه لا تعكسان ما يشعر به من حريق داخلي.
(لا شيء و هو إنتهى على حال) نطقت "ليزلي" ثم قابلته في منتصف الطريق و كأنها تقول 'لنبتعد من هنا و حسب'
لكنه في الحقيقة أراد إفتعال شجار دامي.
لقد مرت فترة منذ آخر شجار و يبدو أن الموعد الموسمي قد حان، مؤسف أنهم سيفعلونها في الكريسماس، لكن بالتفكير في الأمر.. لما الكريسماس إستثناء؟ وجهه نظيف بطريقة مستفزة مملة و يحتاج الى لكمة لتزينه.
لكن الأشقر فقط تراجع بظهره خطوة ثم إلتف و غادر من الجهة الأخرى و في عينيه نظرة ميتة.
فرّق ما بين شفتيه لينعته بالجبان لكن الضغطة على كفه أخرسته تماماً و بعثرت الحروف في فمه لدرجة أنه لو تكلم لتلعثم.
(هاي.. ما الأمر؟ إهدأ لما أنت متشنج هكذا؟) نظر إليها بعدم تصديق، هل إدعت السذاجة للتو؟
(لا تنظر لي هكذا؟) ضربت كتفه بخفة و هي تضحك، آلمه الأمر قليلاً بسبب إصابته السابقة لكنه إبتلع الألم بقلبٍ راضٍ (بجدية أنت تخيفني) وضعت يدها على قلبها و جحظت عيناها لتمثل كم هي مرعوبة.
و ک العادية مزاجها دائماً له الغلبة على مزاجه فإبتسم ک الأبله رغم أنه حاول كبت الأمر قدر استطاعته و سرعان ما تحول الى فوضى ضحك غير متماسكة.
(تعال! أريد أن أُريك شيئاً) يبدو أن رفاهية الرد ليست متاحة له أيضاً، فالفتاة لم تكد تنهى جملتها حتى سحبته من ذراعه نحو المجهول.
↭◎쇼◎쇼◎↭
(ترآآآآآ~ عيداً مجيداً) بمجرد أن أظهرت له الهدية المُغلفه و على وجهها إبتسامة ضحوك حتى صفع نفسه داخلياً بقسوة.. كم هو مُغفل! لقد نسى تماماً أن يحضر لها شيئاً ما.
(هدية؟ لي أنا؟) لم يشعر في حياته بالسعادة و الحزن في ذات اللحظة هكذا و قد جعله هذا التضارب يشعر بالمرض، يريد الإختفاء! هي تذكرته.. و هو نساها.
(أليس هذا ما يفعله الناس في الكريسماس؟ إفتحها هيا) لكزته بالهدية في معدته بطريقة مشاغبة و بدا و كأن عيناها الخضراوتان تتوسلانه ليسعد بها.
تلعثم بشدة بسبب خجله من نفسه (لـ ليزلـ لي.. أنـ ..ــا أنا لم أحضر لكِ شيئاً)
يا ربآآه ما هذا الموقف؟! لتنشق الأرض و تبتلع أحشائي و حسب
(جيد.. إذاً هذا يتيح لي أن أختار هديتي) طوحت قبضتها في الهواء بإنتصار ثم قالت و هي تضع الصندوق بين يديه (لكن أولاً.. إفتح هديتي)
أخذ نفساً عميقاً ثم بدأ يمزق على مهل أطراف الورق من الجزء العلوى، كانت أفكاره تأكل نفسها من كثرة الإحتمالات المحتملة لما تحمله جعبة ما بين يديه لكن المشكلة تكمن في أن عقله لم يقدم فكرة واضحة و صريحة لشيء ما بعد.
ثم بدأ يتضح الأمر تدريجياً..
شيء ثقيل و له غلاف خارجي سميك ملون..
إنه.. كتاب~
هو يعلم أنه يجب أن يكون ممتناً حد الموت لأنه أهدته شيئاً، فهو لا يتذكر أنه حصل على شيء خاص ک هذا أو أن أحدهم حمل على عاتقه مسئولية التفكير فيه و إهدائه هدية، لكن.. كتاب؟! بجدية؟
(إنه أطلس) فسرّت "ليزلي" بعد أن لمحت بوادر الإستغراب بين حاجبي الفتى (لقد أعطاني إياه المُعلم ألفريد منذ مدة لكني وجدت به شيئاً أعتقد أنه سيدخل الحبور عليك)
تقدمت و فتحته و هو لا يزال بين كفيه على صفحة بعينها كانت قد ثنت جزءاً من طرفها (تمعن جيداً كين) قالت و هي تعيد عينيها الى وجه الفتى (موطنك ها هُنا)
تأمل الفتى الرسمة الغريبة الملونة بقلبٍ إنتفخ تدريجياً بألف ذكرى و حكاية، رفع أنامله ليسير على خطوط الطول و دوائر العرض و أسماء المُدن و النهر الوهمي الذي يشق الصفحة، ثم و بكامل إنتباهه.. حرّك أنامله بتأني و حب على الكلمة الكبيرة التى تتوسط كل هذا الجمال.
South Korea
•كوريا الجنوبية•
يا ربآآآآه كيف لكلمة أن تُحطم أسبار روحه هكذا؟!
إبتسم ملئ ثغره و قلبه و قام بتقبيل الكلمة بكل ما وجد يوماً في جسده من عاطفة، قبلها من جديد، ثم قبلها مراراً و تكراراً و لم يتوقف الا عندما أجهش بالبكاء فخاف أن تتلوث الصفحة بملحه حرصاً عليها.
