CH45|| بداية النهاية
" بداية النهاية"
نون النسوة في كل كلمة، أيُ ضمير يعود لأُنثى، الأُنثى بحد ذاتها؛ لهي نذير شؤم خاص على حياتي أنا وحدي.
واليوم؛ وأنا في ضيافة هذه العائلة، التي لا أعرفها، أتفاجئ بهم يعرفوني، وذلك ما أوقد في نفسي خيفة، فكيف يعرفوني من لم يلاقوني؟!
" تعرفوني؟!"
أجاب الرجل الوحيد، الذي يستضيفني، لحظتُ أن نظراته إليّ لا يحفّهنّ الوِد، فلقد إرتفع حاجبه عن ناصيته وتجهم وجهه إستدعاءً لتكوين عداء تجاهي، كذا حَدّثني بلهجة مُستأمرة مُذِلة وكأنني أدنى منه شأنًا.
" لا يهم أنت ابن من ولأي عائلة تنتمي لو مَسّ الأمر ابنتي، ربما لا تعرفني كفاية، ولكنني على عكس ما تعلمت في بيتك؛ ابنتي أهم من المال بالنسبة لي!"
دَنوت منه، وصبري كذا لهجتي المُحترمة أكاد أفقدهما في ظِل حضور غضبي الطاغيّ عليّ في مِثل هذه الأوقات.
" وما شأني أنا بإعتبارك لابنتك؟! عَمَّ تتحدث؟!"
تحرك الرجل دون أن يمنحني إجابة وافية، حمل مُغلّف ورقيّ من على الطاولة، التي يتحافّون حولها، وسلّمني أياه بيدي.
" ما تفسيركَ لهذا؟!"
فتحتُ المُغلف؛ لأنظر فيما فيه قبل أن أُفكر بإعطائه تفسير حتى، وإذ بها صورٌ لي في مرافق وأماكن مختلفة.
في المدرسة، في السيارة، مع تيمين، مع جونغهيون، وحدي في الشارع بصُحبة كوب قهوة...
كانت هي إذٍا من يتتبعني!
قَلّبتُ الصور مُثارًا غضبي، فأنني لا أرضى أن يعتدي أحد على خصوصيتي لأي سبب كان ولأي بأي طريقةٍ كانت، ألقيتُ بالصور أرضًا، ووقفت لمواجهة السيد.
" الآن أنت ماذا تقول؟! أنا الذي يحتاج تفسيرًا هنا ليس أنت، بأي حق تُراقبني؟!"
صِحتُ في سؤالي الأخير، وصاح هو في وجهي أيضًا حينما أباح.
" بأي حق تجرح قلب ابنتي؟!"
تعكرت ملامحي كذا فِهمي.
" أنا ماذا فعلت لابنتك؟!"
" جعلتها تُحبك، أليس هذا سببًا كافيًا؟!"
لوهلة تريثت في الرد لأفهم ما قال، ابنته القاصر تُحبني، والمُذنب هُنا هو أنا؛ على حسب حُكم الأب هذا.
استرسلتُ في الضحك واسترسلت، لقائي بهم فاق توقعاتي.
" انظر يا سيد، أنا مُجرّد أُستاذ لابنتك وهي مُجرّد طالبة عِندي، لم أسمح بأي تجاوز لهذا الحد مُسبقًا ولن أسمح، أما إن مالت مشاعر ابنتك لي فلُمها ولا تَلُمني، هي بالنسبة لي مجرد طفلة أُلقنها من معرفتي ما يتناسب وعُمرها."
إقتربت إحدى الإمرأتين منه، وتمسّكت بكتفيه؛ تُسهب في تهدئته، وإقناعه بأني بريء من مشاعر ابنته.
أما أنا فقررت أن آفل من هنا، وأُنهي هذه الجَلبة، لكن السيد استوقفني.
" أستاذ كيم جيمين انتظر من فضلك!"
قبضتُ يدي وإلتفتُ إليه، فوجدته مَحني الرأس وإمرأته تقف بجواره.
" أعتذر عن إنفعالي الغير مُبرر، تستطيع تأدية المُهمة التي أتت بك إلى هنا، تَجد ابنتي في غُرفتها، ستصطحبك إليها مُربيتها."
كُنت قد نسيت سبب مَجيئي إلى هنا بعد كل ما صدر عن أبيها، ولأني رجل لا يهون عليه تعبه؛ قررت أن أتجاوز عمّا حدث وأُكمل عملي.
وجّهتني المرأة إلى غرفتها بين مرافق هذا القصر الفسيح، وفي النهاية إهتديتُ إلى باب استوقفتني السيدة الكَهِلة عِنده وقالت.
" هذه غُرفتها، سأخبرها أنك هنا، ثم سأقوم بإدخالك إن سمحت"
أومأتُ لها، وأشرتُ أن تُباشر، فدخلت بعدما إنحنت لي، انتظرتُ أمام الباب بضع دقائق حتى أُذِن لي بالدخول.
أدخلتني السيدة، ووقفت قُرب الباب، وتركت صدر الغُرفة لمشارف أقدامي.
أما طالبتي العزيزة فهي تجلس خلف مكتبها الضيّق لكثرة ما يَعُج بالقرطاسيّة، تفرد كُتبها وتبتسم نحوي.
" أهلًا أُستاذ، ما توقعتُ مجيئك!"
نظرت إلى سريرها المُلحف بأغطية ورديّة، من الطريقة التي رُتِّب فيها يظهر لي أنه رُتِّب على عَجلة، وتهكّمت.
" ما من داع لتدّعي أنكِ مُهتمة بدروسك أمامي، لو أنكِ تهتمين بالفعل لحضرتِها في المدرسة، ولما تغيّبتِ لأجل أسبابٍ تافهة."
إزدرئت الفتاة رمقها، ظنّت أن ألاعيب النساء هذه تنطلي عليّ، الإناث لا يُميز مكرهنّ عُمر، خُلِقنَّ من رحم المَكر.
" أستاذ أنا لستُ..."
أتممتُ أنا كلامها.
" مُطاردة مهووسة؟!"
شهقت مِلئ جوفها ورَمقتني بحرج، ثم تناهت عني حينما أخفضت رأسها في حضرة حَرجها، أما بشأني فأنني لأُثبت إستيائي؛ جلبتُ كُرسيًا شارد وجلستُ قِبالتها، يفصلنا طاولة المَكتب.
" اسمعي يا جيمين، أنتِ مُجرّد طالبة لديّ، وأنا لن أنظر لكِ بنظرة مُغايرة لهذه، لذا توقفي عن تَتبّعي ما دمتُ لطيفًا، وعودي إلى المدرسة"
وقفتُ لأغادر، فلقد إلتزمت هي الصمت طويلًا، ربما لا تَجد كلامًا ترد فيه عليّ، أو أنها تخشى الرد، أو يُحرجها.
لكنها كانت أوقح مما توقعت، وإستنكارًا ثبّتُّ قدميّ بالأرض، أدهشتني.
" هل أصابتكَ عُقدة تجاه النساء؟! أنا لستُ بيون أوكتافيا ولا بيون إيزابيلا، أنا بارك جيمين، سأحبك بإفراط، سأعوضك!"
عُدتُ إليها، وضربتُ بكفيّ مكتبها فانتفضت، ولكنني حذّرت بنبرٍ هادئ، لا يحكي عن إشتعال صدري شيء.
" اسمعي يا صغيرة! العالم أوسع مَداره على أن يسعني ويسعكِ فقط، هناك الكثير من الشُبان في عمرك، أُراهن أنهم يرغبون في صُحبتك، بين هؤلاء امضي وقتك، ولا تضيعيه على مراقبتي والإستعلام عن حياتي!"
قبضت يديها على صدرها، ورمقتني بعينين حزينة باكية.
" أنا سأحبك كثيرًا، لا تفكر بشأن عمري، اكتفي بمشاعري!"
لِكتُ فكّاي، ثم قررت أن أبوح لها عن بضع من أسراري، لعل بوحي صرفها، وألبس نفسها اليأس اتجاهي.
" سمعتُ مِثل هذه الوعود كثيرًا من قبل، لأجل الأولى حاولت أن أَقتِل، ولأجل الثانية كِدتُ أن أُقتَل، أنا لستُ الرجل الذي تُجربيه في الحب، كما أنني لا أثق بمشاعر مُتقلّبة لمُراهقة مِثلك!"
ضربت بكفيها طاولتها، وانسكبت دموعها حتى وقفت بمواجهتي بهذه الملامح المُبتئسة، وعلى هذا القدر من التحدي.
" إذن لا تثق بمشاعري أستاذ، لكنني لن أتركك إطلاقًا!"
تريثتُ في الرد مُذُّ أنني أفكر في حلًا يقيني شر الإناث قبل أن يقع بي.
" أنا أُفضّل أن أقتل الأفعى وسُمها في رأسها، لذا سأقتل ما يصلني فيكِ من الآن، ولن أكون لكِ شيء، ولا حتى أستاذ يا آنسة!"
ثم أفِلت وتركتُها خلفي باكية، لستُ في محمل لأتحمل حِمل أحد معي، قلتُ أنني سأكتفي بنفسي، وأنا مُكتفٍ.
أجريت إتصالًا مع تيمين قبل أن أُحرّك السيارة.
" أما زال منصب المدير التنفيذي شاغر لديك؟"
ضحك أخي فرحًا وأجاب.
" نعم أيها الصبي، تعال وخذه!"
يبدو لي أنني في النهاية سأتخلى عن أحلامي، وألتزم بعمل عائلتي الخاص كما أخي تيمين، مهنة التدريس ما عادت تُلائمني، أنا لستُ أرغب في ورطة مشاعر مع طالبة قاصر.
...........................
في المساء أخيرًا، وبعد أن أنهك العمل كاهل تيمين، لكنه كان رغم الضغط سعيدًا، فأخيه الصغير سيلتحق معه في ذات المجال، وهو لن يكون فيه وحيدًا بعد الآن.
مُذُّ أن ضغط العمل يتراكم عليه وحده، ووالده يُلقي عليه الثِقل والأمانة، فرَعى تيمين أعمال الشركة بمسؤولية تامّة، لطالما كان مسؤولاً وأمينًا.
اليوم؛ منذ أن هاتفه جيمين ومزاجه قد تحسّن، وفجأة شغفه العمل حُبًا، فلقد دبّت به الحماسة ليشاركه أخيه في العمل.
وبعد إنقضاء ساعات العمل عاد إلى المنزل، وبينما هو في الطريق إستوقفته إطلالة إحدى محلّات الزهور.
تَرجّل من سيارته، ودلف مَعرض، الورود لينتقي باقة ورد لزهرته التي في المنزل.
" أتريد نوعًا مُعيّنًا من الزهور؟!"
نفى برأسه بينما يتنقل بين الورود، ينظر في شكلها الجميل ويصله عَبقها الزَهيّ.
" ضعي لي في باقة تشكيلة من الورود الرقيقة من فضلك، فأنّي سآخذها إلى أكثر النساء رِقّة!"
تبسّمت السيدة وقالت.
" أنت واقع في الحُب"
أومئ.
" وأدركتُ ذلك متأخرًا"
قدّمت له السيدة الباقة، وربّتت على ذراعه تقول.
" بُني، لا نكون متأخرين عن الحُب ما دُمنا شباب، الذين في سنّي تأخروا، أما أنت، فما زِلت في مُقتبل العُمر، والحياة أمامك طويلة!"
وضع ثمن الباقة على طاولة المُحاسبة، وشكرها لِلُطف كلماتها، ثم غادر.
كَلفه الوصول إلى المنزل بضع دقائق أُخر، حتى صار على أعتابه، لكنه كان مُتفاجئً وشيئًا ما قَلِق جرّاء العتمة التي تسود المنزل والهدوء المُريب الذي يحفّه.
فتح الباب بمُفتاحه الخاص، ثم دلف وما زالت العتمة تُسيطر.
" نايون، أين أنتِ؟! جونغهيون؟"
لا تخرج نايون في مثل هذا الوقت المُتأخر عادة دون علمه، وهذا ما أثار قلقه.
تحرك ناحية المِقبس حتى أناره، وما إن أنار الأضواء حتى إندفعت بالونات حمراء ناحيته، ضحك سعيدًا ثم مسح على قلبه يتنهد براحة.
تقدم إلى داخل المنزل ينتظر المزيد من المُفاجاءات، كأن يرى نايون مثلًا.
لكنه تفاجئ بصندوق متوسط الحجم، موضوع على الأرض، تقدم ليفتحه فخرجت منه بالونات ورديّة وزرقاء، واستقرّت في قاعه بطاقة ورقيّة.
إلتقطها في أطراف أصابعه وقرأ ما عليها بملامح معقودة، فهو لا يفهم ما يدور هنا.
