" ابن الهان"






" إلى كل الوحيدين في العالم؛ دعونا نكون رِفقة..."














حلّ صباحيَّ الأخير لإقامتي في المُستشفى أخيراً، تَجمّعٌ غَفير ينتظرني خارجاً، عائلتي وعائة كيم، للتوّ تذكروا أنني منهم وإليهم أنتمي.

لكن لا، أنا ما عدتُ أنتمي لِأحد، أنا لا أنتمي سوى لنفسي، منذ اليوم؛ سأعيش لأجل نفسي وابحث عن مساري الخاص في الحياة، مساري الذي أجد فيه سعادتي الخاصّة وذاتي الحقيقة.

مُنذُ اليوم سأكون أنانية، ولا أفكر سوى بمصالحي، سأقتلع عني كل الأغصان الضارّة، فلا يحق لجذوري أن تُغذي غُصن ينتمي لغيري، ستُغذيني وحدي.

كما أُصر من عِدة أيام؛ لم أسمح لأي منهم بزيارتي ولا حتى بيكهيون، بعد حديثنا الأخير رفضتُ مقابلته إطلاقاً، مُخجئ لو ظنّ أن جلستنا الأخيرة تعني أنني أُسامحه، لقد تكبدتُ عناءً جمًّا، وكسر يدي حينما مددتُها له ليساعدني، الآن لا أحتاج مُساعدة أحد.

أنا مُكتفية بالطبيب زانغ بالفعل، في بعض الأحيان؛ أشعر أنني أستغل مشاعره لمصالحي، ولكن الحقيقة خِلاف ذلك، أنا اختبر مدى صِدقه، ولأي حد هو بالفعل يحبني.

أيستحق مني فُرصة؟!
هذا السؤال الذي يدور بخَلدي منذ حين، ولكنني ضمناً أحتاج أن أرتاح لفترة -لا أدري لأي حد تطول- من الرجال جميعاً وشتى أنواع العلاقات بهم.

رغم ذلك؛ لا أستطيع فعل هذا بالطبيب زانغ، فهو الوحيد الذي وقف معي بينما الكل ضدي، الوحيد الذي شعر بمعاناتي، الوحيد الذي كان هنا لأجلي، هو اليد التي إنتشلتني من الظلام، له عليّ معروف أكبر مما أقدر أن أوفيه.

دخل إليَّ الطبيب، ولَحظ أنني بإنتظاره؛ كي أخرج معه بلا أن يستوقفني أحد من بعد الباب، تمسّك بيديّ وانهضني عن قعودي، ثم تبسّم بوجهي حتى بانت غمازتيه العميقة.

أنه جميل، غمّازاته وحدهما يحتاجان وصفاً مطوّلاً مني ولن أعطيهما حقهما بالوصف، ملامحه ليست خشنة لكنه مفعم بالرجولة، كذا نبيل، ومِقدام للخير.

إنني مُعجبة بالكثير منه، لكن لا أظنني صالحة للحب بعد الآن.

خرجنا معاً، أنا أتكئ على يشينغ وهو يسندني عليه، تقابلنا قُرب الباب مع أفراد من عائلتي وعائلة زوجي، الذي سيكون سابق، ثم بدأوا بمناقشات وديّة على من سيأخذني معه.

هذا النفاق والإبتسامات المُتملقة، المجاملات وإزدواجية الأوجه والمواقف، إنني لأكرهها، وأكرههم لأجلها، وأكرهني لأنني جزء من مجتمعهم البغيض.

مجتمع محفوف بالتَرف، أنيق مُنمق وباذخ الرفاهية، لكن من الداخل أقذر من مستقنع، وأنتن من الجيفة.

تمسّكتُ بذراع الطبيب وأعلنت.

" كُل تملّقاتكم مرفوضة، أنا لن أذهب مع أي منكم، سيحجز لي الطبيب زانغ في فندق، وسأبقى فيه ريثما أتدبر شؤوني"

تجاوزتهم جميعاً بينما أتأبط ذراع الطبيب، تجاوزتهم لكنني سمعتُ صوت بيكهيون من خلفي ينادني كي أتوقف.

إلتفتُ له وارتخت قبضتي على ذراع يشينغ منذ أنه مُصِرّ أن أتوقف، فقابلته بالوجه الذي قابلني به، إعتلاني البرود وبجفاء تسآلت.

" ماذا تريد؟!"

وقف أمامي يلهث أنفاسه، ورفض تكسو ملامحه الجديّة.

" لن أدعكِ تذهبين معه!"

لقد خسر حقه في التدخل بشؤوني الخاصة منذ أن طلبت تدخله ورفض التدخل، لذلك كما نفاني أنفيه، حثثتُ يشينغ أن يمشي بي لولا أن بيكهيون إنتشلني منه، وحبس ذراعيّ في قبضتيه.

" لا تكوني عنيدة، أخبرتكِ أنني لن أدعكِ تذهبين معه، ستذهبين معي أنا، أنا أخوكِ وهو غريب، تخيلي لو إلتقطتكِ كاميرات الصحافة، أو واشياً ما، أنتِ ستخسري كل شيء، بما فيها دعوة الطلاق وحضانة الطفلة"

توقفت لوهلة لأن كلماته اقنعتني، نظرتُ إلى يشينغ أتحرّى عن رأيه فقال.

" افعلي ما ترينه مُناسباً"

وقفت قليلاً أفكر، لا أريد أن أشابك يد بيكهيون عندما تمتد لمساعدتي، ولكنني لا أملك خيارات في هذا الوضع الراهن.

لذا تنهدت، ثم أومأت له أحل عن ذراع يشينغ قبضتي.

" أظنني سأذهب معك، ولكن لا تفرح، لستُ أسامحك"

رغم ذلك إبتسم إبتسامة فسيحة الملامح حتى بانت نواجذه، حينما شعرتُ به يكاد يظفر بقلبي مجدداً بإبتسامته هذه؛ أشحتُ عنه ونظرت إلى يشينغ.

" هل أستطيع أن آتي لزيارة لارا؟!"

يشينغ أومئ ثم اتبع مُبتسماً.

" بلى، تستطيعين أخذها معكِ حتى"

لستُ أعرف كيف أنني إنفعلت وابتهجت أساريري لدرجة أني كدتُ أقفز على الطبيب لشدة سعادتي.

" حقاً؟!"

ضحك وعبث بشعري، ثم أومئ.

" نعم حقاً، هي بإنتظاركِ بالفعل"

وما كنتُ أتحمل أكثر، لذا طلبتُ من بيكهيون إيصالي للمستشفى التي تمكث بها، والطبيب زانغ تبعنا بسيارته.