رفع رأسه إتجاه الصهباء التى كانت خاشعة في وقفتها و بنبرة باسمة تتضاربت مع ما يتساقط من عينيه قال ملئ قلبه (كيف أشكرك أنا؟)
كانت الفتاة هادئة على غير العادة و كأنها تخشى أن تقاطع سعادته و لو بصوت تنفسها، كانت هادئة في وقفتها و ملامحها تُنبأ بتفكير عميق، قالت بعد بُرهة (تلك الأغنية.. أغنية إعتدت ترنيمها و الدندنة بها كلما إختليت بنفسك.. الأغنية الكورية التى أخبرتني يوماً أنها تحكي عن الوطن.. العودة الى الوطن، تتذكرها؟ لحنها لم يفارقني و كثيراً كان اللحن يأتي و يروح على لساني لكنه يظل محبوساً في مكانه لأني لم أعلم الكلمات أبداً، كنت أشعر بالإنزعاج و الإختناق و بأني مقيدة و بشدة و عاجزة.. تلك الأغنية.. هلا غنيتها؟)
نظر الفتى الى السماء من النافذة و كأنه ينتظرها أن تهمس بالكلمات في وجدانه، أغمض عينيه يستحضر أول مقطع من الأغنية، يشعر به على لسانه بالفعل و لكن الكلمات مبعثرة يكسوها تراب الزمن.
بِضعةُ أيّام..
بِضعةُ أيامٍ بَعيداً عَن المَنزلِ بِمَثابةِ عَشرِ أَعوَام
فَتحتُ النّافذةَ و نَظرتُ الى السّماءِ
شَجرةُ الصّفصَافِ أمامَ مَنزلي كانت لتَكونَ خَضراءَ في الرّبيعِ الآن
' تاهيانغ سال'
↭◎쇼◎쇼◎↭
الأول من يناير/كانون الثاني 1967~
الثانية عشرة ظهراً~
كان الرجل يتكلم بحماس.. يتكلم من قلبه.. يتكلم عن شيء يحبه و يعشقه..
يتكلم عن التاريخ.
لكن سُمعت طرقات واثقة على باب الفصل ذابحةً حالة الإنتشاء التى تلبسته و ما لبثت الآنسة "ليليان" المديرة المُبتسمة بالدخول قائلةً (آسفة لمقاطعة الدرس مُعلم ألفريد.. لكني أريد كين في الحال)
توترت عضلات الفتى دون وعى حينما سمع لقبه و تبادل النظرات مع الصهباء الجالسة جواره، هذا لم يحدث من قبل و قد جعل هذا الإستدعاء كلاهُما متوجس و متحفز.
قال المُعلم و هو يلوح بيده بحسرة (ليذهب.. هو لم يكف عن الكلام مع ليزلي طوال الدرس على كُل حال)
تسببت جملته في إضحاك عدة أشخاص من بينهم الفتاة، مما جعل وجنتي الفتى تشتعلان خجلاً فقام مُسرعاً من مكانه يهرب من الموقف.
بسطت الآنسة "ليليان" ذراعيها تحفزه ليتقدمها ثم أغلقت الباب و سارت بجواره دون أن تنطق سوى بإبتسامتها الناعمة.
تحمحم الفتى و نظّف حلقه ثم تجرأ على السؤال (كُل شيء بخير؟)
نظرت المديرة له و أومأت (كل شيء رائع! أنتَ فقط لديك زائر عزيزي، أعلم أنك ستسعد به لذا أتيت لأحضرك بنفسي)
زائر؟!
إبتلع قلبه الذي بطريقة ما كان محشوراً في حلقه فجأة من التوتر و سأل بحذر شديد و كأنه سيتأذى من السؤال (مَن؟)
وقفت الآنسة "ليليان" أمام الباب و وضعت يدها على المقبض بطريقة درامية (ها أنت ستعرف.. مُستعد؟)
لا!
(سأترككما لبعض الوقت) دفعت المديرة الفتى الى الداخل كونه لم يتحرك قيد أنملة ثم أغلقت الباب عليه بصحبة المجهول.
راحتا يديه بدأت بالتعرُّق و شعر بقطرات أخرى تنحدر بطول ظهره مسببةً قشعريرة غير مُحببة، لا يدري لما هو بهذا الخوف.
تمالك نفسه و بحث بعينيه في الأرجاء حتى إصطدمتا بفستان قديم الطراز طويل الأكمام بجوار النافذة.
كانت السيدة "روزماري" تبتسم بوهن له و تبدو أبعد ما يكون عن الكيان الذي يتذكره.
لما؟
لما يتغير الناس؟!
ليتغير كُل عباد الرب الا هي! الا هي!
إقترب ببطء منها حتى وقف أمامها (روزي؟)
خرج إسمها ک تساؤل رغماً عنه، فقدت من وزنها الكثير و غارت عيناها و لكم آلامه أن هذا حدث.
أخذت المرأة بيده و جلست ع كرسي قريب و سقطت عليه و كأن طاقتها خذلتها في الوقت المناسب، فجثا على ركبتيه أمامها و أخذ يتفحصها كلها قلقاً (روزي)
مالت المرأة للأمام و مددت أناملها لتمسح على خصلاته، لم تقل شيئاً، فقط تنهدت و كأنها تزفر همّ العوالم أجمع.
مرت عدة دقائق بدأ فيها الفتى يُدرك أنه يبكى، مرت دقائق أخرى بدأ فيها يبكى بحرقة، دقائق بعد و تحولت الدموع الى عواء مخنوق و في النهاية تحول كل هذا الى شهقة مُحرجة تفلت من بين أنفاسه مُنذرة بكونه يحاول إبتلاع كل هذا الألم.
كل هذا و المرأة لم تنطق حرفاً، إكتفت بالمسح على شعره بيد واحدة.. تسريحه و العبث به و تجفيف كل هذا الماء المالح بطرف ثوبها من على وجهه.
(هل تكرهني كين؟) تكلمت أخيراً بآخر كلمات توقعها، هز رأسه المدفون في حضنها بقوة جبّارة حتى كاد يدق عنقه.
(إذاً لا تفعل أبداً مهما حدث) إنه لا يفهم ما يجري و قد بدأ يتشائم حقاً، يبحث بأنفه عن تلك الرائحة المُشهية الدافئة لعشبة او بُهار ما لكن تم إستبدالها برائحة كيماوية غريبة.