" أتريده صبيًّا أم فتاة؟!"
" ماذا؟!"
فكّر لوهلة، شعر بأن عقله أصابه عطب ما فجأة.
" نايون؟!"
صاح باسمها مُبتهجًا، تَلى ذلك أن سمع ضحكة خجول أتته من مكانٍ ما، تلفّت يقول فرِحًا بينما يبحث عنها بعينيه.
" أريد فتاة تشبهك، تأخذ كل شيء منكِ، أريد نايون صغيرة، تُضفي على حياتي نكهة مُركزة من الحنان والأُلفة، أُريدها مثلك يا أثمن ما أملك"
سمع وقع كعبها على الأرض يقترب شيئًا فشيء حتى إرتطم بصدره جسدًا يميزه من عِطره، من ملمسه، ومن الشعور الذي يدفعه له.
إحتضنها إلى صدره، وضمّها بين ذراعيه بحُب شديد ورِفق، خبّأ وجهه في شعرها وقال.
" هذا طِفلنا عن حُب، طفل حُبنا الأول، شكرًا لأنكِ تمنحيني هذه السعادة بالمجان، شكرًا لأنكِ معي نايون!"
ضحكت بخفة ومسّدت كتفيه قائلة.
" نحن نتوائم، أنا لستُ كثيرة عليك، أنا وأنت خُلقنا لبعضنا، لا أستحق أحد سواك، أنت كل شيء بالنسبة لي!"
فصلها عنه ليتسنى له النظر في وجهها، تمسّك بوجنتيها وطبع على جبهتها قُبلة.
شاكرٌ لكل شيء أبقى رأسيهما على وسادة واحدة، شاكرٌ لها أنها صَبرت عليه كثيرًا ونالته ونالها، ومعًا نالا السعادة التي يستحقانها.
..................
" كيم لارا!"
وقفت أوكتافيا تحمل لارا الصغيرة على يديها، كانت تلتحف الصغيرة بغطاء لطيف يُدفئها من نسيم الخريف، و يَلُف رأسها شاش خفيف.
دخلت أوكتافيا إلى غُرفة الطبيب زانغ بعدما حان دور إبنتها للفحص، دخلت وإذ بالطبيب يُجهز سرير الإستطباب لأجل الطفلة.
تقدمت أوكتافيا، ووضعت لارا على السرير حيث أشار لها الطبيب زانغ، ثم أوكتافيا كانت مُسهبة الإنتباه نحو طفلتها بينما الطبيب يفك عنها الشاش.
وقفت اوكتافيا تضم قبضتيها أسفل ذقنها بينما ترمق صغيرتها بقلق، فالصغيرة أخذت تبكي بينما يُركب لها الطبيب السمّاعة الخارجية.
لقد مرّ على إجراء العملية ما يزيد عن أسبوعين الآن، وحالة لارا الصحيّة تسمح لها بوضع السمّاعة الخارجية، تكون الخطوة المُتممة للعملية والتي تُبين نجاحها من فشلها.
أشار الطبيب لأوكتافيا بالإقتراب ثم قال.
" احمليها بين يديكِ واحتضنيها كي تشعر بالآمان، فلو نجحت العملية وأستعادت سمعها الآن؛ ستخاف قليلًا لأنها ما سمعت أصواتًا مُذُّ زمن طويل"
أومأت أوكتافيا، وحملت لارا على يديها، ثم أشار لها الطبيب أن تجلس فجلست، وهو انحنى بقامته حتى جلس القرفصاء أمامها، ثم أشار لها أن تتكلم بعدما ضبط السمّاعة في أُذن لارا.
تمسّكت أوكتافيا بيدها الصغيرة وهمست لها.
" صغيرتي"
جَزَعت الصغيرة وسارت بها رعشة خفيفة، تمسّكت أوكتافيا بيدها أكثر واحتضنتها إلى صدرها، لم تستطع مقاومة رغبتها في البكاء آنذاك.
" لا تخافي، أنا هُنا!"
رفعتها إلى صدرها، واحتضنتها بقوة، ما كانت قادرة عن إيقاف تجمهر الدموع في جفونها، وكأنما مشاعرها في هذه اللحظة ينبوع وتفجّر، لقد شعرت بأنها تنتصر، وتتجاوز أول عقبة وأكبر عقبة.
الآن إستعادت لارا، ستستعيد نفسها...
نظرت ناحية الطبيب زانغ الذي يجلس أمامها وابتسمت.
" شكرًا لك"
أومئ يبتسم حتى بانت غمّازته العميقة، رفعت لارا عنها ونظرت في وجهها.
" من اليوم، أنتِ ستكوني طائر حُر أرعاه بكل الحُب والإهتمام، ستكوني كل حياتي، ستملئي حياتي!"
لارا الصغيرة كانت تزمّ شفتيها في وضع تأهب للبكاء، لربما هي فهمت أنها استعادت شيء ينقصها، ربما فهمت أن هناك من يُحبها.
...........................
بعد مرور خمس سنوات...
الحياة تغيّرت كثيرًا بمرور السنين، فما عاد شيء كما كان، الكلُّ تبدّل والظروف تغيّرت، اليوم؛ الحياة صارت أكثر هدوءًا وكل شيء عاد إلى نِصابه السابق.
بدايةً من بيكهيون؛ فلقد تزوّج من إيزابيلا وحقق طموحه ناحيتها مُذُّ خمس سنين مَضت، لكن ليس كل ما يطمح له المرء يدركه، أحيانًا لا تتصلح العلاقات بيد الزمن، بل تحتاج مُحرّك أقوى، قد لا يُكلف الكثير من الوقت ولكنه يُكلّف الكثير من الجُرءة.
في مِثل هذا الصباح الربيعيّ المُشرِق؛ الحياة تُمارس الروتين والعادة على الناس، كأن يعيشوا كل يوم كالذي سبقه والذي سيلحقه.
بعد الزواج؛ رفضت إيزابيلا أن تُقيم في بيت عمّها، وأصرّت أن تحصل على بيتها الخاص، ورغبتها هذه تحققت، فاليوم بيكهيون وإيزابيلا يملكان منزلًا عصريًّا وواسعًا جدًا في حيّ شهير يعيش به الأغنياء فحسب.
ومُنذُ أن جيمين بَلغ الخامسة بالفعل فهو الآن يرتاد رياض الأطفال وبدأ تعليمه، هو صبيّ لطيف، ملامحه طِبق الأصل عن والده، أما شخصيته فهي تميل لتكون كشخصية الرجل الذي أُسميَّ باسمه.
وإيزابيلا لا تملك غيره -ابنها- في كل حياتها ولأجله تعيش وتصبر على كل شيء، كعلاقتها الفاشلة بزوجها.
كانت إيزابيلا في المطبخ تعد الإفطار بينما زوجها وابنها ما زالا نائمين، نظرت في ساعة الحائط وإذ بها السابعة، صعدت السُلم إلى غُرفة جيمين.
كان ينام الصغير في سريره بهدوء وسكينة، لولا أنه شعر بلمسات ناعمة تَطئ رأسه فابتسم الصغير وقال يغمض عينيه.
" هل إن فتحتُ عيناي سأرى أجمل إمرأة في العالم؟!"
ضحكت إيزابيلا بخفّة وقالت.
" يا لك من لعوب! أولا تريد معانقة ماما؟"
نهض الصغير بجسده الصغير، ووقف على عقبيه، ليطوّق رقبة أمه بينما هي تذهب به إلى دورة المياه، وهو أكمل غفوته على كتفها.
تركت جيمين في غُرفته ليرتب سريره ويُحضّر حقيبته المدرسيّة، وخرجت إلى غرفتها المُشتركة مع زوجها.
كان ينام على بطنه، يحتضن الوسادة بين ذراعيه إلى أسفل جسده، عاري الصدر كما العادة.
رغم أنه مرّ على زواجهما خمسة أعوام إلا أنها لم تكُ قريبة منه على الإطلاق لدرجة أن تلمسه، هي وقفت لَدُن الباب وطرقت عليه عِدة مرات تقول.
" الإفطار جاهز، ننتظرك"
لاحظته يتحرك في فراشه فخرجت، وضعت الأطباق على الطاولة وجلست قبالة طفلها، ثم قالت بينما تضع له مُربى الفراولة الذي يحب على قطع الخبز.
" وضعتُ لك مصروفك في حقيبتك، أياك أن تُضيّعه"
أومئ الصغير بينما يقضم القطعة التي ناولته أياها أمه.
" لا يجرؤ أحد أن يسرقني، وأنا أحافظ على أشيائي الخاصة لذا لا داعي للخوف"
شعر الصغير بطبطبة على كتفه، ثم أتاه صوت والده الذي جلس على مقعده بينهما.
" تتكلم مثل رجل بالغ!"
ضحك الطفل يرد على أبيه.
" أنا رجل بالغ أصلًا أبي!"
ضحك بيكهيون بخفّة قبل أن يومئ لصغيره، ثم الطفل ناور نظره بين أمه وأبيه، هو طفل بالفعل، لكن له عينان يرى بهما، ويستطيع أن يفهم أن أمه وأبيه ليسا على وِفاق، وخصوصًا مؤخرًا.
بيكهيون وإيزابيلا يعملان في شركة أسلافهما معًا، وبالطريق إلى هناك يقومان بإيصال جيمين إلى مدرسته.
فقد إلتحقت إيزابيلا بالوظيفة بعدما نضج جيمين وأصبح يذهب إلى المدرسة، وهي تقضي طيلة اليوم وحدها، ثم أنها تريد لدراستها في مجال الأعمال أن تُثمر بفائدة عليها وعلى عملها.
بيكهيون لم يُعارض حينما طلبت منه أن تعمل، بل على العكس؛ كان سعيدًا جدًا بيد أنها ستصبح منه أقرب وصَوب عينيه طيلة اليوم، يراها كلما إشتاق لها.
ولأنها لا تملك الخِبرة الكافية لتستلم منصب مدير أو ما شابه، فلقد وضِعت تحت التدريب في مكتب بيكهيون، فأصبح هو مُديرها وهي نائبته.
ما إن وصلا الشركة حتى تفرّقا في مكاتبهما، فمكتبه يقابل مكتبها، يشغل بينهما حيز مكتب مساعدة المدير.
بيكهيون ما كان مشغولًا بالعمل، بل مشغول تفكيره بها، فالأمس تطاول على رغبتها، و تجاوز الحدود التي سبق ووضعتها بينهما، كأن لا يلمسها مثلًا.
بعث عبر سكرتيرته يطلبها إلى مكتبه، ولم تحضر في الحال، بل كلّفته وقتًا طويلًا في الإنتظار حتى أتت.
" بماذا طلبتني؟!"
نهض عن مكتبه وأشار لها أن تجلس على الكنبة الجلديّة ففعلت، ثم أتى ليجلس قبالتها، شابك أصابعه أمامه ثم قال.
" الأمر لا يخص العمل، أردتكِ لنتكلم عمّا حدث بالأمس"
نهضت إيزابيلا على ساقيها وقالت.
" لم آتِ لنتحدث بأمورنا الخاصّة"
ضرب الطاولة التي تحيز بينهما بعصبية ووقف.
" متى نتحدث إذن؟! في المنزل؟! إنني لا أراكِ سوى على طاولة الطعام، دومًا ما تهربين مني وتظهري فقط مع جيمين كي لا أقول شيء"
تنهدت إيزابيلا وجلست قِبالته مجددًا ثم قالت.
" قُل ما تريد"
نظر إليها بيكهيون وأمال رأسه ناحيتها.
" إلى متى سنبقى هكذا؟!"
نظرت في عينيه لأول مرة منذ زمن طويل، حينها قضم شفتيه في حنين، وقال رغم أن الغصّات تتجمع في حلقه.
" كم عليّ أن أفني من عمري لإنتظارك؟ متى ستفتحي قلبكِ لي؟"
أشاحت إيزابيلا عنه، وهي ترمش كثيراً كي تحبس دموعها عن الإنسياب.
" أخبرتك منذ أن تزوجنا أنني لن أعود تلك الفتاة المُغرمة بك إطلاقًا، لقد رأيتُ منك ما يجعل قلبي ناحيتك فارغ"
أومئ بشيء من الضياع والتشتت ثم قال.
" فارغ، أي أنني يمكنني مِلئه مع الوقت"
نظرت له تستنكر تحليله الذي لم تقصده، حينها قال.
" لن أترككِ إيزابيلا حتى أُسبّلكِ بين ذراعاي"
وقفت إيزابيلا وقالت رافضة.
" تلك أحلامك فقط التي لن تتحقق، أنا فارغة منك ولن أمتلئ إطلاقًا!"