في الطريقة، أسهبتُ أفكر، لكم أن فعلة جونغ إن بي خرّبتني لدرجة أنني فضّلتُ الموت على الحياة وتخليتُ عن طفلتي، لارا عالمي، كنتُ بها مُكتفية، وبها سأكتفي، أنا فقط أحتاجها، ولا أحتاج أحد بقدرها.

وصلنا إلى المستشفى، والطبيب دلّني حيث تنام صغيرتي، دخلتُ إلى غُرفتها ونظرتُ في سريرها، لكم هي صغيرة عليه!

أدمعت عيناي حينما نظرت لي وابتسمت، أشك أنها تتذكرني، لكن إبتسامتها هذه كل شيء بالنسبة لي.

حملتُها بين ذراعيّ وضممتُها بقوة إلى صدري، لقد كنتُ أنانية عندما تخليتُ عنها وهي لا تملك غيري، هي صغيرتي أنا، أنا أمها وأبوها وكل أهلها، أنا كل شيء لها، فبأي حق فكّرت أن أُيتمها مني؟!

آسفة يا ابنتي، أعدكِ أنني لن اتخلى عنكِ...

إلتفتُ إلى الطبيب زانغ وهي على صدري، وسألته.

" اخبرني، كيف أحوالها؟! كيف صحتها الآن؟!"

تحسس رأسها تَميل شفتيه بإبتسامة، رغم ذلك تنهد قبل أن ينظر إلي ويُجيبني.

" هي بخير، تخطت مرحلة الخطر، لكن كما تعلمين هي فقدت حاسة السمع بشكل جُزئي، لعلاجها تحتاج أن نقوم بعملية زراعة قوقعة"

ضممتُها إلى صدري بقوة، صغيرتي الحبيبة، مرّت بالكثير من الأمور، وحاربت بقوة رغم أن عظمها ليّن ولحمها طريّ، لكنني منذ الآن وإلى الأبد سأُحارب معها حتى ننتصر على كل الظروف معاً.

حزمتُ أغراضها القليلة وسجلتُ خروجها، سآخذها معي وأقاسمها حياتي، وستعيش معي ثورتي وإستقلالي وكل مراحل حياتي، سأعيش بها وتعيش بي، هكذا قررت.

شكرتُ الطبيب زانغ مجهوده عليها، وقبل إنصرافي مع بيكهيون استوقفني الطبيب في مدخل المَصف وحدّثني.

" بما أن لارا شُفيت وقبضتُ على أخي لاي، سأعود إلى الصين قريباً، سأعود بمجرد أن تحصلي على الطلاق وعلى حضانة الطفلة وشتى حقوقك، لكن أريد منكِ أن تقابليني قبل أن أغادر، ولنتحدث عن علاقتنا، حسناً؟!"

هذا أقل ما أستطيع تقديمه للطبيب لاي، أومأت أن نعم، فبانت على شفتيه إبتسامة خفيفة، ثم أخذ يربت على ظهري يستعجلني حينما اصطف بيكهيون أمامنا.

" الآن اذهبي سريعاً، اهتمي بنفسكِ وبطفلتِك، أراكِ لاحقاً"

اصطحبني إلى المقعد الخلفي للسيارة وساعدني لأصعد بها، ثم قبل أن يغلق الباب عليّ قُلت.

" شكراً لك على كل شيء"

ودعني بتلويحة بيده وإبتسامة شفتيه، إنني شاكرة له وحسب، لولاه لما كنتُ ادري ما كان مصيري، ولما عشت لهذه الساعة.

ما شعرتُ بالوقت بعدها، فلقد قضيته بملاعبة لارا في حُضني، كم اشتقتُ لها!
سأحرص أن تنال العلاج المناسب وتستعيد سمعها ولو كلّفتني كل ثروتي، سأنفقها عليها.

توقفت السيارة وترجّل بيكهيون ففهمت أننا وصلنا، تنهدتُ بأستياء ورفضتُ النزول، فتح الباب لي وحثّني على النزول.

" أوكتافيا وصلنا، هيا انزلي، ما بالك؟!"

لكنني تربصتُ في مكاني وعزمتُ مشاحنته في كلامي.

" كنتُ واضحة وأتكلم لغتك حينما قلت أنني سأمكث في فندق، لا أريد أن أبقى معك أسفل السقف ذاته!"

تنهد ثم انخفض ليجلس على قدميه أمام الباب وقال يحدثني.

" أوكتافيا كفى عِناداً، أتمكثين بفُندق وأنتِ تملكين شقّة؟!"

أومأت بحزم، أرفض الجدال والخوض في نقاش معه، لذا اتبع يحاول إقناعي.

" لكنها شقتك، قضيتِ بها كل أوقاتكِ الجميلة، ألا تشتاقين لها؟!"

راودني الحنين، بلى أشتاق ولكنني لا أستطيع، كيف أفعل وأواجه ذكرياتي بها، ذكرياتي التي كُلّها ترتبط بجيمين، سأجد أغراضه بالداخل، وشيء من لمسات وِدّنا، لا أستطيع مواجهة كل هذه الذكريات، يكفي أنها عالقة في داخلي.

رفضتُ مجدداً ولم أحسّ إلا بالدمع ينخر جمودي، مواجهة الماضي أصعب مما ظننت، أن انظر في نفسي القديمة وأقارنها بنفسي الحالية تجعلني أود لو أقطع عُنقي هذه المرة لا معصمي، أنا أوهن من مقابلة نفسي القديمة، نفسي العزيزة.

تكلم بيكهيون، تكلم وتكلم فوق رأسي حتى وجدتني أخرج من السيارة وأنقاد إليه بلا أن أكون راغبة في ذلك حقاً، أنا أريد أن أهرب، أن أركض بعيداً، لكن الأغلال تطوقني عن فعل ذلك، لربما علي مواجهة نفسي، مهما كان الأمر صعباً علي.

ضاق صدري حينما فتح الباب لي، رؤية الماضي يتراكم أمامي، أشم رائحة الشوكولاتة الساخنة التي أحب، أشعر بدفء الشقّة ولطافة جوّها، حتى أنني أشعر بجيمين من حولي وأشم عِطره.

كل هذه الأشياء الثمينة تضغط على صدري الآن، وكلما عبرت إلى قلب الشِقة خطوة أشعر به يطردني، تنفيني أركانها، تكرهني جدرانها، وازاد ضيق صدري.

أردتُ مُبارحتها والمغادرة، أردتُ منح هذه الذكريات ظهري وهجرها مُجدداً، لكنها تشبثت بظهري وزرعت في قلبي الحنين، فوجدتُ عيني تبكي، وقلبي على ضِفافها مذبوح.

ما كان يستحق جونغ إن أن أبيع كل هذه الأشياء واشتريه، إنه يُباع بثمن زهيد وأنا اشتريته بكل ما هو نفيس.