أكملت (هل تعدني؟ هل تعدني بأنك لن تكرهني؟ سأظل روزي، صحيح؟ مهما حدث و مهما مرّت أوقات.. سأظل ثابتة الصورة في نظرك، حسناً؟)
رفع رأسه أخيراً و نظر في عينيها ثم الى كامل وجهها، أراد قول شيء لكنها نهضت فأنهضته معها حينها لاحظ المظروف الذي كانت تحمله في يدها الأخرى، هل كان هناك طوال الوقت؟ ليس متأكداً.
(إقرأه.. خُذ وقتك و عندما تنتهى سآتي للزيارة مجدداً)
و رحلت~
↭◎쇼◎쇼◎↭
يُتبع..
Like ♡
Comment 💬
Follow ✔
♕ 어먼EMY ♕
اليوم..
الطعام لذيذ على غير العادة،
الجو دافئ على غير العادة،
الحُراس يبتسمون على غير العادة،
الجميع سعيد و مبتهج و مستعد للتسامح و العطاء و نسيان الماضي و البدأ من جديد.. على غير العادة..
فـاليوم..
السيدة "كنغزلي" ستغادر الى أبد الآبدين.
الفكرة في حد ذاتها تشرح الصدر.
كما لو أنه الكريسماس~
بجدية يعتقد أنه لولا الحرج لكان الناس علقوا الزينة و باركو هذه الصبيحة بالتحايا على شاكلة (يوم -إحالة للتقاعد- مجيد)
منذ خروجه من غرفة المعلم للفناء بكتفه المخلوع أمام الجميع ذاك اليوم و ما لبثت أن بدأت الهمسات و اللمزات تتسرب في المكان ک رائحة حذاء نتن لا يمكن التحكم به نهائياً، و وحده الرب يعلم كم أن الرائحة أزعجت المرأة حتى كادت تموت في مكانها إختناقاً.
الهمسات أصبحت بموجب العادة أعلى صوتاً و أكثر غضباً و بدأت تشتعل ثورة مُصغرة في الأفق تشي بأيام حالكة لمستقبل و سمعة المرأة..
ما هذا؟ المديرة تضرب أطفال الملجأ؟
أجل، لكنه "كين" نحن لا نهتم.
لا نهتم.. لكن لننتهز الفرصة حتى آخر قطرة.
أحد المتحمسين اللذين آذتهم المديرة سابقاً قدّم بلاغاً لمصلحة الشئون الإجتماعية و ما لبثت لجنة أكثر حماساً تقتحم المكان برسمية مبالغ فيها لتخرب بيت المرأة و تتوعدها بألف عاقبة و ألف غرامة و ألف سنة سجن.
ثم في لحظة جزع حضر محاميٍ للدفاع عنها ممولاً بالأموال الشحيحة الخاصة بكل من عاونها يوماً في مصائبها على مدار السنوات.
إذا خسرت المرأة فستتكلم كثيراً جداً على سبيل 'إن كنت سأغرق فستغرقون قبلي' و هذا سيطيح بعدة رؤوس بالطبع.
لكن ما حدث هو أن المرأة إستسلمت بشكل كلي و مفاجئ، رفعت الراية البيضاء في أول جلسة في المحكمة مطيحة بعمل المحامي التعس على مدار شهر كامل عرض الحائط.
تراجعت بصمت و هدوء مُطبق و إعترفت بضربها لأحد أطفال الميتم بمساعدة حارسيين مُرغمين لذا لم تذكر أسماءهم و نهضت بإرستقراطيتها المعتادة و بشجاعة غير مسبوقة طلبت من القاضي إنزال أقوى العقوبات بها.
ثم أتبعت هذه المسرحية بخطاب مُتخم بإنجازاتها منذ توليهما الإدارة بالكامل عام 1952 تاركة هيئة المحلفين تكاد تبكي تأثراً.
النتيجة؟
حكم نهائي بإحالة مبكرة للتقاعد و غرامة تبلغ ألف جنيه إسترليني و هي بذلك تعتبر أتفه غرامة في تاريخ محاكم مقاطعة سكاربورو بأكملها.
لم يكن الفتى سعيداً بهذا، بدا له الأمر غريباً جداً كونها نفذت من الموقف بجلدها هكذا.
ماذا؟ ألن تسلخوها حية ک الحرباء؟
ألن تلقوها في النار لتحترق ک ساحرات العصور الغابرة؟
ألن ترجموها بالحجارة ک الزانية؟
ستتركونها تذهب كهذا فقط بسبب قدراتها في التمثيل؟!
لكن جُل ما أغضبه في هذا كله هو أن أحداً لم يعره إهتماماً..
كان المفترض أن يُستدعى الى المحكمة بصفته المجنى عليه كما أفهمته الفتاة الصهباء، كان من المفترض أن يدلي بشهادته و يريهم كل قذارتها و كل ما فعلته به في عشر سنوات، كان من المفترض أن يتمّ إتهامها بالتسبب في حالة رُهاب إجتماعي له و إبعاده عن منزله و عدم تصديق قصة إختطافه و خاصة أن لديه دليل الآن..
"ليزلي"
إنها دليل حى موجود مستعد على إثبات أنه لم يكن يستحق كل هذه الصفعات فيما مضى.
لكن المُعلم "ألفريد" تطوّع مكروهاً على رفع الستار عن حقيقة ما هنالك (أنتَ يا بني مُختلف.. من عِرق مُختلف، إن ظهرت في المحكمة فستقوم قائمة الحكومة في غنى عنها، الأمر ليس إستخفافاً بك، لكنه إستسهال منهم، الأمر ک اوووه إذاً هو آسيوي؟ إذاً أبعدوه عن الأضواء و الويل كل الويل إن علمت الصحافة! البلاد الآن في أزمة فظيعة بسبب قواتها في قناة السويس في مصر و لربما يكون هناك مظاهرات إحتجاجاً على الحرب الغير قانونية، آخر ما تريده الحكومة هو أن يستشيط المهاجرون غضباً على إبنهم الذي يُضرب في ملجأ ما واضعين الجزولين على عود كبريت يشتعل على إستحياء)
(لكنني بريطاني)
(آسف بني.. وجهك لا يخدم هذا النقطة)
بعد هذا الحوار حبس نفسه في حمام المهجع العلوي المهجور و بدأ بالصراخ بأعلى صوته حتى كاد يفقده، حطم الأحواض بقبضته العارية و قذف الحجارة على اي مرآة تجرأت على عكس ملامحه على صفحتها.