ثم حملت نفسها وغادرته بهذا البرود، تنهد بيكهيون يضع صدغيه في كفيه وأسهب يفكر، كيف يكسبها؟! بأي طريقة يستعيدها؟
أنها لا تهتم به، لا تحبه، ولا تغار عليه... فكيف يفعل؟!
............................
" إنتهى الإجتماع"
فضّ تيمين الإجتماع حالما إنتهت المُناقشة الدائرة بشأن إحدى المشاريع التي تقوم عليها الشركة هذه الأيام، فأخذوا جيمع المُدراء يوظبون أوراقهم ثم خروجوا.
خرج تيمين يرافقه جيمين من قاعة الإجتماعات، خلفهما مساعدتين صبيّتين يمشينّ بسرعة لمواكبة خطوات الرجلين الواسعة.
" بعثت لنا جامعة سيؤل الوطنيّة دُفعة الأوائل من الخريجين في قسم الأعمال، ستكون المسؤول عن تدريبهم، أعطِ إهتمامًا خاصًا لثلاثة الأوائل، على الأرجح أنني لن أفرط بهم لشركة أخرى بعد تدريبهم"
أومئ جيمين لِقاء أوامر أخيه.
الدورة التدريبية للخريجيّن الجُدد يكون جيمين المسؤول عنها كل سنة، فعادة ما يقع تحت وطأته ما يزيد عن عشرين طالبًا من كلية الأعمال لجامعة سيؤل الوطنية.
فقد وضع تيمين منذ خمس سنين هذه المهمة على أخيه، لأن جيمين سبق وإن كان مُعلمًا ويُجيد تدريب وتعليم طُلّابه جيدًا.
" سأقوم بلِقائهم فور وصولهم"
أما جيمين، فكيف عاش الخمس سنين الوالية من حياته؟!
بلا شيء مهم، في العمل، لأنه ليس مُتخصصًا في الأعمال بشكل خاص؛ تقدم لدرجة البكالوريوس لإحدى الجامعات التي تُدرِّس عن بُعد، تخرّج منذ عام وترفّع منصبه الإداري ليصبح نائب الرئيس.
لم يفكر بأحد إطلاقًا طيلة هذه السنين، حينما بلغه موعد زفاف إيزابيلا من بيكهيون لم يُحرك ساكنًا، ولم يرى طالبته بارك جيمين منذ أن إعتزل مهنة التدريس.
قليلًا ما يتكلم مع أوكتافيا ليطمأن على لارا الصغيرة فحسب، فعلاقاته بالناس أصبحت مقطوعة، ما عاد يملك سوى أخيه تيمين وعائلته الصغيرة.
وذلك لم يكن سِرًا عن الناس، فجيمع العُمال في الشركة يعلمون هذا، واذاعوا سيطًا عن المدير كيم جيمين، بأنه كئيب ووحيد.
حينما يحدث ويسيران تيمين وجيمين معاً في قعر الشركة تلاحقهما الأنظار لفرض مُقارنة، تيمين المدير المحبوب، لطيف مع جميع الموظفين، يبتسم دومًا، ويتفهّم حاجاتهم.
على عكسه جيمين، قليل الكلام، كثير الإنفعال، ملامحه متيسبة لقلة التعابير التي تحذوه، بارد مع موظفيه، يرفض العلاقات، لديه كآبة مُعدية.
مثل هذه الأخبار التي تختلط فيها الحقيقة بالشائعة تصل المُتدربين الجُدد كل سنة، فيصلون متخوفين من المدير جيمين.
كما السنة هذه تمامًا؛ وصل فوج المتخرجين معًا إلى الشركة يكونون عُصبة من الشباب المُثقفين ببدلات أنيقة.
ما إن دخلوا بوابة الشركة حتى تم إستدعائهم إلى القاعة الخاصة بتدريب المُستجدّين أمثالهم.
جلسوا جميعًا أمام المنصّة بإنتظار أن يأتي المدير المسؤول.
" سمعتُ أن المدير كيم جيمين هو من يتولّى التدريب كل عام، يُقال أنه صارم ومُخيف، إنني أخشاه من الآن"
الكثير من هذه الأحاديث تنشأ بين المتدربين، لتصبير أنفسهم حتى مُلاقاة المدير.
فُتِح الباب، ثم دخل شاب وسيم، شعره بُندقي اللون، مرفوع عن جبهته قليلاً، ومُسرّح بفاصلة جانبية.
يرتدي قميصًا أسود اللون، تتفتح أزراره الأوليّة حتى بانت ترقوته وأسفلها، يرفع كُميه عن ساعديه فتبان ساعته الذهبية وساعديه المفتولان.
يرتدي بنطال قماشي أسود، كذا حذاء كلاسيكي أسود، ليس طويل القامة، إنما قصير، لكنه يتفجّر وسامة وجاذبية.
صعد المنصّة أمام المتدربين، وبينما يضع كفيه في جيوب بنطاله قال.
" المدير كيم جيمين، سأكون مسؤول عن تدريبكم وإيداعكم بالوظائف التي تتناسب مع مهاراتكم، سُمعتي تُعرّفني جيدًا، لا هون ولا تهاون معي، من يريد أن ينال الوظيفة الأفضل فليقدم الأداء الأفضل"
" سيتم تقسيمكم إلى مجموعات تتكون من ثلاثة أعضاء، سأفرقكم على الأقسام، أما الثلاثة الأوائل فسيعملون في مكتبي وتحت إشرافي المباشر"
نزل عن المنصّة وغادر تتبعه مساعدته دون أن يضيف حرفًا آخر، يعلمون أنه ليس ودود وأنه صارم للغاية، لكن مظهره كان مفاجئًا، عادة يكونوا المدراء أكثر رسمية وإحتشامًا في ثيابهم.
لكن المدير كيم جيمين لهو إستثناء عن كل قاعدة...
" الثلاثة الأوائل تفضلوا معي"
كانوا شابين وفتاة، توجه ثلاثتهم إلى مكتب المدير حيث وجهتهم الموظفة.
تناظر الثلاثة قبل الدخول حتى تشجّع إحدى الشابين وطرق الباب، فسمع المدير يأذن له بالدخول.
لكن الفتاة كانت مُرتبكة زيادة، خائفة جدًا من أن يقع نظره في عينيها، أمر مُحتَم حدوثه، ولكن ترجو ألا تُصيب توقعاتها.
إنحنى الثلاثة أمام المدير الذي لم يرفع رأسه من بين الأوراق، ومساعدته تجاوره لتستلم بعض الملفات التي تحتاج توقيعه.
ما أن إنتهى حتى وقف وأشار لمساعدته أن تُغادر، ثم تقدم حتى إتكئ على طاولة مكتبه وعقد ساعديه إلى صدره.
كانوا المتدربين الثلاثة يخفضوا أبصارهم عنه، وجيمين لم يُدقق النظر في وجوههم، فقط تحدث.
" منذ أنكم الأوائل فتوقعاتنا ناحيتكم عالية، لو أثبتم قدراتكم ستتولوا مناصب عالية الشأن في الشركة، ابذلوا قُصارى جهدكم، وأنا سأقوم بواجبي اتجاهكم"
أومئ ثلاثتهم، حينها قال جيمين.
" تستطيعوا أن تغادوا الآن، خذوا بطاقات العمل من عند مساعدتي واستلموا مهماتكم منها"
إنحنى الثلاثة له ثم أدبروا آفلين، لولا أن جيمين للحظة تبادرت إلى ذهنه صورة يعرفها، فقال.
" فلتبقى الفتاة، والشابين اذهبوا لتباشروا عملكم!"
غادر الشابين والفتاة بقيت واقفة في مكانها، تضم يديها بقوة وتشد على جفونها، وكأن مُفترسًا يكاد ينقض عليها.
" ما اسمك؟!"
إلتفتت ناحيته الفتاة، لكنها لم ترفع رأسها ولم تجبه، حينها تنهد وتقدم منها يضع كفيه في جيوبه.
" ما بالكِ ترتجفين هكذا؟! ألهذه الدرجة أنا مُخيف؟! ارفعي رأسك!"
قضمت الفتاة شفاهها ورفعت رأسها ناحيته رويدًا رويدًا، حينها ضاقت عينا جيمين وتسآل بنبر خفيض يعزز الشك في نفسه.
" اخبريني ما اسمك"
نفثت أنفاسها ثم بأعين مُغمضة، رأس مُنكس، ونبرة ترتجف أجابته.
" أنا بارك جيمين"
قهقه جيمين يبتعد عنها مُستنكرًا، إلتفتت ناحيته وإلتزمت الصمت، أما هو فوقف مُتخصرًا يبعد عنها بمسافة جيدة وقال.
" لستِ بالحماقة التي أتصورها، لستِ هنا بسببي!"
جيمين تنهدت، ثم استجمعت نُتف شجاعتها، لقد كان من المُهين أن يضع حُبها له في دائرة الحُمق، ونعم؛ هي بهذه الحماقة، أتت هنا لأجله، لأنها ما زالت على حبه.
لكنها لن تسمح أن تكون في عينيه محط سُخرية، لن تركض إليه، ولن تتأمل عينيه، لن تطلب ذراعيه، ولن تظهر وِدها له، لن تفضح نفسها أمامه.
" لا سيدي، أنا الأولى على دُفعة الخريجين هذا العام، والجامعة إختارت الشركة التي أتدرب بها، لم يكن خياري"
تريث قبل أن يومئ ويشير لها بالإنصراف.
" أرجو أن السنين عقّلتكِ وأن تكوني كففتِ عن الأفعال الطفولية، خذي بطاقة عملك وباشري تدريبك فورًا، لن أكون معكم لطيفًا!"
إنحنت له للمرة الأخيرة ثم غادرت.
أخذت بطاقة المزاولة، ثم إختبأت في مكتبها الضيّق، استندت على الباب وأسرفت في البكاء، لقد كان أكثر لُطفًا فيما سبق.
اليوم تكتشف أن إعترافها ذاك غيّر مشاعره ناحيتها، من فتاة عادية تشغل حيّز طالبة في صفه إلى فتاة ماكرة تريد أن تخلق مكان إمرأة في حياته وتستحوذ عليه.
لم تبكي لأنه قاسٍ بقدر ما بكت لأن الحنين يضج في خاطرها له، وهو ما إزداد إلا برودًا.
لكنها جيمين؛ فتاة عنيدة، مُثابرة، وصبورة، تحصل على أي شيء تريده مهما تكبدها من عناء، ولو حصلت على جيمين؛ فهي لا تريد شيئًا من بعده، ستكتفي به للأبد.
..................................
" رفض أن يأتي؟!"
أومئ تيمين لزوجته قبل أن يَلج قصر العائلة.
اليوم مثل الكثير من غيره؛ إتصلت السيدة كيم بتيمين، وطلبت منه أن يحضر على طعام العشاء لديها، وأن عائلته ستسبقه إلى القصر، راغبة في رؤية حفيديها.
أنجبت نايون فتاة، وكما أرادها تيمين؛ فهي نُسخة عن والدتها؛ في المظهر وفي الرِقّة، أسماها تايون؛ لتجمع بين اسمي والديها، وليكون في اسمها قصة الحب التي أنجبتها.
جونغهيون قد تجاوز العاشرة، فما عاد يثير شغبًا حينما يلعب، ولكن تايون فتاة مُشاغبة، تستمتع بإثارة غضب جدتها.
السيدة كيم بالفعل منزعجة، فلقد رفض جيمين القدوم، لم يدخل المنزل منذ أن فارق خطيبته الأولى وتوفّت زوجة أخيه، منذ ذاك الحين وهو يعيش بعُزلة عنهم، ولا يرضى بالإختلاط فيهم مهما تعددت الأسباب، يقول أنه مُكتفيًا بنفسه.
تجمّعوا على طاولة العشاء، السيد كيم يرأس الطاولة، على يمينه زوجته يحدّاها حفيداها المُشاغبان، وعلى يساره ابنه الذي تبقى له وزوجته.
تبسّم الكَهِل في ألم ثم تحدث.
" أشتاق للأيام التي كان فيها القصر يضجُّ بالحياة، يضجُّ بأولادي"
تحفظ الجميع على صمته، حينها تحدث السيد كيم لابنه.
" كيف يُبلي جيمين؟ أهو بخير؟"
أومئ تيمين لوالده وقال.
" نعم يا أبي، هو بخير ويُبلي جيدًا"
تمسّك الأب بساعد ابنه وبنبرة ليّنة قال.
" حدّثني عنه، كيف يعيش؟!"
تبسّم تيمين وتمسّك بكف أبيه بين راحتيه وقال.
" يعيش جيدًا، لقد إشترى شِقة باهظة على مشارف نهر الهان، وهو يعيش بها الآن، يأتي إلى العمل كل يوم، يؤديه على كامل وجه ثم يغادر إلى شِقته، وفي العُطل آخاذه، ونقضي الوقت معًا، لا تقلق بشأنه"
أومئ السيد وقد إرتاحت نفسه قليلًا على ابنه ثم قال.