أردتُ أن أصرخ، أن أُجاهر، لكن الحنين أوجعني والمكان كبلني، فاحترمتُ رغبته بي ولذتُ إلى الصمت منه، أحب هذا المكان وأُقدّر كل مكان فيه، لذا سأتحمل لومه وبرودته عليّ، سأتحمل جفاءه واحتفظ بنفسي فيه إلى آخر رمق سأقبل الوجع.

" أوكتافيا، لا تخرجي واحفظي الباب عليكِ مُغلقاً، فجونغ إن ما زال حُراً، وقد يأتي ليؤذيكِ في أي حين"

تمسك بذراعي ووجّهني إليه حينما ظنّ بأنني لا أعطيه أُذناً صاغية، أنا شاردة بالمكان، أي نعم، ولكنني خائفة من جنون جونغ إن أيضاً.

" لذا أُختاه احذري وانتبهي حتى أعود، لن أُطيل الغياب، سأحضر لكِ أغراض وللطفلة"

أومأت له ثم حرصتُ أن أغلق الباب خلفه، عُدتُ أدراجي، وكي لا أواجه جُدراني إنشغلتُ بطفلتي، فأخذتُ أحدثها رغم أنها لا تسمعني، ونشأتُ أُلاعبها رغم أنها لا تفهمني، أردتُ أن انشغل بها وحسب.

ولطول الوقت وعرضه في ظل إنفرادي بشقتي، لجأتُ إلى المُحامي الذي وكّله الطبيب زانغ لي بشأن قضية الطلاق والحضانة.

هاتفه وبعد تحيته تسآلت.

" كيف تسير الأمور معك حضرة المحامي؟!"

" على نحوٍ جيد، أنتِ الرابحة في قضية الطلاق بلا مُنازع"

همهمت.

" وماذا بشأن قضية الحضانة؟!"

تردده في الحديث وصمته لوهلة أشعرني بالريبة، كذا القلق، أنا خائفة من أحدهم، وأخشى أن تتحقق مخاوفي.

" الأمر ليس بذات المرونة بشأن الطفلة، هناك الكثير من الامور تساعدكِ بالفعل، وضع الأب ووفاة الأم، صِلة قرابتكِ بها، كذا تنازل جديّها عنها، لكن أعمام الطفلة يعرقلون مرونة القضية"

" وكيف ذلك؟!"

" كيم تيمين لم يقتنع بعد بالتنازل، وكيم جيمين يرفض رفضاً قاطعاً، أنه صعب المراس، أخوه الأكبر أكثر ليونة، لكن جيمين لا يقبل ولا يرضى بالتفاوض، يقول أنه من سيحتضن الطفلة ولن يتنازل عنها"

تنهدتُ بأستياء، جيمين مجدداً، أنا مُتيقنة أنه يفهم مشاعري ناحية لارا، أن مشاعري لها تجاوزت التكفير عن الذنب والشعور بالندم، أنا أشعر نحوها بالأمومة، وكأنما أضلاعي أنا التي تفتحت وأخرجتها إلى الحياة.

لا أقدر على مواجهته، فهو الوحيد الذي أنا لستُ نِداً له، فأنا كلما نظرتُ في عينيه تصورتُ نفسي في عين الذُل وأنا أخونه مع أخيه المتزوج.

كلما أراه أكره نفسي، فأنني لن أسامح نفسي إطلاقاً على خسارته، لقد كان لي كل شيء، أنا الآن بالنسبة له لا شيء، لذا لا أستطيع أن انظر في عينيه وأطالب بابنة فقيدته -التي تسببتُ في مقتلها-.

سأبعث له أي أحد ليتحدث معه، بيكهيون، الطبيب زانغ، أي أحد لعله اقتنع، رغم شكّي بهذا.

وصل بيكهيون أخيراً يحمل بين يديه أكياس كثيرة، وضعها أرضاً ثم استقام يلهث ويوجعه ظهره كما تبين لي.

" المصعد فجأة تعطل، وحملتُ كل هذه الأكياس إلى هذا الطابق الشاهق"

إنه الطابق العاشر، من الجيد أنه ما زال حي.

لكنني لم أقابله بلطف ولن أقابله، فقط أخذت عنه الأكياس ونشأتُ أرتبها منذ أن طفلتي نامت.

..................................

كانت تتوارى في المطبخ، مُنهمكة بتحضير وجبة الإفطار لعائلتها الصغيرة، كان جونغهيون على المائدة ينتظر أن يستضيف الطعام في معدته، يحمل سكينه وشوكته ويأرجح قدميه بحماسة أسفل الطاولة، أما أبوه فما زال بطور تجهيز نفسه.

كان يدندن بينما يصفف شعره العسليّ بفاصلة جانبية على المرآة، لصوته رنّة ساحرة، يتميز بهدوءه، فدندناته الصباحيّة تبعث في نفس نايون الهدوء، كذا الحب والسكينة.

جونغهيون أخذ يقلد دندناته بينما والده يقطع المسافة إليه، ربّت على شعره ثم ولج إلى المطبخ.

نايون في الداخل ترتدي مئزر المطبخ وترفع شعرها بقَرن مُرتب، تقدم لها من خِلاف وعانق خصرها بذراعيه، ثم أسند ذقنه على كتفها وأنفه جال على عُنقها.

" صباحكِ حُب"

إلتفتت إليه باسمة، فسرق قبلة خاطفة من شفتيها، التي تجرأت أن تغويه في مثل هذه الساعة الصباحية.

ولأن نايون لم تعتاد بعد على حُب تيمين؛ تبسمت بخجل، وأشاحت عنه حينما إحتقن الدم في وجنتيها.

" ماما بابا، كفى قُبلاً منحرفة ولتقدموا لي الطعام وإلا أكلتُكم"

شهقت نايون وزاد وجهها إحتقاناً بالدم، أما تيمين فوبخ طفله بجديّة حد أن الطفل شعر بالخوف وشرع يبكي.

" أيها الصبي تأدب! ما عهدتكَ وقحاً تتكهن من عِندك وتتجرأ على فرض توقعاتك المائلة، انصرف من وجهي لا أفطار لك اليوم"

تمسّكت نايون بذراعه تُنهيه، لكن تيمين أصرّ على موفقه، بعض الشِدة ستفي بالغرض، كثرة الرخاء تنزعه.

لكن قلب نايون الحنون إعتصر رفضاً وعزفت عن تناول وجبتها، لذا تيمين تنهد ونهض عن المائدة أيضاً، وقد إنسدّت شهيته عن الطعام.

بعثت نايون طفلها إلى مدرسته، وأوصته بمُراضاة أباه حينما يعود، كذا توعدت له أنها ستحزن ولن تكلمه لوما أفطر وقضى يوماً جميلاً مع صحٌبته من الأطفال.