كل ما يحدث له بسبب وجهه!
هذا الوجه اللعين و تلك الملامح الصفراء الكريهة!
أنه يكره نفسه.. يكرهها.
إندفعت شجذية زجاجية نحو خده فشوهته.
جلس بسكينة على الأرض في النهاية بعد نوبة هستيريا هزت كيانه و إمتصت طاقته، ثم سمح لشجرة الحياة على منديله بتذوق طعم الدم لأول مرة.. كان متأكداً أنه لسعها قليلاً فدمه كان يغلي غضباً و قهراً.
لكن كان هناك يد خفية إنبثقت من مخيلته لتربت على رأسه و تخبره بـ (لا بأس.. تحمل عام آخر بعد، بعدها ستعود للمنزل و تحكي لهم بسعادة كم كنت تعيساً)
و مع ذلك.. هذا لم يمنع حقيقة أن جزئياً صغيراً به إنفصل عن الأغلبية الساحقة الغاضبة و تحرر ليشعر بالسعادة.
فـاليوم..
الطعام لذيذ على غير العادة،
الجو دافئ على غير العادة،
الحُراس يبتسمون على غير العادة،
الجميع سعيد و مبتهج و مستعد للتسامح و العطاء و نسيان الماضي و البدأ من جديد.. على غير العادة..
فـاليوم..
السيدة "كنغزلي" ستغادر الى أبد الآبدين!
↭◎쇼◎쇼◎↭
الرابع و العشرون من ديسمبر /كانون الثاني 1967~
السادسة ليلاً~
الشمس تتحضّر للموت الأصغر و الظلام يشى بهيمنته المُقبلة لكنهما مع ذلك يقفان في شرفة الطابق العلوي و يشاهدان المعلمين و الحُراس و هم يزينون أشجار الفناء بينما يغنون بصوت عالي و نشاذ، الأطفال الأصغر سناً يتجمهرون حولهم و يتضاحكون بملائكية تشي بسعادتهم بالعيد.
صحيح أن الشرفة ضيقة لكنهما حشرا أجسادهم هناك بعناد ليتمكن كلاهما من الحصول على زاوية مناسبة لمتابعة ما يحدث إذعاناً لرغبتها، فيما مضى كان ليبكى ذعراً لأن أحدهم يلتصق به هكذا، لكنه لا يُمانع بتاتاً الآن كونها.. هي~
(أنتَ مُتحمس؟ يالاهي انا متحمسة كثيراً!)
(اممم.. أحاول ان أصاب بعدوى الحماس منكِ، امم.. أعتقد؟)
(لا تكن مُملاً كين! سيكون الكريسماس هذا العام رائعاً!)
(ليزلي.. انه كريسماس آخر نقضيه في ملجأ للفقراء و الأيتام يحمل إسم قسيس مات منذ مائة عام، كيف يكون هذا رائعاً بحق الرب؟)
(لأننا سنقضيه معاً)
كلمات "ليزلي" جعلت قلبه يعدو في ماراثون أبدي، إنها تعرف إذاً؟ تعرف أن لها هذا التأثير عليه.. تأثير ساحر مُسبب للإبتهاج.
يالا الفضيحة!
لكن بجدية و كأن هذا ليس حقيقياً، إن أحضر أحد هؤلاء الأطفال المتجمهرين عند الشجرة هناك و سأله عن إن كان يبدو سعيداً جداً لأنه معها لكان الطفل هز رأسه بقوة و إبتسم بخبث.
أم أن هذا ليس قصدها؟
هل تقصد أنه هو من يسعدها مثلاً؟
صفع نفسه داخلياً.. أكبر كتلة تشاؤم وجدت يوماً تظن فجأة أنها قد تُسعد أحدهم.
تأملها لثانية سريعة خاطفة حيثُ كانت شاردة الذهن في عملية تزيين الشجرة، كيف لشخص هنا أن تلمع عيناه هكذا؟ إنه أول كريسماس دون والديها، ستقضيه وسط كل هذا الفراغ الروحي و الأيام الآلية و صقيع المشاعر..
كيف لها أن تبتسم؟
لكم شعر بالفخر لأنه صديقها.
(لما تبتسم؟) سألته بفضول.
وضع كفه دون وعي على شفتيه ليتحسسها..
ماذا؟!
متى إبتسم؟!!
حاول نفض الأمر بإحترافية (تذكرت شيئاً هذا كل ما في الأمر)
(إذاً لتتذكر هذا الشئ دائماً.. أريد رؤية إبتسامتك النادرة هذه من وقت لآخر) قالت الفتاة الصهباء بنبرة ضاحكة ثم تجاوزته و رحلت.
إرتعش جسده فجأة بسبب فقدان حرارتها من حوزته، راقبها بطرف عينه و هي تبتعد و تنزل الدرج، ثم تحرك الى نافذة مُختلفة ليستطيع رؤيتها و هي تخرج من بوابة المبنى ليطمأن عليها بشكل خفي.
لكنه تفاجأ كثيراً كونها توقفت في منتصف طريقها لتنظر الى نافذته بثقة و لوحت و كأنه كان واقفاً هناك طيلة الوقت، لوّح لها بذهول و هو مقطوع الأنفاس من الضحك بسبب إلتفاتتها هذه.
فكر: هي لن تكفّ عن جعله يشك في نفسه طوال الوقت بأكثر الطُرق إثارة للإعجاب.
إسترسلت ذكرياته عن العشر شهور الأخيرة في تقليب جعبتها و محتوياتها بينما يراقب بوابة مهجع الفتيات تبتلع قوامها.