" وماذا عن جونغ إن؟ أما زلت تزوره؟!"
أومئ تيمين وقال.
" نعم، غدًا ستنقضي عقوبته، سأذهب لأحضره"
" وأين سيبقى؟ هل سيعود إلى هنا أم يذهب لمنزله؟"
نفى تيمين وقال.
" لا يا أبي، له مخططاته الأخرى"
شدد تيمين تمسكه بيد والده حينما أصابه الجزع وقال.
" لا تقلق أبي، إنه تحت رقابتي، لن يستطيع فعل شيء يؤدي به إلى السوء مجددًا، لذا إطمئن!"
إطمأن السيد قليلًا على أولاده، لكنه لن يرتاح أبدًا إذا ما رآهم مصفوفين على هذه الطاولة، ويتناغمون بوِد، وينسجمون بحق، لا يريد لهذه العائلة التشتت للأبد.
.....................................
في يوم جديد؛ كانت أوكتافيا تَسير في أروقة المدرسة بإستعجال بينما تحمل ملفات مُتخمة بالأوراق على ذراعها، ويُخلفها شاب طويل القامة.
" كم مُعلِّم تقدّم على الوظيفة؟!"
أجابها الشاب من خلفها.
" الكثير سيدتي، أحدهم سيرته الذاتيّة مُلفِتة للنظر!"
إلتفتت أوكتافيا إلى لوكاس - مُساعدها الشخصيّ- تقبض حاجبيها وقالت.
" وما المُلفت بسيرته الذاتيّة؟!"
" أنه من حَملة الدكتوراة وأستاذ جامعيّ سابق"
سارت أوكتافيا مجددًا بعدما أطلقت تنهيدة، لن تأخذ الأمر بجديّة، يستحيل أن تتحقق مخاوفها هذه المرة، ثم أن حَملة الشهادات العُليا العاطلين كُثر، لا يُعقل أن يكون هو.
دخلت إلى قاعة الإجتماعات، حيث اجتمعوا المُتقدمين إلى الوظيفة.
بعد أن إستعادت لارا سمعها وأصبحت بصحّة وعافية، كان على أوكتافيا أن تتخذ خطوة ثانية نحو مُستقبل أفضل ويخصّها، ولطالما كان حُلمها أن تُنشئ مركز لُغات خاص بها، فيكون عملها الخاص ورِزقها الخالص.
نجح المركز منذ أول سنة بإنشائه، وخلال بضع سنين إستطاعت أن تفتح مدرسة خاصة من المراحل الإبتدائية وحتى الثانوية.
كان إنشاءً ضخمًا تكفّلت أوكتافيا ببعض تكاليفه، وسخّر بيكهيون لأجلها من مال عائلته ما يؤهلها أن تفتح هذه المدرسة.
اليوم -ضمن أيام عديدة- تقوم بعقد مُقابلات لتوظيف الكادر التدريسي، ومساعدها لوكاس يتولّى تعيين بقية العُمّال، وذلك تحضيرًا لفتح المدرسة قبل بِدء العام الدراسي الجديد.
وَلجت أوكتافيا إلى القاعة يلحقها الشاب الصينيّ الوسيم.
" مرحبًا بِكم!"
وقف الأساتذة من رجال ونساء لتحيتها، وبينما تجول ببصرها بينهم شهقت، إنه بينهم.
إبتلعت رمقها وأشاحت عنه، تشعر وكأن نار تغلي في جوفها لِقاء رؤيته، تشعر بأطرافها باردة إلا أنها من الداخل تحترق.
" أنتِ بخير سيدتي؟!"
قبضت يدها تحاول ضبط إنفعالها، ثم أخذت نفسًا عميقًا وحررته قبل أن تُقيم عودها وتقف لمواجهتهم ثانية.
إستجمعت شجاعتها وقُدراتها ثم قالت بصوت جهور، ولمعت على مَبسمها إبتسامة قويّة.
" كما تَرون أن المدرسة جديدة الإنشاء، أنا المالكة والمديرة، وأبحث عن كادر تدريسي أستطيع أن أضع ثقتي بهم على طُلابنا الذين يضعون ثقتهم بي، لذا من فضلكم اعرضوا أفضل ما لديكم"
جميعهم أومئوا لها، حينها أشارت للوكاس من خلفها أن يباشر عمله.
سقط نظرها عليه فوجدته ينظر لها، لا تدري ما الذي جلبه إلى هنا، ألم يُغيره الزمن؟! أم ما زال الرجل الذي تعرفه؟!
فتحت ملف السيّر الذاتيّة الذي على ذراعها ثم إستدعت أول مُتقدم على الوظيفة.
" السيد كيم جونغ إن تفضّل معي"
نهض جونغ إن وسار خلفها حتى وصلت به إلى مكتبها، وقبل أن تَلِج طلبت من لوكاس أن يدخل معها ففعل، وذاك كان إنعدام ثِقة وتأدية عمل فحسب بالنسبة لها.
جلست خلف طاولتها يتبعها لوكاس الذي وقف بمحاذاتها، أشارت لجونغ إن بالجلوس أمام المكتب وقالت.
" سيد كيم، لِمَ تتقدم إلى الوظيفة هذه رغم أن شهاداتك العلميّة تضمن لك مكانًا أفضل؟!"
قبضت حاجبيها ومالت بجذعها على طاولتها ترمقه بشك.
" أليس هذا مُريبًا؟!"
أومئ جونغ إن، مما تراه أوكتافيا فهو الأستاذ كيم الذي عَرفته أولاً، يرتدي بدلة رسمية بُنية اللون يسفلها قميص مُخالف لونه.
يرفع شعره الكراميلي عن ناصيته وقد صففه بعناية، ساعة رسمية في يده، حذاء كلاسيكي في قدميه، تفوح منه رائحة عِطر حلوة، ويحمل حقيبة وثائق بيده، وأخيرًا يضع معالم رسميّة على وجهه، فلا يبدو كالرجل الذي تعرفه حق المعرفة، جونغ إن الذي تزوجها.
تنهد قبل أن يجيب سؤالها الفارط وقال.
" الأمر يدعو للريبة بالفعل، وأنا لن أبخل عليكِ بالتفسير، لدي شهادات من جامعات عالمية ولكن لديّ سِجل قضائي يُلاحقني أينما تقدمت لوظيفة في بلادي، لذا أتيتُ إلى هنا الصين، بحثتُ عن عمل لفترة طويلة حتى وقع إعلانكم في نظري وقررتُ التقدم له"
لوكاس عقد ساعديه إلى صدره وقال.
" وما مدى سوء سِجلك القضائي لدرجة أن تهرب من بلدك بسببه؟!"
أشهرت أوكتافيا بيدها للوكاس كي يصمت ثم قالت.
" وكيف لي أن أضمن شخص بسجل قضائي ليكون مُعلم يؤثّر بالأطفال والمراهقين من الطلبة بسلوكه وأفكاره؟!"
تنهد جونغ إن ثم قال.
" ليس هناك ضمانة ماديّة بالفعل، تستطيعي أن ترفضيني ولكنني أبحث عن فُرصة أُثبت بها نفسي من جديد"
نظرت أوكتافيا إلى لوكاس ثم أشارت له بالمغادرة، طالعها الشاب بقلق ولكنها بإصرار صرفته وبقيا وحدهما في هذا المكان.
" لنتحدث بصراحة، ما الذي أتى بك إلى هنا؟!"
أمام لهجة أوكتافيا التي تكنّ العدائية، جونغ إن تنهد يضع وجهه بين كفيه ثم نظر لها قائلًا.
" أدري كيف تفكرين بي الآن، الإنسان قابل للتغيير، وصدّقيني تغيرت كثيرًا، لستُ أحاول إستعادتكِ كما السابق، أنا أريد أن أكون رجُلًا أفضل وأب تفتخر به ابنته"
أشاحت أوكتافيا بوجهها عنه وضحكت مُتهكّمة.
" تريدني أن أصدق هذا الكلام مجددًا؟! لأي مدى تظنني غبيّة كي تخدعني في كل مرة؟!"
أنكس جونغ إن برأسه وأوكتافيا وقفت تسير في مكتبها، تبدو خطواتها هادئة لكنها من داخلها تغلي غضبًا، وغضبها كان جَليًا في صوتها.
" ابنتك؟ ألا ترى أنك تأخرت أخيرًا جدًا بشأنها؟! أتعرف ما عِشناه معًا وأنت خارج المشهد؟! هي ليست بحاجتك الآن، انصرف!"
وقف عن مقعده، وتقدم منها إلا أنها تراجعت، ولمع الذُعر في مرافقها، حينها رفع يديه يشير لها بالسلامة ثم قال.
" لا تخافي، لستُ أنوي أذيتكِ، أنا فقط أحاول أثبات نفسي مجددًا، صدقيني أن كل ما أحتاجه هو فرصة واحدة فقط، إن أخطأت بشيء افعلي ما تشائين، أدري أنكِ وابنتي لستُنّ بحاجتي، لكنني أنا من بحاجة لكنّ، أرجوكِ فرصة واحدة ولن أخذلك"
تنهدت وابتعدت عنه ثم سارت قليلًا تُفكر، لا يُمكن أن تسمح له بأن يخدعها مُجددًا، واضح أن السنين لم تغيّره، فأمثاله لا يتغيرون.
لكنها ستسغل الفرصة، ستعلّمه الصبر والجَلد الذي تَمهر فيه بسببه، ستضعه في قالب المظلوم، لا الظالم كما إعتاد.
إلتفتت إليه وقالت.
" ستتحمل شروط العمل وظروفه مهما كانت صعبة؟!"
سُرعان ما أومئ وبانت على شفتيه إبتسامة فَرحة، أومأت هي بدورها ونادت تطلب لوكاس الحضور.
" احضر لي عقد العمل!"
اطلع لوكاس على مديرته ثم الرجل الذي بضيافتها، شيءٌ ما غريب مُريب، لكنه لن يقول شيء الآن على الأقل.
أتى لوكاس بالعقد وأوكتافيا وضعته على الطاولة القصيرة أمام جونغ إن وقالت.
" اطّلع عليه ووقع إن أردت!"
افتتح العقد، اطلع على شروطه، كانت قاسية جدًا ومُختلِفة.
ساعات العمل تبدأ من السابعة صباحًا حتى الرابعة مساءً، سيكون المُعلم المسؤول عن شعبتين من الإعدادية، وهم يكونوا مراهقين في أول طَلعتهم يستعرض الذكور فيها رجولتهم بشكلٍ عدائي.
سيكون المُنظم الوحيد للفقرات المدرسيّة، سيكون مدّرب رياضة مُساعد بما أنه ذكر في سيرته اللياقة البدنية، وأخيرًا سيكون ضمن اللجنة التي تُنظم الأنشطة، عدا عن الصفوف التي سيدرسها، والتي تكون شُعب الثانوية الفروع الإنسانيّة بالإضافة إلى الصفوف العُليا للشعب الإعدادية.
كل هذا مُقابل خمس مائة دولار فقط، هذا الهلاك بعينه...!
يدري أنها تنتقم منه بهذه الطريقة، وهو في هذه المرحلة لا يُبالي، فهدفه صعب ولن يأتي بسهولة إطلاقًا.
وضع توقيعه على الأوراق وذاك ما أدهش لوكاس حتى أنه أفرج عن شهقة وأوكتافيا كتّفت ذراعيها وابتسمت.
ستبدأ المُتعة قريبًا.
..................................
سلاااااااااااام
مثل ما هو واضح كل شي اتغير، ظروف الشخصيات، أحداث حتميّة صارت، ما كان في داعي لتفسيرها بتعمق شديد.
وهيك بتكون الحِقبة الأخيرة بدأت، هي حِقبة مُعقّدة عاطفيًا، سخونة الأحداث ما رح تكون شديدة مثل الفصول السابقة.
أظن خلال عشر فصول أو أقل تنتهي، لهيك ادعموها وحبوها للنهاية.
الفصل القادم بعد 100 فوت و 400 كومنت.
١. رأيكم بأوكتافيا؟ كفاحها حتى النهاية لأجل لارا؟ ما الذي تخطط له ضد جونغ إن؟ وكيف تظنون سير علاقتها بالطبيب زانغ؟
٢. رأيكم بجونغ إن؟ هل فعلًا تغير؟ أم يُمارس حيلة جديدة؟
٣. رأيكم بجيمين المدير؟ توقعاتكم حوله مع جيمين بارك؟
٤. رأيكم ببيكهيون وإيزابيلا؟ أسلوب حياتهم كزوحين؟ توقعاتكم؟
٥. رأيكم بالبارت ككل و توقعاتكم للقادم؟!