برفقة كوبي قهوة ذهبت إلى الشُرفة حيث تجلس عادة مع تيمين قبل أن تحين ساعة عمله، وضعت له كوبه فشكرها ثم احتسى منه بهدوء.

" سمعتك تتحدث على الهاتف وذكرت أوكتافيا، أمن خطب؟!"

وضع تيمين كوب قهوته متنهداً ثم تحدث.

" أوكتافيا تُطالب بحضانة الطفلة لارا، وأنا متردد بهذا الشأن؟!"

همهمت.

" ولِمَ تتردد؟! ألا تثق بها بشأن الطفلة؟!"

تيمين نفى برأسه ثم نظر إلى زوجته يقول.

" ليس هكذا، أدري أنها ستُحسن إليها، وستُحاول تعويضها بشتى قُدراتها، لكننا أولى بالطفلة منها، هي لا تصلها بأي صفة جينيّة، كذا أوكتافيا تسببت في موت والدتها، هذه حقيقة لن نستطيع نُكرانها حينما نواجه الطفلة مستقبلاً"

صمتت نايون إثر تفهمها لما يقول، هو محق، هم أولى بها، بتربيتها، وعنايتها، كذا الطفلة ستواجه حقائق مشؤومة لو فرض عليها مواجهة أوكتافيا مستقبلاً على أنها أمها، فتكتشف النقيض تماماً وتتصدع بعمر الزهور.

لكن تفكير نايون بالأمر لم يطل إذ فاجئها تيمين بسؤاله.

" لو رفضتُ التنازل وطالبتُ بها، هل ستقبلي أن تُربيها يا نايون؟! بلا أي ضغوط وليس إعتباراً لي، هل ستفعلي؟!"

نايون لم تجبه فوراً، إنما هي اقتنصت منه قُرباً حينما وضعت كرسيها بمحاذاة كُرسيه، تلقفت بيديها وجهه، ثم إنخرطت تحدثه بنبرٍ رقيق يُناسب رِقتها.

" تيمين، لو أحضرتها وطلبت مني إحتضانها، أتظنني سأُمانع؟! أنا حقاً سأُحب ذلك، سأحتضنها وأُربيها كما لو أنني احتضنتُها برحمي قبلاً"

تمسّك بيدها التي على وجنته وابتسم مٌطمئناً.

" هذا ما أتوقعه منكِ، شكراً لكِ نايون"

كاد أن ينهض، تعلم جيداً ما سيُقدم عليه، سيرفض التنازل عن حضانة الطفلة بما أن زوجته تقبل بها، لكن لا يمكن، فالموانع أكثر.

تشبثت به حتى يبقى جالساً.

" لكن لو بقيت مع أوكتافيا، ماذا ستخسر؟!"

ركن ينتظر أن تتبع وقد قبض حاجبيه في عُجمة.

" لا شيء، لربما تكسب حتى، ربما تكسب أخاك، وأخوك يكسب عائلة، ويكسب صلاحاً، إن بقيت الطفلة معنا تنتهي الحكاية إلى هنا، لو سمحنا لأوكتافيا أن تحتفظ بها، فلن تكون النهاية، على الأقل جونغ إن حينها سيحدد لو كانت النهاية أم لا"

تنهد تيمين وأخذ يمسح على وجهه بكفيه، ربما هو يحتاج وقتاً أطول ليفكر بالقضية، استغلّت نايون صمته لتعبر عن أفكارها أكثر.

" بالنسبة لي، سيملئ طفلاً صغيراً عليّ حياتي، فجونغهيون قد كبر بالفعل وله توجهاته الذكورية التي لا تتوافق معي، سأكون مسرورة لو احتضنتها، لكن فكّر بالأمر من منظور آخر، فكّر بالمستقبل!"

زفر تيمين أنفاسه، واستند بظهره على الكرسي، أغلق عينيه وزفر مجدداً مستهلكاً كل قدراته على التفكير في هذه اللحظة.

حينها شعر بلمستها تَطئ كتفه، وما إن فتح عينيه قابله وجهها الباسم.

" لا تفكر كثيراً، امنح أخاك فرصة أخيرة"

أومئ، ثم ارتفعت على شفتيه إبتسامة خفيفة، ورمق نايون بنظرة لعوب.

" بما أنكِ تشعرين بالفراغ، ما رأيكِ أن أُهديكِ طفلة؟!"

أشاحت بوجها عنه في خجل عارم، وأخذت تخدش قفا عنقها بأظافرها، ثم هي لم ترد، حينها نهض يرتدي سُترته وقال.

" سأحرص أن تجمعنا طفلة قريباً"

نهضت من أمامه وانسحبت إلى المطبخ، لا تودعه حتى قُرب الباب كما تفعل عادة، لكنه غادر ضاحكاً، حياته قد تغيرت كثيراً بعدما وقع في الحب، لم يكن يدري أن الحب مُبهج وملوّن لهذا الحد.

..................

كان يسير جيمين في أروقة المدرسة بطريقه إلى مكتبه الخاص، وقد عكف طُلابه عن تمني له يوماً سعيداً في هذا الصباح، لأنه يبدو أنه لن يكن يوماً سعيداً.

إذ كان يتحدث عبر هاتفه مع أحدهم والطُلاب الذين مرّ بهم سمعوه بوضوح مُنذ أن يتكلم بعصبية مفرطة ونبرة حادة.

" للمرة الألف، أخبرتك أنني لن أتنازل مهما حاولتم التفاوض معي، وانتهى الأمر إلى هنا"

ثم بعضهم تقافزوا في أماكنهم حينما أغلق باب مكتبه بقوة.

جيمين كانت بصفها قبل موعد بدء الدرس بوقت وفير على غير عادتها، منذ أن المعلم هو كيم جيمين بعينه أصبحت تحضر وتتجهز أمام مرآتها الصغيرة قبل دخوله.

نظرت في ساعتها، لقد حان الوقت، وهو دقيق في مواعيده، والآن سيدخل وها هو بالفعل يدخل.

" صباح الخير"

ألقى التحية بإنزعاج كما ألقى حقيبة اوراقه على الطاولة، اخرج الكتاب اللازم وشرع يشرح الدرس.

الطُلّاب إلتزموا الصمت وقواعد الصف منذ أن أستاذهم عصبيّ اليوم ولا يحمل مزاج لتلقي الأعذار.

لكن جيمين وبلا عمد نَست أن تضع هاتفها على الوضع الصامت ووصل إشعارٍ ما، وحين أن الصف شديد الصمت الهدوء كان الصوت واضحاً كفاية ليصل مسامع الأستاذ المُنهمك في شرحه.

لعنت تحت أنفاسها وملامحها إمتعضت بقلق شديد من رد فعله خصوصاً أنه توقف عن الكتابة على اللوح وقبض يده.