كانت عشر شهور بوزن عشر سنوات.
لها تأثير ساحق عليه لن يستطيع الإنكار، لقد جعلته يثق بنفسه من جديد و لهذا كان شاكراً لها و ممتناً.
فجُل ما كان بحاجة له هو صديق.
و قد أحسن قدره الإختيار.. لمرة
قبل مغادرة السيدة "كنغزلي" كان هناك قوانين صارمة من عدم الإختلاط بين مهجع الفتيات و الصبية و كانت وقت الشاي هو الوقت الوحيد المُتسيب الذى إستغله الجميع، لكن مع وقوع الإدارة في يد مساعدتها أصبح التسيب أكثر تسيباً كونها كانت آنسة جامحة متسامحة و مرحة، الدروس أصبحت مختلطة لتوفير الوقت و إستغلاله في النشاطات الترفيهية مما أعطا الصديقين فُرص متجددة يومياً للقاء و الحديث عن كل شيء و لا شيء.
أحاديثهم كانت ودية، حيوية، سخيفة و مضحة، لم تكن تخلو من النميمة و السخرية على هذا او ذاك، ذلك النوع من الأحاديث الذي ينعش الأرواح و يجعل المرء يبتسم حتى تتقلص عضلات وجنتيه و يصبح الأمر مؤلماً.
لكن رغم ما كان يُغلف ألسنتهم من إنطلاق كان هناك مُحرمات في أحاديثم..
التطرق الى الماضي خط أحمر ملتهب و من يتعثر و يتجاوزه سهواً فإن التجاهل او الخصام هو رد الفعل.
هذا القانون لم يُعلن بصوت عالي و لو لمرة لكنه فقط يُستَشعَر، فقط موجود هناك و هما يحترمانه ک قُدس الأقداس.
الغريب أن هذا القانون الصموت هو محور كل شيء، على أساسه لا تتحدث أبداً عن والديها و على أساسه لا تناديه بالإسم الذي يفضله كلاهُما.. و على أساسه لم يسأل على أهل بيته.
كل هذه كانت مواضيع من البديهي أن يتطرقوا إليها، لكن أحداً لم يفعل.
(أين كُنت طوال هذه السنين؟)
(هل عائلتي بخير؟)
(هل تعلم كم بكيتك؟)
(كيف هو تشانيول؟ أيبحث عني؟)
(الجميع كان يحسبك ميتاً!)
(ماذا عن چوزفين و السيد وينستون؟)
(هل تتذكر متجر العم جاكوب؟)
(كيف يبدو هوشو الآن؟)
(هل تتذكر كيف كنت تغني دائماً تلك الأغنية الكورية القديمة؟)
(كيف توفى والداكِ؟)
أسئلة بديهية جداً جداً جداً
لكن أحداً لم يسأل~
و كأن كلاهما يمثلان أن لقاؤهما الأول كان في غُرفة العقاب لا شيء الا لكي يعيشوا بضعة أيام ببال مُرتاح.
(ما الذي تفعله هنا سيد 'صيني'؟ الا تعلم أن الساعة على مشارف السابعة؟ لا تريد تفويت الإحصاء الليلي، أليس كذلك؟)
"چورچ" السخيف جداً السمج جداً الغبي جداً!
بالتأكيد هو كذلك! هل يعتقد أن أي آسيوي صيني؟ إن كان كذلك فهذا لأنه سخيف جداً سمج جداً غبي جداً!
(إنقلع من هُنا) لا.. لم يعد يهابه ک السابق، كلاهما الآن على نفس الكفة، متساويان، يوم له.. و يوم لـ"چورچ" هكذا مرت الشهور الأخيرة.
(هاي.. هدأ من روعك يا صديق، ما رأيك أن نسيـ..)
(إخرس!) زأر الفتى في وجهه و عروق رقبته برزت من مكمنها غضباً.
(لست صديقك!! كف عن هُرائك هذا!) هو ليس عصبياً أبداً لكن هالة "چورچ" من حوله تفوح بالأدرينالين.. الغضب.. العنفوان.. المنافسة، و هي معدية للأسف.
الأشقر يقف مبتسماً لكنها إبتسامة من النوع الشيطاني الذي يشى بكون كبرياءه يحاول تمثيل دور البارد ذو اليد العُليا، هو يعرف هذا النوع من المشاعر فما أكثر المواقف التى إستخدمه فيها.
(ما الذي كنتما تفعلانه وحدكما هاهنا، هممم؟) تسائل الأشقر و عيناه تعكسان ملائكية متضاربة مع أفكاره.
(أمور ليست من شأنك) قالها الفتى ثم دار على كعبيه و سار بإتجاه السلم لا لشيء سوى ليجعل كلمته هي الأخيرة.
و قد كان..
لكن ذهابه السريع لم يجعله يَشهد كيف أن "چورچ" أصبح ذو ملامح حزينة.
↭◎쇼◎쇼◎↭
الخامس و العشرون من ديسمبر /كانون الثاني 1967~
الثامنة صباحاً~
صبيحة العيد لاحت فجراً و أسعدت كل من قابلهم، كل صباح مشابه لما قبله الا صباح العيد، لسبب ما يبدو دائماً و كأنه يأتى للزيارة محملاً بلون فريد للسماء و عبق مختلف للأجواء و إحساس مُنعش في الأرواح.
الجميع نهض مبكراً لسماع ترانيم عيد الميلاد على جهاز الراديو الوضيع الذي نُقل الى البهو خصيصاً لهذه المناسبة، كانت عادة في الملجأ أن يستمعوا الى البث المباشر لـ الأوركسترا الخاصة بمدرسة 'الملكة إليزابيث الثانية' و هي تترنّم بالإنشاد اللاتيني لـ "نور الأُمم" ثم خُطبة القس و تمنياته بأن تحظى الأُمة البريطانية بعيد ميلاد مجيد و بأن تحظى الملكة بعمر طويل مديد.