دمتم سالمين♥️
♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️
Love♥️
نون النسوة في كل كلمة، أيُ ضمير يعود لأُنثى، الأُنثى بحد ذاتها؛ لهي نذير شؤم خاص على حياتي أنا وحدي.
واليوم؛ وأنا في ضيافة هذه العائلة، التي لا أعرفها، أتفاجئ بهم يعرفوني، وذلك ما أوقد في نفسي خيفة، فكيف يعرفوني من لم يلاقوني؟!
" تعرفوني؟!"
أجاب الرجل الوحيد، الذي يستضيفني، لحظتُ أن نظراته إليّ لا يحفّهنّ الوِد، فلقد إرتفع حاجبه عن ناصيته وتجهم وجهه إستدعاءً لتكوين عداء تجاهي، كذا حَدّثني بلهجة مُستأمرة مُذِلة وكأنني أدنى منه شأنًا.
" لا يهم أنت ابن من ولأي عائلة تنتمي لو مَسّ الأمر ابنتي، ربما لا تعرفني كفاية، ولكنني على عكس ما تعلمت في بيتك؛ ابنتي أهم من المال بالنسبة لي!"
دَنوت منه، وصبري كذا لهجتي المُحترمة أكاد أفقدهما في ظِل حضور غضبي الطاغيّ عليّ في مِثل هذه الأوقات.
" وما شأني أنا بإعتبارك لابنتك؟! عَمَّ تتحدث؟!"
تحرك الرجل دون أن يمنحني إجابة وافية، حمل مُغلّف ورقيّ من على الطاولة، التي يتحافّون حولها، وسلّمني أياه بيدي.
" ما تفسيركَ لهذا؟!"
فتحتُ المُغلف؛ لأنظر فيما فيه قبل أن أُفكر بإعطائه تفسير حتى، وإذ بها صورٌ لي في مرافق وأماكن مختلفة.
في المدرسة، في السيارة، مع تيمين، مع جونغهيون، وحدي في الشارع بصُحبة كوب قهوة...
كانت هي إذٍا من يتتبعني!
قَلّبتُ الصور مُثارًا غضبي، فأنني لا أرضى أن يعتدي أحد على خصوصيتي لأي سبب كان ولأي بأي طريقةٍ كانت، ألقيتُ بالصور أرضًا، ووقفت لمواجهة السيد.
" الآن أنت ماذا تقول؟! أنا الذي يحتاج تفسيرًا هنا ليس أنت، بأي حق تُراقبني؟!"
صِحتُ في سؤالي الأخير، وصاح هو في وجهي أيضًا حينما أباح.
" بأي حق تجرح قلب ابنتي؟!"
تعكرت ملامحي كذا فِهمي.
" أنا ماذا فعلت لابنتك؟!"
" جعلتها تُحبك، أليس هذا سببًا كافيًا؟!"
لوهلة تريثت في الرد لأفهم ما قال، ابنته القاصر تُحبني، والمُذنب هُنا هو أنا؛ على حسب حُكم الأب هذا.
استرسلتُ في الضحك واسترسلت، لقائي بهم فاق توقعاتي.
" انظر يا سيد، أنا مُجرّد أُستاذ لابنتك وهي مُجرّد طالبة عِندي، لم أسمح بأي تجاوز لهذا الحد مُسبقًا ولن أسمح، أما إن مالت مشاعر ابنتك لي فلُمها ولا تَلُمني، هي بالنسبة لي مجرد طفلة أُلقنها من معرفتي ما يتناسب وعُمرها."
إقتربت إحدى الإمرأتين منه، وتمسّكت بكتفيه؛ تُسهب في تهدئته، وإقناعه بأني بريء من مشاعر ابنته.
أما أنا فقررت أن آفل من هنا، وأُنهي هذه الجَلبة، لكن السيد استوقفني.
" أستاذ كيم جيمين انتظر من فضلك!"
قبضتُ يدي وإلتفتُ إليه، فوجدته مَحني الرأس وإمرأته تقف بجواره.
" أعتذر عن إنفعالي الغير مُبرر، تستطيع تأدية المُهمة التي أتت بك إلى هنا، تَجد ابنتي في غُرفتها، ستصطحبك إليها مُربيتها."
كُنت قد نسيت سبب مَجيئي إلى هنا بعد كل ما صدر عن أبيها، ولأني رجل لا يهون عليه تعبه؛ قررت أن أتجاوز عمّا حدث وأُكمل عملي.
وجّهتني المرأة إلى غرفتها بين مرافق هذا القصر الفسيح، وفي النهاية إهتديتُ إلى باب استوقفتني السيدة الكَهِلة عِنده وقالت.
" هذه غُرفتها، سأخبرها أنك هنا، ثم سأقوم بإدخالك إن سمحت"
أومأتُ لها، وأشرتُ أن تُباشر، فدخلت بعدما إنحنت لي، انتظرتُ أمام الباب بضع دقائق حتى أُذِن لي بالدخول.
أدخلتني السيدة، ووقفت قُرب الباب، وتركت صدر الغُرفة لمشارف أقدامي.
أما طالبتي العزيزة فهي تجلس خلف مكتبها الضيّق لكثرة ما يَعُج بالقرطاسيّة، تفرد كُتبها وتبتسم نحوي.
" أهلًا أُستاذ، ما توقعتُ مجيئك!"
نظرت إلى سريرها المُلحف بأغطية ورديّة، من الطريقة التي رُتِّب فيها يظهر لي أنه رُتِّب على عَجلة، وتهكّمت.
" ما من داع لتدّعي أنكِ مُهتمة بدروسك أمامي، لو أنكِ تهتمين بالفعل لحضرتِها في المدرسة، ولما تغيّبتِ لأجل أسبابٍ تافهة."
إزدرئت الفتاة رمقها، ظنّت أن ألاعيب النساء هذه تنطلي عليّ، الإناث لا يُميز مكرهنّ عُمر، خُلِقنَّ من رحم المَكر.
" أستاذ أنا لستُ..."
أتممتُ أنا كلامها.
" مُطاردة مهووسة؟!"
شهقت مِلئ جوفها ورَمقتني بحرج، ثم تناهت عني حينما أخفضت رأسها في حضرة حَرجها، أما بشأني فأنني لأُثبت إستيائي؛ جلبتُ كُرسيًا شارد وجلستُ قِبالتها، يفصلنا طاولة المَكتب.
" اسمعي يا جيمين، أنتِ مُجرّد طالبة لديّ، وأنا لن أنظر لكِ بنظرة مُغايرة لهذه، لذا توقفي عن تَتبّعي ما دمتُ لطيفًا، وعودي إلى المدرسة"
وقفتُ لأغادر، فلقد إلتزمت هي الصمت طويلًا، ربما لا تَجد كلامًا ترد فيه عليّ، أو أنها تخشى الرد، أو يُحرجها.
لكنها كانت أوقح مما توقعت، وإستنكارًا ثبّتُّ قدميّ بالأرض، أدهشتني.
" هل أصابتكَ عُقدة تجاه النساء؟! أنا لستُ بيون أوكتافيا ولا بيون إيزابيلا، أنا بارك جيمين، سأحبك بإفراط، سأعوضك!"
عُدتُ إليها، وضربتُ بكفيّ مكتبها فانتفضت، ولكنني حذّرت بنبرٍ هادئ، لا يحكي عن إشتعال صدري شيء.
" اسمعي يا صغيرة! العالم أوسع مَداره على أن يسعني ويسعكِ فقط، هناك الكثير من الشُبان في عمرك، أُراهن أنهم يرغبون في صُحبتك، بين هؤلاء امضي وقتك، ولا تضيعيه على مراقبتي والإستعلام عن حياتي!"
قبضت يديها على صدرها، ورمقتني بعينين حزينة باكية.
" أنا سأحبك كثيرًا، لا تفكر بشأن عمري، اكتفي بمشاعري!"
لِكتُ فكّاي، ثم قررت أن أبوح لها عن بضع من أسراري، لعل بوحي صرفها، وألبس نفسها اليأس اتجاهي.
" سمعتُ مِثل هذه الوعود كثيرًا من قبل، لأجل الأولى حاولت أن أَقتِل، ولأجل الثانية كِدتُ أن أُقتَل، أنا لستُ الرجل الذي تُجربيه في الحب، كما أنني لا أثق بمشاعر مُتقلّبة لمُراهقة مِثلك!"
ضربت بكفيها طاولتها، وانسكبت دموعها حتى وقفت بمواجهتي بهذه الملامح المُبتئسة، وعلى هذا القدر من التحدي.
" إذن لا تثق بمشاعري أستاذ، لكنني لن أتركك إطلاقًا!"
تريثتُ في الرد مُذُّ أنني أفكر في حلًا يقيني شر الإناث قبل أن يقع بي.
" أنا أُفضّل أن أقتل الأفعى وسُمها في رأسها، لذا سأقتل ما يصلني فيكِ من الآن، ولن أكون لكِ شيء، ولا حتى أستاذ يا آنسة!"
ثم أفِلت وتركتُها خلفي باكية، لستُ في محمل لأتحمل حِمل أحد معي، قلتُ أنني سأكتفي بنفسي، وأنا مُكتفٍ.
أجريت إتصالًا مع تيمين قبل أن أُحرّك السيارة.
" أما زال منصب المدير التنفيذي شاغر لديك؟"
ضحك أخي فرحًا وأجاب.
" نعم أيها الصبي، تعال وخذه!"
يبدو لي أنني في النهاية سأتخلى عن أحلامي، وألتزم بعمل عائلتي الخاص كما أخي تيمين، مهنة التدريس ما عادت تُلائمني، أنا لستُ أرغب في ورطة مشاعر مع طالبة قاصر.
...........................
في المساء أخيرًا، وبعد أن أنهك العمل كاهل تيمين، لكنه كان رغم الضغط سعيدًا، فأخيه الصغير سيلتحق معه في ذات المجال، وهو لن يكون فيه وحيدًا بعد الآن.
مُذُّ أن ضغط العمل يتراكم عليه وحده، ووالده يُلقي عليه الثِقل والأمانة، فرَعى تيمين أعمال الشركة بمسؤولية تامّة، لطالما كان مسؤولاً وأمينًا.
اليوم؛ منذ أن هاتفه جيمين ومزاجه قد تحسّن، وفجأة شغفه العمل حُبًا، فلقد دبّت به الحماسة ليشاركه أخيه في العمل.
وبعد إنقضاء ساعات العمل عاد إلى المنزل، وبينما هو في الطريق إستوقفته إطلالة إحدى محلّات الزهور.
تَرجّل من سيارته، ودلف مَعرض، الورود لينتقي باقة ورد لزهرته التي في المنزل.
" أتريد نوعًا مُعيّنًا من الزهور؟!"
نفى برأسه بينما يتنقل بين الورود، ينظر في شكلها الجميل ويصله عَبقها الزَهيّ.
" ضعي لي في باقة تشكيلة من الورود الرقيقة من فضلك، فأنّي سآخذها إلى أكثر النساء رِقّة!"
تبسّمت السيدة وقالت.
" أنت واقع في الحُب"
أومئ.
" وأدركتُ ذلك متأخرًا"
قدّمت له السيدة الباقة، وربّتت على ذراعه تقول.
" بُني، لا نكون متأخرين عن الحُب ما دُمنا شباب، الذين في سنّي تأخروا، أما أنت، فما زِلت في مُقتبل العُمر، والحياة أمامك طويلة!"
وضع ثمن الباقة على طاولة المُحاسبة، وشكرها لِلُطف كلماتها، ثم غادر.
كَلفه الوصول إلى المنزل بضع دقائق أُخر، حتى صار على أعتابه، لكنه كان مُتفاجئً وشيئًا ما قَلِق جرّاء العتمة التي تسود المنزل والهدوء المُريب الذي يحفّه.
فتح الباب بمُفتاحه الخاص، ثم دلف وما زالت العتمة تُسيطر.
" نايون، أين أنتِ؟! جونغهيون؟"
لا تخرج نايون في مثل هذا الوقت المُتأخر عادة دون علمه، وهذا ما أثار قلقه.
تحرك ناحية المِقبس حتى أناره، وما إن أنار الأضواء حتى إندفعت بالونات حمراء ناحيته، ضحك سعيدًا ثم مسح على قلبه يتنهد براحة.
تقدم إلى داخل المنزل ينتظر المزيد من المُفاجاءات، كأن يرى نايون مثلًا.
لكنه تفاجئ بصندوق متوسط الحجم، موضوع على الأرض، تقدم ليفتحه فخرجت منه بالونات ورديّة وزرقاء، واستقرّت في قاعه بطاقة ورقيّة.
إلتقطها في أطراف أصابعه وقرأ ما عليها بملامح معقودة، فهو لا يفهم ما يدور هنا.
" أتريده صبيًّا أم فتاة؟!"