وقفت فورما إلتفت وانحنت تعتذر، صعب عليه أن يوبخها لذا فقط تقدم من مقعدها وصادر منها هاتفها، ثم قال.

" تعالي في نهاية اليوم لأخذه"

انتظر أن تعترض لكنها فقط أومأت واعتذرت مجدداً، غادر بُقعتها متنهداً وهي تحسست موضع قلبها تأخذ أنفاسها وجلست تنقل ما كتب عن اللوح وتمنحه كل تركيزها.

في نهاية اليوم؛ جيمين كان في مكتبه ينظّم جدوله قبل المُغادرة، ثم أحدهم طرق الباب عليه.

" أدخل"

وإذ بطالبته جيمين تدخل إليه، إنحنت قبل أن تتقدم ثم تحدثت.

" أعتذر بشأن اليوم أستاذ، هل أستطيع إستعادة هاتفي الآن؟"

رمقها مضيقاً جفونه ببرود ثم وضعه على الطاولة لتأخذه، ثم حمل حقيبته وشرع بإرتداء سترته قبل الخروج، لكن سؤالها استوقفه.

" أستاذ، هل أنت بخير؟!"

هل هو بخير؟!
لم يسأله أحد مُسبقاً إن كان بخير، ولا، هو ليس بخير، يود لو يرتكب جريمة بأحدهم، وقتها سيكون بخير.

" اهتمي بشؤونك"

أخفضت رأسها بسبب الحرج ثم أومأت وخرجت، كانت تسير في الرِواق وتشتمه بصوتٍ خفيض.

" يا له من أستاذ بغيض ومتعالي، أكرهه بقدر ما أنا معجبة به!"

قررت جيمين ألا تصعد الحافلة الخاصة بمدرستها وتسير على قدميها حتى إشارة المرور ومن هناك يأتي السائق ليعيدها إلى المنزل.

بينما تسير وقع بصرها في المتنزه الذي يجاور المدرسة وأدهشها ما رأت، إذ رأت فتاة جميلة ذات شعر بني طويل ينسدل على ظهرها تركع أمام جيمين أستاذها وتبكي.

سرعان ما ركضت ناحيتهم تستتر خلف شجرة كبيرة وتنظر فيما يحدث بدافع الفضول.

..

في وقتٍ سابق، مرت فترة منذ أن أوكتافيا تتفاوض مع جيمين عبر رسولاً -المحامي- لكنه مهما قدمت من تنازلات ومهما حاولت إقناعه لا يرضى أن يتنازل عن حضانة الطفلة لارا.

وفيما أن أوكتافيا استهلكت كل الطُرق لتحصيل رِضاه وردها أجمعين، قررت أن وسيلتها الأخيرة مقابلته، ومهما تكلفت من تنازلات ستتنازل حتى يرضى.

إنصلت بتيمين وعلمت منه عن مكان عمله، لذا خرجت إلى تلك المدرسة وانتظرته حتى يخرج، ثم بعثت له صبياً صغيراً من طُلاب الإبتدائية يحمل له ورقة قبل أن يدخل مَصفّ السيارات.

أخذها جيمين منه قابضاً حاجبيه ثم فتح الورقة ينظر فيما كُتِبَ بها.

" أنتظركَ في الحديقة جيمين"

كانت رسالة مقتصرة ومقتصدة، تعمدت أوكتافيا أن تكون هذه لغتها منذ أنه رجل فضوليّ جداً.

ولذا قاده الفضول إلى المتنزه المجاور للمدرسة، وبحث هناك عن المُرسِل حتى وصله صوتاً من خلفه يدعوه.

" جيمين!"

قبض حاجبيه وجمع أصابعه في قبضة، أنه يعرف هذا الصوت جيداً، هذه أوكتافيا.

لم يعطِها وجهه، بل لزمها بظهره وبنبرة كاسها البرود والغضب تحدث.

" ماذا تريدين؟!"

إقتربت إليه من خلاف وتحدثت.

" جيمين، دعنا نتحدث ومن فضلك اسمعني، أثناء ذلك ضع كرهك لي جانباً وكن عقلانياً"

ضحك هازئاً والتفت لها يشير إلى نفسه.

" ماذا تظنيني أنتِ؟! بل من تظني نفسكِ كي تتحدثي معي وكأنكِ تعرفيني؟! أنا لن أتنازل عن الطفلة ولو جثوتِ على قدميكِ وتوسلتني، لن أقبل"

جثت أمامه، وأخفضت رأسها منذ أن كرامتها أوجعتها، ومآقيها أنجبت بناتاً، وكان صوتها مُرهق حينما تحدثت.

" وها أنا أجثو أمامك، وأرجوك أن تفكر ملياً، الطفلة بحاجتي بقدر ما أنا بحاجتها، لستُ أُطالب بها لأسباب أنانية، بل لأنها تحتاجني أيضاً، بغض النظر عن كل الحقائق التي لا تفهمها لارا، لارا تظنني أمها واعتادت عليّ على هذا النحو"

" إنها صغيرة ومريضة يا جيمين، لارا لم تنمو بشكلٍ جيد، وقد أصابها مرض السحايا، ونتيجة لهذا المرض فقدت سمعها، إنها تحتاج عملية طارئة، وبفعل أنك تعتمد على دخلك كمعلم لا أظنك قادراً على تحمل النفقات، وحتى إن فعلت، كيف تهتم بها وحدك؟! وكيف تضمن من سيهتمون بها لأجلك؟! لكنك تضمنّي، أنت تعرفني يا جيمين وتعلم أنني أدفع حياتي ثمناً لأجلها، لذا أرجوك فكّر بنا معاً"

ما كان جيمين سعيد بركوعها أمامه، ما كان سعيداً بأنها تذللت له، وذلك جعل الدمع يطفر في عينيه، لأنه يقول على لسانه ما هو معدوماً في قلبه، إنها ما زالت بالنسبة له مجموعة ذكريات ثمينة تسببت له بسعادة وراحة لعدة أعوام.

تراجع عنها ومسح بكفيه وجهه ثم قال.

" سأكون معكِ صريحاً، هل ستقدمي لي ما أريد مقابل تنازلي عن الحضانة؟!"

رفعت رأسها له وأومأت بينما تمسح عينيها فقال.

" حسناً إذن، أتنازل بها لكِ، لكن أريد في المقابل أن يردني تقرير مفصل حول مستجدات حياتها، وحينما تكبر، سنناقش المسألة من جديد"

أومأت وابتسمت بمسرّة، ثم هي همست.

" شكراً لك جيمين، ستكون في كل صورة في حياتها، أعدك!"