لكن الفتى لم يكن يشعر بالعيد فعلاً الا عندما يتناول الإفطار المكوّن من الخبز المقلي و الفِطر و الجبن المطبوخ و الحلوى السوداء.
و ما أطرب قلبه بحق أن هناك إشاعة تسربت من مكان ما تشي بأن الغداء سيكون فطيرة اللحم.
مزّق من الحلوى و فوراً أغمض عينيه من نشوة المذاق، و الرب لولا الخجل لكان ذاب في مكانه.
و لسبب ما.. تذكر السيدة "روزماري"
لا يدري لما لكن إجتاحه شعور غريب بأن لها لمسة ما هنا.
ضحك على سخافة تفكيره و سقط قلبه و ضاعت شهيته لذكراها، لكم إفتقدها.
لأسباب ک هذه لا يحبذ الأعياد دائماً، إنه اليوم الذي يجعل حقيقة كونك وحيد و أنك فقدت أحدهم واضحة ک الشمس.
تذكر رائحتها المخلوطة دائماً مع شيء ما و عناقها القطني و كيف كانت تعامله ک شخص ثمين.
إنعطف تفكيره بشكل فطرى إتجاه صديقته كونها الشخص الذي إستبدل القدر بها فقدان السيدة "روزماري" و شعر بالشفقة على حالها، تخيّل كيف تشعر الآن في أول عيد بعيد عن مائدة منزلهم قُرب المدفأة، كان يصلى بألا يتجاوز الأمر معها حد البكاء و أن تنجح في كتم حزنها، حتى الطعام لن يبهجها كثيراً مثله؛ فهي تمقت اللحم بشدة.
لكن مع إعادة التفكير فإنها سخافة ليفكر هكذا، بالتأكيد هي تضحك الآن و تثير الضوضاء في بهو مهجع الفتيات ک عادتها، ذكّر نفسه بأن يسألها بحذر عن حالها بعد الإفطار، لربما تقول شيئاً مناقضاً لتلك الجملة التى تلوكها ليل نهار.. انا بخير.
عندما إنتهى البث أغلق أحد الحراس المذياع و حمله بعيداً كي لا يعبث أحدٌ به و يتلفه، ثم نهض المُعلم "ألفريد" الذي كان الوحيد المتواجد من هيئة التدريس اليوم كون الباقين في أجازة و بدأ بسرد قصة ميلاد يسوع و بأننا يجب أن نلتزم بالوصايا العشر الخاصة به و نخطو خُطاه و نتبع نهجه، ثم جلس و أكمل إفطاره بشهية ضائعة بسبب فتور جمهوره.
مشكلة المُعلم "ألفريد" أنه شخص طيب مُثقف مُتدين.. لكنه مُحاط بمجموعة مراهقين تافهين.
نهض الفتى من إفطاره عندما شعر بالإمتلاء ثم إتجه مباشرةً الى الطابق العلوى حيثُ سيتم اللقاء كما إتفق الصديقان.
أخذ يتسلى بقفز الدرجات و إختبار طول ساقيه بعدد الدرجات التى يستطيع صعودها مرة واحدة ثم يقف ليرقص قليلاً بطريقة مضحكة و يكمل، ما باله في مزاج جيد هكذا؟ ألم يكن مكتئباً منذ دقائق.
ربما هو غريب الأطوار كما يؤمن الجميع فعلاً.
عندما وصل الى الدور العلوى عاد الى كونه كيان طبيعي يسير بطريقة طبيعية، لكنه سمع صوتاً جعله يتسمر مكانه.
(فكري بالأمر، حسناً؟) دون أن ينظر هو يعرف، فـ و الرب لا أحد يملك هذا الصوت اللزج سواه.
(حسناً.. ها أنا أفكر.. امممم.. لا!)
ماذا؟!
"ليزلي"؟
تُحدّث "چورچ"؟
إقترب بحذر شديد من حافة الحائط ليسترق النظر للمشهد و إنتباهه يتحفز بالطاقة القصوى، و كما توقع عقله الباطن.. لم يعجبه ما رآه كثيراً.
(للأسف انا لا أقبل بـ لا ک إجابة) الوغد الدنس الحقير ينتهك مساحتها الشخصية مع كل كلمة تخرج من فمه.
(و للأسف أنت لا تتمتع برفاهية الإختيار) كاد يصفق إعجاباً على ردها.
هو لا يعى ما الذي يحدث لكن من الجلي أنها تقوم بعمل جيد في إفحامه، و صحيح أن هذا لا يبدو وقتاً مناسباً أبداً لكنه لم يستطع عدم ملاحظة أنها ترتدي فستاناً جديداً.
(هل ترفضينني بسببه؟) صوته بدأ يتبلور الى غضب و ک العادة هالة هذا الدنئ تعديه دون وعي.
(لا أنا أرفضك بسببك.. لا أدري كيف لم تلاحظ هذا لكنك لست شخصاً جيداً جداً) أنهت جملتها ثم رفعت إحدى حاجبيها الأحمران بإستنكار.
حينها قرر أنه لن ينتظر حركة "چورچ" القادمة بل سيقتحم الموقف إقتحاماً (ما الذي يحدث هنا؟) سأل بينما يقترب منهما بحركات واسعة، كان يأمل حقاً أن عيناه لا تعكسان ما يشعر به من حريق داخلي.
(لا شيء و هو إنتهى على حال) نطقت "ليزلي" ثم قابلته في منتصف الطريق و كأنها تقول 'لنبتعد من هنا و حسب'
لكنه في الحقيقة أراد إفتعال شجار دامي.
لقد مرت فترة منذ آخر شجار و يبدو أن الموعد الموسمي قد حان، مؤسف أنهم سيفعلونها في الكريسماس، لكن بالتفكير في الأمر.. لما الكريسماس إستثناء؟ وجهه نظيف بطريقة مستفزة مملة و يحتاج الى لكمة لتزينه.
لكن الأشقر فقط تراجع بظهره خطوة ثم إلتف و غادر من الجهة الأخرى و في عينيه نظرة ميتة.