" ماذا؟!"
فكّر لوهلة، شعر بأن عقله أصابه عطب ما فجأة.
" نايون؟!"
صاح باسمها مُبتهجًا، تَلى ذلك أن سمع ضحكة خجول أتته من مكانٍ ما، تلفّت يقول فرِحًا بينما يبحث عنها بعينيه.
" أريد فتاة تشبهك، تأخذ كل شيء منكِ، أريد نايون صغيرة، تُضفي على حياتي نكهة مُركزة من الحنان والأُلفة، أُريدها مثلك يا أثمن ما أملك"
سمع وقع كعبها على الأرض يقترب شيئًا فشيء حتى إرتطم بصدره جسدًا يميزه من عِطره، من ملمسه، ومن الشعور الذي يدفعه له.
إحتضنها إلى صدره، وضمّها بين ذراعيه بحُب شديد ورِفق، خبّأ وجهه في شعرها وقال.
" هذا طِفلنا عن حُب، طفل حُبنا الأول، شكرًا لأنكِ تمنحيني هذه السعادة بالمجان، شكرًا لأنكِ معي نايون!"
ضحكت بخفة ومسّدت كتفيه قائلة.
" نحن نتوائم، أنا لستُ كثيرة عليك، أنا وأنت خُلقنا لبعضنا، لا أستحق أحد سواك، أنت كل شيء بالنسبة لي!"
فصلها عنه ليتسنى له النظر في وجهها، تمسّك بوجنتيها وطبع على جبهتها قُبلة.
شاكرٌ لكل شيء أبقى رأسيهما على وسادة واحدة، شاكرٌ لها أنها صَبرت عليه كثيرًا ونالته ونالها، ومعًا نالا السعادة التي يستحقانها.
..................
" كيم لارا!"
وقفت أوكتافيا تحمل لارا الصغيرة على يديها، كانت تلتحف الصغيرة بغطاء لطيف يُدفئها من نسيم الخريف، و يَلُف رأسها شاش خفيف.
دخلت أوكتافيا إلى غُرفة الطبيب زانغ بعدما حان دور إبنتها للفحص، دخلت وإذ بالطبيب يُجهز سرير الإستطباب لأجل الطفلة.
تقدمت أوكتافيا، ووضعت لارا على السرير حيث أشار لها الطبيب زانغ، ثم أوكتافيا كانت مُسهبة الإنتباه نحو طفلتها بينما الطبيب يفك عنها الشاش.
وقفت اوكتافيا تضم قبضتيها أسفل ذقنها بينما ترمق صغيرتها بقلق، فالصغيرة أخذت تبكي بينما يُركب لها الطبيب السمّاعة الخارجية.
لقد مرّ على إجراء العملية ما يزيد عن أسبوعين الآن، وحالة لارا الصحيّة تسمح لها بوضع السمّاعة الخارجية، تكون الخطوة المُتممة للعملية والتي تُبين نجاحها من فشلها.
أشار الطبيب لأوكتافيا بالإقتراب ثم قال.
" احمليها بين يديكِ واحتضنيها كي تشعر بالآمان، فلو نجحت العملية وأستعادت سمعها الآن؛ ستخاف قليلًا لأنها ما سمعت أصواتًا مُذُّ زمن طويل"
أومأت أوكتافيا، وحملت لارا على يديها، ثم أشار لها الطبيب أن تجلس فجلست، وهو انحنى بقامته حتى جلس القرفصاء أمامها، ثم أشار لها أن تتكلم بعدما ضبط السمّاعة في أُذن لارا.
تمسّكت أوكتافيا بيدها الصغيرة وهمست لها.
" صغيرتي"
جَزَعت الصغيرة وسارت بها رعشة خفيفة، تمسّكت أوكتافيا بيدها أكثر واحتضنتها إلى صدرها، لم تستطع مقاومة رغبتها في البكاء آنذاك.
" لا تخافي، أنا هُنا!"
رفعتها إلى صدرها، واحتضنتها بقوة، ما كانت قادرة عن إيقاف تجمهر الدموع في جفونها، وكأنما مشاعرها في هذه اللحظة ينبوع وتفجّر، لقد شعرت بأنها تنتصر، وتتجاوز أول عقبة وأكبر عقبة.
الآن إستعادت لارا، ستستعيد نفسها...
نظرت ناحية الطبيب زانغ الذي يجلس أمامها وابتسمت.
" شكرًا لك"
أومئ يبتسم حتى بانت غمّازته العميقة، رفعت لارا عنها ونظرت في وجهها.
" من اليوم، أنتِ ستكوني طائر حُر أرعاه بكل الحُب والإهتمام، ستكوني كل حياتي، ستملئي حياتي!"
لارا الصغيرة كانت تزمّ شفتيها في وضع تأهب للبكاء، لربما هي فهمت أنها استعادت شيء ينقصها، ربما فهمت أن هناك من يُحبها.
...........................
بعد مرور خمس سنوات...
الحياة تغيّرت كثيرًا بمرور السنين، فما عاد شيء كما كان، الكلُّ تبدّل والظروف تغيّرت، اليوم؛ الحياة صارت أكثر هدوءًا وكل شيء عاد إلى نِصابه السابق.
بدايةً من بيكهيون؛ فلقد تزوّج من إيزابيلا وحقق طموحه ناحيتها مُذُّ خمس سنين مَضت، لكن ليس كل ما يطمح له المرء يدركه، أحيانًا لا تتصلح العلاقات بيد الزمن، بل تحتاج مُحرّك أقوى، قد لا يُكلف الكثير من الوقت ولكنه يُكلّف الكثير من الجُرءة.
في مِثل هذا الصباح الربيعيّ المُشرِق؛ الحياة تُمارس الروتين والعادة على الناس، كأن يعيشوا كل يوم كالذي سبقه والذي سيلحقه.
بعد الزواج؛ رفضت إيزابيلا أن تُقيم في بيت عمّها، وأصرّت أن تحصل على بيتها الخاص، ورغبتها هذه تحققت، فاليوم بيكهيون وإيزابيلا يملكان منزلًا عصريًّا وواسعًا جدًا في حيّ شهير يعيش به الأغنياء فحسب.
ومُنذُ أن جيمين بَلغ الخامسة بالفعل فهو الآن يرتاد رياض الأطفال وبدأ تعليمه، هو صبيّ لطيف، ملامحه طِبق الأصل عن والده، أما شخصيته فهي تميل لتكون كشخصية الرجل الذي أُسميَّ باسمه.
وإيزابيلا لا تملك غيره -ابنها- في كل حياتها ولأجله تعيش وتصبر على كل شيء، كعلاقتها الفاشلة بزوجها.
كانت إيزابيلا في المطبخ تعد الإفطار بينما زوجها وابنها ما زالا نائمين، نظرت في ساعة الحائط وإذ بها السابعة، صعدت السُلم إلى غُرفة جيمين.
كان ينام الصغير في سريره بهدوء وسكينة، لولا أنه شعر بلمسات ناعمة تَطئ رأسه فابتسم الصغير وقال يغمض عينيه.
" هل إن فتحتُ عيناي سأرى أجمل إمرأة في العالم؟!"
ضحكت إيزابيلا بخفّة وقالت.
" يا لك من لعوب! أولا تريد معانقة ماما؟"
نهض الصغير بجسده الصغير، ووقف على عقبيه، ليطوّق رقبة أمه بينما هي تذهب به إلى دورة المياه، وهو أكمل غفوته على كتفها.
تركت جيمين في غُرفته ليرتب سريره ويُحضّر حقيبته المدرسيّة، وخرجت إلى غرفتها المُشتركة مع زوجها.
كان ينام على بطنه، يحتضن الوسادة بين ذراعيه إلى أسفل جسده، عاري الصدر كما العادة.
رغم أنه مرّ على زواجهما خمسة أعوام إلا أنها لم تكُ قريبة منه على الإطلاق لدرجة أن تلمسه، هي وقفت لَدُن الباب وطرقت عليه عِدة مرات تقول.
" الإفطار جاهز، ننتظرك"
لاحظته يتحرك في فراشه فخرجت، وضعت الأطباق على الطاولة وجلست قبالة طفلها، ثم قالت بينما تضع له مُربى الفراولة الذي يحب على قطع الخبز.
" وضعتُ لك مصروفك في حقيبتك، أياك أن تُضيّعه"
أومئ الصغير بينما يقضم القطعة التي ناولته أياها أمه.
" لا يجرؤ أحد أن يسرقني، وأنا أحافظ على أشيائي الخاصة لذا لا داعي للخوف"
شعر الصغير بطبطبة على كتفه، ثم أتاه صوت والده الذي جلس على مقعده بينهما.
" تتكلم مثل رجل بالغ!"
ضحك الطفل يرد على أبيه.
" أنا رجل بالغ أصلًا أبي!"
ضحك بيكهيون بخفّة قبل أن يومئ لصغيره، ثم الطفل ناور نظره بين أمه وأبيه، هو طفل بالفعل، لكن له عينان يرى بهما، ويستطيع أن يفهم أن أمه وأبيه ليسا على وِفاق، وخصوصًا مؤخرًا.
بيكهيون وإيزابيلا يعملان في شركة أسلافهما معًا، وبالطريق إلى هناك يقومان بإيصال جيمين إلى مدرسته.
فقد إلتحقت إيزابيلا بالوظيفة بعدما نضج جيمين وأصبح يذهب إلى المدرسة، وهي تقضي طيلة اليوم وحدها، ثم أنها تريد لدراستها في مجال الأعمال أن تُثمر بفائدة عليها وعلى عملها.
بيكهيون لم يُعارض حينما طلبت منه أن تعمل، بل على العكس؛ كان سعيدًا جدًا بيد أنها ستصبح منه أقرب وصَوب عينيه طيلة اليوم، يراها كلما إشتاق لها.
ولأنها لا تملك الخِبرة الكافية لتستلم منصب مدير أو ما شابه، فلقد وضِعت تحت التدريب في مكتب بيكهيون، فأصبح هو مُديرها وهي نائبته.
ما إن وصلا الشركة حتى تفرّقا في مكاتبهما، فمكتبه يقابل مكتبها، يشغل بينهما حيز مكتب مساعدة المدير.
بيكهيون ما كان مشغولًا بالعمل، بل مشغول تفكيره بها، فالأمس تطاول على رغبتها، و تجاوز الحدود التي سبق ووضعتها بينهما، كأن لا يلمسها مثلًا.
بعث عبر سكرتيرته يطلبها إلى مكتبه، ولم تحضر في الحال، بل كلّفته وقتًا طويلًا في الإنتظار حتى أتت.
" بماذا طلبتني؟!"
نهض عن مكتبه وأشار لها أن تجلس على الكنبة الجلديّة ففعلت، ثم أتى ليجلس قبالتها، شابك أصابعه أمامه ثم قال.
" الأمر لا يخص العمل، أردتكِ لنتكلم عمّا حدث بالأمس"
نهضت إيزابيلا على ساقيها وقالت.
" لم آتِ لنتحدث بأمورنا الخاصّة"
ضرب الطاولة التي تحيز بينهما بعصبية ووقف.
" متى نتحدث إذن؟! في المنزل؟! إنني لا أراكِ سوى على طاولة الطعام، دومًا ما تهربين مني وتظهري فقط مع جيمين كي لا أقول شيء"
تنهدت إيزابيلا وجلست قِبالته مجددًا ثم قالت.
" قُل ما تريد"
نظر إليها بيكهيون وأمال رأسه ناحيتها.
" إلى متى سنبقى هكذا؟!"
نظرت في عينيه لأول مرة منذ زمن طويل، حينها قضم شفتيه في حنين، وقال رغم أن الغصّات تتجمع في حلقه.
" كم عليّ أن أفني من عمري لإنتظارك؟ متى ستفتحي قلبكِ لي؟"
أشاحت إيزابيلا عنه، وهي ترمش كثيراً كي تحبس دموعها عن الإنسياب.
" أخبرتك منذ أن تزوجنا أنني لن أعود تلك الفتاة المُغرمة بك إطلاقًا، لقد رأيتُ منك ما يجعل قلبي ناحيتك فارغ"
أومئ بشيء من الضياع والتشتت ثم قال.
" فارغ، أي أنني يمكنني مِلئه مع الوقت"
نظرت له تستنكر تحليله الذي لم تقصده، حينها قال.
" لن أترككِ إيزابيلا حتى أُسبّلكِ بين ذراعاي"
وقفت إيزابيلا وقالت رافضة.
" تلك أحلامك فقط التي لن تتحقق، أنا فارغة منك ولن أمتلئ إطلاقًا!"
ثم حملت نفسها وغادرته بهذا البرود، تنهد بيكهيون يضع صدغيه في كفيه وأسهب يفكر، كيف يكسبها؟! بأي طريقة يستعيدها؟
أنها لا تهتم به، لا تحبه، ولا تغار عليه... فكيف يفعل؟!