أومئ ثم غادرها، يحمل معه قلباً مُفعماً بالمشاعر، شيء من الأشتياق والإنقياد، مشاعره تنقاد إلى مرافئها مجدداً، لكن شتان بين الأشتياق لها ومسامحتها، علاقتهما السابقة لن تعود أبداً.



.................................



على حسب تاريخ اليوم، فغداً أولى جلسات المحكمة، ومنذ أن اوكتافيا لن تحضر، سيحضر المحامي الذي وكّلت القضية إليه ويرافقه بيكهيون.

لذا بيكهيون كان بحاجة أن يفهم سير الأمور قبل أن تبدأ الجلسة الأولى، بيكهيون اتصل بالمحامي واستفسر عن سير الأمور.

كان حديثاً عادياً لولا أن المحامي بلا معرفة قال ما يتوق بيكهيون إلى معرفته.

" تقول أنك زُرت شقة كيم جيمين بغيّة إقناعه كي يتنازل؟!"

" نعم سيدي"

تريث بيكهيون قليلاً ثم بعدما زفر تسآل.

" هل رأيتَ في منزله إمرأة؟!"

هتف المحامي مُستذكراً.

" نعم بالفعل! كانت في شقته إمرأة صبيّة حامل في شهورها الأخيرة"

سُرعان ما وقف بيكهيون يقبض يده وقال.

" اعطني العنوان فوراً!"

أخذ العنوان منه وانطلق إليها، يفيض صدره حماسة، ويفيض قلبه إشتياقاً، مُشتاق لها كما لو أن علاقة غرامية جمعته بها من قبل، كما لو أنه ما صدّها عنه من قبل، كما لو أنها هي من صدَّته.

وصل إلى المبنى الشاهق الذي تسكن فيه، لكنه ما ترجّل من السيارة، بل تعلّق بصره عليها بينما يراها تسير على رصيف الشارع.

ترتدي فستاناً خفيف وفضفاض بأكمام كاملة يصل إلى أسفل رُكبتيها باللون الأرجواني، وتنتعل في قدمها حذاء صيفيّ بلا كعب، تحمل بيدها بعض الأكياس الصغيرة وبيدها الأخرى تحمل هاتفها إلى أُذنها وتجري مكالمة مع أحدهم.

أراد أن ينزل، يختطفها، ويحبسها في كُنفه، أراد بحق أن يفعل هذا الجنون، أن يكون إلى هذا الحد متهوراً، لكنه ما أستطاع رغم رغبته القويّة بفعل ذلك.

إحساس في داخله يمنعه، بأي حق يحصل عليها وهو من نفاها عنه؟!
بأي حق يُطالب بها وهو من تخلى عنها؟!
بل بأي حق يضمها له وهو من دفعها بتعنته وغروره كذا شره وجبروته؟!

لقد كان حُبها السيء، المُنعطف الخاطئ في حياتها، الطريق المُظلم، فكيف سيهديها إلى النور وهو لطالما كان العتمة؟!

لذا فقط ضل ثابتاً في سيارته وراقبها تعبر الشارع إلى المبنى، راقبها حتى إختفت عن أنظاره، حينها تنهد مُستاءً من نفسه وأسند رأسه إلى كرسيه.

تريث يفكر، يحاول أن يقنع نفسه بحقه بها، لكنه لا يقتنع مُذُّ أنه يعلم أنه على باطل، منذ أن قلبه مُعلّق بإمرأتين، بإيزابيلا وبيول التي لا يجد لها أثر.

غادر قبل أن يحين موعد عودة جيمين من عمله، فلا يريد أن يعلم بأنه كشف مكانه، ولا يريد أن ينشب بينهما شجاراً.

بطريقة ما؛ هو شاكر لجيمين، فلولاه لعانت إيزابيلا على يده ويد عمه قبل أن يستيقظ على شناعة أفعاله، شاكراً أنه أنقذها من يده.

لذا عاد بيكهيون أدراجه إلى شِقة أوكتافيا، لقد حسم قراره، سيحاول إصلاح أخطاءه، سيحاول إصلاح ما يَصلُح من أخطاءه، ومن شقيقته سيبتدي، علّه لاحقاً إستطاع تصليح ما بينه وبين حبيبته.

إصطف بسيارته في مَصفّ السيارات، لكن الأصوات الصاخبة خارجاً اجتذبته فخرج لينظر فيما يحدث وأنه ليرجو من كل قلبه ألا يكون الأمر مُتعلقاً بمن يخصّونه، تحديداً أوكتافيا.

عَبر الشارع حينما لحظ الكثير من الناس يجتمعون حول ضِفة الهان، كما أن سيارات الشُرطة والإسعاف تتراص على جسر الهان.

ساوره القلق بشدّة ولا يدري ما السبب، لذا ركض إلى هناك بكل قُدراته، ثم كانت صدمته، فصرخ مِلئ حُنجرته.

" أوكتافيا!!"


..............

قبل بضع إنقلابات...

ما جفّت عين أوكتافيا طيلة طريق عودتها إلى شِقتها، تبكي بلا توقف، ليس لأنها ركعت أمام جيمين، ليس لأنها تعرضت بطريقة ما للإهانة، أو بالأحرى أنها عرّضت نفسها إلى الإهانة، بل لأنها حققت ما تمنّته، ووجدت سبباً إضافياً تكون لأجله ممنونة لجيمين.

حينما وصلت شقتها أقفلتها على نفسها، واستعادت الصغيرة لارا التي تركتها لدى زوجة بوّاب العمارة، منذ أنها إمرأة موثوقة وأوكتافيا تعرفها جيداً.

كانت لارا الصغيرة مُستيقظة، تلعب مع نفسها، بهدوء كعادتها بعد الصَمم، منذ أنها لا تسمع صوتها ما عادت تُسمعه لأحد.

أجلستها أوكتافيا على ساقها، وانهكت نفسها في تقبيل وجهها الحَسن ويديها الناعمتين، داعبتها ولاعبتها، أطعمتها واعتنت بها حتى الطفلة نامت.

وضعتها أوكتافيا في سريرها، وحملت لنفسها كوب شوكولاتة ساخنة، ثم ذهبت لتجلس في الشُرفة منذ أن الشمس تكاد أن تغيب، وغدا الهواء نسيم لطيف، وهي تحب هذا الجوّ.

كانت تجلس بهدوء وتحتسي مشروبها المُفضل حتى وردها إتصال مُريب منذ أنه من جهة مجهولة.

إنزوت ملامحها في عُقدة إرتياب، ويدها التي رفعت الهاتف إلى أُذنها سيطرت عليها رَجفة حينما قررت أنها سترد.

" مرحباً؟!"

سمعت صوت همهمة من صوتٍ تألفه، صوت تألفه جداً لدرجة أن قلبها في جوف صدرها إنقبض، ثم أخذ ينبض بطريقة مجنونة آلمتها لدرجة أنها تمسكت به من فوق ثيابها، منذ أن النبض كان مؤلماً جداً على متن هذه اللحظات.