فرّق ما بين شفتيه لينعته بالجبان لكن الضغطة على كفه أخرسته تماماً و بعثرت الحروف في فمه لدرجة أنه لو تكلم لتلعثم.
(هاي.. ما الأمر؟ إهدأ لما أنت متشنج هكذا؟) نظر إليها بعدم تصديق، هل إدعت السذاجة للتو؟
(لا تنظر لي هكذا؟) ضربت كتفه بخفة و هي تضحك، آلمه الأمر قليلاً بسبب إصابته السابقة لكنه إبتلع الألم بقلبٍ راضٍ (بجدية أنت تخيفني) وضعت يدها على قلبها و جحظت عيناها لتمثل كم هي مرعوبة.
و ک العادية مزاجها دائماً له الغلبة على مزاجه فإبتسم ک الأبله رغم أنه حاول كبت الأمر قدر استطاعته و سرعان ما تحول الى فوضى ضحك غير متماسكة.
(تعال! أريد أن أُريك شيئاً) يبدو أن رفاهية الرد ليست متاحة له أيضاً، فالفتاة لم تكد تنهى جملتها حتى سحبته من ذراعه نحو المجهول.
↭◎쇼◎쇼◎↭
(ترآآآآآ~ عيداً مجيداً) بمجرد أن أظهرت له الهدية المُغلفه و على وجهها إبتسامة ضحوك حتى صفع نفسه داخلياً بقسوة.. كم هو مُغفل! لقد نسى تماماً أن يحضر لها شيئاً ما.
(هدية؟ لي أنا؟) لم يشعر في حياته بالسعادة و الحزن في ذات اللحظة هكذا و قد جعله هذا التضارب يشعر بالمرض، يريد الإختفاء! هي تذكرته.. و هو نساها.
(أليس هذا ما يفعله الناس في الكريسماس؟ إفتحها هيا) لكزته بالهدية في معدته بطريقة مشاغبة و بدا و كأن عيناها الخضراوتان تتوسلانه ليسعد بها.
تلعثم بشدة بسبب خجله من نفسه (لـ ليزلـ لي.. أنـ ..ــا أنا لم أحضر لكِ شيئاً)
يا ربآآه ما هذا الموقف؟! لتنشق الأرض و تبتلع أحشائي و حسب
(جيد.. إذاً هذا يتيح لي أن أختار هديتي) طوحت قبضتها في الهواء بإنتصار ثم قالت و هي تضع الصندوق بين يديه (لكن أولاً.. إفتح هديتي)
أخذ نفساً عميقاً ثم بدأ يمزق على مهل أطراف الورق من الجزء العلوى، كانت أفكاره تأكل نفسها من كثرة الإحتمالات المحتملة لما تحمله جعبة ما بين يديه لكن المشكلة تكمن في أن عقله لم يقدم فكرة واضحة و صريحة لشيء ما بعد.
ثم بدأ يتضح الأمر تدريجياً..
شيء ثقيل و له غلاف خارجي سميك ملون..
إنه.. كتاب~
هو يعلم أنه يجب أن يكون ممتناً حد الموت لأنه أهدته شيئاً، فهو لا يتذكر أنه حصل على شيء خاص ک هذا أو أن أحدهم حمل على عاتقه مسئولية التفكير فيه و إهدائه هدية، لكن.. كتاب؟! بجدية؟
(إنه أطلس) فسرّت "ليزلي" بعد أن لمحت بوادر الإستغراب بين حاجبي الفتى (لقد أعطاني إياه المُعلم ألفريد منذ مدة لكني وجدت به شيئاً أعتقد أنه سيدخل الحبور عليك)
تقدمت و فتحته و هو لا يزال بين كفيه على صفحة بعينها كانت قد ثنت جزءاً من طرفها (تمعن جيداً كين) قالت و هي تعيد عينيها الى وجه الفتى (موطنك ها هُنا)
تأمل الفتى الرسمة الغريبة الملونة بقلبٍ إنتفخ تدريجياً بألف ذكرى و حكاية، رفع أنامله ليسير على خطوط الطول و دوائر العرض و أسماء المُدن و النهر الوهمي الذي يشق الصفحة، ثم و بكامل إنتباهه.. حرّك أنامله بتأني و حب على الكلمة الكبيرة التى تتوسط كل هذا الجمال.
South Korea
•كوريا الجنوبية•
يا ربآآآآه كيف لكلمة أن تُحطم أسبار روحه هكذا؟!
إبتسم ملئ ثغره و قلبه و قام بتقبيل الكلمة بكل ما وجد يوماً في جسده من عاطفة، قبلها من جديد، ثم قبلها مراراً و تكراراً و لم يتوقف الا عندما أجهش بالبكاء فخاف أن تتلوث الصفحة بملحه حرصاً عليها.
رفع رأسه إتجاه الصهباء التى كانت خاشعة في وقفتها و بنبرة باسمة تتضاربت مع ما يتساقط من عينيه قال ملئ قلبه (كيف أشكرك أنا؟)
كانت الفتاة هادئة على غير العادة و كأنها تخشى أن تقاطع سعادته و لو بصوت تنفسها، كانت هادئة في وقفتها و ملامحها تُنبأ بتفكير عميق، قالت بعد بُرهة (تلك الأغنية.. أغنية إعتدت ترنيمها و الدندنة بها كلما إختليت بنفسك.. الأغنية الكورية التى أخبرتني يوماً أنها تحكي عن الوطن.. العودة الى الوطن، تتذكرها؟ لحنها لم يفارقني و كثيراً كان اللحن يأتي و يروح على لساني لكنه يظل محبوساً في مكانه لأني لم أعلم الكلمات أبداً، كنت أشعر بالإنزعاج و الإختناق و بأني مقيدة و بشدة و عاجزة.. تلك الأغنية.. هلا غنيتها؟)
نظر الفتى الى السماء من النافذة و كأنه ينتظرها أن تهمس بالكلمات في وجدانه، أغمض عينيه يستحضر أول مقطع من الأغنية، يشعر به على لسانه بالفعل و لكن الكلمات مبعثرة يكسوها تراب الزمن.