............................
" إنتهى الإجتماع"
فضّ تيمين الإجتماع حالما إنتهت المُناقشة الدائرة بشأن إحدى المشاريع التي تقوم عليها الشركة هذه الأيام، فأخذوا جيمع المُدراء يوظبون أوراقهم ثم خروجوا.
خرج تيمين يرافقه جيمين من قاعة الإجتماعات، خلفهما مساعدتين صبيّتين يمشينّ بسرعة لمواكبة خطوات الرجلين الواسعة.
" بعثت لنا جامعة سيؤل الوطنيّة دُفعة الأوائل من الخريجين في قسم الأعمال، ستكون المسؤول عن تدريبهم، أعطِ إهتمامًا خاصًا لثلاثة الأوائل، على الأرجح أنني لن أفرط بهم لشركة أخرى بعد تدريبهم"
أومئ جيمين لِقاء أوامر أخيه.
الدورة التدريبية للخريجيّن الجُدد يكون جيمين المسؤول عنها كل سنة، فعادة ما يقع تحت وطأته ما يزيد عن عشرين طالبًا من كلية الأعمال لجامعة سيؤل الوطنية.
فقد وضع تيمين منذ خمس سنين هذه المهمة على أخيه، لأن جيمين سبق وإن كان مُعلمًا ويُجيد تدريب وتعليم طُلّابه جيدًا.
" سأقوم بلِقائهم فور وصولهم"
أما جيمين، فكيف عاش الخمس سنين الوالية من حياته؟!
بلا شيء مهم، في العمل، لأنه ليس مُتخصصًا في الأعمال بشكل خاص؛ تقدم لدرجة البكالوريوس لإحدى الجامعات التي تُدرِّس عن بُعد، تخرّج منذ عام وترفّع منصبه الإداري ليصبح نائب الرئيس.
لم يفكر بأحد إطلاقًا طيلة هذه السنين، حينما بلغه موعد زفاف إيزابيلا من بيكهيون لم يُحرك ساكنًا، ولم يرى طالبته بارك جيمين منذ أن إعتزل مهنة التدريس.
قليلًا ما يتكلم مع أوكتافيا ليطمأن على لارا الصغيرة فحسب، فعلاقاته بالناس أصبحت مقطوعة، ما عاد يملك سوى أخيه تيمين وعائلته الصغيرة.
وذلك لم يكن سِرًا عن الناس، فجيمع العُمال في الشركة يعلمون هذا، واذاعوا سيطًا عن المدير كيم جيمين، بأنه كئيب ووحيد.
حينما يحدث ويسيران تيمين وجيمين معاً في قعر الشركة تلاحقهما الأنظار لفرض مُقارنة، تيمين المدير المحبوب، لطيف مع جميع الموظفين، يبتسم دومًا، ويتفهّم حاجاتهم.
على عكسه جيمين، قليل الكلام، كثير الإنفعال، ملامحه متيسبة لقلة التعابير التي تحذوه، بارد مع موظفيه، يرفض العلاقات، لديه كآبة مُعدية.
مثل هذه الأخبار التي تختلط فيها الحقيقة بالشائعة تصل المُتدربين الجُدد كل سنة، فيصلون متخوفين من المدير جيمين.
كما السنة هذه تمامًا؛ وصل فوج المتخرجين معًا إلى الشركة يكونون عُصبة من الشباب المُثقفين ببدلات أنيقة.
ما إن دخلوا بوابة الشركة حتى تم إستدعائهم إلى القاعة الخاصة بتدريب المُستجدّين أمثالهم.
جلسوا جميعًا أمام المنصّة بإنتظار أن يأتي المدير المسؤول.
" سمعتُ أن المدير كيم جيمين هو من يتولّى التدريب كل عام، يُقال أنه صارم ومُخيف، إنني أخشاه من الآن"
الكثير من هذه الأحاديث تنشأ بين المتدربين، لتصبير أنفسهم حتى مُلاقاة المدير.
فُتِح الباب، ثم دخل شاب وسيم، شعره بُندقي اللون، مرفوع عن جبهته قليلاً، ومُسرّح بفاصلة جانبية.
يرتدي قميصًا أسود اللون، تتفتح أزراره الأوليّة حتى بانت ترقوته وأسفلها، يرفع كُميه عن ساعديه فتبان ساعته الذهبية وساعديه المفتولان.
يرتدي بنطال قماشي أسود، كذا حذاء كلاسيكي أسود، ليس طويل القامة، إنما قصير، لكنه يتفجّر وسامة وجاذبية.
صعد المنصّة أمام المتدربين، وبينما يضع كفيه في جيوب بنطاله قال.
" المدير كيم جيمين، سأكون مسؤول عن تدريبكم وإيداعكم بالوظائف التي تتناسب مع مهاراتكم، سُمعتي تُعرّفني جيدًا، لا هون ولا تهاون معي، من يريد أن ينال الوظيفة الأفضل فليقدم الأداء الأفضل"
" سيتم تقسيمكم إلى مجموعات تتكون من ثلاثة أعضاء، سأفرقكم على الأقسام، أما الثلاثة الأوائل فسيعملون في مكتبي وتحت إشرافي المباشر"
نزل عن المنصّة وغادر تتبعه مساعدته دون أن يضيف حرفًا آخر، يعلمون أنه ليس ودود وأنه صارم للغاية، لكن مظهره كان مفاجئًا، عادة يكونوا المدراء أكثر رسمية وإحتشامًا في ثيابهم.
لكن المدير كيم جيمين لهو إستثناء عن كل قاعدة...
" الثلاثة الأوائل تفضلوا معي"
كانوا شابين وفتاة، توجه ثلاثتهم إلى مكتب المدير حيث وجهتهم الموظفة.
تناظر الثلاثة قبل الدخول حتى تشجّع إحدى الشابين وطرق الباب، فسمع المدير يأذن له بالدخول.
لكن الفتاة كانت مُرتبكة زيادة، خائفة جدًا من أن يقع نظره في عينيها، أمر مُحتَم حدوثه، ولكن ترجو ألا تُصيب توقعاتها.
إنحنى الثلاثة أمام المدير الذي لم يرفع رأسه من بين الأوراق، ومساعدته تجاوره لتستلم بعض الملفات التي تحتاج توقيعه.
ما أن إنتهى حتى وقف وأشار لمساعدته أن تُغادر، ثم تقدم حتى إتكئ على طاولة مكتبه وعقد ساعديه إلى صدره.
كانوا المتدربين الثلاثة يخفضوا أبصارهم عنه، وجيمين لم يُدقق النظر في وجوههم، فقط تحدث.
" منذ أنكم الأوائل فتوقعاتنا ناحيتكم عالية، لو أثبتم قدراتكم ستتولوا مناصب عالية الشأن في الشركة، ابذلوا قُصارى جهدكم، وأنا سأقوم بواجبي اتجاهكم"
أومئ ثلاثتهم، حينها قال جيمين.
" تستطيعوا أن تغادوا الآن، خذوا بطاقات العمل من عند مساعدتي واستلموا مهماتكم منها"
إنحنى الثلاثة له ثم أدبروا آفلين، لولا أن جيمين للحظة تبادرت إلى ذهنه صورة يعرفها، فقال.
" فلتبقى الفتاة، والشابين اذهبوا لتباشروا عملكم!"
غادر الشابين والفتاة بقيت واقفة في مكانها، تضم يديها بقوة وتشد على جفونها، وكأن مُفترسًا يكاد ينقض عليها.
" ما اسمك؟!"
إلتفتت ناحيته الفتاة، لكنها لم ترفع رأسها ولم تجبه، حينها تنهد وتقدم منها يضع كفيه في جيوبه.
" ما بالكِ ترتجفين هكذا؟! ألهذه الدرجة أنا مُخيف؟! ارفعي رأسك!"
قضمت الفتاة شفاهها ورفعت رأسها ناحيته رويدًا رويدًا، حينها ضاقت عينا جيمين وتسآل بنبر خفيض يعزز الشك في نفسه.
" اخبريني ما اسمك"
نفثت أنفاسها ثم بأعين مُغمضة، رأس مُنكس، ونبرة ترتجف أجابته.
" أنا بارك جيمين"
قهقه جيمين يبتعد عنها مُستنكرًا، إلتفتت ناحيته وإلتزمت الصمت، أما هو فوقف مُتخصرًا يبعد عنها بمسافة جيدة وقال.
" لستِ بالحماقة التي أتصورها، لستِ هنا بسببي!"
جيمين تنهدت، ثم استجمعت نُتف شجاعتها، لقد كان من المُهين أن يضع حُبها له في دائرة الحُمق، ونعم؛ هي بهذه الحماقة، أتت هنا لأجله، لأنها ما زالت على حبه.
لكنها لن تسمح أن تكون في عينيه محط سُخرية، لن تركض إليه، ولن تتأمل عينيه، لن تطلب ذراعيه، ولن تظهر وِدها له، لن تفضح نفسها أمامه.
" لا سيدي، أنا الأولى على دُفعة الخريجين هذا العام، والجامعة إختارت الشركة التي أتدرب بها، لم يكن خياري"
تريث قبل أن يومئ ويشير لها بالإنصراف.
" أرجو أن السنين عقّلتكِ وأن تكوني كففتِ عن الأفعال الطفولية، خذي بطاقة عملك وباشري تدريبك فورًا، لن أكون معكم لطيفًا!"
إنحنت له للمرة الأخيرة ثم غادرت.
أخذت بطاقة المزاولة، ثم إختبأت في مكتبها الضيّق، استندت على الباب وأسرفت في البكاء، لقد كان أكثر لُطفًا فيما سبق.
اليوم تكتشف أن إعترافها ذاك غيّر مشاعره ناحيتها، من فتاة عادية تشغل حيّز طالبة في صفه إلى فتاة ماكرة تريد أن تخلق مكان إمرأة في حياته وتستحوذ عليه.
لم تبكي لأنه قاسٍ بقدر ما بكت لأن الحنين يضج في خاطرها له، وهو ما إزداد إلا برودًا.
لكنها جيمين؛ فتاة عنيدة، مُثابرة، وصبورة، تحصل على أي شيء تريده مهما تكبدها من عناء، ولو حصلت على جيمين؛ فهي لا تريد شيئًا من بعده، ستكتفي به للأبد.
..................................
" رفض أن يأتي؟!"
أومئ تيمين لزوجته قبل أن يَلج قصر العائلة.
اليوم مثل الكثير من غيره؛ إتصلت السيدة كيم بتيمين، وطلبت منه أن يحضر على طعام العشاء لديها، وأن عائلته ستسبقه إلى القصر، راغبة في رؤية حفيديها.
أنجبت نايون فتاة، وكما أرادها تيمين؛ فهي نُسخة عن والدتها؛ في المظهر وفي الرِقّة، أسماها تايون؛ لتجمع بين اسمي والديها، وليكون في اسمها قصة الحب التي أنجبتها.
جونغهيون قد تجاوز العاشرة، فما عاد يثير شغبًا حينما يلعب، ولكن تايون فتاة مُشاغبة، تستمتع بإثارة غضب جدتها.
السيدة كيم بالفعل منزعجة، فلقد رفض جيمين القدوم، لم يدخل المنزل منذ أن فارق خطيبته الأولى وتوفّت زوجة أخيه، منذ ذاك الحين وهو يعيش بعُزلة عنهم، ولا يرضى بالإختلاط فيهم مهما تعددت الأسباب، يقول أنه مُكتفيًا بنفسه.
تجمّعوا على طاولة العشاء، السيد كيم يرأس الطاولة، على يمينه زوجته يحدّاها حفيداها المُشاغبان، وعلى يساره ابنه الذي تبقى له وزوجته.
تبسّم الكَهِل في ألم ثم تحدث.
" أشتاق للأيام التي كان فيها القصر يضجُّ بالحياة، يضجُّ بأولادي"
تحفظ الجميع على صمته، حينها تحدث السيد كيم لابنه.
" كيف يُبلي جيمين؟ أهو بخير؟"
أومئ تيمين لوالده وقال.
" نعم يا أبي، هو بخير ويُبلي جيدًا"
تمسّك الأب بساعد ابنه وبنبرة ليّنة قال.
" حدّثني عنه، كيف يعيش؟!"
تبسّم تيمين وتمسّك بكف أبيه بين راحتيه وقال.
" يعيش جيدًا، لقد إشترى شِقة باهظة على مشارف نهر الهان، وهو يعيش بها الآن، يأتي إلى العمل كل يوم، يؤديه على كامل وجه ثم يغادر إلى شِقته، وفي العُطل آخاذه، ونقضي الوقت معًا، لا تقلق بشأنه"
أومئ السيد وقد إرتاحت نفسه قليلًا على ابنه ثم قال.