" جونغ إن؟!"

أجابها بصوت هادئ.

" نعم هذا أنا، خشيتُ لو أنني قابتلك ستهربين مني قبل أن أفرغ من الحديث، مُنذ أنه إتصالاً فحسب فأنتِ آمنة لذا اسمعيني للنهاية، ثم افعلي ما شئتِ بشأننا"

تبسّمت هازئة واستنكرت بلسان ساخر حاقد عليه.

" إخترع طُرقاً جديدة في جذبي، هذه استخدمتها لإيقاعي في المرة الأولى، الآن أنا لن أقع لك بها، جرب واحدة أخرى و سأريك مدى إقتناعي"

صمت لوهلة، كانت تسمع صوت شيء يسقط في الماء، وماء يَموج.

" لستُ أحاول إقناعكِ بي، لم اتصل بكِ كي أطلب منكِ أن تنزحي عن دعوة الطلاق أبداً، أعلم أنني لا أُطاق، أردتُ الحديث بشأن آخر، ولم أجد غيركِ ليسمعني"

أوكتافيا عاهدت نفسها بألا تسقط له مرة ثانية، ولا تقنعها كلماته الحُلوة مهما كانت، لكنها رغم ذلك قررت أن تستمر في هذه المحادثة.

" ماذا تريدني أن أسمع؟"

أجابها مُختصراً.

" قِصتي"

صمت منذ أنها لم ترد، ثم قرر أن يملئ صمتها بضجيجه.

" لن أحدثكِ عن أعباء أبناء الورثة، يُقال أن الغني لا ينجب إبناً بل ينجب وريثاً، هكذا نحن تربينا، كذا أنتِ لذا تفهمين، رغم ذلك أريد أن أتحدث معكِ قبل أن يحين الوقت."

" من بين الثلاثة شُبان كنتُ أنا الأبن الثاني، أخي الأكبر ابن أبي وأمي الغير شرعي، فرق السن بين أمي وأبي، طبيعة شخصياتنا مقارنة بالحياة التي خُططت لنا، كل هذه الأشياء كانت أعباء على صدورنا نحن الثلاثة."

" ضحّى تيمين منذ أنه الإبن الأكبر فعاش الحياة التي خطط لها والدينا، تولّى الشركة، وتزوج من إمرأة لا يحبها لأجل أن يحصل على وريثاً، كان الإبن المثالي، الزوج المثالي، وفي عمله مثالي، لم يخرج عن أمر أبي بشيء سوى بإختياره لزوجته، فلقد رفض زواج الصفقة وبحث عن فتاة تناسبه بنفسه، لقد كان مثالياً لدرجة أن غطى على حقيقة أنه غير شرعي"

ثم أضاف تعليقاً.

" أنا أردتُ أن أكون مثله..."

أوكتافيا إزدرئت جوفها والتزمت الصمت تستمع إليه، لا تتعاطف معه ولن تتعاطف مهما كان قلبها ليّناً، لكنها ستستمع حتى ينتهي.

" جيمين، على عكسه، كان حُر، إختار تخصصه الجامعي بنفسه، فعل ما يريد، احب الفتاة التي إختار بصدق، كان يفعل كل ما يروق له، رفض أن يدرس الإقتصاد والأعمال، رفض الفتيات اللواتي قدمهنّ أبي له، حتى أنه رَسب في عدة مواد لعدة مرات كي يتخرج معكِ، كان رائعاً وسعيداً رغم ما يُقال عنه بظهره"

ثم علّق.

" أنا أردتُ أن أكون مثله هو أيضاً..."

قبضت اوكتافيا يدها منذ أنها لا تفهمه، لا تفهم ما يرمي إليه، ولم يطل تفسيره حتى وصلها.

" أردتُ أن أكون مثالياً أمام الناس أجمعين كما تيمين بالضبط، بنفس الوقت أردت أن أكون حُراً أعيش كيفما أريد كما جيمين، أردتُ المثالية والسعادة التي يحضيان بها أخواي وأنا لا"

"ذلك ولّد في نفسي إتجاههما غيّرة وكُره غير منطقي، منذ أنني أرى نقصي كلما كنتُ معهما، أنا أعاني من عُقدة نَقص، هذه مشكلتي الأساسية يا أوكتافيا"

" درستُ بجد؛ هكذا تشبّهت بتيمين...
لكنني درستُ التخصص الذي أريد؛ هكذا تشبّهت بجيمين... وبين تقليدي لهما فقدتُ نفسي"

" منذ ذلك الحين علمت أنني ناقص، ناقص ومستحيل أن أكمل، لذا قررت أن أعيش كما يحلو لي، وأن أحصل على أُناس حولي ناقصين أكثر مني، كي أمنُن عليهم قُربي وتقربي منهم"

" ضحية عُقدتي الأولى لارا، كانت صبيّة رائعة يا أوكتافيا، كانت مليئة بالحياة تشع بالألوان، ينبعث منها الدفئ، الروائح اللطيفة، و البيانو، كانت هادئة جميلة وطيّبة، أعجبتُ بها"

" منذ أنني أعجبتُ بها قررتُ الحصول عليها في حياتي،  أبي كان يضغط علي بالفعل كي أتزوج ولم أجد أفضل منها خياراً مناسباً لي، هكذا أتزوج حسب إرادة أبي ولكنني أكون من إختار الفتاة"

" ومنذ أنني ناقص أردتُها أن تكون ناقصة أكثر مني، قررتُ أن أُقطّع أجنحتها كي لا تطير من بين يديّ لاحقاً، أوهمتُها بحُبي، ورغم رفض عائلتها جعلتها لي وهربت معي، هكذا أكون جعلتها ناقصة، أيضاً هكذا أكون جعلت مَفرّها الوحيد مني هو أنا، فلا تَفِرّ مني سوى إليّ، وهذا ما فعلته بكِ أنتِ أيضاً"

" تزوجت لأُرضي أبي، ولأرضي نفسي تمتّعت في حياة ممنوعة، إذ إلتففتُ على رِفاقي وانحرفنا معاً"

" هكذا عشتُ على ثلاثة أنماط مختلفة، كي أُرضي نفسي، كي أُرضي جشعي وطمعي، كي أُثبت لنفسي أنني أفضل من أخوتي، والأهم لأكون سعيداً بنفس الوقت لائقاً"

" لذا أنا كنتُ الأستاذ كيم، الأستاذ المُثقف والحازم بشأن طلابه ومحاضراته علانية، وسراً كنت استغل طالباتي لقضاء جوائجهن."