بِضعةُ أيّام..
بِضعةُ أيامٍ بَعيداً عَن المَنزلِ بِمَثابةِ عَشرِ أَعوَام
فَتحتُ النّافذةَ و نَظرتُ الى السّماءِ
شَجرةُ الصّفصَافِ أمامَ مَنزلي كانت لتَكونَ خَضراءَ في الرّبيعِ الآن
' تاهيانغ سال'
↭◎쇼◎쇼◎↭
الأول من يناير/كانون الثاني 1967~
الثانية عشرة ظهراً~
كان الرجل يتكلم بحماس.. يتكلم من قلبه.. يتكلم عن شيء يحبه و يعشقه..
يتكلم عن التاريخ.
لكن سُمعت طرقات واثقة على باب الفصل ذابحةً حالة الإنتشاء التى تلبسته و ما لبثت الآنسة "ليليان" المديرة المُبتسمة بالدخول قائلةً (آسفة لمقاطعة الدرس مُعلم ألفريد.. لكني أريد كين في الحال)
توترت عضلات الفتى دون وعى حينما سمع لقبه و تبادل النظرات مع الصهباء الجالسة جواره، هذا لم يحدث من قبل و قد جعل هذا الإستدعاء كلاهُما متوجس و متحفز.
قال المُعلم و هو يلوح بيده بحسرة (ليذهب.. هو لم يكف عن الكلام مع ليزلي طوال الدرس على كُل حال)
تسببت جملته في إضحاك عدة أشخاص من بينهم الفتاة، مما جعل وجنتي الفتى تشتعلان خجلاً فقام مُسرعاً من مكانه يهرب من الموقف.
بسطت الآنسة "ليليان" ذراعيها تحفزه ليتقدمها ثم أغلقت الباب و سارت بجواره دون أن تنطق سوى بإبتسامتها الناعمة.
تحمحم الفتى و نظّف حلقه ثم تجرأ على السؤال (كُل شيء بخير؟)
نظرت المديرة له و أومأت (كل شيء رائع! أنتَ فقط لديك زائر عزيزي، أعلم أنك ستسعد به لذا أتيت لأحضرك بنفسي)
زائر؟!
إبتلع قلبه الذي بطريقة ما كان محشوراً في حلقه فجأة من التوتر و سأل بحذر شديد و كأنه سيتأذى من السؤال (مَن؟)
وقفت الآنسة "ليليان" أمام الباب و وضعت يدها على المقبض بطريقة درامية (ها أنت ستعرف.. مُستعد؟)
لا!
(سأترككما لبعض الوقت) دفعت المديرة الفتى الى الداخل كونه لم يتحرك قيد أنملة ثم أغلقت الباب عليه بصحبة المجهول.
راحتا يديه بدأت بالتعرُّق و شعر بقطرات أخرى تنحدر بطول ظهره مسببةً قشعريرة غير مُحببة، لا يدري لما هو بهذا الخوف.
تمالك نفسه و بحث بعينيه في الأرجاء حتى إصطدمتا بفستان قديم الطراز طويل الأكمام بجوار النافذة.
كانت السيدة "روزماري" تبتسم بوهن له و تبدو أبعد ما يكون عن الكيان الذي يتذكره.
لما؟
لما يتغير الناس؟!
ليتغير كُل عباد الرب الا هي! الا هي!
إقترب ببطء منها حتى وقف أمامها (روزي؟)
خرج إسمها ک تساؤل رغماً عنه، فقدت من وزنها الكثير و غارت عيناها و لكم آلامه أن هذا حدث.
أخذت المرأة بيده و جلست ع كرسي قريب و سقطت عليه و كأن طاقتها خذلتها في الوقت المناسب، فجثا على ركبتيه أمامها و أخذ يتفحصها كلها قلقاً (روزي)
مالت المرأة للأمام و مددت أناملها لتمسح على خصلاته، لم تقل شيئاً، فقط تنهدت و كأنها تزفر همّ العوالم أجمع.
مرت عدة دقائق بدأ فيها الفتى يُدرك أنه يبكى، مرت دقائق أخرى بدأ فيها يبكى بحرقة، دقائق بعد و تحولت الدموع الى عواء مخنوق و في النهاية تحول كل هذا الى شهقة مُحرجة تفلت من بين أنفاسه مُنذرة بكونه يحاول إبتلاع كل هذا الألم.
كل هذا و المرأة لم تنطق حرفاً، إكتفت بالمسح على شعره بيد واحدة.. تسريحه و العبث به و تجفيف كل هذا الماء المالح بطرف ثوبها من على وجهه.
(هل تكرهني كين؟) تكلمت أخيراً بآخر كلمات توقعها، هز رأسه المدفون في حضنها بقوة جبّارة حتى كاد يدق عنقه.
(إذاً لا تفعل أبداً مهما حدث) إنه لا يفهم ما يجري و قد بدأ يتشائم حقاً، يبحث بأنفه عن تلك الرائحة المُشهية الدافئة لعشبة او بُهار ما لكن تم إستبدالها برائحة كيماوية غريبة.
أكملت (هل تعدني؟ هل تعدني بأنك لن تكرهني؟ سأظل روزي، صحيح؟ مهما حدث و مهما مرّت أوقات.. سأظل ثابتة الصورة في نظرك، حسناً؟)
رفع رأسه أخيراً و نظر في عينيها ثم الى كامل وجهها، أراد قول شيء لكنها نهضت فأنهضته معها حينها لاحظ المظروف الذي كانت تحمله في يدها الأخرى، هل كان هناك طوال الوقت؟ ليس متأكداً.
(إقرأه.. خُذ وقتك و عندما تنتهى سآتي للزيارة مجدداً)
و رحلت~
↭◎쇼◎쇼◎↭
يُتبع..
Like ♡
Comment 💬
Follow ✔
♕ 어먼EMY ♕
Коментарі