" وماذا عن جونغ إن؟ أما زلت تزوره؟!"
أومئ تيمين وقال.
" نعم، غدًا ستنقضي عقوبته، سأذهب لأحضره"
" وأين سيبقى؟ هل سيعود إلى هنا أم يذهب لمنزله؟"
نفى تيمين وقال.
" لا يا أبي، له مخططاته الأخرى"
شدد تيمين تمسكه بيد والده حينما أصابه الجزع وقال.
" لا تقلق أبي، إنه تحت رقابتي، لن يستطيع فعل شيء يؤدي به إلى السوء مجددًا، لذا إطمئن!"
إطمأن السيد قليلًا على أولاده، لكنه لن يرتاح أبدًا إذا ما رآهم مصفوفين على هذه الطاولة، ويتناغمون بوِد، وينسجمون بحق، لا يريد لهذه العائلة التشتت للأبد.
.....................................
في يوم جديد؛ كانت أوكتافيا تَسير في أروقة المدرسة بإستعجال بينما تحمل ملفات مُتخمة بالأوراق على ذراعها، ويُخلفها شاب طويل القامة.
" كم مُعلِّم تقدّم على الوظيفة؟!"
أجابها الشاب من خلفها.
" الكثير سيدتي، أحدهم سيرته الذاتيّة مُلفِتة للنظر!"
إلتفتت أوكتافيا إلى لوكاس - مُساعدها الشخصيّ- تقبض حاجبيها وقالت.
" وما المُلفت بسيرته الذاتيّة؟!"
" أنه من حَملة الدكتوراة وأستاذ جامعيّ سابق"
سارت أوكتافيا مجددًا بعدما أطلقت تنهيدة، لن تأخذ الأمر بجديّة، يستحيل أن تتحقق مخاوفها هذه المرة، ثم أن حَملة الشهادات العُليا العاطلين كُثر، لا يُعقل أن يكون هو.
دخلت إلى قاعة الإجتماعات، حيث اجتمعوا المُتقدمين إلى الوظيفة.
بعد أن إستعادت لارا سمعها وأصبحت بصحّة وعافية، كان على أوكتافيا أن تتخذ خطوة ثانية نحو مُستقبل أفضل ويخصّها، ولطالما كان حُلمها أن تُنشئ مركز لُغات خاص بها، فيكون عملها الخاص ورِزقها الخالص.
نجح المركز منذ أول سنة بإنشائه، وخلال بضع سنين إستطاعت أن تفتح مدرسة خاصة من المراحل الإبتدائية وحتى الثانوية.
كان إنشاءً ضخمًا تكفّلت أوكتافيا ببعض تكاليفه، وسخّر بيكهيون لأجلها من مال عائلته ما يؤهلها أن تفتح هذه المدرسة.
اليوم -ضمن أيام عديدة- تقوم بعقد مُقابلات لتوظيف الكادر التدريسي، ومساعدها لوكاس يتولّى تعيين بقية العُمّال، وذلك تحضيرًا لفتح المدرسة قبل بِدء العام الدراسي الجديد.
وَلجت أوكتافيا إلى القاعة يلحقها الشاب الصينيّ الوسيم.
" مرحبًا بِكم!"
وقف الأساتذة من رجال ونساء لتحيتها، وبينما تجول ببصرها بينهم شهقت، إنه بينهم.
إبتلعت رمقها وأشاحت عنه، تشعر وكأن نار تغلي في جوفها لِقاء رؤيته، تشعر بأطرافها باردة إلا أنها من الداخل تحترق.
" أنتِ بخير سيدتي؟!"
قبضت يدها تحاول ضبط إنفعالها، ثم أخذت نفسًا عميقًا وحررته قبل أن تُقيم عودها وتقف لمواجهتهم ثانية.
إستجمعت شجاعتها وقُدراتها ثم قالت بصوت جهور، ولمعت على مَبسمها إبتسامة قويّة.
" كما تَرون أن المدرسة جديدة الإنشاء، أنا المالكة والمديرة، وأبحث عن كادر تدريسي أستطيع أن أضع ثقتي بهم على طُلابنا الذين يضعون ثقتهم بي، لذا من فضلكم اعرضوا أفضل ما لديكم"
جميعهم أومئوا لها، حينها أشارت للوكاس من خلفها أن يباشر عمله.
سقط نظرها عليه فوجدته ينظر لها، لا تدري ما الذي جلبه إلى هنا، ألم يُغيره الزمن؟! أم ما زال الرجل الذي تعرفه؟!
فتحت ملف السيّر الذاتيّة الذي على ذراعها ثم إستدعت أول مُتقدم على الوظيفة.
" السيد كيم جونغ إن تفضّل معي"
نهض جونغ إن وسار خلفها حتى وصلت به إلى مكتبها، وقبل أن تَلِج طلبت من لوكاس أن يدخل معها ففعل، وذاك كان إنعدام ثِقة وتأدية عمل فحسب بالنسبة لها.
جلست خلف طاولتها يتبعها لوكاس الذي وقف بمحاذاتها، أشارت لجونغ إن بالجلوس أمام المكتب وقالت.
" سيد كيم، لِمَ تتقدم إلى الوظيفة هذه رغم أن شهاداتك العلميّة تضمن لك مكانًا أفضل؟!"
قبضت حاجبيها ومالت بجذعها على طاولتها ترمقه بشك.
" أليس هذا مُريبًا؟!"
أومئ جونغ إن، مما تراه أوكتافيا فهو الأستاذ كيم الذي عَرفته أولاً، يرتدي بدلة رسمية بُنية اللون يسفلها قميص مُخالف لونه.
يرفع شعره الكراميلي عن ناصيته وقد صففه بعناية، ساعة رسمية في يده، حذاء كلاسيكي في قدميه، تفوح منه رائحة عِطر حلوة، ويحمل حقيبة وثائق بيده، وأخيرًا يضع معالم رسميّة على وجهه، فلا يبدو كالرجل الذي تعرفه حق المعرفة، جونغ إن الذي تزوجها.
تنهد قبل أن يجيب سؤالها الفارط وقال.
" الأمر يدعو للريبة بالفعل، وأنا لن أبخل عليكِ بالتفسير، لدي شهادات من جامعات عالمية ولكن لديّ سِجل قضائي يُلاحقني أينما تقدمت لوظيفة في بلادي، لذا أتيتُ إلى هنا الصين، بحثتُ عن عمل لفترة طويلة حتى وقع إعلانكم في نظري وقررتُ التقدم له"
لوكاس عقد ساعديه إلى صدره وقال.
" وما مدى سوء سِجلك القضائي لدرجة أن تهرب من بلدك بسببه؟!"
أشهرت أوكتافيا بيدها للوكاس كي يصمت ثم قالت.
" وكيف لي أن أضمن شخص بسجل قضائي ليكون مُعلم يؤثّر بالأطفال والمراهقين من الطلبة بسلوكه وأفكاره؟!"
تنهد جونغ إن ثم قال.
" ليس هناك ضمانة ماديّة بالفعل، تستطيعي أن ترفضيني ولكنني أبحث عن فُرصة أُثبت بها نفسي من جديد"
نظرت أوكتافيا إلى لوكاس ثم أشارت له بالمغادرة، طالعها الشاب بقلق ولكنها بإصرار صرفته وبقيا وحدهما في هذا المكان.
" لنتحدث بصراحة، ما الذي أتى بك إلى هنا؟!"
أمام لهجة أوكتافيا التي تكنّ العدائية، جونغ إن تنهد يضع وجهه بين كفيه ثم نظر لها قائلًا.
" أدري كيف تفكرين بي الآن، الإنسان قابل للتغيير، وصدّقيني تغيرت كثيرًا، لستُ أحاول إستعادتكِ كما السابق، أنا أريد أن أكون رجُلًا أفضل وأب تفتخر به ابنته"
أشاحت أوكتافيا بوجهها عنه وضحكت مُتهكّمة.
" تريدني أن أصدق هذا الكلام مجددًا؟! لأي مدى تظنني غبيّة كي تخدعني في كل مرة؟!"
أنكس جونغ إن برأسه وأوكتافيا وقفت تسير في مكتبها، تبدو خطواتها هادئة لكنها من داخلها تغلي غضبًا، وغضبها كان جَليًا في صوتها.
" ابنتك؟ ألا ترى أنك تأخرت أخيرًا جدًا بشأنها؟! أتعرف ما عِشناه معًا وأنت خارج المشهد؟! هي ليست بحاجتك الآن، انصرف!"
وقف عن مقعده، وتقدم منها إلا أنها تراجعت، ولمع الذُعر في مرافقها، حينها رفع يديه يشير لها بالسلامة ثم قال.
" لا تخافي، لستُ أنوي أذيتكِ، أنا فقط أحاول أثبات نفسي مجددًا، صدقيني أن كل ما أحتاجه هو فرصة واحدة فقط، إن أخطأت بشيء افعلي ما تشائين، أدري أنكِ وابنتي لستُنّ بحاجتي، لكنني أنا من بحاجة لكنّ، أرجوكِ فرصة واحدة ولن أخذلك"
تنهدت وابتعدت عنه ثم سارت قليلًا تُفكر، لا يُمكن أن تسمح له بأن يخدعها مُجددًا، واضح أن السنين لم تغيّره، فأمثاله لا يتغيرون.
لكنها ستسغل الفرصة، ستعلّمه الصبر والجَلد الذي تَمهر فيه بسببه، ستضعه في قالب المظلوم، لا الظالم كما إعتاد.
إلتفتت إليه وقالت.
" ستتحمل شروط العمل وظروفه مهما كانت صعبة؟!"
سُرعان ما أومئ وبانت على شفتيه إبتسامة فَرحة، أومأت هي بدورها ونادت تطلب لوكاس الحضور.
" احضر لي عقد العمل!"
اطلع لوكاس على مديرته ثم الرجل الذي بضيافتها، شيءٌ ما غريب مُريب، لكنه لن يقول شيء الآن على الأقل.
أتى لوكاس بالعقد وأوكتافيا وضعته على الطاولة القصيرة أمام جونغ إن وقالت.
" اطّلع عليه ووقع إن أردت!"
افتتح العقد، اطلع على شروطه، كانت قاسية جدًا ومُختلِفة.
ساعات العمل تبدأ من السابعة صباحًا حتى الرابعة مساءً، سيكون المُعلم المسؤول عن شعبتين من الإعدادية، وهم يكونوا مراهقين في أول طَلعتهم يستعرض الذكور فيها رجولتهم بشكلٍ عدائي.
سيكون المُنظم الوحيد للفقرات المدرسيّة، سيكون مدّرب رياضة مُساعد بما أنه ذكر في سيرته اللياقة البدنية، وأخيرًا سيكون ضمن اللجنة التي تُنظم الأنشطة، عدا عن الصفوف التي سيدرسها، والتي تكون شُعب الثانوية الفروع الإنسانيّة بالإضافة إلى الصفوف العُليا للشعب الإعدادية.
كل هذا مُقابل خمس مائة دولار فقط، هذا الهلاك بعينه...!
يدري أنها تنتقم منه بهذه الطريقة، وهو في هذه المرحلة لا يُبالي، فهدفه صعب ولن يأتي بسهولة إطلاقًا.
وضع توقيعه على الأوراق وذاك ما أدهش لوكاس حتى أنه أفرج عن شهقة وأوكتافيا كتّفت ذراعيها وابتسمت.
ستبدأ المُتعة قريبًا.
..................................
سلاااااااااااام
مثل ما هو واضح كل شي اتغير، ظروف الشخصيات، أحداث حتميّة صارت، ما كان في داعي لتفسيرها بتعمق شديد.
وهيك بتكون الحِقبة الأخيرة بدأت، هي حِقبة مُعقّدة عاطفيًا، سخونة الأحداث ما رح تكون شديدة مثل الفصول السابقة.
أظن خلال عشر فصول أو أقل تنتهي، لهيك ادعموها وحبوها للنهاية.
الفصل القادم بعد 100 فوت و 400 كومنت.
١. رأيكم بأوكتافيا؟ كفاحها حتى النهاية لأجل لارا؟ ما الذي تخطط له ضد جونغ إن؟ وكيف تظنون سير علاقتها بالطبيب زانغ؟
٢. رأيكم بجونغ إن؟ هل فعلًا تغير؟ أم يُمارس حيلة جديدة؟
٣. رأيكم بجيمين المدير؟ توقعاتكم حوله مع جيمين بارك؟
٤. رأيكم ببيكهيون وإيزابيلا؟ أسلوب حياتهم كزوحين؟ توقعاتكم؟
٥. رأيكم بالبارت ككل و توقعاتكم للقادم؟!
دمتم سالمين♥️
♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️♥️
Love♥️
Коментарі