" وكنتُ جونغ إن ابن العائلة الراقية، ابن لائق، زوج محب، ورب أسره مسؤول أمام الناس بينما أنا في الحقيقة أُعنف زوجتي، أحبسها وأحرمها من أبسط حقوقها."

" ثم أكثر وجوهي حقيقةً، كاي الذي أخرجتُ فيه كل رغباتي الماجنة، كل جنوني بلا إحتساب لجودة صورتي، عبر صورتي ككاي عشت كما أريد، بلا قيود، بحرية، وما كنتُ أدري أنني أقود نفسي إلى الهلاك، كنتُ أظن أن كاي يساعدني لأكون لائقاً، اخرج به رغباتي المكبوتة، وصباحاً أعود للرجل اللائق الذي أُمثّل أنني عليه"

" النوادي، الحانات، راقصات التعري، الكحول، المخدرات، فتيات الهوى، كل شيء جربته، وأعرف تفاصيل تفاصيله، هكذا أنا عشت حتى قدتُ نفسي إلى الهلاك"

" أنا الآن هالك لا محالة يا أوكتافيا ولا أطلب منكِ العفو، أريد منكِ شيئاً آخر..."

" اعتني بلارا، ليس لأجلي بل لأجلها، ابنتي بريئة ليس لها ذنب بأفعالي معكِ، أرجوكِ لا تنظري لها بعين كُرهك وبُغضك لي، لا تنظري في وجهها البريء وتتذكريني، انا شيطان وهي ملاك صغير، أرجوكِ اعتني بها، انا بالفعل تنازلتُ عنها لكِ، أثق بكِ بشأنها، وشكراً لأنك سترعينها رغم غموض المستقبل"

استمعت إلى صوت ضوضاء يختلط مع صوته الهادئ في محادثتها.

" انزل من عندك!"

أحدهم كان يصرخ آمراً بهذه، ولكنها سمعته يتحدث بذات نبرته الهادئة.

" وأردتُ أن أقول شيئاً أخيراً لكِ، أنا آسف عمّا فعلته، أنا آسف لأنني سرقتكِ من أخي، آسف لأنكِ اعجبتِني لذا جعلتكِ ناقصة مُقطّعة الأجنحة لتناسبيني وتناسبي قفصي، آسف لأنني حمّلتكِ ذنب موت لارا بينما أنا المجرم الحقيقي، آسف لأنني خدعتك، آسف لأنني دمرتُ حياتك، أنا آسف يا أوكتافيا على كل شيء فعلتُه بكِ، ولا أرجو منكِ أن تسامحيني، فأنا أخجل من طلب ذلك منكِ"

وقفت أوكتافيا سريعاً حالما لاحظت تجمهراً على جسر الهان حيث تطل شُرفتها.

" أين أنت يا جونغ إن؟!"

" أتذكري حديثنا عن الهان يا أوكتافيا؟! قُلنا عنه الكثير يومها، قلنا أنه وحيد لأنه قاتل، قُلنا أنه مُظلم لأنه مقبرة المذنبين، قٌلنا الكثير لو تذكرين، أنا خاللته وتشبهت به، اليوم اقترن به، وأصير فيه واحداً"

هَزئ جونغ إن بضحكة عن نفسه بينما يسير على سور الجسر، أمامه الهان بماءه وخلفه سيارة شرطة وإسعاف وسيارة نقل المساجين، مصيرين متشابهين، فكلاهما موت، لكن أحدهما يصل به إلى النتيجة أسرع، لذا قرر أن يكون...

" أنا ابن الهان في النهاية، أنا من رحم الهان ولِدت وإليه أعود"

أغلق الخط ورمى بهاتفه في جُب النهر، صفارات الإسعاف وأصوات رجال الشرطة يأمرونه من خلفه شوّه سكون لحظاته الأخيرة، فلقد قرر مسبقاً أن يغادر بهدوء منذ أن حياته كانت صاخبة ومجنونة كفايةً، أراد أن يموت بهدوء، ولكن حتى ساعة موته عليها أن تكون بصخب حياته ولُجتها.

.........................


سلااااااااام

كل عام وأنتم بخير قططي، عيد فطر سعيد وأتمنى تقضوا هالفترة بسعادة وآمان.

الفصل إتأخر كثير ومنذ أنني كاتبة بتتعذر كثير رح اتعذر😂😂 كلنا بنات وفاهمين شو يعني تنفض البيت وتعمل كعك العيد وتعمل عزايم بالعشرة الأواخر😂😂

الحمد لله أني طلعت عايشة رغم كل البهدلة💔😂

المهم؛ أهم شي بهذا الفصل، يا ترى فهمتو مشكلة جونغ إن؟!
أنا ما حاولت أخليكم تتعاطفوا معه، أنا عم بفرجيكم الأمور من منظوره، ممكن تحكوا هذا سبب سخيف ليصير الشخص الفاسد الي هو عليه ولكن لا.

كشخص عايش ظروف مشابهة، ما في أسوء من غيرة الإخوان من بعض، ممكن توصل درجة القتل حتى، لا تستهينوا بالموضوع رجاءً.

الأخ ممكن يقتل أخوه لمجرد أنه شايفه أفضل منه، بكرهه لأنه افضل منه،  هذا شي واقعي بحت، يمكن ما شفته هيك فئة، لكنهم موجودين بالفعل.

وبالنهاية جونغ إن مش منفصم، مريض الإنفصام ما بتذكر شو بيعمل لما يكون في ثوب شخصية ثانية، يعني لو جونغ إن منفصم فما بقدر يتذكر الأشياء الي بعملها لما يكون كاي او الأستاذ كيم.

جونغ إن هو الي خلق هذه الوجوه لنفسه ليحتفظ لنفسه بصورة لائقة أمام المجتمع وبنفس الوقت يعيش كيفما بدو والأهم أنه يحس بالتفوق على إخوانه، هو مشان يتفوق على جيمين سرق منه أوكتافيا، إذا هو مريض نفسياً فبكون عندو عُقدة نقص، غيرة مفرطة، نرجسية، بس أبدا مش إنفصام.

المهم التحديث الي بعد هذا التحديث لِ هيبتُها أخيراً😭😭 ح يكون هدية ميلاد سوهو المتأخرة.

الفصل القادم بعد 100 فوت و 400 كومنت.

1. رأيكم بِ:

1. أوكتافيا؟! مع بيك؟ مع الطبيب زانغ؟ مع جيمين؟ ومع جونغ إن؟!

2.جونغ إن؟! إلى أي مدى تفهمونه؟! ما مصيره؟!

3. بيكهيون؟! أفكاره حول إيزابيلا؟!

4.جيمين؟ ولينه مع أوكتافيا؟

5.رأيكم في الفصل ككل و توقعاتكم للقادم؟!

دمتم سالمين♥️
♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️
Love♥️